مع حلول شهر محرم الحرام، نستقبل موسم الدم الذي هزم السيف، ذلك الدم الذي جرى في أرض كربلاء ليبقى جارياً، ولتبقى معه عاشوراءمبعث الألم والبطولة، مبعث المأساة والتحدي.. خالدة في ضمير الأجيال. فيا ترى ما هي فلسفة نهضة الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)؟ هذه الفلسفة تتلخص في كلمة واحدة، هي أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان داعياً إلى الله تعالى، وحينما رأى أن دعوته إلى الله بحاجة إلى أن تكتب بدمه، وتعمّد بشهادتهوشهادة أبنائه حتى الطفل الرضيع. حينما أدرك ذلك اقتحم (عليه السلام) ميدان الشهادة، وبادر إلى العطاء في سبيل الله. ولما كان الحزب الأموي متجذراً في السلطة، كان المجتمع بحاجة إلى هزة عنيفة ليقتلع جذور الأموية. وهذا ما حدث بالضبط بفضل دم أبي عبد الله الحسين (عليه السلام). ترى كيف حدث كل ذلك؟ السر يكمن في أن الحسين كان دماً ناطقاً، وإعلاماً داعياً إلى الله، وشهادة من أجله تعالى، هذه الشهادة التي نرددها يومياً في الصلاة (أشهد أن لا إله إلا الله) ماذا تعني؟ إنها تعني إعلان الحق، فأنت بإمكانك أن تجلس في بيتك وتقول (أشهد أن لا إله إلا الله)، فما الذي يدعوك إلى أن تصعد فوق المنابر وتنادي بهذه الشهادة خمس مرات في كل يوم؟ لأن الإسلام بحاجة إلى إعلام، لأن هدف الرسالات الأساسي هو دعوة الناس إلى الله تعالى. وفي بعض الأحيان تحتاج الدعوة إلى الله إلى صوت، وفي أحيان أخرى تكون بحاجة إلى دم، وقد عرف الحسين (عليه السلام) هذه المسيرة فأعطى الدم، ومن المعلوم أن هذا الإعلام يجب أن ينسجم مع المبدأ ومع ظروف المجتمع، ويجب أن يكون بحجم هذه الظروف؛ أي إننا يجب أن نثبت صمودنا في هذا الإعلام من خلال ساحة الجهاد، ومن خلال الدم الذي يُراق، ولذلك فإن الإعلام الإسلامي يجب أن ينسجم مع روح الإسلام التي هي التضحية، وتنازل الإنسان عن ذاته لدينه، وعن دنياه لأخرته، وهذا التنازل لا يمكن أن يتحقق ببساطة، فلابد للإنسان من أن يكون في مستوى الرسالة التي يحملها، ولذلك فإن الذي يجلس على منبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، ويدعو إلى منهجه، ويتحدث باسمه، وينطق باسم الثورة التي قادها السبط الشهيد، هذا الإنسان يجب أن يكون حسينياً؛ بمعنى أن يكون مستعداً للتنازل عن كل شيء في لحظة واحدة إذا اقتضى الأمر حتى تكون دعوته نافذة، فالمنبر الذي يتحول إلى مهنة واحتراف لا يغني عن الحسين شيئاً، لأن المنبر هو ساحة للجهاد، فمن الممكن أن يرتقي الإنسان المنبر، ويتحدث بحديث تكون فيه نهايته الدنيوية كما فعلوا بخطبائنا العظام طيلة التاريخ. وهكذا فإن الإنسان المؤمن الصادق لابد أن يقتبس من نور الإمام الحسين شعاعاً عندما يرتقي المنبر ويتحدث باسمه (عليه السلام) ولذلك نراه يندفع إلى التضحية. وهكذا الحال بالنسبة إلى إعلام القلم الذي ينطق باسم الإمام الحسين، فيجب على حامل هذا القلم أن يكون حسينياً بمعنى الكلمة، وأن يبتعد عن الارتزاق والمهادنة. فالقلم الذي يعمل على مهادنة الطغاة يجب أن يتكسر، والورقة التي يكتب عليها يجب أن تتمزق. نحن نتحدث عن سيد شباب أهل الجنة، عن سبط رسول اللهr، عن إمام من أئمة الهدى الذين بولايتهم وباسمهم تاب الله على آدم، وركب نوح السفينة، واصبح إبراهيم إماماً للناس..
سمات وخصائص الإعلام الإسلامي
وهكذا فإن الإعلام الإسلامي يجب أن يكون منسجماً مع الإسلام، وفيما يلي سأحاول تلخيص بعض سمات هذا الإعلام.
