خفق الأجنحة
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » خفق الأجنحة

 البحث  الرقم: 362  التاريخ: 18 ذو القعدة 1429 هـ  المشاهدات: 4497
قائمة المحتويات

خفق الأجنحة

أرواح خضر تهفو بتطلعها صوب مداه الفسيح اللامتناهي هامسة: السلام عليك يااباالاحرار... ياحسين يا غريب كربلاء، وعيون ترنو ناحية توهج الألق في قبته ومنارتيه المتسامية نحو نقاء الطهر، يترقرق فيها بريق الدمع الثائر، وتتكسر في مهجها العبرات الحرى، وغصّة ألمٍ ما زال ينخر من ألفٍ ونيف في أفئدتها... فتطفق صارخة بلوعة الحزن وتوجعات الأسى:
ان حالت دون نصرتك الدهور، ومنع عن إجابة استنصارك حكم المقدور فلنبكيك بدل الدمع دما
أرواح خضر تقصد مشهده القدسي، كحمامات الحضرة الرمادية وهي تطلق للمدى هديلها الحزين وتنوح لاعنة اولئك القتلة وإمداداتهم على مرّ الأيام... بل وكل من شايعهم وبايعهم ورضي عن شنيع فعلتهم بسره وعلانيته الى يوم الدين... فتتوغل تلك الأرواح في سديم الطهر تجوب سرادق عالمه المسكون بغليانات تكبيرات دمه المسفوح ظلما، والملطخ وجه التاريخ
خفق أجنحة بيضاء تطير برشاقة زغب الملائكة صاعدة هابطة في مسرى الروح، وتتنقل عبر مكامن الطهر والعفة، وهي تطلب أمانا من تشظي الهواجس في لظى حرب الأيام عليها، وتمادي عربدة قسوة ما في هذا الانسان.
أرواح قبل الاجساد تلوذ بفيافي ضريحه المقدس، وترقد باطمئنان في ظل سلام مشهده الشامخ بقبته ومنارتيه الصاعدتان نحو عنان السماء كأيادي متوجه بتوسلها نحو الله، والضارعة بطلبتها صوب واسع رحمته، والمودعة لديه شكواها وبلواها أملاً بخلاص عاجل، والذوبان في نقاء سماوات زرق طاهرة، والتوحد مع أزلية سديم لا متناه، يومئ أبدا للخلود الأبدي، وربما الثواب الآجل الكائن خلف رحمة خلق الانسان، وإعجاز التسيير لهذي الأكوان فمن ذا الذي أوحى لحمامات الحضرة الرمادية هذه؛ بأن ضريحه المقدس هذا أماناً للخائفين، وحصنه ملاذا للهاربين من انطوت ذواتهم صوب الحق، بل وان تحت خيمته إجابة سؤل كل السائلين
حشود قلوب بأجنحة بيضاء، نابضة بحرارة الانتماء، يشدّها الشوق إليه، ويكبلها الحنين عن مغادرته ويمنعها عن توديعه، فتهتز خفقاتها بالنبض المتوتر حزنا وتفجعاً على عظم مصيبة بكتها عيون السماوات والأرضين وما بينهما، وهي ترجو ماءً لظمئها المستفجل وزواداً لجوعها المتفاقم.. بل وتزداد طمعاً بإكسير شفاعته، فتدور.. تدور ولهى حول ضريحه بين حشود الزائرين، لا هجة بعشقها الآسر: يا حسين... يا حسين... يا حسين
إلا أنها لا تزداد إلا جوعا وعطشا كلما اغترفت من معين جوده وكرمه، وعلى العكس من سير نواميس الزمن وقوانينه الجارية في الأشياء، المجر جرة لها صوب النسيان يسطع حضور نهضته وتسمو ثورة كربلاء؛ وكلما تقادمت الدهور والأزمان يتوهج الق مبادئها العليا، لأنها من أجل إعلاء كلمة الله وكلمة أنبياءه ورسله والصالحين من عباده في الارض. السابقون.. السابقون
فخفق أفئدة الطائفين حول ضريحه المقدس، كحمائم ترفرف جواره، ينعشها عبير جنان الخلد، المشبع بضوع أنفاس الملائكة، والرجع البعيد لتكبيرهم وتهليلهم وتسبيحهم بحمد الله،, جزيل نعمائه على العالمين، وهي تنثر مسك تهجدها على أجساد وأرواح وأفئدة الملبين نداءات النصرة للأخذ بثاراته.
