امتحان الاختيار في ثورة الحسين (عليه السلام)
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » امتحان الاختيار في ثورة الحسين (عليه السلام)

 البحث  الرقم: 166  التاريخ: 1 ذو الحجّة 1429 هـ  المشاهدات: 6034
قائمة المحتويات

امتحان الاختيار في ثورة الحسين (ع)

ليست بطويلة تلك المسافة الزمنية التي تفصل بين ولادتين مباركتين كان فيهما مجد الأمة الإسلامية وعزتها وحياتها الخالدة بخلود رسالتها الإلهية وامتدادها؛ إنهما ولادتان لإنسان واحد جسد الكمال الذي تصبو إليه الإنسانية، ذلك هو السبط الشهيد الحسين (عليه السلام)، وتلكما الولادتان هما الولادة الحقيقية يوم خرج ابن رسول اللهr من رحم الرحمة المرضي، رحم الطهارة والنور، فأنار الدنيا ومن عليها بإطلالته، ثم الولادة المعنوية التي كتبت له الخلد في كل ضمير حي ينشد الصلاح والخير.
إنها لقصيرة تلك المسافة إذا ما قورنت بذلك الدور التاريخي العظيم الذي ينبغي أن يؤدي في مثل هذا العمر الزمني. لقد ولد أبو عبد الله الحسين (عليه السلام)، وفتح عينيه الشريفتين على نور الرسالة المباركة الذي ولد هو الآخر مع ولادته، فشاء الله تعالى أن يندمج نور الرسالة البهي بدم ولحم وروح هذا الوليد الطاهر، وأن يجعل بقاءها وخلودها في عمق الزمان رهن هذا الدم الزكي، وتلك الروح الطاهرة التي تجسدت بولادته وحياته الأبدية في يوم ذروة العطاء والتضحية، يوم كربلاء والشهادة.

سر عظمة وشموخ الحسين (عليه السلام)

وهنا يتبادر إلى أذهاننا السؤال المحوري التالي الذي يتضمن عدة تساؤلات: ما الذي جعل الإمام الحسين، حسين الحق الشامخ الأبي؟ وما السر الذي جعل أئمة العصمة الهداة أئمة وقادة لنا نحن المسلمين؟ ثم ما السر في وقوع الاختيار الإلهي على هذه العصبة الطيبة من الرجال الأفذاذ فأكرمهم بأنوار الرسالة بأن جعل منهم أئمة بعد أن اختار من أصولهم الأنبياء والرسل؟
هناك تفسير غيبي لا أريد تناوله لما فيه من عمق واتساع وبحث طويل لا يتسع له بحثنا هذا. فعلينا أن لا ننسى تلك الحقيقة الغيبية وهي أن لله سبحانه وتعالى في خلقه شؤوناً نحن قاصرون وعاجزون عن الوصول إليها إلا بمقدار معرفتها ظاهرياً، والتسليم المطلق لها، ولذلك فإن السؤال المحوري الذي طرحناه سيدور جوابه حول ما نفهمه ونعيه ونستفيد منه عملياً.
وأود أن أقدم لجواب هذا السؤال مقدمة هي عبارة عن ملاحظة استوحيتها واستلهمتها من مجمل آيات الذكر الحكيم، وآثار العترة الطاهرة التي هي عدل القرآن، هذه الملاحظة تتمثل في أن الله تعالى خلق الأشياء يوم فطر السماوات والأرض خلقاً واحداً، في حين أنه خلق الإنسان خلقين، فبأمره سبحانه خُلقت الأشياء وصارت وجوداً بتلك القوة الأزلية كما عبر عن ذلك جلت قدرته بقوله:) إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ((يس/82)
فهذا الكون الذي نحسه ونبصره إنما كان رهن (كاف) و (نون) إلهية، ثم كانت التطورات والأشياء الأخرى من صنع الله القدير بأسباب وعوامل وسنن خارجة عن الأشياء. فتحولات الكون وتطوراته ومستجداته إنما وجدت بفعل تلك القوانين والسنن الكونية التي أودعها الله تعالى في الوجود، هذا في حين أنه تعالى عندما خلق الإنسان وفطره فإن إرادته شاءت أن يكون هذا الخلق الواعي والناطق مرة بيد قدرته وبصورة مباشرة، حيث قال جل وعلا:) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ ((ص/71)، ومرة أخرى بيد الإنسان نفسه بعد أن منحه تعالى ميزة الاختيار وسمة الحرية.
ومنذ ذلك الوقت الذي أمضى فيه الصورة الثانية من الخلق، كانت هذه الميزة والسمة الجليلة مشتقة من اسمه المبارك، بل من أسمائه الحسنى وهي الحرية والاختيار والقدرة. ولقد بلغت هذه القدرة درجة وعظمة مكنته من أن يسمو ويرتفع إلى مقام ومنزلة من السمو والكمال تبلغ به قاب قوسين أو أدنى من الكمال إن شاء السمو والارتفاع وبلوغ الدرجات العلى؛ أما إذا شاء هذا الإنسان -والعياذ بالله- أن ينحدر ويهوي إلى أسفل سافلين، والدرك الذي لا يمكن لنا أن نتصوره فإن هذا بإمكانه أيضاً، لأن هذا يعود إلى حرية الاختيار والإرادة الممنوحة لهذا الإنسان بالفطرة.