إعلام إلهي
1- الإعلام الإسلامي هو إعلام إلهي تجاوز الدنيا إلى الآخرة، فقد كانت الكلمة الأولى التي أطلقها السبط الشهيد في المدينة المنورة هي: ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله [1]. شارب الخمر ولاعب القمارويقتل النفس المحرمة، ويتجاوز حدود الله، ومثلي لا يبايع مثله. وهنا أحب أن أذكر إن القضية ليست قضية أن يزيد قد أخذ دار الحسين (عليه السلام) وأمواله، وأنه ليس من جماعته، فهذه الاعتبارات ليس لها أساس، بل أن القضية هي قضية إلهية. فالرفض ابتدأ بكلمة الله، والدعوة إلى الله. فأول إعلان عن الثورة كان في مكة المكرمة في اليوم الثامن من ذي الحجة، وقد كان الناس يتجهون إلى منى ومن ثم إلى عرفات في حين أن الإمام الحسين (عليه السلام) غيّر مسيره إلى العراق، ووقف قائلاً بكل جرأة: (خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف [2]..). فالكلمة هنا تتجاوز الدنيا؛ إنها كلمة الآخرة. فالإمام الحسين (عليه السلام) لا يعيش الدنيا لأن قلبه وروحه وأحاسيسه تعيش في الآخرة. هذه هي الكلمة الأولى، أما الكلمة الأخيرة فقد نطق بها بعد شهادته (عليه السلام) الإمام زين العابدين فوق منبر مسجدالشام، وقد كانت نصف خطبته تدور حول الآخرة، وقد كان (عليه السلام) يهدف من وراء ذلك بيان حقيقة ثورة أبيه الحسين (عليه السلام)، فالمقدمة كانت توجيهاً للناس إلى الآخرة وإلى الله تعالى حتى أجهش الناس بالبكاء كما تذكر الروايات. وعلى هذا فإن منابرنا يجب أن تسير على نهج النبيr وأئمتناh، وهذه هي صبغة الإعلام الإسلامي وسمة من سماته، فهو إعلام إلهي لا ينظر إلى الدنيا فقط، لأن الدنيا لا شيء بالنسبة إلى الآخرة، والإنسان العاقل الحكيم يجب أن يستغل هذه الدنيا لصالح أخرته..
إعلام متفاعل مع الواقع
2- إن الإعلام الإسلامي لا يعبر عن الصور المتحركة، فهناك إعلام يأتيك بالحدث المجرد، ويصور الحالة الخارجية بشكل محايد، في حين أن الإعلام الإسلامي يتجاوز هذه الصورة، ويغوص في العمق، فهو يربط الحدث بمسيرته التاريخية، ويتعمق في الجذور، ليقتبس منه العبرة؛ فالقصص والأحاديث والأخبار المفرغة من العبرة لا تغني شيئاً، لذلك ينبغي أن نعطي الخلفية التاريخية للإعلام، والعبرة المستقبلية له، ونربط بينه وبين السنن الإلهية التي بينها الله تعالى في كتابه الكريم. فكل شيء له سبب ودافع، وقد يكون دافع الإنسان نظيفاً، وقد يكون خاطئاً، فالإنسان قد يقوم ببطولات ويتحدى ويؤدي دوراً كبيراً ولكن دون أن يكون دافعه إرضاء الخالق، بل يخرج أشراً ومفسداً ومستعلياً في الأرض، ومثل هذا الإنسان لا يساوي عند الله جناح بعوضة حتى وإن قُتل، وسُحق تحت الأقدام، لذلك النية هي المهمة في الإسلام، أما العمل فليس له قيمة من دون النية، وقد قال رسول اللهf: لا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلا باصابة السنة [3]. وهكذا الحال بالنسبة إلى النية فإنها وحدها لا تكفي بل يجب أن نبحث عن الحكم الشرعي الذي يسمح لنا بالعمل، فليس من حقي أن أحطم شخصية إنسان بكلمة نابية أو غيبة أو تهمة بحجة إنني أنوي تأديبه -مثلاً-، بل لابد أن أبحث عن الأسلوب المناسب وعن القانون الشرعي، فالإسلام لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ووضع لها قانونا، فليس من حقك أن تتصرف في الساحة دون قانون شرعي، لأن الإعلام الإسلامي هو إعلام شرعي يقتضي البحث عن الشرعية.
إعلام شجاع لا يهادن
3- الإعلام الإسلامي هو إعلام شجاع لا يهادن، فهو يضع النقاط على الحروف، انظروا إلى كلمات الأنبياءh فإنكم لا تجدون فيها كلمة غامضة، ففيها، حسب التعبير القرآني: (فصل الخطاب)؛ أي الخطاب الفاصل والحاسم الذي يفرق بين الحق والباطل، فإن تخلط الأمور مع بعضها، وتقول كلمات دبلوماسية حتى تستطيع أن تخرج دائماً من المآزق، فهذا مرفوض في الإعلام الإسلامي ولا يجوز إلا عند الضرورة، فالأدب والتعبير الحسن في مكانهما، ولكن الوضوح له موقعه أيضاً. -------------------------------------------------------------------------------- [1] - بحار الأنوار، ج44. ص325. [2] - بحار الأنوار، ج44، ص366. [3] - الكافي، ج1، ص70.