المدينة المنورة؛ مثوى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعاصمة دولته
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » المدينة المنورة؛ مثوى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعاصمة دولته

 البحث  الرقم: 356  التاريخ: 18 ذو القعدة 1429 هـ  المشاهدات: 10819
قائمة المحتويات

المقدمة

ليست زيارة المدينة المنوّرة جزءً من مناسك الحج، وعليه فليست هي بواجبة ـ وجوباً شرعياً مُلزماً ـ، ولكن ما من حاجٍ يسمح لنفسه بالتخلُّف عن زيارتها, فالحجاج الذين يَصِلون إلى الديار المقدّسة في وقت مبكّر ـ أي قبل بدء موعد الحج ـ يحرصون على أن يقصدوها قبيل التوجه إلى مكة المكرمة, أما الآخرون فإنهم يؤمّونها مباشرة بعد الانتهاء من أداء فريضة الحج.
فالمدينة المنورة هي ثاني مدينة مقدّسة في الإسلام, وإلى هذه الحاضرة هاجر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو والمهاجرون من صحابته والمؤمنين برسالته، بعد أن لقي الأمرّين من ظلم قريش وعَنَتِها, وفي حِمى هذه المدينة استطاع الرسولُ أن يقيم دولته ـ دولة الحقّ والعدل ـ، ومنها انطلق ليُقاتل المشركين وليفتح مكة وليطهّر الجزيرة العربية من رجس الأوثان.

موقعها الجغرافي

تقع المدينة المنورة إلى الشمال الشرقي من مكّة المكرمة، على مبعدة 447 كيلو متراً وعلى مسافة 425 كلم من جدة، وفي طريق الشام للقادم من اليمن ومكة، وعلى مسافة 130 ميلاً عن ينبع ميناء المدينة على البحر الأحمر، وهي واحة خصبة التربة غزيرة المياه محصورة بين حرّتين وفي أرض سبخة ـ والحرّة: هي الحجارة البركانية السوداء المنخوبة، والسبخة: هي التربة المشوبة بالملح ـ، وهاتان الحرّتان اللتان تقع المدينة بينهما هما حرّة (واقم) في الشرق وحرّة (الوبرة) في الغرب.
وتكتنف الوديانُ الحرتين من الشرق ومن الغرب، وتحيط بالمدينة من جهاتها الأربع.
وتقع المدينة في واحة خصبة وبها وديان، إذا سالت حصل فيها ماء كثير تستفيد منه الآبار والعيون وأشهر وديانها بطحان والعقيق.
ويتراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين 557 م و639 م.
وقد عُرفت منذ العصر الجاهلي كمنطقة زراعية، وأعطى ذلك الطابع أهلها نوعاً من الاستقرار, ولا تزال المدينة تحتفظ بمكانتها الزراعية، وفيها أعداد كبيرة من النخيل والأعناب وغيرها.
ولجبالها ومرتفعاتها شهرة اكتسبت معظمها بعد هجرة الرسول إلى المدينة، وبسبب ما حدث عندها من حوادث مهمّة في تاريخ الإسلام.
ومن أهم هذه الجبال: (جبل أُحُد)، وهو واقع شمال المدينة، بينه وبينها قرابة ميل واحد، وهو جبل أحمر, وذكر السهيلي أنه سُمِي بذلك لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك، ولما وقع من أهله من نصر للتوحيد وعقيدة الإسلام, وعلى مقربة منه قبر سيّد الشهداء أسد الله حمزة بن عبد المطّلب وما ينوف عن سبعين شهيداً ممن افتدوا الإسلام بأرواحهم في معركة أُحُد الخالدة.

