يذكرنا طلوع الفجر يوميا وارتداء اليوم لحلة النهار المشرق، والنزع لعباءة الليل المعتم بضرورة ان نتجدد باستمرار من رواسبنا، وان نتحرر منها؛ بان ننظر للامس بانفتاح اكبر لا ان نحبس رؤانا فيه كشئ مقدس لا ينبغي المساس به، كي يتسنى لنا اعادة التقييم له دون قيود او شروط مسبقة بالخلفيات الجاهزة... بل وفق توهج اللحظة وبما تحتمه الظروف الموضوعية بالإزاحة لكل ما قد استقر في دواخلنا من افرازات الماضي بالنسيان؛ فالنسيان سبيل امثل لتلقي الاشياء والأحداث بأكثر حرية من اجل ان لا نساهم في أفول جذوة الاكتشاف الاول نتيجة تراكمات رين الزمن وأتربة الغفلة؛ بالاستسلام صوب الجمود الفكري، فيخفت في فطرتنا هاجس الاستطلاع المتأصل بحب المعرفة. كذا الدهشة تمنحنا تقييما اعلى فنكون اكثر دقة في النظر الى الموجودات؛ فيما لو استقبلنا الامس على انه مجرد ذكرى ليومنا هذا وما الغد سوى الامتداد الطبيعي له. اذا فان ماهية موقف الحر بن يزيد الرياحي (رضوان الله تعالى عليه) وسر خلوده في الخالدين يكمن بكسره ظهر المألوف عبر الزمن بالانخداع الانساني الشائع وغروره ببريق الظاهر وتحريره للمحدود الارضي؛ فقراره الحاسم الذي اطلقه بوجه أعتى طغاة عصره انما مثل صرخة هائلة مازالت اصداؤها تدوي في اذن كل خنوع لضغوط الواقع، والرجرجة لكيان المعتاد بالمتعارف عليه بين الناس والسائد فيهم ابدا. فإذا ما كانت نهضة ابي عبد الله الكبرى (صلوات الله وسلامه عليه) مثال الثورة على كل اشكال الظلم والظالمين وفضح زيوف الباطل المتجلبب بالدين والتقويم لانحرافات مفاهيم الاسلام الحقة بفعل شياطين الانس لا الجان فحركة الحر في هذا الضوء انما مثلت الاستلهام المبكر لقيم تلك النهضة، والثورة أيضا ولكن على النفس وانحرافاتها وطول غفلته بأ جلى صورة كإحدى الامتدادات الطبيعية في الاستبصار الذهني والصحو الوجداني الذين فجرهما الامام الحسين عليه السلام ببذله دمه الطاهر في العاشر من المحرم عام 61 للهجرة على ثرى كربلاء المقدسة, حينما لم يبق من سبيل اخر لاستكمال الاهداف المرسومة للنهضة لتشمل كل تجليات الحق ازاء كل مراوغات الباطل, وليمهد الأرضية المناسبة ويمدّ لها في الزمن لحين بلوغ الذروة التي لابد أن يصلها التاريخ بحتمية دحض الحق للباطل في ختام المنازلة الكبرى للقاء الأضداد. لذا فان حركة الحر هي الأخرى أقامت الحجة على القوم بإيقاد الضوء الباهر وسط عتمة مكنونات المواقف برمتها، وفتحت كوة في الجدار المتصالب للطغيان الأموي الجاثم في النفوس المهزومة من دواخلها والصدئة بأحلامها؛ فأوصد بذات اللحظة كُوى التردد والشك والخشية من هول قرار صائب وسفَه أهواء الدنيا بالمال والجاه والسلطان، لان الحر لم يكٌ اسما نكرة في الأسماء ليذهب وفعلته أدراج النسيان.. بل كان سيد بني رياح قاطبة وفارسها المغوار؛ فأضحى عدل قراره ذاك بتوفيق ملؤه الرحمة للاستعداد الذاتي فيه وعدالة الاستحقاق الإلهي الذي لا يغفل مقدار حبة خردل أو اقل في الميزان. وكيف لا وقد أكد بالدليل القاطع بأنه حر زمانه, فبالغ بإيضاح الحجة وبسط البرهان تلو البرهان, راميا بثقل حجر موقفه الشجاع ذاك بوجه خنوع البركة الراكدة.. بل الآسنة لعقول تلك الجيوش المجيشة من الهمج الرعاع الذين ساقتهم شياطينهم لمقايضة مرضاة يزيد الداعر بسخط الجبار!! فأيّ مغفل ذاك الذي يشتري الضلالة بالهدى ويبيع الآخرة بالدنيا بهذا الثمن البخس؟! وهو ما نبأ به موقف المحتشدين لقتال سبط رسول الله بُعيد أن عرى بحججه البالغة بالتعريف بنفسه ونسبه ودواعي نهضته آخر أستار الهوى المحتجبين وراءه, واللائذين به، والغاذين السير إليه, ففاز الحر ومن معه بالاستشهاد وخسئ أولئك في الدنيا بالخسران المبين وبالآخرة لهم خزي أعظم وان جهنم لمحيطة بالكافرين. انتصار الحر إذن في واقعة ألطفالخالدة وفوزه العظيم؛ صاغه جهاده الأكبر ضد نفسه وهواه وجهاده الأصغر مع أبي عبد الله, واستشهاده بين يديه وخلوده جاء نتيجة حتمية لاجتماع مغزى الجهادين معا, فاهدى الحياة قبس نور أبهى سيظل يتوهج في ظلمة أبدية على الأرض, وهو في المحصلة النهائية؛ انتصار بهيج للإنسانية. بقلم: طالب عباس.