قراءة في مقتل الإمام الحسين عليه السلام للذهبي نقد وتحليل
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » قراءة في مقتل الإمام الحسين عليه السلام للذهبي نقد وتحليل

 البحث  الرقم: 467  التاريخ: 1 ذو الحجّة 1429 هـ  المشاهدات: 28278
قائمة المحتويات

قراءة في مقتل الإمام الحسين عليه السلام للذهبي نقد وتحليل

تمثل معركة كربلاء فاصلاً مهماً في حياة الأمة ووعيها بقيم الإسلام، إذ تكشف المعركة عن منهجين متأصلين ومتناقضين في ذات الوقت، ويمثل المنهج الأول الرسول وأهل بيته الذين حملوا علمه وفهمه ودافعوا عن رسالته، والمنهج الآخر يتمثل في الفكر الجاهلي الذي وقف في وجه الإسلام منذ انطلاقته الأولى.. ومثل هذا المنهج بنو أمية الذين حاربوا الرسول في معارك كبرى كـ بدر وأحد والأحزاب، وحاربوا أمير المؤمنين في معاركه التي خاضها بعد توليه الخلافة، ووقفوا سداً قوياً ضد خلافة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب سبط الرسول وريحانته..
لكن المعركة التي خاضها الإمام الحسين في كربلاء يوم العاشر من محرم سنة 61 للهجرة، كانت مفصلا سوف تنكشف عبرها أقنعة الزيف الأموية، بل هذه المعركة أعتبرها الأمويون ثأراً من رسول الله لقتلاهم يوم بدر الذي كان للإمام علي صولته المشهودة فيها إذ قتل وحده أربعة وعشرين من كبار زعماء الشرك، وكان الأمويون يتحينون الفرص للثأر من رسول الله وخليفته علي بن أبي طالب عليهما السلام، وتكشف الأبيات التي تمثل بها يزيد بن معاوية عندما جيء له برأس الحسين هذه الحقيقة حيث تمثل بهذه الأبيات:
ليـت أشيـاخـي بـبـدر شـهـدوا* جزع الخزرج في وقع الاسل
لأهـلـوا واستـهـلـوا فـرحـا* ثـم قـالـوا لـي هنـيـا لا تـسـل
حـيـن حـكت بـفـنـاء بـركـهـا* واستحر القتل في عبد الاسل
قد قتلنا الضعف من أشرافكم* وعدلنا ميل بدر فاعتـدل «2»
وكما تكشف كربلاء عن منهجين متناقضين في حياة الأمة، فهي تمثل أعظم مأساة إنسانية في تاريخ البشر، ولعل هذا الأمر أحد الأسباب المهمة التي دعت الكثير من المؤرخين سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين يتحدثون عنها ويخصها العديد من المؤرخين بالبحث والتحليل في مدى تأثيرها في التاريخ والحاضر والمستقبل، ومن الكتب المتخصصة التي تحدثت عن المعركة هي ما عرف بالمقاتل سواء كان التأليف كجزء من عمل عام كما نلحظ ذلك فيمن أهتم وكتب في التاريخ العام، كالطبري، وابن سعد، وابن أبي الأعثم، واليعقوبي، وابن كثير، وابن عساكر والذهبي في كتابه الشهير تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام والذي سوف نتناوله بالتحليل والنقد، أو أفرد له كتب خاصة كمقتل الإمام الحسين لأبي مخنف لوط بن يحيى، أو للخوارزمي، أو الشيخ ابن نما الحلي، الذي يعتبر من أفضل كتب المقاتل التي تحدثت عن الواقعة.
الذهبي حياته.. وميوله الفكرية
في مدينة دمشق ولد محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي في (673هـ/ 1274م). ونشأ في أسرة تركمانية الأصل، يعمل عائلها في صناعة الذهب، فبرع فيها وتميز حتى عُرف بالذهبي، وكان رجلا محبًا للعلم، فعني بتربية ولده وتنشئته على حب العلم. وكان كثير من أفراد عائلته لهم انشغال بالعلم، فشب الذهبي في بيئة أسرية كانت لها عناية بالعلم؛ فعمته ست الأهل بنت عثمان لها رواية في الحديث، وخاله علي بن سنجر، وزوج خالته من أهل الحديث.
