لقد مُني الإمام الصادق (عليه السلام) بعصر أقلّ ما فيه أنه عصر الاتجاهات غير المتجانسة، فكان (عليه السلام) يجمع بين المتفرقات ويفرق بين المجتمعات. مدرسة سيارة، ولكنها شاملة ومستوعبة لكل ما تحتاجه الأمة في حاضرها ومستقبلها، معبّراً عن طموحها وتطلعاتها. وصاحب هذه المدرسة وحده موسوعة علمية، تقف وراء طاقاته التكوينية المتينة أسباب جليلة، ساهمت جميعها في شحن المعارف الواسعة إلى فكره المركّز، وإرادته المعتصمة بالمران الأصيل.
الإمام يقدم تلاميذه بين يديه للمناظرة مع المخالفين، والنتيجة ماهي؟
(آتاكم الله ما لم يؤتِ أحداً من العالمين).. قارع الإمام الصادق (عليه السَّلام) جميعَ التيارات الفكرية والدينية السائدة في تلك الفترة، وأوضح موقف الإسلام حيالها جميعاً، وأثبت أفضلية العقيدة الإسلامية. ولم تقتصر جامعة الإمام الصادق (صلوات الله عليه) على الطلاب الشيعة، وقد زخرت بطلاب العلم من مختلف المذاهب السنّية أيضاً، وكان أئمّة المذاهب السنّية المشهورين ـ بشكل مباشر وغير مباشر ـ تلامذة لديه يفيدون منه، وكان على رأسهم أبو حنيفة الذي لازم الإمام سنتين وجعل هاتين السنتين مصدر علمه ومعرفته، وكان يقول: لولا السنتان لهلك النعمان. وكفى بما قاله «الحسن بن علي بن زياد الوشّاء» في سعة جامعة الإمام ورحابتها الذي كان من تلامذة الإمام الرضا (عليه السَّلام) والمحدّثين الكبار: أدركتُ في هذا المسجد ـ الكوفة ـ تسعمائة شيخ، كلٌّ يقول حدّثني جعفر بن محمد. وكان الإمام الصادق (عليه السَّلام) يشجع ويعلّم ويرغب تلاميذه في العلم الذي يتناسب مع ذوقهم وطبيعتهم، وفي النهاية كان كلّ واحد منهم يتخصّص في مجال علمي واحد أو مجالين، مثل الحديث، التفسير، علم الكلام وغيرها. وكان (عليه السَّلام) يرشد بعض العلماء الذين يراجعونه للبحث والمناظرة إلى المناظرة مع أحد الطلاب الذي تخصص في ذلك العلم. قال هشام بن سالم: كنّا عند أبي عبد اللّه (عليه السَّلام) جماعة من أصحابه، فورد رجل من أهل الشام فاستأذن، فأذن له، فلمّا دخل سلّم، فأمره أبو عبد اللّه (عليه السَّلام) بالجلوس، ثمّ قال له: حاجتك أيّها الرجل؟ قال: بلغني انّك عالم بكلّ ما تسأل عنه، فصرت إليك لأُناظرك. فقال أبو عبد اللّه (عليه السَّلام): في ماذا؟ قال: في القرآن، واسكانه وخفضه ونصبه ورفعه. فقال أبو عبد اللّه (عليه السَّلام): يا حمران، دونك الرجل!. فقال الرجل: إنّما أُريدك أنت لا حمران. فقال أبو عبد اللّه (عليه السَّلام): إن غلبت حمران فقد غلبتني. فأقبل الشامي يسأل حمران حتى غرض وحمران يجيبه. فقال أبو عبد اللّه (عليه السَّلام): كيف رأيت يا شامي؟. قال: رأيته حاذقاً، ما سألته عن شيء إلاّ أجابني فيه. فقال أبو عبد اللّه (عليه السَّلام): يا حمران، سل الشامي، فما تركه يكشر. فقال الشامي: أُريد يا أبا عبد اللّه أُناظرك في العربية! فالتفت أبو عبد اللّه (عليه السَّلام)، فقال: يا أبان بن تغلب، ناظره، فناظره فما ترك الشامي يكشر. فقال: أُريد أن أُناظرك في الفقه! فقال أبو عبد اللّه (عليه السَّلام): يا زرارة، ناظره، فناظره فماترك الشاميّ يكشر. ثمّ قال: أُريد أن أُناظرك في الكلام! قال: يا مؤمن الطاق، ناظره، فناظره فسجل الكلام بينهما، ثمّ تكلم مؤمن الطاق بكلامه فغلبه به. وهكذا عندما أراد الشامي أن يناظر في الاستطاعة ـ قدرة الإنسان على فعل الشر والخير ـ والتوحيد والإمامة، أمر الإمام وبالترتيب كلاً من حمزة الطياروهشام بن سالموهشام بن الحكم بمناظرته، فغلبوه بأدلّة قاطعة ومنطق مفحم. وبمشاهدة ذلك المشهد المثير ارتسمت ابتسامة جميلة على شفتي الإمام فرحاً.