إرادة الإنسان فوق كل قوة

إنني وحسب معرفتي ومعلوماتي لم أعثر على قوة ما يمكن أن تسيطر على ذات الإنسان الارادية وتفرض وجودها عليها. وبمعنى آخر؛ ليست هناك قوة تجبر الإنسان على تغيير سلوكه وتصرفاته من خارج ذاته، بل إن هذا التغيير لا يحصل إلا من ذات الإنسان، فالقوى الخارجية إنما تؤثر في الإنسان بصورة غير مباشرة، فهي تقصد التأثير على الذات أولاً وعندها تقرر الذات هذا التغيير، فيخرج إلى الفعل بقوتها؛ أي قوة الذات العقلية عند الإنسان.
لقد خُلق الإنسان حين خُلق من مزيج الطين والنور، ومن قبضة التراب التي تغلغلت بين ذراته نفحة الروح فكان خلقاً من جنة في جانب منه، ومن نار في جانب آخر، ويبقى مصيره حينئذ رهن اختياره وسلوكه، فإما أن يحوّل ذاته إلى السلب والنار؛ بأن يدس نفسه ويوغل ذاته في تراب الشهوات، وأوحال الأهواء الضالة، فيضيع في ركام التيه والخرافة فتصبح ذاته نارية بكل ما في الكلمة من معنى، فتحشر مع أهل جهنم وأصحاب السعير.
أما عندما تسلك الذات الطريق الموجب؛ طريق الارتفاع والعلوّ والتزكية والسمو نحو الكامل المطلق فإنها ستغدو حينئذ نوراً بإذن الله، فتنطلق مع أصحاب النور إلى المستقر الخالد والنعيم الأبدي في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار

طريقان لا ثالث لهما

فلتنظر الذات الإنسانية ولتبصر، فالطريق طريقان لا ثالث لهما؛ فإما إلى الأعلى مع العلي الأعلى، وإما إلى الأسفل مع الشيطان الأدنى، ولينظر الإنسان حينئذ في حياته وكدحه وفي الطريق التي يسلكها.) يَآ أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ((الإنشقاق/6).
إن كل ما في القرآن وآثار العترة الطاهرة، بل إن جميع الرسالات التي حملها رُسل الله وأنبياؤه وأوصياؤه إنما تدور حول هذا المحور، فهي كلها تؤكد وتشير إشارات واضحة أن يا أيها الإنسان كن على يقظة وحذر، اصح من غفلتك، ابتعد عن مسالك الشيطان الكامنة في النفس الأمارة.. إن جميع الرسالات السماوية تصرخ بالإنسان أن عد إلى ذاتك، فإنك وحدك القادر على أن تصنع تلك النفس وتخرجها من حالة الأمر بالسوء إلى الأمر بالخير والكمال، فالحركة إنما تنطلق بالإرادة الكامنة في الذات الإنسانية.
وهذه الحقيقة هي التي تؤكدها المدرسة الحسينية، وتبثها من عمق الزمان منذ يوم مصرعه الدامي (عليه السلام) وحتى قيام الدولة الفاضلة المثلى على يد حفيده المهدي الموعود (عليه السلام).