وفي سن مبكرة انضم إلى حلقات تحفيظ القرآن الكريم، ثم اتجه لما أصبح إلى تعلم القراءات وهو في الثامنة عشرة من عمره، فاتصل بشيوخ الإقراء في زمانه من أمثال: جمال الدين أبي إسحاق إبراهيم بن داود العسقلاني المتوفى سنة (692هـ/1292م)، والشيخ جمال الدين أبي إسحاق إبراهيم بن غالٍ المتوفى سنة (708هـ/1308م)، وقرأ عليهما القرآن بالقراءات السبع، وبلغ من إتقانه لهذا الفن وهو في هذه السن المبكرة أن تنازل له شيخه محمد عبد العزيز الدمياطي عن حلقته في الجامع الأموي حين اشتد به المرض.
وفي الوقت الذي كان يتلقى فيه القراءات مال الذهبي إلى سماع الحديث الذي زادت رغبته فيه ما كان سائداً في عصره من الإهتمام بالحديث وعلومه، فاتجه إليه، واستغرق وقته، ولازم شيوخه، وبدأ رحلته الطويلة في طلبه حيث جال ربوع بلاد الشام، ومن ثم اتجه إلى مصر، وأخذ عن شيوخها، لكن الملاحظ أنه لم ينفتح على مدرسة أهل البيت والقريبة منه، حيث كانت الحلة حاضرة العلم والمعرفة الدينية وكان يتزعمها العلامة الحلي (ت 726هـ) والذي انتشر صيته في البلدان عامة، وعرفته المحافل العلمية في ذلك الزمان.
البيئة العلمية وتأثيرها في تكوينه الفكري:
عاش شمس الدين الذهبي في بيئة علمية غلب عليها الجمود والتكرار، فقد عرفت مدرسة الشام في القرن الثامن بعهد التلخيص والتهميش، أي أن جل الإنتاج المعرفي آنذاك كان يتمثل في إما تلخيص كتاب سابق، أو وضع الهوامش والحواشي، وقد أثر ذلك حتى على الذهبي نفسه الذي عد من كتبه خمسين ملخصاً لكتب ألفها من سبقوه من مجموع 215 كتاباً هي نتاجه إلى أخر عمره.
لكن الذهبي أثر بما كتبه كتاريخ الإسلام، وأعلام النبلاء، وميزان الاعتدال فيمن أتى بعده من أجيال الفقهاء والباحثين، بل لا زال تأثيره واضحاً في اهتمام الاتجاهات الفكرية السلفية ببعض كتبه وخصوصا في جانبها النقدي لمدرسة أهل البيت.
كما أن بلاد الشام في القرن السابع والثامن وبسبب سيطرة الأيوبيين ومن ثم المماليك تعيش جواً مشحوناً بالكراهية والعداء لشيعة أهل البيت، ليصل العنف ضد هذه المدرسة مداه من خلال تصفية أحد أعظم فقهاء الشيعة قبل نهاية القرن الثامن بطريقة وحشية تبين عمق الكراهية والحقد وضياع القيم الأخلاقية، هذا الفقيه هو الشهيد الأول (734-786هـ)، حيث سجن سنة كاملة في قلعتها، ثم قتل شهيداً وصلب ثم أحرق، وذلك بفتوى القاضي ابن جماعة والقاضي المالكي.
في هذا الجو المشحون بالكراهية لمدرسة أهل البيت نشأ الحافظ الذهبي وتشرب فكره وقلبه الفكر السائد آنذاك، لذا ليس من المستغرب أن نراه دائم التهجم والتنكر لمدرسة أهل البيت، لأن الإنسان إبن بيئته، [3] لكن ما أثر بشكل أعمق على الذهبي وبلور منهجه النقدي تجاه رد الروايات التي تنقل فضائل أهل البيت كما سنرى.
