قد اختلف الناس في الترجيح بين العزلة والمخالطة، فمن بلغ مقام الانس بالله تعالى غلب على قلبه حبُّ الخلوة والعزلة عن الناس، لأن المخالطة مع الناس تشغل القلب عن التوجّه التام إلى الله، والأخبار الدالة على استحباب التزاور والتصافح والمعانقة، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز، وقضاء الحوائج، والاهتمام بأُمور المسلمين، واصلاح ذات البين، وحضور الجمعة والجماعة، وغيرها من الأخبار، تدل على ترجيح المخالطة، فلابدّ من بيان الأفضل، فإن العلماء في ذلك مختلفون، وكذا الأخبار في ذلك مختلفة، ولكل واحدٍ منهما فوائد ومفاسد، ولكنّ الظاهر من جماعة هو: تفضيل العزلة على المخالطة مطلقاً، في حين ترى العكس من جماعة أخرى.
فوائد العزلة
للعزلة فوائد، منها: الفراغ للعبادة، والذكر، والفكر، والاستئناس بمناجاة الله تعالى، والإشتغال باستكشاف أسرار الله تعالى في ملكوت السماوات والأرض، والتخلص من المعاصي التي يتعرض لها الإنسان غالباً بالمخالطة، كالغيبة والرياء وسائرِ آفات اللسان، ومسارقة الطبع الأعمال الخفية والأخلاق الردية من الناس، والمراهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاستخلاص من الفتن والخصومات وأخطارها، أو من شرِّ الناس وايذائهم قولاً وفعلاً، وقطع طمعه عن الناس، وقطع طمعهم عنه، والخلاص من مشاهدة الظَلَمة والفسقة والجهّال والثقلاء والحمقى، ومقاساة أخلاقهم. ويستدلّ أصحابُ هذا النظر إلى إطلاق الظواهر الواردة في مدح المخالطة والمؤالفة والمؤانسة.
فوائد المخالطة
فوائد المخالطة: كالتعليم والتعلّم، وكسب الأخلاق الفاضلة من مجالسة المتّصفين بها، واستماع المواعظ والنصائح، ونيل الثواب بحضور الجمعة والجماعة والجنازة، وعيادة المرضى وزيارة الاخوان، وقضاء حوائج المحتاجين، ورفع الظلم عن المظلومين، وإدخال السرور على المؤمنين، والاسيناس بالإخوان وبأهل الورع والعبادة والتقوى، وغيرها.
من الافضل، العزلة أم المخالطة؟
بعدما عرفنا مختصراً فوائدَ كلٍ من العزلة والمخالطة، وعرفنا ان فوائد كل منهما مفاسد وغوائل إلى الآخر، والحكم بترجيح أحدهما على الآخر على الاطلاق خطأَ، إذْ كيف يجوز ان يُقال: إن العزلة أفضل لشخص جاهل لم يتعلم شيئاً من اصول وفروع دينه، ولم يميّز بين فضائل الصفات ورذائلها، فضلاً عن أن تحصل له التخلية والتحلية، فهو يمكن ان يحصل على ذلك بمخالطة العلماء واُولي الأخلاق الفاضلة؟ وكيف يجوز ان يقال: أن المخالطة أفضل لمن حصل ما في وسعه وقدرته من العلم والعمل، ووصل إلى مرتبة الابتهاج والالتذاذ بالطاعات، ولم يترتب على مخالطته مع الناس شيء من الفوائد الدينية والدنيويّة، بل تترتب عليه المفاسد الكثيرة؟ فما هو الخيار الصحيح؟ الصحيح ان يقال: ان الافضلية فيهما تختلف بالنظر إلى الأشخاص والأحوال والأزمان والأمكنة، فينبغي ان يُنظر إلى كل شخص وحاله، وإلى خليطه، وإلى باعث مخالطته، وإلى ما يحصل بمخالطته من فوائد المخالطة، وما يفوت لأجلها من فوائد العزلة، ويوازن بين ذلك، حتّى يظهر الأفضل والأرجح، ويمكن ان تطرح بعض الوجوه التي لا تتلائم مع هذا وما جاءت به الأخبار الواردة: الاول ـ ان يقال: ان العزلة الممدوحة انما هي العزلة بالقلب دون البدن، كما رويَ عن الإمام الصادق (عليه السّلام): «طوبى لعبدٍ عرف الناس، فصاحبهم ببدنه ولم يصاحبهم بقلبه، فعرفوه في الظاهر وعرفهم في الباطن» [الأخلاق، للسيد عبد الله شبر: 122]. الثاني ـ ان يراد من العزلة هي العزلة عن اهل الدنيا الذين يشغلون الإنسان عن ذكر الله، لا أهل الآخرة من العلماء والعقلاء والعرفاء، الذين يكتسب من أخلاقهم ويستفيد من علومهم وأحوالهم، ويتوصل إلى الأجر والثواب بمخالطتهم. الثالث ـ ان يقال: ان العزلة لابدَّ فيها من العلم والزهد، فالعزلة بدون عين العلم ذلة، وبدون الزهد علّة، وبدون الجهل عزة. الرابع ـ ان يقال: ان الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فليكن الإنسان بين المنقبض والمنبسط، وكذلك يجب الاعتدال في المخالطة والعزلة.