الإمام الحسين (عليه السلام) وامتحان الاختيار

والإمام الحسين (عليه السلام) بطبيعة تكوينه كأي مخلوق إنساني فُطر في خلقه الاختيار كأي إنسان، وقد امتحن (عليه السلام) بالتخيير في أوج حياته الرسالية، ويا له من تخيير! إنه التخيير بين أمرين، حتى أنه (عليه السلام) أكد بنفسه هذه الحقيقة وأشار إليها بقوله: (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلة والذلة، وهيهات له ذلك، هيهات مني الذلة. أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون وجدود طهرت، وحجور طابت) [1].
فالحسين (عليه السلام) قد تم تخييره هنا وكان بإمكانه أن يختار ويسلك المسلك الذي يرتئيه، وهذا الواقع لا يمكن أن يفر منه إنسان، فكل واحد لابد أن يمر بامتحان الاختيار هذا في حياته، ويعرّض لابتلاءاته وفتنه بدءً من الرسل والأنبياءh وانتهاءً بمن هم دونهم ودون دونهم، فجميعهم مروا بامتحان التخيير، وعانوا فتنه ومصائبه، فكان عليهم في ذلك الخضم أن يختاروا ويقرروا الاتجاه والمسلك.
وقد اجتاز الإمام الحسين (عليه السلام) هذا الامتحان بأعلى درجات التفوق عندما ابتلي بالاختيار، فأطلق ذلك الهتاف الخالد الذي دوى في عمق التاريخ أن (هيهات مني الذلة). فهذه هي خيرة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وهذا هو قراره التاريخي الذي بينه لكل من أراد أن يعيش في الحياة حراً. ونحن الذين ندّعي حب الحسين وموالاته لابد لنا من الاقتداء به ليكون هذا الاقتداء مصداقاً للحب والموالاة هذين.
والاقتداء هو قرار ذلك الامتحان؛ امتحان الخيرة الذي لا مفر من التعرض له، فأنا أرى أن من المستحيل أن يولد الإنسان في هذا الدنيا وينمو وينضج من دون أن يتعرض لفتن تقرر وترسم مصيره، فكل إنسان من ذكر وأنثى لابد أن يمر بمواقف وساعات الاختيار.

كيف نختار وما هي عوامل الاختيار؟

وهنا يبرز سؤال مهم في هذا الصدد وهو: كيف لنا أن نختار؟ وما هي العوامل التي تكون في عوننا ساعة الاختيار، ولحظات اتخاذ القرار التي هي لحظات خطيرة ومصيرية وتمتاز بكونها محدودة وخاطفة؟
من هذه العوامل عاملا التربية والوراثة اللذان تؤكدهما تلك الصرخة الثورية التي أطلقها أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) في وجه الإستكبار والانحراف والاستبداد الأموي، وهناك عوامل أخرى يمكن للإنسان الإمساك بزمامها والتحكم بها؛ منها عامل الثقافة، وعامل تاريخ الإنسان وماضيه. فالإنسان المنقاد إلى ربه بمواظبته على أداء الفرائض العبادية، والمنشغل ليله ونهاره بذكر الله العظيم، هذا الإنسان متوجه بدمه ولحمه وروحه ونفسه وعقله إلى الله سبحانه، لاهج لسانه بترديد الدعاء الشريف (ربي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً) [2]. ولذلك فإن يد الرحمة الغيبية ستكون في عونه لإنقاذه في لحظة الاختيار، فتثبت قدمه، وتطمئن قلبه، لا تدعه يتزلزل وينهار، ولا تهجره ليصبح عرضة لفتن وابتلاءات الزمان.
ولا عجب من أن تمتد يد الرحمة الإلهية لعون هذا العبد، ذلك لأنه قد ذكر ربه في السراء من العيش فأجابه ربه وذكره حين الضراء والشدة. قال الله تعالى:) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ((البقرة/152).
وعندما نقرأ تاريخ الإمام الحسين (عليه السلام) قراءة واعية وموضوعية، نجد أنه (عليه السلام) ولد ثانية في كربلاء ساعة نيله تلك المنزلة الرفيعة التي لم ينلها أحد من قبل، وهي منزلة ربانية اختارها الله تعالى له ليخلد مثالاً وضاءً في قلب التاريخ لا ينقطع شعاعه، ولا يخمد وهجه رغم كل محاولات الأمويين على امتداد هذا التاريخ.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - بحار الأنوار، ج45، ص83.
[2] - مصباح المتهجد للشيخ الطوسي، ص16.

الروابط
الأشخاص: آية الله السيد محمد تقي المدرسي [المترجم]
مواقع الإنترنيت: الموقع العالمي للدراسات الشيعية
مفاتيح البحث: الحكم الأموي،
الإمام المهدي (عليه السلام)،
الجبر والتفويض،
الثورة الحسينية،
الإمام الحسين (عليه السلام)
الواحات: الواحة الحسينية

الفهرسة