أبو سالم مِيثَم بن يحيى التمّار النَّهرواني، كان يبيع التمر في الكوفة، فلُقّب بـ «التمّار». مولى أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) وخاصّته وحواريّه، ومستودع أسراره ومَغرس علومه، وقد أطْلَعَه (عليه السّلام) على علمٍ كثيرٍ وأسرارٍ خفيّة مِن أسرار الوصيّة (1). كان مِيثَم التمّار عبداً لامرأة مِن بني أسد، فاشتراه أميرُ المؤمنين (عليه السّلام) منها فأعتقه، فقال: ما اسمُك؟! قال: سالم، فقال (عليه السّلام): أخبَرَني رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) أنّ اسمك الذي سمّاك به أبوك في العجم «ميثم» ، قال: صدَقَ اللهُ ورسوله وصدق أمير المؤمنين، واللهِ إنّه لاَسمي، قال: فارجِعْ إلى اسمك الذي سمّاك به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ أي: ذَكَرك به ـ ودَعْ سالماً، فرجع إلى اسم «ميثم» واكتنى بأبي سالم (2). وفيما ذُكر من معرفته أنّ ابن الشريفة الواسطي دوّن في كتابه (اللبات) أن مِيثم التمّار قال: بينما أنا في السوق إذ أتى أصبَغُ بن نُباتة، فقال: وَيحَك يا مِيثم! لقد سمعتُ من أمير المؤمنين (عليه السّلام) حديثاً صعباً شديداً، قلت: ما هو؟ قال: سمعته يقول: إنّ حديث أهل البيت صعبٌ مُستَصعَب، لا يحتمله إلاّ مَلَكٌ مقرَّب أو نبيٌّ مُرسل أو عبدٌ مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان. قال ميثم: فقمتُ من فورتي فأتيتُ عليّاً (عليه السّلام)، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، حديثٌ أخبرني به أصبَغُ قد ضِقتُ به ذَرعاً، فقال (عليه السّلام): ما هو؟ فأخبرته به، فتبسّم ثمّ قال: اجلِسْ ما ميثم، أوَ كلُّ علمٍ يحتمله عالِم؟! إنّ الله تعالى قال للملائكة: إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً، قالوا أتجعَلُ فيها مَن يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدِّماءَ ونحن نُسبِّحُ بِحمدِكَ ونُقدِّسُ لك؟! قال إنّي أعلَمُ ما لا تعلمون (3)، فهل رأيتَ الملائكة احتملوا العلم؟!... وأمّا النبيّون، فإنّ نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) أخذ يومَ غديرِ خُمٍّ بيدي فقال: اللّهمّ مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، فهل رأيتَ احتملوا ذلك إلاّ مَن عصم اللهُ منهم؟ فأبشِروا، ثمّ أبشِروا.. فإنّ الله قد خصّكم بما لم يخصّ به الملائكة والنبيّين والمرسلين فيما احتملتم ذلك في أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعلمه، فحدِّثوا عن فضلنا ولا حَرَج، وعن عظيم أمرنا ولا إثم. قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أُمِرنا ـ معاشرَ الأنبياء ـ أن نخاطب الناسَ على قَدْر عقولهم (4). وكان لِميثم التمّار كتبٌ يروي عنها وَلَداه: يعقوب بن مِيثَم وصالح بن ميثم.. من ذلك ما رواه الكراجكيّ؛ عن أبي مخنف، عن يعقوب بن مِيثم التمّار، أنّه وجد في كتب أبيه أنّ عليّاً (عليه السّلام) قال: سمعتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: قال الله عزّوجلّ: (إنّ الذين آمَنُوا وعَمِلوا الصالحاتِ أُولئكَ هُم خيرُ البَريّة) (5)، ثمّ التَفتَ إليّ فقال: هم أنت ـ يا عليّ ـ وشيعتك، وميعادُك وميعادهم الحوض، تأتون غُرّاً مُحجَّلين مُتوَّجين. قال يعقوب بن مِيثم: فحدّثت به أبا جعفر ـ الباقر ـ (عليه السّلام)، فقال: هكذا هو عندنا في كتابِ علي (عليه السّلام) (6).
