بيان
قوله تعالى: و رفعنا فوقكم الطور، الطور هو الجبل كما بدله منه في قوله تعالى: «و إذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة»: الأعراف - 171، و النتق هو الجذب و الاقتلاع، و سياق الآية حيث ذكر أخذ الميثاق أولا و الأمر بأخذ ما أوتوا و ذكر ما فيه أخيرا و وضع رفع الطور فوقهم بين الأمرين مع السكوت عن سبب الرفع و غايتها يدل على أنه كان لإرهابهم بعظمة القدرة من دون أن يكون لإجبارهم و إكراههم على العمل بما أوتوه و إلا لم يكن لأخذ الميثاق وجه، فما ربما يقال: إن رفع الجبل فوقهم لو كان على ظاهره كان آية معجزة و أوجب إجبارهم و إكراههم على العمل.
و قد قال سبحانه: «لا إكراه في الدين»: البقرة - 256، و قال تعالى: «أ فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»: يونس - 99، غير وجيه فإن الآية كما مر لا تدل على أزيد من الإخافة و الإرهاب و لو كان مجرد رفع الجبل فوق بني إسرائيل إكراها لهم على الإيمان أو العمل، لكان أغلب معجزات موسى موجبة للإكراه، نعم هذا التأويل و صرف الآية عن ظاهرها، و القول بأن بني إسرائيل كانوا في أصل الجبل فزلزل و زعزع حتى أظل رأسه عليهم، فظنوا أنه واقع بهم فعبر عنها برفعه فوقهم أو نتقه فوقهم، مبني على أصل إنكار المعجزات و خوارق العادات، و قد مر الكلام فيها و لو جاز أمثال هذه التأويلات لم يبق للكلام ظهور، و لا لبلاغة الكلام و فصاحته أصل تتكي عليه و تقوم به.
قوله تعالى: لعلكم تتقون.
لعل كلمة ترج و اللازم في الترجي صحته في الكلام سواء كان قائما بنفس المتكلم أو المخاطب أو بالمقام، كأن يكون المقام مقام رجاء و إن لم يكن للمتكلم و المخاطب رجاء فيه و هو لا يخلو عن شوب جهل بعاقبة الأمر فالرجاء في كلامه تعالى إما بملاحظة المخاطب أو بملاحظة المقام.
و أما هو تعالى فيستحيل نسبة الرجاء إليه لعلمه بعواقب الأمور، كما نبه عليه الراغب في مفرداته.
قوله تعالى: كونوا قردة خاسئين أي صاغرين.
قوله تعالى: فجعلناها نكالا أي عبرة يعتبر بها، و النكال هو ما يفعل من الإذلال و الإهانة بواحد ليعتبر به آخرون.
قوله تعالى: «و إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة» إلخ، هذه قصة بقرة بني إسرائيل، و بها سميت السورة سورة البقرة.
و الأمر في بيان القرآن لهذه القصة عجيب فإن القصة فصل بعضها عن بعض حيث قال تعالى: «و إذ قال موسى لقومه إلى آخره» ثم قال: «و إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها» ثم إنه أخرج فصلا منها من وسطها و قدم أولا و وضع صدر القصة و ذيلها ثانيا، ثم إن الكلام كان مع بني إسرائيل في الآيات السابقة بنحو الخطاب فانتقل بالالتفات إلى الغيبة حيث قال: و إذ قال موسى لقومه ثم التفت إلى الخطاب ثانيا بقوله: و إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها.
أما الالتفات في قوله تعالى: و إذ قال موسى لقومه: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، ففيه صرف الخطاب عن بني إسرائيل، و توجيهه إلى النبي في شطر من القصة و هو أمر ذبح البقرة و توصيفها ليكون كالمقدمة الموضحة للخطاب الذي سيخاطب به بنو إسرائيل بقوله: و إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها و الله مخرج ما كنتم تكتمون، فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى و يريكم آياته لعلكم تعقلون، الآيتان في سلك الخطابات السابقة فهذه الآيات الخمس من قوله: و إذ قال موسى إلى قوله: و ما كادوا يفعلون، كالمعترضة في الكلام تبين معنى الخطاب التالي مع ما فيها من الدلالة على سوء أدبهم و إيذائهم لرسولهم، برميه بفضول القول و لغو الكلام، مع ما فيه من تعنتهم و تشديدهم و إصرارهم في الاستيضاح و الاستفهام المستلزم لنسبة الإبهام إلى الأوامر الإلهية و بيانات الأنبياء مع ما في كلامهم من شوب الإهانة و الاستخفاف الظاهر بمقام الربوبية فانظر إلى قول موسى (عليه السلام) لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، و قولهم: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، و قولهم ثانيا: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، و قولهم ثالثا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا، فأتوا في الجميع بلفظ ربك من غير أن يقولوا ربنا ثم كرروا قولهم: ما هي و قالوا إن البقر تشابه علينا فادعوا التشابه بعد البيان، و لم يقولوا: إن البقرة تشابهت علينا بل قالوا: إن البقر تشابه علينا كأنهم يدعون أن جنس البقر متشابه و لا يؤثر هذا الأثر إلا بعض أفراد هذا النوع و هذا المقدار من البيان لا يجزي في تعيين الفرد المطلوب و تشخيصه، مع أن التأثير لله عز اسمه لا للبقرة، و قد أمرهم أن يذبحوا بقرة فأطلق القول و لم يقيده بقيد، و كان لهم أن يأخذوا بإطلاقه، ثم انظر إلى قولهم لنبيهم: أ تتخذنا هزوا، المتضمن لرميه (عليه السلام) بالجهالة و اللغو حتى نفاه عن نفسه بقوله: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، و قولهم أخيرا بعد تمام البيان الإلهي: الآن جئت بالحق، الدال على نفي الحق عن البيانات السابقة المستلزم لنسبة الباطل إلى طرز البيان الإلهي و التبليغ النبوي.