أسماؤها

ويثرب هو الاسم التاريخي الذي كان يُطلق على هذه المدينة قديماً، والتي عُرِفت فيما بعد بـ (مدينة الرسول), ويذكر تاج العروس أن اسم يثرب هو اسم الأرض من ذلك الصقع, وقيل بل هو اسم المدينة نفسها، وأورد ياقوت الحموي إنها سُميت بأول مَن سكنها من ولد سام بن نوح, وزعم آخرون أنها دُعيت باسم رجل من العمالقة.
وما من مدينة من المدن الإسلامية كان لها من الأسماء وكثرتها كمدينة يثرب.
وأورد ابن النجار في سلسلة من الأقوال في مؤلّفه الموسوم الدرة الثمينة في تاريخ المدينة، أن: (للمدينة في التوراة أحد عشر اسماً)، وقد عدّد هذه الأسماء وذكرها، ولم يكن بينها اسم ليثرب.
أما ياقوت الحموي فقد أحصى أسماء المدينة فوجدها تسعة وعشرين اسماً، منها: المدينة وطيبة وطابة ويثرب والمباركة والعاصمة.
ويقول ابن الأثير أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي سمى يثرب طيبة وطابة، لأن المدينة كان اسمها يثرب، والثَّرَب هو الفساد، فنهى أن تسمّى به.
ويقول القزويني: إن من خصائص (المدينة) أن يشم الداخل إليها رائحةَ الطيب، وللعطر فيها رائحة لا توجد في غيرها، ولعلّ الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) أطلق عليها اسم طيبة لهذا السبب.

طبيعة المدينة وسكّانها وميزتها

عُرفت المدينة المنوّرة وسكّانها بخصائص ميّزتها بين الكثير من المدن العربية القديمة قبل الإسلام, ثم زادها الإسلامُ بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليها رفعة وعلوّ شأن, وقد تحدّث عنها المؤرِّخون كثيراً، فهي (بلدة طيبة، مباركة، كثيرة الخيرات، عذبة المياه، وافرة النخيل والثمار، وأهلها وسكّانها يحبون الغرباء ويودّون المهاجرين إليها).
وعن ابن عباس: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين عزم على الهجرة، قال: اللهم قد أخرجتني من أحبّ أرضِكَ إليّ، فأنزلني أحبّ أرضِكَ إليك، فأنزله المدينة.
ومما رُوِي عن رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: المدينة كالكير، تنفي خبثها وينصع طيبها، وقيل انه قال: أُمرت بقرية تأكل القرى يقولون: يثرب، وهي (المدينة)، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد.
ولعل هذا يدلّ على رجحان فضلها على سواها من المدن والقرى.
وكثيرة هي الأخبار التي تميّز المدينة وتفضّلها على غيرها وعلى مكة أيضاً، لخصائص طبيعية ذات علاقة بطيبها وطيب سكّانها أو إيمانها ونصرتها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإيوائه وإيواء المهاجرين.
وممن قال بتفضيلها من كبار الفقهاء كان الإمام مالك الذي يروى عنه قوله: إن المدينة أفضل من مكة.
ولابد أن السجايا والفضائل التي اتصفت بها المدينة كانت من مواريث أجيالها المتقدِّمة، لأن اكتساب هذه الصفات لا يمكن أن يأت بين عشية وضحاها, وحين جاء الإسلام صقلها وثبّت الطيّب منها ودعا إلى نبذ الرديء من الأخلاق التي صاحبت الجاهلية، فكان للمدينة وسكّانها من الأنصار شأن، بحيث أكثر القرآنُ من الثناء عليهم.
ويبدو من تصفّح الأخبار واستعراض التاريخ أن أهل يثرب كانوا على جانب من التبصّر في الأمور وإدراك قيمة العقل، وكانوا أقلّ الناس تعصباً للتقاليد الموروثة، على رغم تلك الحروب الضارية التي كانت تقوم بينهم وبين من يغزوهم، وعلى رغم تعصّب الأوس والخزرج كلّ لآله وأسرته وقبيلته, وليس أدلّ على فهم (المدينيين) ووعيهم من قبول الدعوة الإسلامية، وهي دعوة جاءت لتهدم كل معتقداتهم وتزيل من الوجود كل تقاليدهم الموروثة، وتقلب حياتهم رأساً على عقب، لو لم يكونوا على شيء من الوعي والتروّي وتحكيم العقل في الأمور العامة.
ويكفي (المدينة) فضلاً أن أغلب المدن والقرى قد افتتحت بالسيف، أما هي فقد افتتحت بالقرآن، على ما تشير إليه الأخبار.

