كلمة الشهداء جمع مفردها شهيد وشاهد أما شهيد فالغالب عليها مجيئها بمعنى القتيل الذي قتله الكفار في المعركة وإنما سمي شهيدا لأن ملائكة الرحمة شهدت غسله أو شهدت نقل روحه إلى الجنة أو لأن الله شهد له بالجنة (انظر المصباح المنير باب الشين مع الهاء) وهذه الكلمة بهذا المعنى منطبقة على الحسين (عليه السلام) تمام الإنطباق فهو سيد الشهداء بحق من الأولين والأخرين ممن دخل عرصة الإمكان والأكوان فلا شك انه قتل في سبيل الله صابرا محتسبا مسلّما امره كله لله غير ناظر إلى نفسه طرفة عين أبداً.
سيد الشهداء
وإنما سمي سيد الشهداء مع كون باقي الأئمة (عليهم السلام) كلهم شهداء وفيهم من هو أعلى منه مقاما كأبيه أمير المؤمنين وأخيه الإمام الحسن عليهما السلام إضافة الى جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمه فاطمة الزهراء (عليه السلام) بصريح قوله روحي له الفداء لأخته زينب في يوم العاشر من محرم في مقام تسليته لها عليها السلام (يا أختاه اتقي الله وتعزي بعزاء الله واعلمي أن أهل الأرض يموتون وأن أهل السماء لا يبقون وأن كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته ويبعث الخلق ويعيدهم وهو فرد وحده، جدي خير مني وأبي خير مني وأمي خير مني وأخي خير مني) فليس هذا بالنظر الى مقامهم الحقيقي ونورهم الذي خلقوا منه اذ هم من هذه الجهة نور واحد وطينة واحدة كما صرحت بذلك الروايات المتكاثرة عنهم (عليهم السلام) وإنما جاء هذا التفضيل بينهم من حيث الجهة والرتبة والزمان والمكان لتقدم بعضهم على بعض وتولد بعضهم من بعض بحسب المقتضيات الإلهية والتقديرات الربانية ولظهور كل واحد منهم بصفة خاصة قدرها له رب السماء يستدعيها ظرف الزمان والمكان الذي وجدت فيه مع وجود هذه الصفة فيهم جميعا على حد سواء ولاشتمالهم على جميع الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة لأنها منهم بدأت واليهم تعود فظهر أمير المؤمنين مثلا بصفة الصبر وظهر الإمام الحسن بصفة الكرم وظهر الإمام السجاد بصفة التهجد والعبادة وظهر الإمام الباقر والإمام الصادق بصفة العلم والفقه وظهر الإمام الكاظم بصفة كظم الغيظ التي اشتهر بها وهكذا ظهر الإمام الحسين (عليه السلام) بصفة الشهادة فكان سيد الشهداء من هذة الجهة كما كان الإمام الحسن كريم أهل البيت وكما كان الإمام السجاد راهب آل محمد وكما كان الإمام الرضا عالم آل محمد ليس بمعنى انه أكرم منهم جميعا أو أعلم منهم جميعا أو أعبد منهم جميعا ولكن لتجليه بهذه الصفة وغلبة ظهورها عليه، ومن جهة ثانية إنما سمي سيد الشهداء لعظم مصبيته وفداحة خطبه وتتابع المصائب المفجعة عليه المقرحة للقلوب في وقت قصير مما لم يحصل لغيره من باقي المعصومين حيث قتل هو وعياله وأهل بيته وأصحابه وسبيت حريمه