ترحيل العائلة من كربلاء
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » ترحيل العائلة من كربلاء

 البحث  الرقم: 259  التاريخ: 1 ذو الحجّة 1429 هـ  المشاهدات: 12401
قائمة المحتويات

ترحيل العائلة من كربلاء

لقد جاؤوا بالنياق المهزولة لترحيل آل رسول الله، فلا غطاء ولا وطاء!!
آل رسول الله، أشرف أسرة وأطهرها وأتقاها على وجه الأرض، وكأنهن سبايا الكفار والمشركين!!
لقد كان تعامل الأعداء معهن في منتهى القساوة والفظاظة وكأنهم يحاولون الإنتقام منهن، ويطلبون بثارات بدر وحنين!
وهل أستطيع أن أكتب ـ هنا ـ شيئاً من مواقف بني أمية تجاه آل رسول الله؟!
والله.. إنها وصمة خزي وعار لا تمحى ولا تزول بمرور القرون.
لقد وصموا بها جبهة التاريخ الإسلامي النزيه المشرق الوضاء.
عن كتاب (أسرار الشهادة) للدربندي: ثم أمر عمر بن سعد بأن تحمل النساء على الأقتاب (1)، بلا وطاء ولا حجاب، فقدمت النياق إلى حرم رسول الله (صلى الله علهي وآله وسلم) وقد أحاط القوم بهن، وقيل لهن: تعالين واركبن، فقد أمر إبن سعد بالرحيل. (2)
فلما نظرت زينب (عليها السلام) إلى ذلك نادت وقالت: سود الله وجهك يا بن سعد في الدنيا والآخرة! تأمر هؤلاء القوم بأن يركبونا ونحن ودائع رسول الله؟!
فقل لهم: يتباعدوا عنا، يركب بعضنا بعضاً.
فتنحوا عنهن، فتقدمت السيدة زينب، ومعها السيدة أم كلثوم، وجعلت تنادي كل واحدة من النساء باسمها وتركبها على المحمل، حتى لم يبق أحد سوى زينب (عليها السلام)!
فنظرت يميناً وشمالاً، فلم تر أحداً سوى الإمام زين العابدين وهو مريض، فأتت إليه وقالت:
قم يابن أخي واركب الناقة.
قال: يا عمتاه! إركبي أنت، ودعيني أنا وهؤلاء القوم.
فالتفتت يميناً وشمالاً، فلم تر إلا أجساداً على الرمال، ورؤوساً على الأسنة بأيدي الرجال (3)، فصرخت وقالت:
واغربتاه! وا أخاه! وا حسيناه! وا عباساه! وا رجالاه! وا ضيعتاه بعدك يا أبا عبد الله...
فأقبلت فضة وأركبتها.. (4)