و بالجملة فتقديم هذا الشطر من القصة لإبانة الأمر في الخطاب التالي كما ذكر مضافا إلى نكتة أخرى، و هي أن قصة البقرة غير مذكورة في التوراة الموجودة عند اليهود اليوم فكان من الحري أن لا يخاطبوا بهذه القصة أصلا أو يخاطبوا به بعد بيان ما لعبت به أيديهم من التحريف، فأعرض عن خطابهم أولا بتوجيه الخطاب إلى النبي ثم بعد تثبيت الأصل، عاد إلى ما جرى عليه الكلام من خطابهم المتسلسل، نعم في هذا المورد من التوراة حكم لا يخلو عن دلالة ما على وقوع القصة و هاك عبارة التوراة.
قال في الفصل الحادي و العشرين من سفر تثنية الاشتراع: إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله يخرج شيوخك و قضاتك و يقيسون إلى المدن التي حول القتيل فالمدينة القريبة من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالغير و ينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه و لم يزرع و يكسرون عنق العجلة في الوادي ثم يتقدم الكهنة بني لاوي لأنه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه و يباركوا باسم الرب و حسب قولهم تكون كل خصومة و كل ضربة و يغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي و يصرخون و يقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم و أعيننا لم تبصر اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب و لا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل فيغفر لهم الدم انتهى.
إذا عرفت هذا على طوله علمت أن بيان هذه القصة على هذا النحو ليس من قبيل فصل القصة، بل القصة مبينة على نحو الإجمال في الخطاب الذي في قوله: و إذ قتلتم نفسا إلخ و شطر من القصة مأتية بها ببيان تفصيلي في صورة قصة أخرى لنكتة دعت إليه.
فقوله تعالى: و إذ قال موسى لقومه خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو كلام في صورة قصة و إنما هي مقدمة توضيحية للخطاب التالي لم يذكر معها السبب الباعث على هذا الأمر و الغاية المقصودة منها بل أطلقت إطلاقا ليتنبه بذلك نفس السامع و تقف موقف التجسس، و تنتشط إذا سمعت أصل القصة، و نالت الارتباط بين الكلامين، و لذلك لما سمعت بنو إسرائيل قوله: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة تعجبوا من ذلك و لم يحملوه إلا على أن نبي الله موسى يستهزء بهم لعدم وجود رابطة عندهم بين ذبح البقرة و ما يسألونه من فصل الخصومة و الحصول على القاتل قالوا أ تتخذنا هزوا و سخرية.
و إنما قالوا ذلك لفقدهم روح الإطاعة و السمع و استقرار ملكة الاستكبار و العتو فيهم، و قولهم: إنا لا نحوم حول التقليد المذموم، و إنما نؤمن بما نشاهده و نراه كما قالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة و إنما وقعوا فيما وقعوا من جهة استقلالهم في الحكم و القضاء فيما لهم ذلك، و فيما ليس لهم ذلك فحكموا بالمحسوس على المعقول فطالبوا معاينة الرب بالحس الباصر و قالوا: «يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون»: الأعراف - 138، و زعموا أن نبيهم موسى مثلهم يتهوس كتهوسهم، و يلعب كلعبهم، فرموه بالاستهزاء و السفه و الجهالة حتى رد عليهم، و قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، و إنما استعاذ بالله و لم يخبر عن نفسه بأنه ليس يجاهل لأن ذلك منه (عليه السلام) أخذ بالعصمة الإلهية التي لا تتخلف لا الحكمة الخلقية التي ربما تتخلف.