صحبته وتتلمذه على أبرز شخصية عرفت بشدة عدائها لأهل البيت، وهو ابن تيمية الذي يقول فيه الأقشهري نقلا عن ابن حجر: بأن أصحابه قد غلوا فيه، واقتضى له ذلك العجب بنفسه حتى زها على أبناء جنسه، وأستشعر أنه مجتهد، فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم، قديمهم وحديثهم، حتى انتهى إلى عمر فخطأه ثم أعتذر واستغفر، وخطأ علياً (لكن يبدو لم يعتذر ولم يستغر)، وسب الغزالي ووقع في ابن عربي.. [4]
كتاب تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام
كتاب تاريخ الإسلام هو أكبر كتب الذهبي وأشهرها، تناول فيه تاريخ الإسلام من الهجرة النبوية حتى سنة (700هـ/1300م) وهي فترة ضخمة في مدتها الزمنية، واتساع نطاقها المكاني الذي يشمل العالم الإسلامي بأسره. وتضمن هذا العمل الضخم الحوادث الرئيسية التي مرت بالعالم الإسلامي، وتعاقب الدول والممالك، مع تراجم للمشهورين في كل ناحية من نواحي الحياة دون اقتصار على فئة دون أخرى، ويبلغ عدد من ترجم لهم في هذا الكتاب الضخم أربعين ألف شخصية، وهو ما لم يتحقق في المؤلفات التي سبقت عصره.
ويحتوى الكتاب على مادة واسعة في التاريخ السياسي والإداري، انتقاها من مصادر كثيرة ضاع معظمها، وعلى ذكر للأحوال الاقتصادية للدولة الإسلامية والتطورات التي حلت عليها.
ويصور الكتاب الحياة الفكرية في العالم الإسلامي وتطورها على مدى سبعة قرون، ويبرز المراكز الإسلامية ودورها في إشعاع الفكر ومساعدة الناس، وذلك من خلال حركة العلماء وانتقالهم بين حواضر العلم المعروفة وغير المعروفة، واتساع الحركة في وقت دون آخر؛ الأمر الذي يظهر مدى ازدهار المراكز الثقافية أو خمول نشاطها.
ويبين الكتاب من خلال ترجمته لآلاف العلماء وعلى مدى القرون الطويلة التي تعرض لها اتجاهات الثقافة الإسلامية وعناية العلماء بعلوم معينة، ويكشف عن طرائقهم في التدريس والإملاء والمناظرة، ودور المدارس في نشر العلم والمذاهب الفقهية في أنحاء العالم الإسلامي.
وهذا العمل الضخم جرت أكثر محاولة لنشره كاملا، حتى استطاع الدكتور عمر عبد السلام التدمري نشره من خلال تحقيقه في نحو خمسين مجلدًا.
مقتل الإمام الحسين للذهبي.. نظرة عامة
يبدأ كتابة المقتل بالتأريخ لحوادث سنة 61 للهجرة النبوية وهي السنة التي استشهد فيها الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه في كربلاء، ومن خلال النظر في مجموعة من المقاتل يمكننا القول إن المدخل للتأريخ للحادثة يمكن أن يعطينا نظرة عن الرؤية الفكرية والسياسية للمؤرخ، فالمؤرخ الشيعي يبدأ الحديث عن المقتل بالولادة، أي بمولد الإمام الحسين، وهو هنا يؤرخ للمرحلة التاريخية من خلال سرد مراحل ومحطات الشخص ليستعرض الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية عبر التأريخ لما تقوم به الشخصية، كما نلحظ ذلك واضحاً في مقتل أبي الفرج الأصفهاني (284-356هـ)، والشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد (336-413هـ)، والفضل بن الحسن الطبرسي (471-548هـ) وابن نما الحلي (567-645هـ).