نياحة السيدة زينب على سيد الشهداء

وفي يوم الحادي عشر من المحرم.. لما أراد الأعداء أن يرحلوا بقافلة نساء آل رسول الله من كربلاء إلى الكوفة، مروا بهن على مصارع القتلى ـ وهم جثث مرملة ومطروحة على التراب ـ فلما نظرت النسوة إلى تلك الجثث صحن وبكين ولطمن خدودهن. وأما السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) فقد كانت تلك الساعة من أصعب الساعات على قلبها، وخاصةً حينما نظرت إلى جثة أخيها العزيز الإمام الحسين وهو مطروح على الأرض بلا دفن، وبتلك الكيفية المقرحة للقلب!!
يعلم الله تعالى مدى الحزن الشديد والألم النفسي الذي خيم على قلب السيدة زينب وهي ترى أعز أهل العالم، وأشرف من على وجه الأرض بحالة يعجز القلم واللسان عن وصفها.
فقد مد أولئك الذئاب المفترسة (الذين لا يستحقون إطلاق إسم البشر عليهم، فكيف باسم الإنسان، وكيف باسم المسلم) أيديهم الخبيثة إلى جسد أطهر إنسان على وجه الكرة الأرضية آنذاك. وأرقوا دماءً كانت جزءاً من دم الرسول الأقدس، وقطعوا نحراً قبله رسول الله (صلى الله عليه وآله) مئات المرات، وعفروا خداً طالما إلتصق بخد الرسول الأطهر، ورضوا وسحقوا جسداً كان يحمل على أكتاف الرسول الأعظم، وكان محله في حجر الرسول، وعلى صدره وظهره.
لقد كان الرسول الكريم يحافظ على ذلك الجسم العزيز، حتى من النسيم والمطر.. فكيف من غيره؟
نعم، إن المجرمين الجناة كانوا في سكرة موت الضمير، وفقدان الوعي والإدراك للمفاهيم، فانقلبوا إلى سباع ضارية، وذئاب مفترسة، ووحوش كاسرة، لا تفهم معنى العاطفة والشرف والفضيلة، ولا تدرك إلا هواها الشيطاني.
فصنعت ما صنعت بذلك الإمام، المتكامل شرفاً وعظمة، وجعلت جسمه هدفاً لسيوفها ورماحها وسهامها، وميداناً لخيولها، وهم يحاولون أن لا يتركوا منه أثراً يرى، ولا أعضاء فتوارى.
كان هذا المنظر والمظهر المشجي، المقرح للقلب، الموجع للروح بمرأى من السيدة زينب الكبرى. فهي ترى نفسها بجوار جثمان إمامها، وإمام العالم كله، وسيد شباب أهل الجنة، فلا عجب إذا اختضنته تارةً وألقت
نفسها عليه تارةً أخرى.
تبكي عليه بدموع منهمرة متواصلة، وتندبه من أعماق نفسها، ندبةً تكاد روحها تخرج مع زفراتها وآهاتها!
تندبه بكلمات منبعثة من أطهر قلب، خالية عن كل رياء وتصنع، وكل كلمة منها تعتبر إعلاناً عن
دوث أكبر فاجعة، وأوجع مصيبة.
إنها سجلت تلك الكلمات على صفحات التاريخ لتكون خالدةً بخلود الأبد، تقرؤها الأجيال قرناً بعد قرن، وأمةً بعد أمة، كي تستلهم منها الدروس والعبر... ولكي تبقى المدرسة الزينبية خالدةً بخلود كل المفاهيم العالية والأصول الإنسانية.
نعم، كلمات تقرع الأسماع اليقظة كصوت الرعد، فتضطرب منها القلوب وتتوتر منها الأعصاب، وتسخن الغدد الدمعية المنصوبة على قمة العينين فلا تستطيع الغدد حبس الدموع ومنعها عن الخروج والهطول. وتضيق الصدور فلا تستطيع كبت الآهات، والنحيب والزفير.
أجل.. إنها معجزة وأية معجزة، صدرت من سيدة قبل أربعة عشر قرناً، أراد الله تعالى لها البقاء، لتكون تلك المعجزة غضة، وكأنها حادثة اليوم وحدث الساعة.
أجل...
كان المفروض أن تفقد السيدة زينب الكبرى وعيها، وتنهار أعصابها، وتنسى كل شيء حتى نفسها، وتتعطل ذاكرتها أمام جبال المصائب والفجائع، والهموم والأحزان.
نعم، هكذا كان المفروض، ولكن إيمانها الراسخ العجيب بالله تعالى، وقلبها المطمئن بذكر الله (عزوجل) كان هو الحاجز عن صدور كل ما ينافي الوقار والإتزان، والخروج عن الحالة الطبيعية.
وليس معنى ذلك السكوت الذي يساوي عدم الإهتمام بتلك الفاجعة أو عدم المبالاة بما جرى، بل لا بد من إيقاظ الشعور العام بتلك الجناية العظمى، التي صدرت من أرجس عصابة على وجه الأرض.
فلا عجب إذا هاجت أحزانها هيجان البحار المتلاطمة الأمواج، وتفايض قلبها الكبير.. بالعواطف والمحبة، وجعلت تندب أخاها بكلمات في ذروة الفصاحة والبلاغة، وتعتبر أبلغ كلمات سجلها التاريخ في الرثاء والتأبين، وفي مقام التوجع والتفجع. (5)
قال الراوي: فوالله لا أنسى زينب بنت علي وهي تندب أخاها الحسين بصوت حزين وقلب كئيب:
يا محمداه، صلى عليك مليك السماء، هذا حسين مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، مسلوب العمامة والرداء، محزوز الرأس من القفا. ونحن بناتك سبايا.
إلى الله المشتكى، وإلى محمد المصطفى، وإلى علي المرتضى، وإلى فاطمة الزهراء، وإلى حمزة سيد الشهداء.
يا محمداه! هذا حسين بالعراء (6)، تسفي عليه ريح الصباء، قتيل أولاد البغايا.
واحزناه! واكرباه عليك يا أبا عبد الله.
بأبي من لا هو غائب فيرتجي، ولا جريح فيداوى.
بأبي المهموم حتى قضى.
بأبي العطشان حتى مضى....»
فأبكت ـ والله ـ كل عدو وصديق. (7)
واعتنقت زينب جثمان أخيها، ووضعت فمها على نحره وهي تقبله وتقول:
«أخي لو خيرت بين المقام عندك أو الرحيل لاخترت المقام عندك، ولو أن السباع تأكل من لحمي.
يابن أمي! لقد كللت عن المدافعة لهؤلاء النساء والأطفال، وهذا متني قد أسود من الضرب!! (8).