و زعموا أن ليس للإنسان أن يقبل قولا إلا عن دليل، و هذا حق، لكنهم غلطوا في زعمهم أن كل حكم يجب العثور على دليله تفصيلا و لا يكفي في ذلك الإجمال و من أجل ذلك طالبوا تفصيل أوصاف البقرة لحكمهم أن نوع البقر ليس فيه خاصة الإحياء، فإن كان و لا بد فهو في فرد خاص منه يجب تعيينه بأوصاف كاملة البيان و لذلك قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، و هذا تشديد منهم على أنفسهم من غير جهة فشدد الله عليهم، و قال موسى إنه يقول إنها بقرة لا فارض، أي ليست بمسنة انقطعت ولادتها و لا بكر أي لم تلد عوان بين ذلك، و العوان من النساء و البهائم ما هو في منتصف السن أي واقعة في السن بين ما ذكر من الفارض و البكر، ثم ترحم عليهم ربهم فوعظهم أن لا يلحوا في السؤال، و لا يشددوا على أنفسهم و يقنعوا بما بين لهم فقال: فافعلوا ما تؤمرون، لكنهم لم يرتدعوا بذلك بل قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع شديد الصفرة في صفاء لونها تسر الناظرين و تم بذلك وصف البقرة بيانا، و اتضح أنها ما هي و ما لونها و هم مع ذلك لم يرضوا به، و أعادوا كلامهم الأول، من غير تحجب و انقباض و قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا و إنا إن شاء الله لمهتدون، فأجابهم ثانيا بتوضيح في ماهيتها و لونها و قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول أي غير مذللة بالحرث و السقي تثير الأرض بالشيار و لا تسقي الحرث فلما تم عليهم البيان و لم يجدوا ما يسألونه قالوا الآن جئت بالحق قول من يعترف بالحقيقة بالإلزام و الحجة من غير أن يجد إلى الرد سبيلا، فيعترف بالحق اضطرارا، و يعتذر عن المبادرة إلى الإنكار بأن القول لم يكن مبينا من قبل، و لا بينا تاما.
و الدليل على ذلك قوله تعالى: فذبحوها و ما كادوا يفعلون.
قوله تعالى: و إذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها، شروع في أصل القصة و التدارؤ هو التدافع من الدرء بمعنى الدفع فقد كانوا قتلوا - نفسا - و كل طائفة منهم يدفع الدم عن نفسها إلى غيرها - و أراد الله سبحانه إظهار ما كتموه.
قوله تعالى: فقلنا اضربوه ببعضها، أول الضميرين راجع إلى النفس باعتبار أنه قتيل، و ثانيهما إلى البقرة، و قد قيل: إن المراد بالقصة بيان أصل تشريع الحكم حتى ينطبق على الحكم المذكور في التوراة الذي نقلناه، و المراد بإحياء الموتى العثور بوسيلة تشريع هذا الحكم على دم المقتول، نظير ما ذكره تعالى بقوله: «و لكم في القصاص حيوة»: البقرة - 179، من دون أن يكون هناك إحياء بنحو الإعجاز هذا، و أنت خبير بأن سياق الكلام و خاصة قوله تعالى: فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى، يأبى ذلك.
قوله تعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة القسوة في القلب بمنزلة الصلابة في الحجر و كلمة أو بمعنى بل، و المراد بكونها بمعنى بل انطباق معناه على موردها، و قد بين شدة قسوة قلوبهم بقوله: و إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، و قوبل فيه بين الحجارة و الماء لكون الحجارة يضرب بها المثل في الصلابة ككون الماء يضرب به المثل في اللين فهذه الحجارة على كمال صلابتها يتفجر منها الأنهار على لين مائها و تشقق فيخرج منها الماء على لينه و صلابتها، و لا يصدر من قلوبهم حال يلائم الحق، و لا قول حق يلائم الكمال الواقع.
قوله تعالى: و إن منها لما يهبط من خشية الله، و هبوط الحجارة ما نشاهد من انشقاق الصخور على قلل الجبال، و هبوط قطعات منها بواسطة الزلازل، و صيرورة الجمد الذي يتخللها في فصل الشتاء ماء في فصل الربيع إلى غير ذلك، و عد هذا الهبوط المستند إلى أسبابها الطبيعية هبوطا من خشية الله تعالى لأن جميع الأسباب منتهية إلى الله سبحانه فانفعال الحجارة في هبوطها عن سببها الخاص بها انفعال عن أمر الله سبحانه إياها بالهبوط، و هي شاعرة لأمر ربها شعورا تكوينيا، كما قال تعالى: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده، و لكن لا تفقهون تسبيحهم»: إسراء - 44، و قال تعالى: «كل له قانتون»: البقرة - 116، و الانفعال الشعوري هو الخشية فهي هابطة من خشية الله تعالى، فالآية جارية مجرى قوله تعالى: «و يسبح الرعد بحمده و الملائكة من خيفته»: الرعد - 13: و قوله تعالى: «و لله يسجد من في السموات و الأرض طوعا و كرها و ظلالهم بالغدو و الآصال»: الرعد - 15، حيث عد صوت الرعد تسبيحا بالحمد و عد الظلال ساجدة لله سبحانه إلى غير ذلك من الآيات التي جرى القول فيها مجرى التحليل كما لا يخفى.
