التوكل منزل من منازل الدين، ومقام من مقامات الموقنين، بل هو من معاني درجات المقربين، وهو في نفسه غامض من حيث العلم، وشاق من العمل. ووجه غموضه من حيث العلم: ان ملاحظة الأسباب والأعتماد عليها شرك في التوحيد، والتباعد عنها بالكلّية طعن في السنّة وقدح في الشرع، والاعتماد على الأسباب انغماس في غمرة الجهل. إن التوكل المأمور به في الشرع: هو اعتماد القلب على الله تعالى في الأمور كلها، وانقطاعه عمّا سواه، ولا ينافيه تحصيل الأسباب إذا لم يكن يسكن إليها، وكاتن سكونه إلى الله تعالى دونها متصوراً أن يؤتيه الله مطلوبه من حيث لا يحتسب دون هذه الأسباب التي حصلّها، وان يقطع الله هذه الأسباب عن مسبباتها، سواء كانت مقطوعاً بها، كمد اليد إلى الطعام ليصل إلى فيه، أو مظنونة كحمل الزاد للسفر، وغلق الباب وعقل البعير ونحو ذلك. أمّا الموهومة كالرقّية والطيرة والأستقصاء في دقائق التدبير، فيبطل بها التوكل، لأن أمثال ذلك ليست بأسباب عند العقلاء، ولا مما أمر الله بها بل ورد النهي عنها. إذن فمعنى التوكل ليس ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة كما يظنّه بعض الحمقى، فإن ذلك جهل محضّ، وهو محرّم شرعاً، فإن الأنسان مكلف بطلب الرزق بالأسباب التي هداه الله إليها، من الزراعة والصناعة والتجارة أو غير ذلك. فكما ان الأنسان مكلف بالصلاة والصيام والحج والعبادات، فهو مكلف كذلك بطلب الرزق الحلال، وهو افضل العبادات كما ورد في الشرع: «إن العبادة سبعون جزءاً، افضلها طلب الحلال». ولكنه سبحانه كلفهم أيضاً بأن لا يثقوا إلاّ به جلّ وعز، ولا يثقوا بالاسباب، كما أنّه سبحانه كلفهم بأن لا يتكلوا على اعمالهم الحسنة، بل بفضل الله تعالى. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «ألا ان الروح الأمين نفث في روعي أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتقوا الله عزّوجلّ واجملوا في الطلب» [جامع السعادات: 2/329].
سبب التوكل
ان من اعتقد اعتقاداً جازماً بأنّه لا فاعل إلاّ الله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، وان له تمام العلم والقدرة على كفاية العباد، ثمَّ تمام العطف والعناية والتوجه بجملة العباد والآحاد، وأنّه ليس وراء منتهى قدرته قدرة، ولا وراء منتهى علمه علم، ولا وراء منتهى عنايته عناية، اتكل لا محالة قلبه على الله وحده، ولم يلتفت إلى غيره بوجهه ولا إلى نفسه. ومن لم يجد ذلك من نفسه فسببه أحد أمرين: إما ضعف اليقين، أو ضعف القلب. ومرضه باستيلاء الجبن عليه، وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه، فالقلب قد ينزعج تبعاً للوهم وطاعة له من غير نقصان في اليقين، كانزعاجه من المبيت مع ميّت في قبرٍ أو فراش مع عدم نفرته عن سائر الجمادات، فالتوكل لا يتم إلاّ بقوة القلب وقوة اليقين جميعاً، إذْ بهما يحصل السكون والطمأنينة.
درجات التوكل
والناس تتفاوت درجاتهم في التوكل بحسب تفاوت مراتبهم في قوة اليقين وضعفه، وفي قصر الأمل وطوله، وفي مقدار الادخار بحسب الأمل، فمنهم من هو من اصحاب اليمين، ومنهم من لا توكل له اصلاً، ومنهم من المقربين، وذلك بحسب عدم الوثوق بالأسباب اصلاً وقلته وكثرته. فمن كمل إيمانه سقط وثوقه بالأسباب بالكلية، فيرزقه الله من حيث لا يحتسب، وكمال الايمان إنّما يكون لصاحب العلم المكنون من الانبياء والاولياء.
فضل التوكل
وردت أخبار كثيرة في القرآن الكريم ومن العترة الطاهرة (عليها السّلام) بفضل التوكل، قال تعالى في محكم كتابه: «وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين» [سورة المائدة: 23]، «ومَنْ يتوكل على الله فهو حسبه» [سورة الطلاق: 3]، «إنَّ الله يحبُّ المتوكلين» [سورة آل عمران: 159]، وقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «لو انّكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً» [جامع السعادات: 2/325]. وعن الإمام الكاظم (عليه السّلام)، في قوله تعالى: «ومَنْ يتوكل على الله فهو حسبه» قال: «للتوكل على الله درجات: منها أن تتوكل على الله في امورك كلها، فما فعل بك كنت عنه راضياً، تعلم أنّه لا يألوك إلاّ خيراً وفضلاً، وتعلم أن الحكم في ذلك له، فتوكل على الله بتفويض ذلك إليه، وثق به وفي غيرها» [جامع السعادات: 2/327، والآية في سورة الطلاق: 3].