مدينة الكوفة

لقد كانت الكوفة: مدينة موالية للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان أهلها ـ رجالاً ونساءً ـ قد تطبعوا بأحسن الإنطباعات في ظل حكومة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بسبب المناهج الصحيحة التي انتهجها الإمام لتربية وإدارة شعبه.
وكانت لدى أهل الكوفة أحسن الإنطباعات عن الإمام، نظراً لسيرته الشخصية والإجتماعية والحكومية، وأسلوب تعامله مع أفراد الشعب إبان حكومته عليهم، فعواطفه التي شملت جميع طبقات الشعب، وتوفير لوازم الحياة لهم، ومواساته معهم في السراء والضراء، وعدله الواسع الشامل وعطاياه السنية، وسخاؤه وكرمه، وعلمه الجم، وغير ذلك من الفضائل التي تركت إنعكاساتها الإيجابية في نفوس أهل الكوفة، وأثرت فيهم أحسن الأثر.
كل هذه الأمور.. جعلت الطابع العام الغالب على الكوفة: هو الولاء والمحبة لآل رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ومن الطبيعي أن كل عصر ومصر لا يخلو من الأشرار والسفلة، حتى المدينة المنورة ـ في عهدها الزاهر.. في عصر الرسول الكريم ـ كانت تحتوي على عناصر المنافقين وغيرهم.
وهنا سؤال يقول: إذا كانت مدينة الكوفة موالية للإمام.. فكيف صدرت من أهلها تلك المواقف المخزية تجاه الإمام الحسين (عليه السلام)؟!
إن الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى مزيد من الشرح والتفصيل، وهو خارج عن أسلوب الكتاب، ولكننا نذكر ـ الآن ـ، مثالاً توضيحياً لهذا البحث ونترك دراسة الموضوع إلى فرصة أخرى:
قد تحدث في فرد من الناس أو شعب من الشعوب حالة شاذة، غير طبيعية، تشبه حالة السكر وفقدان الوعي، فإذا زالت آثار السكر.. عاد الوعي، ثم الحالة الطبيعية، ثم الندم!
وفعلاً.. ترى ذلك الفرد ـ أو الشعب ـ يتعجب من تصرفاته الشاذة خلال حالة سكره، بل ويتعجب منه عقلاء العالم!
ومن الثابت أن العقلاء لا يقبلون أي عذر من ذلك الفرد أو الشعب الذي مر بتلك الحالة الشاذة، لأن العقل والدين يفرضان على الإنسان أن يوفر في نفسه وقلبه وذهنه خلفية علمية ومناعة دينية وإيمانية تبعده عن هذا النوع من الحالات الشاذة، وتحفظه من السقوط في هكذا منعطفات مصيرية محتملة.
وذلك يحصل بتقوية الإيمان بالله تعالى وبيوم القيامة.. في قلب الإنسان، ثم الإستمرار في شحن النفس بالطاقة الإيمانية التي تقوم بدور مهم في إبعاد الإنسان عن مراكز وصالات وأجواء الإنحراف العقائدي والسلوكي، وتحميه من السقوط في مهاوي جهنم.
أجل..
لقد كانت مدينة الكوفة ـ قبل عشرين سنة من تاريخ فاجعة كربلاء ـ: عاصمةً للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومركزاً لحكومته، ومقراً لقيادته.