أما المؤرخ العامي فغالباً ما يبدأ التأريخ للمقتل بذكر أخر أيام معاوية بن أبي سفيان ومن ثم موته وتولي ابنه يزيد الحكم، أو ينتقل مباشرة للحديث عن يزيد وتوليه السلطة ونصبه للولاة وما وقع في عهده من أحداث، أما الذهبي فيؤرخ لمقتل الإمام الحسين بذكر من مات سنة 61 للهجرة ومن ثم ينتقل لذكر أخذ معاوية البيعة لأبنه يزيد ورفض الإمام مبايعته، ويوهم سرده لرفض الإمام البيعة أن السبب هو تلك الكتب التي ترد عليه من الكوفة تطلب منه القدوم عليهم لمبايعته بالخلافة.
يقول الذهبي: لما أخذ البيعة معاوية لابنه يزيد، كان الحسين ممن لم يبايع، وكان أهل الكوفة يكتبون إلى الحسين يدعونه للخروج إليهم. [5]
ثم يتحدث عن مجيء قوم من أهل الكوفة لمحمد بن الحنفية ولقاء الإمام بهم ونصيحة ابن الحنفية في عدم الإصغاء لما يطلبونه كونهم قد غدروا بعلي وابنه الحسن عليهما السلام، وهنا تتضح رؤية الذهبي لشخصية الإمام الحسين، إذ يبين مدخل المقتل الصورة التي سوف تظهر عليها شخصية الإمام والتي يمكننا أن نبرزها في النقاط التالية:
1- أن حركة الإمام ونهضته كان الهدف منها تولي السلطة والخلافة.
يقول الذهبي في أول سطر من مدخل المقتل: واستشهد مع الحسين ستة عشر رجلاً من أهل بيته، وكان من قصته أنه توجه من مكة طالباً الكوفة ليلي الخلافة. [6]
بينما الإمام قد أوضح الغاية والهدف من حركته ونهضته وهو الإصلاح في أمة جده والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد أن أعلن يزيد مظاهر الفسق والفجور ليعم الانحراف عن الإسلام وقيمه ومبادئه، كل مظاهر الحياة.
قال الإمام الحسين لأخيه محمد بن الحنفية بعد أن اقترح على الإمام الذهاب لمكة وعدم الخروج منها، أو الذهاب لليمن لكثرة الأنصار وسعة البلاد ومنعتها: يا أخي والله لو لم يكن ملجأ، ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية، فقطع محمد بن الحنفية الكلام وبكى، فبكى الحسين معه ساعة.
ثم قال: يا أخي جزاك الله خيرا، فقد نصحت وأشرت بالصواب، وأنا عازم على الخروج إلى مكة، وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي، وأمرهم أمري ورأيهم رأيي، وأما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم بالمدينة، فتكون لي عينا لا تخفي عني شيئا من أمورهم.
ثم دعا الحسين بدواة وبياض وكتب هذه الوصية لأخيه محمد وهي تبرز أهداف النهضة وغايتها: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف يابن الحنفية أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ابن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين، وهذه وصيتي يا أخي إليك وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. [7]
2- افتقاد الإمام الحسين لرؤية واضحة في مسألة النهضة.
يقول الذهبي وهو يرسم لنا صورة الإمام كأنه شخص متردد لا يملك رؤية لما يريد الإقدام عليه، فبعد أن يعرض الكوفيون أمر الخروج إليهم يبقى الإمام متحيراً مهموماً يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، هذه الصورة التي يرسمها الذهبي لشخصية الإمام الحسين في المدينة المنورة قبل الخروج لمكة، يقول: فأقام الحسين على ما هو عليه مهموماً، يجمع الإقامة مرة ويريد أن يسير إليهم مرة. [8]
لكن التاريخ وما نقل من أقوال للإمام يبرز لنا شخصيته العظيمة ورؤيته المتكاملة لنتائج نهضته، وأن الشهادة في سبيل الله هي الكفيل بإيقاظ الأمة من سباتها ومعرفة زيف وضلال الحكم الأموي المنحرف، وخطبته المشهورة التي نقلها المؤرخون والمحدثون والتي يرى البعض أن الإمام خطبها في المدينة قبل خروجه، والبعض الآخر يقول أنها خطبة ما قبل الخروج من مكة، هذه الخطبة تبرز الرؤية العميقة للإمام بالنسبة للنتائج التي تأوول إليها نهضته.