و بالجملة فقوله: و إن منها لما يهبط، بيان ثان لكون قلوبهم أقسى من الحجارة فإن الحجارة تخشى الله تعالى، فتهبط من خشيته، و قلوبهم لا تخشى الله تعالى و لا تهابه.
بحث روائي
في المحاسن: عن الصادق (عليه السلام): في قول الله: خذوا ما آتيناكم بقوة، أ قوة الأبدان أو قوة القلب؟ قال (عليه السلام): فيهما جميعا:. أقول: و رواه العياشي أيضا في تفسيره.
و في تفسير العياشي، عن الحلبي: في قوله تعالى: و اذكروا ما فيه، قال: قال اذكروا ما فيه و اذكروا ما في تركه من العقوبة.
أقول: و قد استفيد ذلك من المقام من قوله تعالى: و رفعنا فوقكم الطور خذوا.
و في الدر المنثور،: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو لا أن بني إسرائيل قالوا و إنا إن شاء الله لمتهدون ما أعطوا أبدا و لو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم و لكنهم شددوا فشدد الله عليهم.
و في تفسير القمي،: عن ابن فضال قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: إن الله أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة و إنما كانوا يحتاجون إلى ذنبها فشدد الله عليهم.
و في المعاني، و تفسير العياشي،: عن البزنطي قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: إن رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه و طرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل ثم جاء يطلب بدمه فقالوا لموسى إن سبط آل فلان قتلوا فلانا فأخبر من قتله قال: ائتوني ببقرة قالوا: أ تتخذنا هزوا؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد الله عليهم، قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟ قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض و لا بكر يعني لا صغيرة و لا كبيرة عوان بين ذلك و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد الله عليهم قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها - قال إنه يقول إنها بقرة صفراء - فاقع لونها تسر الناظرين و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد الله عليهم قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي أن البقر تشابه علينا - و إنا إن شاء الله لمهتدون. قال: إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض - و لا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها. قالوا الآن جئت بالحق فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل فقال لا أبيعها إلا بملء مسك ذهبا، فجاءوا إلى موسى و قالوا له ذلك قال اشتروها فاشتروها و جاءوا بها فأمر بذبحها ثم أمر أن يضربوا الميت بذنبها فلما فعلوا ذلك حيي المقتول و قال يا رسول الله إن ابن عمي قتلني، دون من أدعي عليه قتلي، فعلموا بذلك قاتله فقال لرسول الله موسى بعض أصحابه إن هذه البقرة لها نبأ فقال و ما هو؟ قال إن فتى من بني إسرائيل كان بارا بأبيه و أنه اشترى بيعا فجاء إلى أبيه و الأقاليد تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع فاستيقظ أبوه فأخبره فقال أحسنت، هذه البقرة فهي لك عوضا مما فاتك فقال له رسول الله موسى انظر إلى البر ما بلغ بأهله.
أقول: و الروايات كما ترى منطبقة على إجمال ما استفدناه من الآيات الشريفة.
بحث فلسفي
السورة كما ترى مشتملة على عدة من الآيات المعجزة، في قصص بني إسرائيل و غيرهم، كفرق البحر و إغراق آل فرعون في قوله تعالى: و إذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم و أغرقنا آل فرعون الآية، و أخذ الصاعقة بني إسرائيل و إحيائهم بعد الموت في قوله تعالى: و إذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك الآية، و تظليل الغمام و إنزال المن و السلوى عليهم في قوله تعالى: و ظللنا عليكم الغمام الآية، و انفجار العيون من الحجر في قوله تعالى: و إذ استسقى موسى لقومه الآية، و رفع الطور فوقهم في قوله تعالى: و رفعنا فوقكم الطور الآية، و مسخ قوم منهم في قوله تعالى: فقلنا لهم كونوا قردة الآية، و إحياء القتيل ببعض البقرة المذبوحة في قوله: فقلنا اضربوه ببعضها الآية، و كإحياء قوم آخرين في قوله أ لم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم الآية، و كإحياء الذي مر على قرية خربة في قوله: أو كالذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها الآية، و كإحياء الطير بيد إبراهيم في قوله تعالى: و إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى الآية، فهذه اثنتا عشرة آية معجزة خارقة للعادة جرت أكثرها في بني إسرائيل ذكرها القرآن - و قد بينا فيما مر إمكان وقوع المعجزة و أن خوارق العادات جائزة الوقوع في الوجود و هي مع ذلك ليست ناقضة لقانون العلية و المعلولية الكلي، و تبين به أن لا دليل على تأويل الآيات الظاهرة في وقوع الإعجاز، و صرفها عن ظواهرها ما دامت الحادثة ممكنة، بخلاف المحالات كانقسام الثلاثة بمتساويين و تولد مولود يكون أبا لنفسه، فإنه لا سبيل إلى جوازها.