لماذا منتسبي المدرسة الأثني عشرية يسمون جعفرية.. لا محمدية أو حيدرية أو حسينية؟
استطاع الإمام الصادق (عليه السلام) بواسع علمه ورحابة صدره أن يستوعب الجميع ويعلّم الأئمة المتأخرين، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ويثبت أستاذيته للمدارس الفكرية والجامعات العلمية كلها، حتى أصبح حديث الناس وشغلهم الشاغل. ولشدة إقبال الناس إليه وتتلمذ العلماء عليه وتأسيسه المدارس وتخريجه العلماء نسب المذهب الجعفري إليه، وانعطف الموالون لأهل البيت (عليهم السلام) إليه، مع أنه جزء من السلسلة المباركة. لكن الوضوح الذي حدث في عصره والانتصار الثقافي الكبير الذي حققه، جعل الاتجاه الثقافي والإعلامي يميل نحوه بالخصوص، وبعبارة صريحة كان ينشر مذهب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بصِيَغ متطورة كحاضر سعيد ومستقبل اجتماعي متقدم.
التأليف الإجباري
لقد انتشر وذاع صيت مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) المتنوعة في شتى مجلات العلوم المختلفة، وذاع صيت العلماء الذين كانوا يفتخرون بانتسابهم إلى تلك الجامعة العالمية الشاملة، أو اكتساب العلم منها.. وما أن وصل هذا الأمر إلى أسماع السلطة الحاكمة ممثلة آنذاك بشخص أبي جعفر المنصور (الدوانيقي)، حتى تملّكه الرعب والخوف من حدوث تلك الظاهرة الجديدة في العالم الإسلامي، فسعى للتضييق على مدرسة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وسلب الأضواء منها بشتى الوسائل، ومنها أن يجلس أشخاصٌ كانوا في فترة من الفترات تلاميذ في مدرسة الإمام على كرسي الفقه والفتيا وفي النقطة المقابلة لمدرسة الإمام، ويقدّمونهم على أنّهم المرجع الذي يرجع إليه، كما فعلوا ذلك لابن أبي ذئب ومالك بن أنس وأجلسوهما على ذلك الكرسي. ولهذا القصد كان المنصور الدوانيقي يكرم مالك بن أنس كثيراً ويقدّمه على انّه المفتي والفقيه الرسمي، وقد أعلن الناطق باسم العباسيين في المدينة: ألا يفتي الناس إلاّ مالك بن أنس وابن أبي ذئب. وقد أمر المنصور مالكاً أيضاً بأن يؤلّف كتاباً في الحديث ليكون في متناول المحدّثين، فامتنع مالك عن ذلك، ولكنّ المنصور أصر عليه وقال له يوماً: يجب أن تكتب هذا الكتاب، لأنّه ليس هناك من هو أعلم منك. ثمّ ألّف مالك كتاب «الموطأ» تحت ضغط المنصور وإصراره. وراح الجهاز الحاكم أثر ذلك يناصر مالكاً وينشر فتاواه ويروّج آراءه مستخدماً جميع وسائله، كي يُقصي الناس عن مدرسة الإمام الصادق (عليه السَّلام).
