ولا ريب أنه من سنن المرسلين، وسيرة السلف الصالحين، ودلت عليه الأخبار والآثار. نقل أن آدم لما اقترف الخطيئة، قال: يا ربي أسألك بحق محمد (صلّى الله عليه وآله) لما غفرت لي، فقال: يا آدم كيف عرفت، قال: لأنّك لمّا خلقتني نظرت إلى العرش، فوجدت مكتوباً فيه: (لا إله إلا الله، محمّد رسول الله)، فرأيت اسمه مقروناً مع اسمك، فعرفته أحب الخلق إليك. صححه الحاكم (1). وعن عثمان بن حنيف أن رجلاَ ضرير البصر أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إن شئت صبرت فهو خيرٌ لك، وإن شئت دعوت، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ، ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبيّ الرحمة، يا محمد إني توجّهت بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها، اللهم شفعه فيّ) (2). وفيه دلالة على جواز الشفاعة في الدنيا، وعلى الاستغاثة، رواه الترمذي، والنسائي، وصححه البيهقي، وزاد: فقام وقد أبصر. ونقل الطبراني عن عثمان بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفّان في حاجته، فكان لا يلتفت إليه، فشكا ذلك لابن حنيف، فقال له: اذهب وتوضأ وقل:… (وذكر نحو ما ذكر الضرير)، قال: فصنع ذلك، فجآء البواب، فأخذه وأدخله على (عثمان)، فأمسكه على (الطنفسة) وقضى حاجته (3). وروي أنّه لمّا دعا النبي (صلى الله عليه وآله)لفاطمة بنت أسد، قال اللهم إنّي أسألك بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي… (إلى آخر الدعاء) (4). وفي الصحيح عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا أقحط الناس استسقى بالعباس، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيّك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبيّك، ونستشفع إليك بشيبته، فسقوا (5). وروى الشيخ عبد الحميد (بن أبي الحديد) عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: كنت من رسول الله كالعضد من المنكب، وكالذراع من العضد، رباني صغيراً، وواخاني كبيراً، سألته مرّة أن يدعو لي بالمغفرة، فقام فصلّى، فلمّا رفع يديه سمعته يقول: اللهم بحقّ علي عندك اغفر لعلي، فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: أو أحد أكرم منك عليه، فأستشفع به إليه (6). وفي هذين الخبرين دلالة على شفاعة الدنيا. وفي مسند ابن حنبل أن عائشة قال لها مسروق: سألتك بصاحب هذا القبر ما الذي سمعت من رسول الله (يعني: في حق الخوارج) قالت سمعته يقول: إنهم شرّ الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم عند الله وسيلة (7). وعن الأعمش أن امرأةً ضريرة بقيت ستة ليال تقسم على الله بعلي!، فعوفيت. فما رواه جبير بن مطعم عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه أتاه أعرابي، فقال: جهدت الأنفس، وجاع العيال، فأستسق لنا، فأنا نستشفع بك إلى الله، ونستشفع بالله عليك، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): ((ويحك أنه لا يستشفع بالله على أحد، شأن الله أعظم))، فليس مما نحن فيه، لأنه نهى عن الاستشفاع بالله لا بأحد إلى الله. وعن علي أنه قال لسعد بن أبي وقاص: أسألك برحم ابني هذا، وبرحم حمزة عمي منك ألا تكون مع عبد الرحمن (8). وعن عائشة أن النبيّ أسرّ إلى فاطمة سرّاً، فبكت بكاء شديداً، فسألتها، فقالت: ما كنت لأفشي سرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما قبض سألتها وقلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق، (… الخبر) (9). وروى أبو مخنف عن أبي الخليل، قال: لما نزل طلحة والزبير في موضع (كذا)، قلت: ناشدتكما الله وصحبة رسول الله (صلى الله عليه وآله). وعن علي (عليه السلام) أن يهودياً جاء إلى الني (صلى الله عليه وآله)، فقام بين يديه، وجعل يحد النظر إليه، فقال: يا يهودي ما حاجتك، فقال أنت أفضل أم موسى فقال له: إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه، ولكن قال الله تعالى: ((وأمّا بنعمة ربك فحدّث)) إنّ آدم لما أصابته خطيئته التي تاب منها كانت توبته (اللهم إني أسألك بمحمد وآل محمد لما غفرت لي)، فغفر له (10). وعن علي (عليه السلام) أنه بعد دفنالنبي (صلى الله عليه وآله) قام عند قبره الشريف، فقال مخاطباً له: طبت حيّاً وطبت ميّتاً، انقطع عنا بموتك ما لم ينقطع بموت أحد سواك من النبوة والأنباء، وأخبار السماء، (والحديث طويل) إلى أن قال: بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك، واجعلنا من بالك وهمك. ونقل الشيخ عبد الحميد أن معاوية سأل عقيلاً عن علي (عليه السلام)، فقال له عقيل: يا معاوية جاءته زقاق عسل من اليمن، فأخذ الحسين منها رطلاً واشترى إداماً لخبزه، فلما جاء عليّ ليقسمها قال: يا (قنبر) أظن أنه قد حدث بهذا حدث قال: نعم، وأخبره بقصة الحسين (عليه السلام) فغضب، وقال علي (بحسين) فرفع الدرة عليه، وقال: بعمي (جعفر)، (وكان إذا سئل بحق جعفر سكن)، فأجابه (الحسين) بما أجاب. ونقل الشيخ عبد الحميد أن رجلاً وفد من مصر، فاستعاذ بعمر. وكيف كان فقد بان أن من توسل إلى الله (بمعظم) من: قرآن، أو نبي، أو عبد صالح، أو مكان شريف، أو بغير ذلك، فلا بأس عليه، بل كان آتياً بما هو أولى وأفضل. ولا بأس بالتوسط بحق المخلوقات، فأن للمولى على عبده حقّ المالكية، وللعبد حق المملوكية، وللخادم حق الخدمة، وللأرحام حق الرحم، وللصديق حقّ الصداقة، وللجار حق الجوار، وللصاحب حق الصحبة، فالحق عبارة عن الرابطة بأي نحو اتفقت، وعلى أي جهة كانت. وعلى ذلك جرت عادة السلف من أيام النبي (صلى الله عليه وآله) إلى يومنا هذا، لا ينكره أحدٌ من المسلمين، والدعوات، والمواعظ مشتملة عليه، والإجماع منعقدّ عليه، فلم يبق في المقام إشكال، ولا بقي محلٌ للقيل والقال، والله ولي التوفيق، وهو أرحم الراحمين.
الهوامش
1- مستدرك الحاكم: 2/615. 2- سنن الترمذي (كتاب الدعوات)، باب 119، حديث 3578؛ وسنن ابن ماجه (كتاب إقامة الصلاة)، باب 189، حديث 1385. 3- سنن ابن ماجه (كتاب إقامة الصلاة)، باب 189، حديث 1385. 4- كنز العمال: 6/189. 5- صحيح البخاري (كتاب الاستسقاء)، باب 3؛ و (كتاب فضائل أصحاب النبيّ)، باب 11. 6- شرح نهج البلاغة: 4/558. 7- سنن الدارمي (كتاب الجهاد)، باب 39؛ مسند أحمد بن حنبل: 1/140، سنن ابن ماجه (المقدمة)، باب 12، حديث 170. 8- الترمذي: 5/607. 9- صحيح البخاري: 4/210؛ وصحيح مسلم: 4/1905؛ والترمذي: 5/658. 10- كنز العمال: 11/455.