نعم تختص بعض المعجزات كإحياء الموتى و المسخ ببحث آخر، فقد قيل: إنه قد ثبت في محله أن الموجود الذي له قوة الكمال و الفعلية إذا خرج من القوة إلى الفعل فإنه يستحيل بعد ذلك رجوعه إلى القوة ثانيا، و كذلك كل ما هو أكمل وجودا فإنه لا يرجع في سيره الاستكمالي إلى ما هو أنقص وجودا منه من حيث هو كذلك.
و الإنسان بموته يتجرد بنفسه عن المادة فيعود موجودا مجردا مثاليا أو عقليا، و هاتان الرتبتان فوق مرتبة المادة، و الوجود فيهما أقوى من الوجود المادي، فمن المحال أن تتعلق النفس بعد موتها بالمادة ثانيا، و إلا لزم رجوع الشيء إلى القوة بعد خروجه إلى الفعل، و هو محال، و أيضا الإنسان أقوى وجودا من سائر أنواع الحيوان، فمن المحال أن يعود الإنسان شيئا من سائر أنواع الحيوان بالمسخ.
أقول: ما ذكره من استحالة رجوع ما بالقوة بعد خروجه إلى الفعل إلى القوة ثانيا حق لا ريب فيه، لكن عود الميت إلى حياته الدنيا ثانيا في الجملة و كذا المسخ ليسا من مصاديقه.
بيان ذلك: أن المحصل من الحس و البرهان أن الجوهر النباتي المادي إذا وقعت في صراط الاستكمال الحيواني فإنه يتحرك إلى الحيوانية، فيتصور بالصورة الحيوانية و هي صورة مجردة بالتجرد البرزخي، و حقيقتها إدراك الشيء نفسه بإدراك جزئي خيالي و هذه الصورة وجود كامل للجوهر النباتي و فعلية لهذه القوة تلبس بها بالحركة الجوهرية و من المحال أن ترجع يوما إلى الجوهر المادي فتصير إياه إلا أن تفارق مادتها فتبقى المادة مع صورة مادية كالحيوان تموت فيصير جسدا لا حراك به، ثم إن الصورة الحيوانية مبدأ لأفعال إدراكية تصدر عنها، و أحوال علمية تترتب عليها، تنتقش النفس بكل واحد من تلك الأحوال بصدورها منها، و لا يزال نقش عن نقش، و إذا تراكمت من هذه النقوش ما هي متشاكلة متشابهة تحصل نقش واحد و صار صورة ثابتة غير قابلة للزوال، و ملكة راسخة، و هذه صورة نفسانية جديدة يمكن أن يتنوع بها نفس حيواني فتصير حيوانا خاصا ذا صورة خاصة منوعة كصورة المكر و الحقد و الشهوة و الوفاء و الافتراس و غير ذلك و إذا لم تحصل ملكة بقي النفس على مرتبتها الساذجة السابقة، كالنبات إذا وقفت عن حركتها الجوهرية بقي نباتا و لم يخرج إلى الفعلية الحيوانية، و لو أن النفس البرزخية تتكامل من جهة أحوالها و أفعالها بحصول الصورة دفعة لانقطعت علقتها مع البدن في أول وجودها لكنها تتكامل بواسطة أفعالها الإدراكية المتعلقة بالمادة شيئا فشيئا حتى تصير حيوانا خاصا إن عمر العمر الطبيعي أو قدرا معتدا به، و إن حال بينه و بين استتمام العمر الطبيعي أو القدر المعتد به مانع كالموت الاخترامي بقي على ما كان عليه من سذاجة الحيوانية، ثم إن الحيوان إذا وقعت في صراط الإنسانية و هي الوجود الذي يعقل ذاته تعقلا كليا مجردا عن المادة و لوازمها من المقادير و الألوان و غيرهما خرج بالحركة الجوهرية من فعلية المثال التي هي قوة العقل إلى فعلية التجرد العقلي، و تحققت له صورة الإنسان بالفعل، و من المحال أن تعود هذه الفعلية إلى قوتها التي هي التجرد المثالي على حد ما ذكر في الحيوان.
ثم إن لهذه الصورة أيضا أفعالا و أحوالا تحصل بتراكمها التدريجي صورة خاصة جديدة توجب تنوع النوعية الإنسانية على حد ما ذكر نظيره في النوعية الحيوانية.