وأحرقت خيامه ورضت ضلوعه وجرد من ملابسه وظل مكبوبا على وجهه فوق واهجة الرمضاء ثلاثة أيام تصهره الشمس بحرارتها وقد قتل ظمآنا غريبا لم يغسل ولم يكفن. وأيضا للعلة التي ذكرها الإمام الصادق (عليه السلام) عندما سأله عبدالله بن الفضل الهاشمي لم صار يوم عاشوراء يوم مصيبة وغم وجزع وبكاء دون اليوم الذي قبض فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) واليوم الذي قتل فيه امير المؤمنين (عليه السلام) واليوم الذي قتل فيه الحسن (عليه السلام) بالسم فقال (عليه السلام): إن يوم الحسين (عليه السلام) أعظم من جميع سائر الأيام وذلك أن أصحاب الكساء الذين كانوا أكرم الخلق على الله تعالى كانوا خمسة فلما مضى عنهم النبي (صلى الله عليه وآله) بقي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (عليه السلام) فكان للناس فيهم عزاء وسلوة فلما مضت فاطمة عليها السلام كان في أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليه السلام) للناس عزاء وسلوة فلما مضى منهم أمير المؤمنين (عليه السلام) كان للناس في الحسن والحسين (عليه السلام) عزاء وسلوة فلما مضى الحسن (عليه السلام) كان للناس في الحسين (عليه السلام) عزاء وسلوة، فلما قتلالحسين (عليه السلام) لم يكن بقي من أهل الكساء أحد للناس فيه بعده عزاء وسلوة فكان ذهابه كذهاب جميعهم كما كان بقاؤه كبقاء جميعهم فلذلك صار يومه أعظم مصيبة (علل الشرائع 1/226) فإذا اجتمع عظم المصيبة وفداحة الرزية مع عظم صاحب المصيبة وجلالة قدره وعلو شأنه وقربه من الله لاجرم استحق أن يطلق عليه هذا اللقب دون منازع، وأما من تسمى بهذا اللقب غير مولانا الحسين (عليه السلام)كحمزة بن عبد المطلب عم الرسول (صلى الله عليه وآله) وعم أمير المؤمنين (عليه السلام) بصريح قوله (عليه السلام) في أبيات له مثبتة في ديوانه المنسوب إليه يذكر فيها بعض مناقبه وفضله على من سواه فيقول في ضمنها: محمد النبي أخي وصنوي* وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر الذي يضحي ويمسي* يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكني وعرسي* منوط لحمها بدمي ولحمي فهذا ليس من باب المتواطىء الذي تتفق أفراده في وحدة المفهوم وليس من باب الحقيقة والمجاز وإنما هو من باب الحقيقة من بعد الحقيقة كإطلاقك حكم الرؤية على العين بالحقيقة، وكذلك اطلاقك حكم الرؤية على القلب بالحقيقة أيضا فتقول رأيت بقلبي كما تقول رأيت بعيني كلاهما على الحقيقة لا المجاز مع أن العين تابعة في الرؤية للقلب حتما اذ لولا توجهه لم تبصر العين شيئا وكذلك اطلاقك حكم الكتابة على اليد بالحقيقة، واطلاقه على القلم بالحقيقة ايضا فتقول كتبت بيدي وكتبت بقلمي مع أن حركة القلم تابعة لحركة اليد التي هي مؤثرة في حركة القلم وهكذا.
