نداءات العطش
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » نداءات العطش

 البحث  الرقم: 364  التاريخ: 18 ذو القعدة 1429 هـ  المشاهدات: 4239
قائمة المحتويات

نداءات العطش

ماء... ماء... وربما قطرات منه فقط هي من فجرت في الأفئدة والمقل ينابيع العطاء الروحي من أسمى القيم الإنسانية والتضحية بسخاء بدل الدمع دما في كربلاء المقدسة... بل ما زالت تفجر في النفوس الحرة عيون الحرية والإباء وتمد أحرار العالم بوقود الثورة على كل الطواغيت والجبابرة والعتاة
منذ فجعت الإنسانية بذبح رضيع عطشان برمح غادر من أجل شربة ماء.. ماء.. من قبل أناس مُسخوا تماما، فنبت فعلتهم تلك بكل ما يمكن أن ينحدر إليه فعل الإنسان، بل وبكل ما يمكن أن تركسه فيه أهواؤه ليسوّد بفعاله النكرة وجه التاريخ. وعاد الرمح الغادر ذاته لينحرهم الواحد تلو الآخر حتى أتى عليهم جميعا، فغدوا ذكرى لا تستجلب سوى اللعنات
ماء... ماء... وربما قطرات منه فقط هي من فجرت في الأفئدة والمحاجر ينابيع العطاء الروحي من أسمى القيم الإنسانية والتضحية بسخاء بدل الدمع دما في كربلاء المقدسة، وأفاضت على الكون شلالات النور الإلهي وفجرت عيون الكرم من كل عذب سلسبيل عطاء غير محدود، وهي تستنهض من ذكرى الجرح مزيج العبرة والعبرات ساعة شحت نفوس أولئك القوم وتمادوا فيه، حتى بلغ الاستكثار على براءة طفل رضيع شربة ماء... ماء لا غير، وهو ليس طرف في أي نزاع مهما كانت صبغته وصفته؛ فسقوه بدل الماء وبرودته لهب سهم غادر حزّ المنحر ومازال ينزل عميقا في ضمائر أحرار العالم ويدميها... بل وسيبقى ما دام الإنسان إنسانا وما دامت الحياة فالإمام الحسين عليه السلام يدرك بالتأكيد ما انحدرت إليه ذواتهم النتنة بما نسج الشيطان فيها وما نفث من مكائده وحبائله بإغراءات مطامع عريضة من حطام هذه الدنيا الفانية كي يقيم عليهم الحجة بعد الأخرى، فيفضح سواد نواياهم ببياض فعله ويميط لثام زيف توجههم الذي أنساهم ذكر الله فأنساهم أنفسهم؛ فمن ذا يجافي سقي رضيع عطشان بقطرة ماء أو قطرات لا غير ومن يتجرأ فيعاقب عليه؟
ماء.. ماء.. هو من فجر في القلوب الحرة والعيون ينابيع عطاء من أسمى القيم الإنسانية وأفاض بسخاء الجود الروحي في كربلاء المقدسة، فنسجت الدهور والأزمان حول جرح الفاجعة أسطورة الم، وأسطورة دمعة، وأسطورة دم.
وها هي أسطورة العطش الخالدة من ألف ونيف تجري في انسياب الفرات ودفق مياهه العذبة ظمأ لا ولن يرتوي ولو شرب كل مياه الأرض، وحرارة دم لا ولن يبرد ولو مرت عليه الحقب، وفاجعة جرح، لا ولن يندمل أبدا، ولو تداوى بكل عقاقير العالم وأعشابه.
ماء.. ماء.. وربما قطرات منه فقط هي من فجرت.. بل وما زالت تفجر في الأرواح ينابيع القيم السامية وعيون رقراقة من العطاء، ومثلما تنسج آلام المحار حول ذرة رمل في أمعائه، أثمن الأحجار الكريمة وأندرها وهو (اللؤلؤ) كذا قامت كربلاء الجرح من الم العطش، فقام عليه معناها؛ فولدت من رحم الفاجعة كدمعة دم ذرفها العباس عليه السلام حسرة لعدم تمكنه من إيصال الماء لعيالات الحسين عليه السلام وأهل بيت الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، بل هي ترتيلة لخلود القيم لذا راحت تجليها العصور وتنفض عنها الأزمان بعض ما تراكم عليها من أغبرة النسيان لتغدو أكثر جلالا وأكثر بهاء وأكثر نضرة، فيتوهج الفرح من صميم الألم وتبزغ الابتسامة من بريق الدمعة، ويتسامى الجمال من عنفوان الجرح فالنهر يمضي ويحفر أخاديده في ضمير الأمكنة والأزمنة، يهدر متفجعا... فيطلق استغاثاته المريرة، ويودعها صميم الأرواح ويزرعها في نسغ الأشجار وبين ما هيات الأشياء، كي تلبي نداءات العطش ولكن هيهات... هيهات... فمن ظمئت روحه لا تستطيع أن ترويه كل مياه الأرض ولن تبرد لضاه مواساة الأنهار، في حروف تلثغها الشفاه المجبولة من طين، إذ أنها كانت لحظة حسم لا تتكرر أبدا، وكان من الفرات الخذلان ماء.. ماء.. وربما قطرات منه فقط هي من فجرت في القلوب الحرة ينابيع القيم السامية وعيون رقراقة من العطاء الروحي اللا محدود... بل وما زالت حروف ترددها الآفاق، ويرجع صداها أفق الكون، وتضج بها ذاكرة الأزمان في المدينة المقدسة وتؤرقها ليلا؛ فتنام مسهدة، بيد أن حرارة العطش وألمه في الأحشاء اللاهبة، يظل يتأجج أواره فيها، ويتفاقم مع أزوف الذكرى لشربة ماء لن تظمأ بعدها أبدا فتلهث ملبية استغاثات العطش، فتغرق المدينة بسيل من عذب مياه الفرات، بالبارد المعين (سبيل يا عطشان) و (اشرب الماء واذكر عطش الحسين)، كأعلام تومئ لأسطورة العطش تلك على رمضاء كربلاء اللاهبة، فتنتفض الأنهار لتحث الخطى وتغذ السير حافية صوب الفرات، لتسعف صرخة عطش الحسين عليه السلام وعيالاته وأصحابه قبل أن يجف فيهم الصدى، لكنها تظل أسيرة حدود الكينونة الضيّقة مهما رحبت فيها الرؤى، ولن يكتب لها شرف الإسعاف لنداء العطش المتفاقم في الأرواح قبل الأجساد، لأن مشيئة الله اكبر بالأشياء.
اجل.. ستبرد حرارة العطش حتما.. بل ربما تموت أيضا لكن الألم فينا سيظل مستعرا أبدا مادام لنا نفس يصعد ويهبط، وما دامت لنا ضمائر حية تتحسس مديات الدعوة وتساميها وتفاقمها وهيمنتها لتحتل وجه الوجود.
بقلم: طالب عباس

الروابط
الأشخاص: الأستاذ طالب عباس [المترجم]
مواقع الإنترنيت: العتبة الحسينية المقدسة
مفاتيح البحث: عبد الله الرضيع،
الماء السبيل،
منع الإمام الحسين من الماء
الواحات: الواحة الحسينية
أقسام الموقع: الأدب

الفهرسة