أشهر قرى المدينة

تحيط بالمدينة قرى وضياع، كان لها في أيام الجاهلية شأن كبير من حيث عمرانها وخصبها وازدهارها وحصونها ومناعتها في الحرب, وقد بقي قسم من تلك القرى حتى اليوم محافظاً على خصبه، مزهواً بنخيله وثمره، وفيما يلي أهم تلك القرى:
العقيق: والأعقّة كثيرة، وكل عقيق ينسب لجهة من الجهات, أما عقيق المدينة فهو وادٍ عليه أموال المدينة، يقع على مسافة ميلين أو ثلاثة أميال وقيل سبعة ـ على ما ذكر ياقوت الحموي ـ، وكان عامراً بالقصور والأبنية والسكان في الجاهلية، فقد روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ركب إلى العقيق ثم رجع، فقال: يا عائشة جئنا من هذا العقيق، فما ألين موطئه وأعذب ماءه، قالت: يا رسول الله، أفلا ننقل إليه؟ فقال: كيف وقد ابتنى الناس ـ أي أنه ملك غيرنا من الناس ـ.
خيبر: خيبر ناحية على نحو ثمانية بُرَد من المدينة (والبريد اثنا عشر ميلاً عربياً)، فتكون المسافة كلها 96 ميلاً عربياً.
وخيبر هذه مشهورة بحصونها المنيعة المبنية بالحجارة والصخور, وكان للإمام علي (عليه السلام) دورٌ معروف في فتحها حين حاصرها رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولعل خيبر هي من أكثر القرى في شمال الحجاز ثروة ومالاً، لوفرة زرعها وحاصلاتها من الحبوب والفواكه وعلى الأخص التمور.
قرية فدك: وفدك قرية من قرى خيبر، تقع على مسافة يومين أو ثلاثة أيام من المدينة المنورة.
وسكانها الأقدمون يهود كسكان المواقع الأخرى والقرى اليهودية من خيبر, وهي ذات شجر ونخيل وخصب بفضل مياهها الفوّارة وأرضها الصالحة.
وقد حاصرها الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن استولى على قلاع خيبر وأموالها، وحين رأى سكانُ فدك أن لا مناص لهم من المصالحة بعد أن رأوا ما انتهى إليه أمر الحصون الأخرى ـ أي السقوط في أيدي المسلمين حرباً ـ، وبعد ما انتهى إليه أمر سكان (الوطيح) و (السلالم) الذين انتهوا بأخذ الأمان وحقن الدماء والمصالحة على المناصفة في استثمار الأرض، فبعثوا ـ أي سكان فدك ـ إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يسألونه أن يسيّرهم ويحقن دماءهم على أن يُخَلّوا له الأموال، ففعل وصالحهم على أن يكون للمسلمين الحق في إخراجهم من القرية إذا شاؤوا، فكانت خيبر فيئاً للمسلمين.
أما فدك فكانت خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنها لم يوجف عليها بِخَيْل أو ركاب.
وادي القرى: هو وادٍ بين الشام والمدينة وبين تيماء وخيبر، فيه قرىً كثيرة، وبها سمي وادي القرى.
وفي سنة سبعٍ للهجرة، وعندما فرغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من غزوه لخيبر، توجّه إلى وادي القرى، فدعا أهلها إلى الإسلام فامتنعوا عليه وقاتلوه، ففتحها عنوة وغنم أموالها، وأصاب المسلمون منهم أثاثاً ومتاعاً، فَخَمّس رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) ذلك وترك النخل والأرض في أيدي اليهود، وعاملها على نحو ما عامل عليه أهل خيبر.