وكانت السيدة زينب ـ حينذاك ـ في أوج العظمة والجلالة، وكانت سيدات الكوفة يتمنين الحضور عندها، وإذا كانت السيدة زينب تنظر إلى إحداهن نظرة، أو تتكلم معها كلمة، لكان قلبها يمتلئ فرحاً وسروراً، وتشعر بالشرف والفخر، لأن إبنة أمير المؤمنين نظرت إليها أو تكلمت معها!!
ولكن اليوم.. وبعد حوالي عشرين سنة، تغيرت الأوضاع عما كانت عليه قبل ذلك!! وأخذت الكوفة طابعاً شاذاً يختلف عما مضى، فقد إنقلبت إلى جو من الإرهاب والإرعاب، وانتشر الآلاف من الشرطة والجواسيس، وهم في حالة التأهب والإستعداد، خوفاً من هياج الناس، وخنقاً لكل صوت يرتفع ضد السلطة.
هذا.. ويضاف إلى ذلك: أن المئات ـ أو الآلاف ـ من الموالين للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان الطاغية ابن زياد قد سجنهم كي لا يلتحقوا بأصحاب الإمام الحسين في كربلاء.
وهناك من أخفى نفسه في البيوت كي لا يتعرض للقتل من قبل السلطة حيث لم يستطع الإلتحاق بالإمام بسبب الأعداد الهائلة من الشرطة التي كانت السلطة قد نشرتهم في جميع نواحي وبوابات مدينة الكوفة.
وعدا من التحق بالإمام الحسين في كربلاء ـ من أهل الكوفة ـ ونصروه، وقتلوا في سبيل الدفاع عنه، ويبلغ عددهم أكثر من عشرين رجل، مذكورة أسماؤهم في الكتب المفصلة التي تتحدث عن فاجعة كربلاء الدامية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أقتاب ـ جمع قتب ـ: وهو وشيء يصنع من خشب، يشد على ظهر البعير، ويغطى بقماش سميك، لراحة الراكب، وحفظه من السقوط. قال في «المعجم الوسيط»: القتب: الرحل الصغير على قدر سنام البعير.
(2) لقد ذكر السيد ابن طاووس في كتاب «الملهوف» ص 189: أن ترحيل العائلة كان بعد الزوال من اليوم الحادي عشر من المحرم.
(3) الأسنة ـ جمع سنان ـ: الرمح.
(4) كتاب (أسرار الشهادة) للعالم الجليل الشيخ الدربندي.
(5) وكان ذلك حينما مروا بقافلة الأسارى على مصرع الإمام الحسين (عليه السلام) يوم الحادي عشر من المحرم.
(6) العراء: الأرض المنبسطة التي لا يستر فضاءها شيء.
(7) كتاب (الملهوف) لابن طاووس، ص 181، وكتاب الإيقاد، ص 140.
(8) معالي السبطين ج 2، الفصل العاشر، المجلس الرابع عشر.
بقلم: العلامة السيد محمد كاظم القزويني

الروابط
المقالات: خروج سبايا الإمام الحسين (عليه السلام) من كربلاء إلى الكوفة
مواقع الإنترنيت: الموقع العالمي للدراسات الشيعية
مفاتيح البحث: دم الحسين،
الصبر،
حكومة الإمام علي،
الإمام الحسين (عليه السلام)،
زينب بنت علي عليهما السلام،
عبيد الله بن زياد،
...
المواضيع: وقائع وأحداث،
تاريخ أهل البيت
الواحات: الواحة الحسينية

الفهرسة