إذا عرفت ما ذكرناه ظهر لك أنا لو فرضنا إنسانا رجع بعد موته إلى الدنيا و تجدد لنفسه التعلق بالمادة و خاصة المادة التي كانت متعلقة نفسه من قبل لم يبطل بذلك أصل تجرد نفسه فقد كانت مجردة قبل انقطاع العلقة و معها أيضا و هي مع التعلق ثانيا حافظة لتجردها، و الذي كان لها بالموت أن الأداة التي كانت رابطة فعلها بالمادة صارت مفقودة لها فلا تقدر على فعل مادي كالصانع إذا فقد آلات صنعته و الأدوات اللازمة لها فإذا عادت النفس إلى تعلقها الفعلي بالمادة أخذت في استعمال قواها و أدواتها البدنية و وضعت ما اكتسبتها من الأحوال و الملكات بواسطة الأفعال فوق ما كانت حاضرة و حاصلة لها من قبل و استكملت بها استكمالا جديدا من غير أن يكون ذلك منه رجوعا قهقرى و سيرا نزوليا من الكمال إلى النقص، و من الفعل إلى القوة.
فإن قلت: هذا يوجب القول: بالقسر الدائم مع ضرورة بطلانه، فإن النفس المجردة المنقطعة عن البدن لو بقي في طباعها إمكان الاستكمال من جهة الأفعال المادية بالتعلق بالمادة ثانيا كان بقاؤها على الحرمان من الكمال إلى الأبد حرمانا عما تستدعيه بطباعها، فما كل نفس براجعة إلى الدنيا بإعجاز أو خرق عادة، و الحرمان المستمر قسر دائم.
قلت: هذه النفوس التي خرجت من القوة إلى الفعل في الدنيا و اتصلت إلى حد و ماتت عندها لا تبقى على إمكان الاستكمال اللاحق دائما بل يستقر على فعليتها الحاضرة بعد حين أو تخرج إلى الصورة العقلية المناسبة لذلك و تبقى على ذلك، و تزول الإمكان المذكور بعد ذلك فالإنسان الذي مات و له نفس ساذجة غير أنه فعل أفعالا و خلط عملا صالحا و آخر سيئا لو عاش حينا أمكن أن يكتسب على نفسه الساذجة صورة سعيدة أو شقية و كذا لو عاد بعد الموت إلى الدنيا و عاش أمكن أن يكتسب على صورته السابقة صورة خاصة جديدة و إذا لم يعد فهو في البرزخ مثاب أو معذب بما كسبته من الأفعال حتى يتصور بصورة عقلية مناسبة لصورته السابقة المثالية و عند ذلك يبطل الإمكان المذكور و يبقى إمكانات الاستكمالات العقلية فإن عاد إلى الدنيا كالأنبياء و الأولياء لو عادوا إلى الدنيا بعد موتهم أمكن أن يحصل صورة أخرى عقلية من ناحية المادة و الأفعال المتعلقة بها و لو لم يعد فليس له إلا ما كسب من الكمال و الصعود في مدارجه، و السير في صراطه، هذا.
و من المعلوم أن هذا ليس قسرا دائما و لو كان مجرد حرمان موجود عن كماله الممكن له بواسطة عمل عوامل و تأثير علل مؤثرة قسرا دائما لكان أكثر حوادث هذا العالم الذي هو دار التزاحم، و موطن التضاد أو جميعها قسرا دائما، فجميع أجزاء هذا العالم الطبيعي مؤثرة في الجميع، و إنما القسر الدائم أن يجعل في غريزة نوع من الأنواع اقتضاء كمال من الكمالات أو استعداد ثم لا يظهر أثر ذلك دائما إما لأمر في داخل ذاته أو لأمر من خارج ذاته متوجه إلى إبطاله بحسب الغريزة، فيكون تغريز النوع المقتضي أو المستعد للكمال تغريزا باطلا و تجبيلا هباء لغوا فافهم ذلك، و كذا لو فرضنا إنسانا تغيرت صورته إلى صورة نوع آخر من أنواع الحيوان كالقرد و الخنزير فإنما هي صورة على صورة، فهو إنسان خنزير أو إنسان قردة، لا إنسان بطلت إنسانيته، و خلت الصورة الخنزيرية أو القردية محلها، فالإنسان إذا كسب صورة من صور الملكات تصورت نفسه بها و لا دليل على استحالة خروجها في هذه الدنيا من الكمون إلى البروز على حد ما ستظهر في الآخرة بعد الموت، و قد مر أن النفس الإنسانية في أول حدوثها على السذاجة يمكن أن تتنوع بصورة خاصة تخصصها بعد الإبهام و تقيدها بعد الإطلاق و القبول فالممسوخ من الإنسان إنسان ممسوخ لا أنه ممسوخ فاقد للإنسانية هذا، و نحن نقرأ في المنشورات اليومية من أخبار المجامع العلمية بأوربا و أمريكا ما يؤخذ جواز الحياة بعد الموت، و تبدل صورة الإنسان بصورة المسخ، و إن لم نتكل في هذه المباحث على أمثال هذه الأخبار، لكن من الواجب على الباحثين من المحصلين أن لا ينسوا اليوم ما يتلونه بالأمس.