مساجدها

تضم المدينةُ المنورة مجموعة كبيرة من المساجد الأثرية, عدّ منها السمهودي قرابة ستة وخمسين مسجداً، غير أن أكثرها قد زال واندثر مع مرور الأيام, وأهمّ تلك المساجد المسجد النبوي الشريف، وكذلك تتضمن المدينة بقعة لها قداستها عند المسلمين، تُعرف باسم البقيع.
المسجد النبوي الشريف: ويقع من المدينة المنورة موقع القلب من الجسد، وإلى زيارته تهفو أفئدة المسلمين في كل بقاع الأرض.
وقد كانت أرضه عند مقدم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة مربداً ـ أي مكاناً لتجفيف التمر ـ لغلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة, وكان الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) حين نزوله من قباء كلما مرّ بقوم خرجوا للترحيب به وأصرّوا على استضافته ونزوله عندهم، وربما أمسكوا بزمام ناقته، فيقول: دعوها، فإنها مأمورة، فلما وصلت به عند مكان الحرم النبوي بركت، فقال: هذا المنزل إن شاء الله، وقال: اللهم أنزلنا منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين قالها أربع مرات، ثم دعا بالغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا: بل نَهَبُه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجداً.
فطفقوا ينقلون اللِّبن وما يحتاجون إليه، ورسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينقل معهم, فلقيه رجلٌ ومع رسول الله لبنة، فقال: أعطنيها يا رسول الله، فقال: إذهب فخذ غيرها، فلستَ بأفقر إلى الله مني.
ولما كثر المسلمون قالوا: يا رسولَ الله، لو زِيد فيه، فوسّعه وبناه لَبنتان (أي بالذكر والأنثى)، وكانوا في هذه المرة قد رفعوا أساسه قريباً من ثلاثة أذرع بالحجارة، وجعلوه مربعاً مائة ذراع في مائة ذراع، وأُقيمت فيه سواري من جذوع النخل، ثم طرحت عليها العوارض والخصف والاذخر، وجُعلت قبلتُه إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، أي في جهة القبلة اليوم، وباب عاتكة المعروف اليوم بباب الرحمة، والباب الذي كان يدخل منه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو الذي يسمى اليوم بـ (باب جبريل).
ولما صرفت القبلة سدّ الباب القبلي وفتح الباب الآخر الذي يسمى اليوم (باب النساء).
وكان المسجدُ النبوي الشريف بادئ ذي بدء عبارة عن بناية بسيطة من الآجر، فيها أعمدة من جذوع النخل وسقف من أغصان الشجر.
وتقول الروايات إن عمر بن الخطاب كان قد وسّعه، كما وسّعه عثمان من بعده وجدّد بناءَه، فشيده من الحجر والجص، وجعل سقفه من خشب الساج, وحين تعين مروان عاملاً على المدينة شيد فيه مقصورة من الحجر الملوّن، ولم يُضف إليه شيء آخر حتى حل عهد الوليد الذي خوّل عامل المدينة عمر بن عبد العزيز ـ الخليفة بعد ذلك ـ بتزيين المبنى إلى حد الفخامة, فاستعان عمر في هذا الشأن ببنّائين إغريق وأقباط.
ويقال إن إمبراطور بيزنطة يومذاك قد تبرّع بألف مثقال ذهب ومقدار كبير من حجر الموزاييك لهذا الغرض.
وقد أُقيمت بهذه المناسبة أربع منائر فوق أركان الحرم، وغطّيت السقوف بصفائح الرصاص, وبقي الجامع على حالته هذه من دون أن يطرأ عليه أي تبديل إلى أيام الخليفة المهدي, فبعد أن زار المدينة هذا الخليفة أُعيد تشييد الجامع ووُسّعتْ مساحته في سنة 162 هـ (778 ـ 779 م)، فأصبح طوله 300 ذراع وعرضه 200 ذراع, واستدعى الأمر إعادة بنائه في القرن التالي، فتولّى ذلك المتوكّل في سنة 247 هـ.
وقد وصف الحرم عدد من المؤرِّخين والكتّاب العرب في مختلف العهود، ومنهم: ابن عبد ربه (328 هـ) والمقدسي (375 هـ) وابن جبير (581 هـ) وياقوت الحموي.
وحسب وصف هؤلاء فإن الشكل الذي حوفِظ عليه باستمرار عبارة عن صحن مفتوح يغطي أرضه الرمل أو الحصباء، وتحط به من جهاته الأربع صفوف من الأعمدة, وفي القسم الشرقي من البهو الجنوبي ذي الأعمدة يوجد قدس الأقداس، أي قبر النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويصفه ياقوت بأنه مبنىً عالٍ يفصله عن سقف البهو ذي الأعمدة فراغ من فوقه فقط, وتقول بعض الروايات إن قبر الزهراء البتول ابنة رسول الله (عليها السلام) يقع في شمال قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بينما تنصّ روايات أخرى على أن قبرها المطهّر موجود في البقيع, ويحمل ذلك القسم من البهو ذي الأعمدة الواقع في غرب هذه القبور المقدّسة اسم (الروضة)، وهو الاسم الذي سمّاه به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
والمقول إن عدد الأعمدة في البهو كان يبلغ 290، وكانت الأعمدة في الجهة الجنوبية منه مزينة بأساطين من الجص، بينما كانت الأعمدة الباقية من الرخام, يضاف إلى ذلك أن الجدران كانت مزينة بالرخام والذهب والموزاييك, ويمتد على طول حدود الروضة الجنوبية حاجز يقترن به عدد من الآثار المقدّسة للغاية، مثل بقايا جذع الشجرة التي كان يتكئ عليها النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنبره, ومن نفائس الحرم الثمينة نسخة المدينة الأصلية من القرآن التي أعدّها الخليفة عثمان, وللحرم الشريف تسعة عشر باباً، لم يكن يفتح منها سوى أربعة، اثنان في الجهة الشرقية واثنان في الجهة الغربية, وكانت هناك ثلاث مآذن، اثنتان منها في الجهة الشمالية وواحدة في الزاوية الجنوبية.
هذا وكان عدد من سلاطين المماليك قد أبدى شيئاً من الاهتمام بالحرم المطهر، ومنهم بيبرس الأول الذي يقول مجير الدين (القاهرة 1283 م) انه وضع مشبكاً حول قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وزين السقف من فوقه، بينما بعث آخرون العمال والمواد للترميم، ولا سيما المنصور قلاوون في 678 هـ (1279 م) الذي بعث من يعيّن موقع القبر ويبني قبة من فوقه مغطاة بصفائح الرصاص.