استشهاده (عليه السلام) وآخر وصيته
وروى الشيخ الصدوق عن أبي بصير انّه قال: دخلتُ على أمّ حميدة أعزّيها بأبي عبد الله (عليه السلام)، فبكت وبكيتُ لبكائها، ثم قالت: يا أبا محمد، لو رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثم قال: اجمعوا لي كل مَنْ بيني وبينه قرابة. قالت: فلم نترك أحداً الاّ جمعناه، قالت: فنظر إليهم ثم قال: انّ شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة. استشهد الإمام الصادق (عليه السلام) في شهر شوال سنة (148) للهجرة بالعنب المسموم الذي أطعمه به المنصور، وكان عمره الشريف حين استشهاده خمساً وستين سنة، ولم يُعيّن في الكتب المعتبرة اليوم الذي توفي فيه من شهر شوال، نعم قال صاحب جنّات الخلود ـ المتتبع الماهر ـ انّه توفي في اليوم الخامس والعشرين من ذلك الشهر. الإمام الصادق (عليه السلام) هو الذي ساهم في إبراز قبرأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أن كان مخفياً كقبر الزهراء (صلوات الله عليها) اليوم. انّ قبرأمير المؤمنين (عليه السلام) كان مخفيّاً من حين وفاته إلى زمن الإمام الصادق (عليه السلام)، ولم يطلع عليه أحد إلاّ أولاد وأبناء أهل البيت، وكان الإمام زين العابدين والامام محمد الباقر يزورانه مراراً ولم يكن معهما أحد إلاّ الرواحل، لكنّ الشيعة علمت بموضع قبره (عليه السلام) في زمن الصادق (عليه السلام) وذهبت إلى زيارته، وذلك لكثرة زيارةالإمام الصادق (عليه السلام) للقبر الشريف لمّا كان بالحيرة، سيّما انّه كان يصطحب معه خواص شيعته ويريهم موضع القبر الشريف. وكان هذا إلى أيام خلافة الرشيد (لعنه الله)، فانجلى القبر آنذاك تماماً، فصار مزار الداني والقاصي والحاضر والبادي.
الإمام الصادق (عليه السلام) يوصي بالمنصور واحد من الخمسة بالإمامة! ولكن لماذا؟
روى الشيخ الكليني والطوسي وابن شهر آشوب (واللفظ للكليني) عنه أبي أيوب النّحوي انّه قال: بعث اليّ أبو جعفر المنصور في جوف الليل، فأتيته فدخلت عليه وهو جالس على كرسيّ وبين يديه شمعة وفي يده كتاب، قال: فلمّا سلّمت عليه رمى بالكتاب اليّ وهو يبكي. فقال لي: هذا كتاب محمد بن سليمان يُخبرنا انّ جعفر بن محمد قد مات، فانّا لله وإنّا إليه راجعون ـ ثلاثاً ـ، وأين مثل جعفر؟ ثم قال لي: اكتب، قال: فكتبت صدر الكتاب، ثم قال: أكتب إن كان أوصى إلى رجل واحد بعينه فقدّمه واضرب عنقه. قال: فرجع إليه الجواب انّه قد أوصى إلى خمسة وأحدهم أبو جعفر المنصور ومحمد بن سليمان وعبد الله وموسى وحميدة. قال العلامة المجلسي (رحمه الله): كان الإمام (عليه السلام) يعلم بعلم الإمامة انّ المنصور سيقتل وصيّه، فأشرك هؤلاء النفر ظاهراً، فكتب اسم المنصور اوّلاً، لكنّ الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) هو الذي كان مخصوصاً بالوصية دونهم، وكان أهل العلم يعرفون ذلك كما مضى في رواية أبي حمزة الثمالي،... فقد روي: ولما سمع ذلك علماء الشيعة مثل أبي حمزة الثمالي, قال ما معناه: أما الأولان فكانا للتقية, والأفطح كان ناقصاً إذ كان أفطحاً, والإمام لا يكون ناقصاً، وهو مع ذلك كان جاهلاً بأحكام الشريعة, والمرأة ليست بإمام, فتعين موسى الكاظم, وهو معنى كلام أبي حمزة عندما سمع خبر الوصية: الحمد لله الذي هدانا إلى الهدى وبين لنا عيوب الكبير, ودلنا على الصغير, واخفى عن أمر عظيم [انظر أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: 1/677]. وهذه كانت وقفات كصبابة الماء من سيرة مولانا ومؤسس مذهبنا الإمام محقق الحقائق جعفر بن محمدالصادق (عليه آلاف التحية والسلام).