فإن قلت: فعلى هذا فلا مانع من القول بالتناسخ.
قلت: كلا فإن التناسخ و هو تعلق النفس المستكملة بنوع كمالها بعد مفارقتها البدن ببدن آخر محال، فإن هذا البدن إن كان ذا نفس استلزم التناسخ تعلق نفسين ببدن واحد، و هو وحدة الكثير، و كثرة الواحد، و إن لم تكن ذا نفس استلزم رجوع ما بالفعل إلى القوة، كرجوع الشيخ إلى الصبا، و كذلك يستحيل تعلق نفس إنساني مستكملة مفارقة ببدن نباتي أو حيواني بما مر من البيان.
بحث علمي و أخلاقي
أكثر الأمم الماضية قصة في القرآن أمة بني إسرائيل، و أكثر الأنبياء ذكرا فيه موسى بن عمران (عليهما السلام)، فقد ذكر اسمه في القرآن، في مائة و ستة و ثلاثين موضعا ضعف ما ذكر إبراهيم (عليه السلام) الذي هو أكثر الأنبياء ذكرا بعد موسى، فقد ذكر في تسعة و ستين موضعا على ما قيل فيهما، و الوجه الظاهر فيه أن الإسلام هو الدين الحنيف المبني على التوحيد الذي أسس أساسه إبراهيم (عليه السلام) و أتمه الله سبحانه و أكمله لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قال تعالى: «ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل»: الحج - 78، و بنو إسرائيل أكثر الأمم لجاجا و خصاما، و أبعدهم من الانقياد للحق، كما أنه كان كفار العرب الذين ابتلي بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذه الصفة، فقد آل الأمر إلى أن نزل فيهم: «إن الذين كفروا سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون»: البقرة - 6.
و لا ترى رذيلة من رذائل بني إسرائيل في قسوتهم و جفوتهم مما ذكره القرآن إلا و هو موجود فيهم، و كيف كان فأنت إذا تأملت قصص بني إسرائيل المذكورة في القرآن، و أمعنت فيها، و ما فيها من أسرار أخلاقهم وجدت أنهم كانوا قوما غائرين في المادة مكبين على ما يعطيه الحس من لذائذ الحياة الصورية، فقد كانت هذه الأمة لا تؤمن بما وراء الحس، و لا تنقاد إلا إلى اللذة و الكمال المادي، و هم اليوم كذلك.
و هذا الشأن هو الذي صير عقلهم و إرادتهم تحت انقياد الحس و المادة، لا يعقلون إلا ما يجوزانه، و لا يريدون إلا ما يرخصان لهم ذلك فانقياد الحس يوجب لهم أن لا يقبلوا قولا إلا إذا دل عليه الحس، و إن كان حقا و انقياد المادة اقتضى فيهم أن يقبلوا كل ما يريده أو يستحسنه لهم كبراؤهم ممن أوتي جمال المادة، و زخرف الحياة و إن لم يكن حقا، فأنتج ذلك فيهم التناقض قولا و فعلا، فهم يذمون كل اتباع باسم أنه تقليد و إن كان مما ينبغي إذا كان بعيدا من حسهم، و يمدحون كل اتباع باسم أنه حظ الحياة، و إن كان مما لا ينبغي إذا كان ملائما لهوساتهم المادية، و قد ساعدهم على ذلك و أعانهم عليه مكثهم الممتد و قطونهم الطويل بمصر تحت استذلال المصريين، و استرقاقهم، و تعذيبهم، يسومونهم سوء العذاب و يذبحون أبناءهم و يستحيون نساءهم و في ذلك بلاء من ربهم عظيم.
و بالجملة فكانوا لذلك صعبة الانقياد لما يأمرهم به أنبياؤهم، و الربانيون من علمائهم مما فيه صلاح معاشهم و معادهم تذكر في ذلك مواقفهم مع موسى و غيره و سريعة اللحوق إلى ما يدعوهم المغرضون و المستكبرون منهم.
و قد ابتليت الحقيقة و الحق اليوم بمثل هذه البلية بالمدنية المادية التي أتحفها إليها عالم الغرب، فهي مبنية القاعدة على الحس و المادة، فلا يقبل دليل فيما بعد عن الحس و لا يسأل عن دليل فيما تضمن لذة مادية حسية، فأوجب ذلك إبطال الغريزة الإنسانية في أحكامها، و ارتحال المعارف العالية و الأخلاق الفاضلة من بيننا فصار يهدد الإنسانية بالانهدام، و جامعة البشر بأشد الفساد و ليعلمن نبأه بعد حين.