كلمة الشهداء جمعا لكلمة شاهد
وأما إذا جاءت كلمة الشهداء جمعا لكلمة شاهد فيمكن أن يراد بها جميع الشهداء من الأولين والآخرين باستثناء رسول الله وأمير المؤمنين والامام الحسن لقوله تعالى {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة: 143) فهم يشهدون على الأنبياء والمرسلين بالتبليغ وعلى الأمم جميعا بالطاعة والانقياد لأن الشهادة هنا إما أن تأتي بمعنى الخبر القاطع اليقين وإما أن تأتي بمعنى الحضور والمعاينة والمشاهدة وكلا المعنيين صحيح وينطبق على ما نحن فيه بل تؤيده الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وأخبارهم المطهرة (عليهم السلام) وكلمة الأمم تعني جميع الموجودات لعموم قوله تعالى {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الأْرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} (الأنعام: 38) ولقوله تعالى {قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإْنْسِ} (الأعراف: 38) وقد تكون الألف واللام في الشهداء للتعريف والتخصيص لا للاستغراق فيكون حينئذ سيد الشهداء من ذريته وهم الأئمة من بنيه (عليهم السلام) وهذا داخل في المعنى الأول إذ جعلهم الله تعالى شهداء على الخلق في مبدئهم ومعادهم وكيف لا يكونون كذلك وقد افتتح الله بهم بوابة الخلق وسطر بنورهم المقدس ملحمة الوجود فأشهدهم أولا خلق أنفسهم ومن ثم أشهدهم خلق هذا الكون حيث اتخذهم أعضادا له تبارك وتعالى قال عز شأنه في كتابه الكريم عن الكافرين {ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالأْرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} (الكهف: 51)، وأما ما يترتب على كونهم (عليه السلام) شهداء هو وباقي المعصومين (عليهم السلام) فأمور كثيرة منها: 1- لزوم عصمتهم عصمة مطلقة وطهارتهم طهارة تامة لعموم موضوع الشهادة في حقهم إذ كان هو الكون كله ولا يجوز أن يشهد الشاهد بشيء لم يره ولم يعاينه ولم يحط به فهذا إن حصل كان نقصا في الشهادة وطعنا في الشاهد فلزم عصمتهم عليهم السلام. 2- عرض الأمور والأعمال عليهم في كل حين أو في أوقات مخصوصة وهذا من باب عدم انقطاع المدد والفيض عنهم لحظة واحدة وإلا فهم يعلمون كل مخلوق كيف خلق ومتى خلق وأين خلق وجميع متعلقاته الأولية، عن أبي طاهر بن هلال عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إذا أراد الله أن يحدث أمرا عرضه على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم أمير المؤمنين (عليه السلام) وواحد بعد واحد إلى أن ينتهي إلى صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف ثم يخرج إلى الدنيا، وإذا أراد الملائكة أن يرفعوا إلى الله عزوجل عملا عرض على صاحب الزمان ثم على واحد واحد إلى أن يعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم يعرض على الله فما نزل من الله فعلى أيديهم وما عرج إلى الله فعلى أيديهم وما استغنوا عن الله عز وجل طرفة عين أبدا. (صحيفة الأبرار1/71). 3- إجراء أرزاق العباد على أيديهم وإيصال الفيوضات إلى أصحابها بحكم كونهم شهداء عليهم عالمين بكل مخلوق ما يستحقه من الرزق، عن أبي حمزة قال: كنت عند علي بن الحسين عليهما السلام وعصافير على الحائط قبالته يصحن فقال يا أبا حمزة أتدري ما يقلن؟ يتحدثن أنهن في وقت يسألن فيه قوتهن، يا أبا حمزة لا تنامن قبل طلوع الشمس فإني أكرهها لك إن الله يقسم في ذلك الوقت أرزاق العباد وعلى أيدينا يجريها. (صحيفة الأبرار 1/80). 4- أنهم يعرفون شيعتهم ومواليهم ويعرفون من أطاع بما أطاع ومن عصى بما عصى، عن الأصبغ بن نباتة قال: كنت عند أمير المؤمنين (عليه السلام) جالسا فجاءه رجل فقال يا أمير المؤمنين {وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم} فقال علي (عليه السلام): نحن الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذين لا يعرف الله إلا بسبيل معرفتنا، ونحن الأعراف نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه. (صحيفة الأبرار1 / 108). 5- أنهم يرون الأشياء في المنام كما يرونها في اليقظة لا فرق بين نومهم ويقظتهم إذ هما عندهم على حد سواء، عن زيد الشحام قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول طلب أبو ذر رضوان الله عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقيل له أنه في حائط كذا وكذا فتوجه في طلبه فوجده نائما فأعظمه أن ينبهه فأراد أن يستبرء نومه فسمعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرفع رأسه فقال يا أبا ذر أتخدعني أما علمت أني أرى أعمالكم في منامي كما أراكم في يقظتي إن عيني تنام وقلبي لا ينام. (صحيفة الأبرار 1/207). وعن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): الإمام منا ينظر من خلفه كما ينظر من قدامه (بصائر الدرجات/441).