منزلة ميثم
إنّ ميثم التمّار قد جَعَلَت منه نفاسةُ مَعدِنه وجميلُ تربيةِ الإمام عليٍّ (عليه السّلام) له، ذلك الرجلَ الفذَّ في كلّ خلّةٍ كريمة، وكم من ذي مَعدِنٍ نفيسٍ لم يُنقَّ فلم تظهر نفاسته، وكم من ذي مَعدنٍ خبيثٍ لم تنفعه التربية فظهرت للناس نُتونتُه وإن طُلي بغالي الطِّيب! فذاك: مالك الأشتر، والأشعث بن قيس.. كلاهما زعيمان مُطاعانِ في قومِهما، وكلاهما صَحِبا أمير المومنين عليّاً (عليه السّلام) وحضرا حروبه وجاهدا بين يديه، ولكن لمّا كان الأوّل من النفيس والثاني من الخسيس، نفعت الأوّلَ تلك الصحبةُ الطيّبة والتعاليم العالية، ولم تنفع الثاني، مع خبرة المربّي وحُسن تربيته.. وهل تجعل التصفية من النحاس ذهباً ومن الحصى ألماساً؟! وهل تَطيب الجِيف إذا جاورت الطيّب ويحلو الأُجاجُ إذا قارب الفرات؟! فلولا أبو الحسن عليّ (سلام الله عليه) لم يكن مالك مالكاً كما كان، ولو نفاسة معدن مالك لم يكن مالك كما أراد الإمام عليّ (سلام الله عليه).. ولماذا لم يكن الأشعث كما شاء أميرُ المؤمنين (عليه السّلام) وهو من رجاله وأعلام جيشه؟! وكم كان في رجال الإمام عليٍّ (سلام الله عليه) مِثلُ مالك في النفاسة، ومثل الأشعث في الخساسة! وكانت خَلَواتٌ ومناجاة بين رسول الله (صلّى الله عليه وآله)والإمام عليٍّ (عليه السّلام).. ومَن يعلم ماذا كان يستودعه وبماذا كان يُوصيه! وكانت أمُّ سلمةزوجة النبي (صلّى الله عليه وآله) تلك البَرّة الطاهرة تلتقط من تلك المناجاة درراً ثمينة، فمِمّا التَقَطَته وصايا المصطفى لأبي الحسن المرتضى (صلوات الله عليهما) في مِيثم. وتمرّ السنوات.. ويدخل ميثم التمّار ـ وهو يريد الحجّ ـ على أمّ المؤمنينأمّ سلمة، فتقول له: طالما سمعتُ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) يذكرك في جوف الليل ويُوصي بك عليّاً (عليه السّلام) (7). فمِيثم بلغ من شأنه وشرفه أن يذكره رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في جوف الليل مرّات عديدة، وبلغ من فضله وعلوّ مقامه أن يوصيَ (صلّى الله عليه وآله) به وصيَّه المرتضى (صلوات الله عليه)، أوَ ليس هذا نبأً كريماً يرشدنا إلى عظيم المنزلة لميثم؟! (8) وفي رواية عن ابنه حمزة بن ميثم قال: خرج أبي إلى العمرة، فحدّثني قال: استأذنتُ على أمّ سلمة (رحمة الله عليها)، فضربت بيني وبينها خِدْراً، فقالت لي: أنت مِيثم؟ فقلت: أنا ميثم، فقالت: كثيراً ما رأيتُ الحسينَ بن علي بن فاطمة يذكُرك، قلت: فأين هو؟ قالت: خرج في غنمٍ له آنفاً، قلت: أنا ـ واللهِ ـ أُكثِر ذِكرَه، فأقرئيه السلام فإني مبادر.. (9)
إخباره بالمُغيَّب