و استيفاء البحث في الأخلاق ينتج خلاف ذلك، فما كل دليل بمطلوب، و ما كل تقليد بمذموم، بيان ذلك: أن النوع الإنساني بما أنه إنسان إنما يسير إلى كماله الحيوي بأفعاله الإرادية المتوقفة على الفكر و الإرادة منه مستحيلة التحقق إلا عن فكر، فالفكر هو الأساس الوحيد الذي يبتني عليه الكمال الوجودي الضروري فلا بد للإنسان من تصديقات عملية أو نظرية يرتبط بها كماله الوجودي ارتباطا بلا واسطة أو بواسطة، و هي القضايا التي نعلل بها أفعالنا الفردية أو الاجتماعية أو نحضرها في أذهاننا، ثم نحصلها في الخارج بأفعالنا، هذا.
ثم إن في غريزة الإنسان أن يبحث عن علل ما يجده من الحوادث، أو يهاجم إلى ذهنه من المعلومات، فلا يصدر عنه فعل يريد به إيجاد ما حضر في ذهنه في الخارج إلا إذا حضر في ذهنه علته الموجبة، و لا يقبل تصديقا نظريا إلا إذا اتكىء على التصديق بعلته بنحو، و هذا شأن الإنسان لا يتخطاه البتة، و لو عثرنا في موارد على ما يلوح منه خلاف ذلك فبالتأمل و الإمعان تنحل الشبهة، و يظهر البحث عن العلة، و الركون و الطمأنينة إليها فطري، و الفطرة لا تختلف و لا يتخلف فعلها، و هذا يؤدي الإنسان إلى ما فوق طاقته من العمل الفكري و الفعل المتفرع عليه لسعة الاحتياج الطبيعي، بحيث لا يقدر الإنسان الواحد إلى رفعه معتمدا على نفسه و متكئا إلى قوة طبيعته الشخصية فاحتالت الفطرة إلى بعثه نحو الاجتماع و هو المدينة و الحضارة و وزعت أبواب الحاجة الحيوية بين أفراد الاجتماع، و وكل بكل باب من أبوابها طائفة كأعضاء الحيوان في تكاليفها المختلفة المجتمعة فائدتها و عائدتها في نفسه، و لا تزال الحوائج الإنسانية تزداد كمية و اتساعا و تنشعب الفنون و الصناعات و العلوم، و يتربى عند ذلك الأخصائيون من العلماء و الصناع، فكثير من العلوم و الصناعات كانت علما أو صنعة واحدة يقوم بأمرها الواحد من الناس، و اليوم نرى كل باب من أبوابه علما أو علوما أو صنعة أو صنائع، كالطب المعدود قديما فنا واحدا من فروع الطبيعيات و هو اليوم فنون لا يقوم الواحد من العلماء الأخصائيين بأزيد من أمر فن واحد منها.
و هذا يدعو الإنسان بالإلهام الفطري، أن يستقل بما يخصه من الشغل الإنساني في البحث عن علته و يتبع في غيره من يعتمد على خبرته و مهارته.
فبناء العقلاء من أفراد الاجتماع على الرجوع إلى أهل الخبرة و حقيقة هذا الاتباع، و التقليد المصطلح و الركون إلى الدليل الإجمالي فيما ليس في وسع الإنسان أن ينال دليل تفاصيله كما أنه مفطور على الاستقلال بالبحث عن دليله التفصيلي فيما يسعه أن ينال تفصيل علته و دليله، و ملاك الأمر كله أن الإنسان لا يركن إلى غير العلم، فمن الواجب عند الفطرة الاجتهاد، و هو الاستقلال في البحث عن العلة فيما يسعه ذلك و التقليد و هو الاتباع و رجوع الجاهل إلى العالم فيما لا يسعه ذلك، و لما استحال أن يوجد فرد من هذا النوع الإنساني مستقلا بنفسه قائما بجميع شئون الأصل الذي يتكي عليه الحياة استحال أن يوجد فرد من الإنسان من غير اتباع و تقليد، و من ادعى خلاف ذلك أو ظن من نفسه أنه غير مقلد في حياته فقد سفه نفسه.
نعم: التقليد فيما للإنسان أن ينال علته و سببه كالاجتهاد فيما ليس له الورود عليه و النيل منه، من الرذائل التي هي من مهلكات الاجتماع، و مفنيات المدنية الفاضلة و لا يجوز الاتباع المحض إلا في الله سبحانه لأنه السبب الذي إليه تنتهي الأسباب.
|