على أن الأشرف سيف الدين قايتباي (1468 ـ 1495 م) كان أول من اهتم اهتماماً جدياً فعالاً، فقوّض المنارة الرئيسية الكائنة في الركن الجنوبي الشرقي وأعاد بناءها من جديد.
وقد اكتسب الحرم النبوي الشريف شكله الحاضر بعد توسيعه من الجهة الشمالية من قبل السلطان عبد المجيد العثماني سنة 1270 هـ (1853 ـ 1854 م)، وبعد الإضافات التي أضافها العهد الحالي إلى هذه الجهة منذ سنة 1949 م، وثمة مشاريع يجري حالياً تنفيذها لتوسعة الحرم بشكل كبير في البناء والساحات المحيطة والمرافق التابعة.
فضل زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصلاة في مسجده: أكّد رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيراً على زيارته بعد وفاته وعلى الصلاة في مسجده الشريف، ووصل في حثّه المؤمنين على ذلك ـ وخاصة حجاج بيت الله الحرام ـ إلى حدّ لوم من يتقاعس منهم عن زيارته في مثواه ومسجده عند قدومه لأداء فريضة الحج.. وهناك العديد من الأحاديث الشريفة التي أُثرت عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الصدد ورواها أئمة أهل البيت الأطهار (عليهم السلام) والصحابة الكرام.
فعن الإمام علي (عليه السلام) قال: قال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من زارني بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي، وكنت له شهيداً وشافعاً يوم القيامة.
وروى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من أتى مكة حاجّاً ولم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة، ومن جاءَني زائراً وجبت له شفاعتي، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة.
وعن المكانة الرفيعة التي اختصّ الله تعالى بها مسجد رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقولُ الإمام الصادق (عليه السلام) برواية جميل بن درّاج: قال رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما بين منبري وبيوتي روضة من رياض الجنّة، ومنبري على ترعة من ترع الجنّة، وصلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلاّ المسجد الحرام.
ولقد قرن رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسجدَه الشريف بالمسجد الحرام والمسجد الأقصى عند تبيانه للأماكن المقدّسة التي ينبغي أن تهوي إليها أفئدة المؤمنين، فقال: لا تُشدُّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى.
مساجد أخرى في المدينة المنورة: ثمة مساجد عديدة أخرى لا زالت قائمة في المدينة المنورة بعدما جُدّد بناؤها في العهود المتلاحقة، وهذه المساجد كان قد أمر بإنشائها الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وصلّى بها في حياته، أو صلّى في أمكنتها وأقيمت بعده، وهي محل تكريم المسلمين واهتمامهم يقصدونها للصلاة والدعاء، وللتبرك بالأمكنة التي شرّفها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخصّها بعنايته.. منها:
مسجد قباء: ويقع على بعد ميلين من المدينة، وهو أول مسجد بناه رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قدم مهاجراً من مكة، وفيه أقام (صلى الله عليه وآله وسلم) أول صلاة جماعة ظاهرة، كما نزلت فيه ـ على الأرجح ـ الآية الكريمة: (لمسجد أُسّس على التقوى من أوّل يوم أحقّ أن تقوم فيه، فيه رجال يحبّون أن يتطهَّروا واللهُ يُحِبُّ المطهِّرين).
وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الصلاة في هذا المسجد تعدل العمرة، كما أخرج ابن ماجة بسنده عن سهل بن الأحنف, قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من تطهّر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلّى فيه صلاة كانت له كأجر عمرة.
مسجد المصلّى: ويعرف اليوم باسم (مسجد الغمامة)، وقد كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أرضاً لا بناء فيها، اتخذها مصلىً في الأعياد ولصلاة الاستسقاء، وقد بنى فيها عمر بن عبد العزيز مسجداً أثناء ولايته على المدينة، وجدّد بناءه السلطان ناصر بن قلاوون المملوكي، ثم أُصلح في العهد العثماني.
مسجد القبلتين: ويقع إلى الغرب من وادي العقيق على بعد ثلاثة أميال شمالي غربي المدينة، وهو من المساجد التي صلى فيها الرسولُ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
أمّا عن سبب تسميته، فيروى أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) زار امرأة من بني سلمة هي أم مبشر، فأدركته صلاة الظهر، فصلاّها بأصحابه في مسجد القبلتين, فلما أن صلّى ركعتين أُمِرَ أن يتوجّه إلى الكعبة، فاستدار رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جهة الكعبة.
مسجد الإجابة: وهو مسجد بني معاوية بن مالك (من الأوس)، ويقع شمالي البقيع.
وروي أن سبب تسميته كما جاء في حديث عامر بن سعد، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية دخل فركع ركعتين، ثم انصرف إلينا فقال: سألتُ ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته ألاّ يهلك أمتي بالسنة فأعطاني، وسألته ألاّ يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألاّ يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها، ولذلك سمّي بمسجد الإجابة.
مسجد الفتح: وهو أحد المساجد السبعة الواقعة غربي جبل سلع والمعروفة (بالمساجد السبعة), ويقال له أيضاً مسجد الأحزاب.
أما سر تسميته بـ (مسجد الفتح) فلأنه استجيبت فيه دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأحزاب، فكان ذلك فتحاً على الإسلام، أو لأن الله تعالى أنزل فيه سورة الفتح على رسوله, وقد أعاد بناءه عمر بن عبد العزيز، وجدّد بناءه الأمير سيف الدين الحسين بن أبي الهيجاء، كما جدّد بناء المسجدين اللذين يقعان تحته وهما مسجد سلمان الفارسي وعلي بن أبي طالب (عليه السلام).