نفوس واله تهوي في حضرة مرابعه الوارفة، كالطيور الجائعة، والظامئة لعيون الماء الرقراقة، تحاول التبرك بتبر ترابه المقدس، العابق بنكهة الفردوس، فتغمرها ايحاءات القدرة للسكن الأبدي في الظل الظليل من الرحمة الالهية الواسعة
فمن ذا الذي سالم وداعة الحمامات تلك رغم حذرها، وشديد خوفها من غدر الانسان، فدعاها لمزاحمته واللوذ معه جوار الضريح الضاج أبدا بالزائرين، والمكتظ بالطائفين والصاخب بدوي المبتهلين، والمتوسلين بوجاهته عند الله
أدعية وتضرعات وقراءات تبرق صوب العلياء وهي تخترق قيود الامكان وتطوي الازمنة.. بل من ذا الذي أفشى لها بأن الأشياء كل الأشياء بحضرته ستظل أبدا ناضحة بالإحسان، وان كان هو ذاته في الحالين الانسان، القاتل والضحية لأخيه الانسان، فدعاها كي تشاطره الجرح والمأساة ودعوات المحبة والسلام
فتهدل وهي ثكلى، متضرعة بنواحها الحزين:
اللهم بحق هذا المشهد المعظم والمقام المكرم أن تكف عنا الغوائل بأكف السوء وتفيض على أهلينا بواسع رحمتك، وتحفظهم وتعيد مهجريهم ومهاجريهم الى أوطانهم، وأن تحيل بقدرتك حرارة رصاصات الغدر برداً وسلاما على جسد العراق، وان تتغمد بعفوك جراحات ابنائه النازفة التي يبدو أنها ستستطيل من دون نهاية
إلهي لا نرجوك رد القضاء ولكن جنبنا كيد الاخوة الاعداء.
وألسِنة عطشهم المستفحل لمزيد من دمنا البريء.
نفوس أمارة بالسوء تغفو في كنف حضوره؛ اغفاءات حالمة لكنها ملبدة بأسمى آيات الصحو، ناثرة لآليء عشقها الأزلي تحت خطى المقيمين شعائر الله بأحياء أمر أوليائه، الحاضرون في أزمنة الغياب، بيدَ أنها أبدا ستظل تحلم بذرات تراب لا غير تعلق بها وتتعلق فيها فتعفر وجهها الكابي بعتمة الآثام كي يسطع في أوج احتدام عتمة الظلام وكي تقي عاقبتها حاميات ألسنة النيران وتطفئ أوار لظى جحيم لا يمكن أن يطفأ شهيق غضبته إلا عفو الرحمن.
أرواح خضر وحمامات رمادية وقلوب بيض تفترش أديم هذي الأرض المقدسة، وتطير كأسراب من الملائكة صوب بريق ذهب المنائر والقباب، وتوهج الألق فيها بزهو التوحيد، فتنشر للريح بزغبها الناعم، تروم الحظوة بذرات غبار فقط تحط رحالها على أجنحتها الحالمة بغد العدل القادم لا محالة بظهور قـائـمنا.
وكي تنام بين ريشها الموشى بالندى، لتكون جواز مرورها على الصراط وضالتها المنشودة، نافضة الأدران عن وجودها الملوث بالآثام رغبة بالتطهر من مخلفات المادة الفانية وأرجاس الأطماع الأرضية، وتراكم أغبرة بهارج آفلة؛ أوج صحوها نوم، ونومها موت، وموتها عدم.
خفقات حب وهيام تحط أحمالها عند ملاذات التعب، تعب الرحلة الشاقة وعناء السفر الطويل
في وهاد الغفلة والنسيان على حافات ليل التيه منذ وطئت أقدام أول إنسان هذي الأرض، وغاصت قدماه في لين وعودها وهش اغراءاتها وربقة ملذاتها... بل ومنذ ارتكن الى نفسه وأوكل أمره الى شيطان هواه
أجواء مزدحمة ومكتظة بالأجساد، وحافلة بالأرواح والحمامات والملائكة وهي تخفق جميعا بأجنحتها الشفافة، فتظل تطير وتطير حائمة بطوفانها حول مرقده المقدس وضريحه المطهر وضاربة بخفق أجنحتها كرايات سلام ومحبة وأخاء مرفرفة تروم السكن الأبدي في الظل الظليل للرحمة الواسعة.
بقلم: طالب عباس

الروابط
الأشخاص: الأستاذ طالب عباس [المترجم]
مواقع الإنترنيت: العتبة الحسينية المقدسة
الواحات: الواحة الحسينية
أقسام الموقع: الأدب

الفهرسة