بعض أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله)، وبعض أصحاب الأئمّة (عليهم السّلام).. خُصُّوا بعنايات ومواهب، فكان منهم مَن تَلَقَّوا عن أهل البيت (عليهم السّلام) معارفَ خاصّة من علوم الغيب ومعرفة البلايا والمنايا، ذلك حين بلغوا درجةً من الولاية لمحمّد وآله (صلوات الله عليه وعليهم) والتسليم لهم والتصديق بمقاماتهم، فصاروا موردَ ثقتهم ومحلَّ بعض أسرارهم، ففاضوا بشيءٍ من ذلك إلى الناس ليوقفوهم على الحقائق الآتية، وأنّ آل الله (عليهم السّلام) لهم معرفةٌ لَدُنيّة من الله جلّت عظمته، فهم مَحالُّ المعرفة الإلهيّة، ومساكنُ البركة الربّانيّة، ومعادن الحكمة العُلْويّة. عن صالح بن مِيثم التمّار قال: أخبرني أبو خالد التمّار قال: كنتُ مع مِيثم التمّاربالفرات يوم الجمعة، فهبّت ريحٌ وهو في سفينةٍ من سفن الرّمان، قال: فخرج فنظر إلى الريح، فقال: شدُّوا برأس سفينتكم، إنّ هذه ريحٌ عاصف! مات معاويةُ الساعة. قال: فلمّا كانت الجمعة المقبلة قَدِم بريدٌ من الشام، فلقيتُه فاستخبرته، فقلت: يا عبدَ الله ما الخبر؟! قال: الناس على أحسن حال، تُوفّي.. (معاوية) وبايع الناسُ يزيد! قلت: أيَّ يومٍ تُوفّي؟ قال: يوم الجمعة (10). وروى الشيخ الصدوق بإسناده إلى جَبَلة المكّية قالت: سمعتُ مِيثمَ التمّار يقول: واللهِ لَتَقتُلُ هذه الأُمّةُ ابنَ نبيّها في المحرّم لعشرٍ يَمضِين منه، ولَيتَّخِذنّ أعداءُ الله ذلك اليومَ يومَ بركة، وإنّ ذلك لكائن، قد سبق في علم الله تعالى ذِكرُه، أعلمُ ذلك بعهدٍ عَهِده إليّ مولاي أمير المؤمنين (عليه السّلام). قالت جبلة: فقلت له: ما مِيثم، وكيف يتّخذ الناسُ ذلك اليوم الذي يُقتَل فيه الحسين (عليه السّلام) يومَ بركة؟! فبكى ميثم (رضي الله عنه)، ثمّ قال: سيزعمون لحديثٍ يضعونه أنّه اليومُ الذي تاب اللهُ فيه على آدم، ويزعمون أنّه اليومُ الذي قَبِل اللهُ فيه توبةَ داود.. (11) وعن مِيثم التمّار نفسه قال في حديث: خرجتُ فدَهنتُ لحيتي، فقلت: أما واللهِ لئن دَهَنتُها لتُخضبنّ فيكم بالدماء. فخرجنا فإذا ابن عباس جالس، فقلت: يا ابنَ عبّاس، سَلْني ما شئتَ مِن تفسير القرآن، فإنّي قرأتُ تنزيله على أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعلَّمني تأويله. فقال: يا جارية، الدواةَ والقرطاس. فأقبل يكتب، فقلت: يا ابن عبّاس، كيف بك إذا رأيتَني مصلوباً تاسعَ تسعة، أقصرَهُم خَشَبة وأقربَهم بالمَطهَرة؟! فقال لي: وتَكَهَّنُ أيضاً؟! وخرّق الكتاب، فقلت: مَهْ، احتَفِظ بما سمعتَ منّي، فإن يكن ما أقول لك حقّاً أمسَكْتَه، وإن يكُ باطلاً خَرّقتَه، قال: هو ذلك. قال حمزة بن ميثم التمّار: فقدم أبي علينا، فما لبث يومين حتّى أرسل عبيدُ الله بن زياد إليه فصَلَبه تاسع تسعة، أقصرهم خشبة وأقربهم إلى المطهرة، فرأيتُ الرجلَ الذي جاء إليه ليقتله وقد أشار إليه بالحربة وهو يقول: أما ـ واللهِ ـ لقد كنتَ ما عَلِمتُك إلاّ قوّاماً. ثمّ طعنه في خاصرته فأجافه، فاحتقن الدم، فمكث يومين، ثمّ إنّه في اليوم الثالث بعد العصر قبل المغرب انبعث منخراه دماً، فخُضِبت لحيته بالدماء (12). وعن حَنان بن سَدير، عن أبيه عن جدّه قال: قال لي ميثم التمّار ذات يوم: يا أبا حكيم، إنّي أُخبرك بحديثٍ وهو حقّ، فقلت: يا أبا صالح، بأيّ شيءٍ تُحدّثني؟ قال: إنّي أخرج العام إلى مكّة، فإذا قَدِمتُ القادسيةَ راجعاً أرسَلَ إليّ هذا الدعيُّ ابن زياد رجلاً في مئة فارس، حتّى يجيء بي إليه فيقول لي: أنت من هذه السبابيّة الخبيثة المحترقة التي قد يبست عليها جلودُها، وأيمُ اللهِ لأُقطّعنّ يدك ورِجلَك. فأقول: لا رَحِمك الله... قال: فيأمر بي عند ذلك فأُصلَب، فأكون أوّلَ هذه الأُمّة أُلجَم بالشريط في الإسلام، فإذا كان اليوم الثالث فقلتَ: غابت الشمس أو لم تَغِب؟ ابتدر منخراي دماً من صدري ولحيتي. قال الراوي: فرصَدَناه.. فلمّا كان اليومُ الثالث قلتُ: غابت الشمس أو لم تَغِب؟ ابتدر منخراه على صدره ولحيته دماً، فاجتمعنا سبعةً من التمّارين فاتَّعَدنا بحمله، فجئنا إليه ليلاً والحرّاس يحرسونه وقد أوقدوا النار، فحالت النار بيننا وبينهم، فاحتملناه بخشبةٍ حتّى انتهينا به إلى فيضٍ من ماء في مراد فدفنّاه فيه، ورمينا الخشبة في مرادٍ في الخراب (13). وكان ميثم التمّار واثقاً ممّا قاله على يقينٍ منه.. عن ثابت الثقفيّ قال: لمّا أُمِر بميثم ليُصلب، قال رجل: يا ميثم، لقد كنتَ عن هذا غنيّاً! قال: فالتَفَتَ إليه ميثم ثمّ قال: واللهِ ما نَبَتَت هذه النخلةُ إلاّ لي، ولا اغتُذِيتُ إلاّ لها (14). وما كان يقين مِيثم التمّار (رضوان الله عليه) ذاك إلاّ ليقينه بصدق ما أخبره به أمير المؤمنين (صلوات الله عليه).
ما استُودع ميثم.. إلى شهادته
كتب إبراهيم الثقفي: أطلَعَه عليٌّ (عليه السّلام) على علمٍ كثيرٍ وأسرارٍ خفيّة من أسرار الوصيّة، فكان مِيثم يحدّث ببعض ذلك، فيشكّ فيه قومٌ وينسبون عليّاً في ذلك إلى المَخرَقة والإيهام والتدليس، حتّى قال (عليه السّلام) له يوماً بمحضر خَلقٍ كثير من أصحابه، وفيهم الشاكّ والمخلص: يا ميثم، إنّك تُؤخَذ بعدي وتُصلَب.. وذكر قصّة شهادته (15). وعن يوسف بن عمران الميثمي قال: سمعت ميثمَ النهرواني (التمّار) يقول: دعاني أمير المؤمنين وقال لي: كيف أنت ـ يا مِيثم ـ إذا دعاك دَعيُّ بني أميّة ابن دَعيّها عبيدُ الله بن زياد إلى البراءة منّي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا ـ واللهِ ـ لا أبرأ منك. قال: إذن ـ واللهِ ـ يَقتلُك ويَصلبك، قلت: أصبِرُ فذاك في الله قليل، فقال: يا ميثم، إذن تكون معي في درجتي. قال الراوي: وكان ميثم يمرّ بعريف قومه ويقول: يا فلان، كأنّي بك وقد دعاك دَعيُّ بني أميّة ابن دعيّها فيطلبني منك أيّاماً، فإذا قَدِمتُ عليك ذهبتَ بي إليه حتّى يقتلني على باب دار عمرو بن حُرَيث، فإذا كان يوم الرابع ابتدر مِنخرايَ دماً عبيطاً. وكان ميثم يمرّ بنخلةٍ في سَبخة، فيضرب بيده عليها ويقول: يا نخلة، ما غُذِيتِ إلاّ لي، وما غُذِيتُ إلاّ لكِ. وكان يمرّ بعمرو بن حُريث ويقول: يا عمرو! إذا جاورتُك فأحسِنْ جِواري. فكان عمرو يرى أنّه يشتري داراً أو ضيعةً لَزيقَ ضيعته ـ أي لصيقَ بستانه ـ، فكان يقول له عمرو: ليتك قد فعلت. ثمّ خرج ميثم النهرواني (التمّار) إلى مكّة، فأرسل الطاغية عدوّ الله بن زياد إلى عريف ميثم فطلبه منه، فأخبره أنّه بمكّة، فقال له: لئن لم تأتني به لأقتلنّك. فأجَّلَه أجلاً، وخرج العريف إلى القادسيّة ينتظر ميثماً، فلمّا قَدِم ميثم قال له ـ أي ابن زياد ـ: أنت ميثم؟ قال: نعم أنا ميثم، قال: تبرّأْ مِن أبي تراب ـ أي: أمير المؤمنين عليّاً (صلوات الله عليه) ـ، قال: لا أعرف أبا تراب، قال: تبرّأْ من عليّ بن أبي طالب، فقال له: فإنْ أنا لم أفعل؟ قال: إذاً ـ واللهِ ـ لأقتلنّك، فقال له ميثم: أمَا لقد كان يقول ـ أي: أمير المؤمنين (عليه السّلام) ـ أنّك ستقتُلني وتصلبني على باب عمرو بن حُريث، فإذا كان يوم الرابع ابتدر منخراي دماً عبيطاً. فأمرَ به (عبيد الله) فصُلِب على باب عمرو بن حريث، فقال ميثم للناس: سلوني ـ وهو مصلوب قبل أن يُقتل ـ، فوَ اللهِ لأخبرتكم بعلم ما يكون... فلمّا سأله الناس حدّثهم حديثاً واحداً، إذ أتاه رسولٌ مِن قِبل ابن زياد فألجمه بلجامٍ من شريط، وهو أوّل مَن أُلجِم بلجامٍ وهو مصلوب! (16) وروي الكليني؛ قيل: كان مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) يخرج من الجامع بالكوفة، فيجلس عند مِيثم التمّار (رضي الله عنه) فيُحادثه، فيقال: إنّه قال له ذاتَ يوم: ألا أُبشّرك يا ميثم؟ فقال: بماذا يا أمير المؤمنين؟! قال: بأنّك تموت مصلوباً، فقال: يا مولاي، وأنا على فطرة الإسلام؟ قال: نعم. ثمّ قال (عليه السّلام) له: يا ميثم، تريد أُريك الموضعَ الذي تُصلَب فيه، والنخلة التي تُعلَّق عليها وعلى جذعتها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. فجاء به إلى رحبة الصَّيارفة وقال له: ها هنا، ثمّ أراه نخلة، قال له: على جذع هذه. فما زال ميثم (رضي الله عنه) يتعاهد تلك النخلة حتّى قُطعت وشُقّت نصفين، فسُقف بالنصف منها وبقي النصف الآخر، فما زال يتعاهد النصف (الباقي)، ويصلّي في ذلك الموضع ويقول لبعض جيران الموضع: يا فلان، إنّي أريد أن أُجاورك عن قريب، فأحسِنْ جواري. فيقول ذلك الرجل في نفسه: يريد ميثم أن يشتريَ داراً في جواري! ولا يعلم ما يريده ميثم بقوله. حتّى قُبض أمير المؤمنين (عليه السّلام) وظفر معاوية وأصحابه، وأُخِذ ميثم فيما أُخِذ، وأمر معاوية بصلبه ـ أي: أمر في حياته، ونُفّذ أمره بعد هلاكه ـ، فصُلِب ميثم على ذلك الجذع في ذلك المكان، فلمّا رأى ذلك الرجل أن ميثماً قد صُلِب في جواره، قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! ثمّ أخبر الناسَ بقصّة ميثم وما كان يقوله في حياته، وما زال ذلك الرجل يتعاهده ويكنس تحت الجذع ويبخّره ويصلّي عنده، ويكرّر الرحمةَ عليه (رضي الله عنه) (17). وهكذا يُؤخذ ميثم التمّار صاحب أمير المؤمنين (عليه السّلام) في الكوفة ويُدخَل به على عبيد الله بن زياد بن أبيه، فيُقال لعبيد الله: هذا كان مِن آثرِ الناس عند علي، فيقول عبيد الله: وَيحَكُم! هذا الأعجميّ؟! قيل له: نعم، قال له عبيد الله: أين ربُّك؟ فأجابه ميثم: بالمرصاد لكلّ ظالم، وأنت أحدُ الظَّلَمة! قال: إنّك على عُجمتك لَتبلُغ الذي تريد! أخبِرْني ما أخبَرَك صاحبُك ـ أي: عليّ (عليه السّلام) ـ أنّي فاعلٌ بك، قال ميثم: أخبرني أنّك تصلبني عاشرَ عشرة أنا أقصرهم خشبةً وأقربهم إلى المَطهَرة، قال عبيدالله: لَنُخالِفَنَّه! قال ميثم: كيف تُخالفه؟! فوَاللهِ ما أخبَرَ إلاّ عن النبي (صلّى الله عليه وآله) عن جبرئيل عن الله تعالى، فكيف تخالف هؤلاء؟! ولقد عَرَفتُ الموضع الذي أُصلَبُ فيه وأين هو من الكوفة، وأنا أوّل خَلق الله أُلجَم في الإسلام. فحبسه عبيدُ الله وحبس معه المختارَ بن أبي عبيدة، قال ميثم: إنّك تُفلِت وتخرج ثائراً بدم الحسين (عليه السّلام) فتَقتل هذا الذي يَقتلُنا. فلمّا دعا عبيدُ الله بالمختار ليقتله، طلع بريد بكتاب يزيد إلى عبيد الله بن زياد يأمر بتخلية سبيله، فخلاّه وأمر بميثم أن يُصلَب، فأُخرِج (إلى الصَّلب)، فقال له رجلٌ لَقِيَه: ما كان أغناك عن هذا! فتبسّم ميثم وقال وهويومئ إلى النخلة: لها خُلِقتُ ولي غُذِيَت. فلمّا رُفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث، قال عمرو: قد كان ـ واللهِ ـ يقول: إنّي مجاورُك. فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد، فقال: ألْجِموه! وكان أوّل خَلق اللهِ أُلجِم في الإسلام. وكان قتل ميثم (رحمه الله) قبل قدوم الحسين بن عليّ (عليهما السّلام)العراق بعشرة أيّام، فلمّا كان اليوم الثالث من صَلْبه طُعِن ميثم بالحربة فكبّر، ثمّ انبعث في آخر النهار فمُه وأنفه دماً! (18) صُلِب ميثم التمّار (رضوان الله عليه) يوم الأحد في العشرين من ذي الحجّة سنة ستّين من الهجرة، وقُتل يوم الثلاثاء في الثاني والعشرين من ذي الحجّة.
قبر ميثم
جامع مراد في الكوفة يضمّ قبرميثم التمّار، وعلى القبر قبّة واطئة لا يعرف المجاورون لمسجد الكوفة متى كان عهد بنائها، وقد غُشيت هذه القبّة بالقاشاني على يد الحاج عباس ناجي النجفي. أما السور الذي يحيط بالساحة التي حول القبر، فقد بناه السيّد عطاء الله الأرومي مِن أهل آذربيجان، وكان من طلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف، وهو الذي بنى الإيوان الذي أمامَ غرفة القبر، ورمّم الغرفة والقبة، وله آثار ما زالت باقية في المسجد وما حوله. ورمّم سور قبر ميثم أحدُ تجّار مسقط عندما أحدث ترميمات في مسجد الكوفة. وكانت على القبر دكّة وعليها صخرة كُتب عليها اسم مِيثم وأنّه صاحبُ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والدكّة والصخرة اليوم تحت الصندوق الخشبي الذي صنعه الحاج خضر سيّاب النجفي، وكتب على الصندوق: مرقد صاحب أمير المؤمنين (عليه السّلام) ميثم ابن يحيى التمّار سنة 1360هـ. وكان حول القبر سور قديم يبعد عن غرفة القبر ما يقرب من خمسة أمتار، وكان بعض الأساس مكشوفاً من جهة الشرق، ويكاد أن يكون عُرضه متراً، وقد وُجد بين السورين القديم والحديث من الشرق قبور قديمة. وما زال قبر ميثم (رضوان الله عليه) مَزاراً للمحبّين والموالين، وهو قريب من مسجد الكوفة الأعظم من جهة الجنوب الغربي على يسار الذاهب من الكوفة إلى النجف الأشرف. وقد شهدت الناس من ذلك القبر الطاهر كرامات كالتي تكون للأولياء (19).