البقيع

وهو أحد المواقع الشهيرة في المدينة المنورة، وذلك لكونه مدفناً لعدد من عظماء المسلمين وأئمتهم وأعلام الأنصار والمهاجرين.
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقصد البقيع كلما مات أحدُ الصحابة ليصلِّي عليه ويحضر دفنه, وقد يزور البقيع في أوقات أخرى ليناجي الأموات من أصحابه ويطلب لهم الرحمة.
وقد روى مسلم في الصحيح عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلما كانت ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد.
وتضم هذه البقعة المشرّفة مدافن شخصيات كبيرة من المسلمين الأوائل والأئمة, كالعباس بن عبد المطّلب والسيدة فاطمة الزهراء (عليه السلام) وإبراهيم ابن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وكذلك مدفن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام)، وابنه الإمام محمد الباقر (عليه السلام)، وحفيده الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام), وكانت هناك مقامات على الأضرحة، إلاّ أنها هُدمت في وقت متأخّر وسوّيت بالأرض.
وقد زار الرحّالة ابن جبير في القرن السادس الهجري البقيع، ووصفه وصفاً دقيقاً، كما مرّ به ابن بطوطة بعده بما يقرب من 150 سنة وكان وصفه له مُطابقاً لما ذكره ابن جبير.
والمعروف أن أول شخص في الإسلام دُفن في البقيع هو عثمان بن مظعون، باعتباره أول من توفي في المدينة من المهاجرين، ففي اليوم الثالث من شعبان سنة 3 للهجرة قبّل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جبين جثته وأمر بدفنها في مدى الرؤية من مقره، وكان المكان آنذاك حقلاً ينتشر فيه عدد من أشجار الغرقد.

الروابط
مواقع الإنترنيت: شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام)
مفاتيح البحث: البقيع،
المدينة المنورة
المواضيع: عام

الفهرسة