روي أنه صلوات الله عليه لما عزم على الخروج إلى العراق، قام خطيبا فقال: الحمد لله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله وصلى الله على رسوله وسلم خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلا، فيملان مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقربهم عينه، وتنجز لهم وعده، من كان فينا باذلا مهجته، موطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فاني راحل مصبحا إنشاء الله. [9]
3- الإمام الحسين ينفعل في حواره مع الوليد بن عتبة والي يزيد فيشتمه وينزع عمامة الوليد من رأسه..
يقول الذهبي: وأغلظ الوليد للحسين، فشتمه الحسين وأخذ بعمامته فنزعها. [10]
ويمكننا أن نلحظ الجو العام للمقتل من خلال هذا المدخل، بل في قبال هذه الصورة للحسين يرسم لنا صورة شبه جميلة لمعاوية الذي يوصي ولده بالرفق بالحسين، بل ينقل عن يزيد نفسه أمر كتابه للوليد الذي يأمره بأخذ البيعة من الحسين بالرفق، وفي رواية ينقلها في آخر المقتل يرسم لنا صورة يزيد كأنه لا ذنب له في قتل سبط الرسول،
لما قتل عبيد الله الحسين وأهله، بعث برؤوسهم إلى يزيد، فسر بقتلهم أولا، ثم لم يلبث حتى ندم على قتلهم، فكان يقول: وما علي لو احتملت الأذى، وأنزلت الحسين معي، وحكمته فيما يريد، وإن كان علي في ذلك وهن، حفظا لرسول الله ورعاية لحقه، لعن الله ابن مرجانة - يعني عبيد الله - فإنه أحرجه، واضطره، وقد كان سأل أن يخلي سبيله أن يرجع من حيث أقبل، أو يأتيني، فيضع يده في يدي، أو يلحق بثغر من الثغور، فأبى ذلك عليه وقتله، فأبغضني بقتله المسلمون، وزرع لي في قلوبهم العداوة. [11]
ومن الملاحظات الهامة في مقتل الإمام الحسين للذهبي أنه لم يعتمد فيما حدث في الطف على روايات أهل البيت سوى رواية واحدة ينقلها في آخر المقتل، عن الإمام الباقر وهي تصب في ذات الإتجاه وهو تمجيد شخصية يزيد الذي يظهر في هذه الرواية رحيماً وعطوفاً وكريماً ذا بصيرة ونظر للمستقبل وما يحدث فيه، وهذه الرواية لا تصمد أمام التدقيق والتحقيق بل أقل الناس معرفة وعلما يمكن له معرفة كذبها، وننقلها بدون أن نتعنى الرد عليها لأنها ساقطة بذاتها.
عن عمرو بن دينار قال حدثني محمد بن علي بن الحسين عن أبيه: لما قتل الحسين، دخلنا الكوفة، فلقينا رجل، فدخلنا منزله، فألحفنا، فنمت فلم أستيقظ إلا بحس الخيل في الأزقة، فحملنا إلى يزيد، فدمعت عينه حين رآنا، وأعطانا ما شئنا، وقال: إنه سيكون في قومك أمور، فلا تدخل معهم في شيء.
فلما كان من أهل المدينة ما كان، كتب مع مسلم بن عقبة كتاباً فيه أماني، فلما فرغ مسلم من الحرة، بعث إلي، فجئته وقد كتبت وصيتي، فرمى إلي بالكتاب، فإذا فيه: استوص بعلي بن الحسين خيرا، وإن دخل معهم في أمرهم، فأمنه، واعف عنه، وإن لم يكن، فقد أصاب وأحسن. [12]
من الملاحظات الهامة والتي تمثل إشكالية في صياغة وتكوين المقتل هو عدم تعرضه لحادثة مقتل الإمام الحسين وما وقع في كربلاء من أحداث بتفصيل، بل كان المقتل ينصب في الحديث عن الإرهاصات التي دعت الحسين للنهضة كما يراها الذهبي وهي مطالبته بالبيعة ليزيد وإرسال أهل الكوفة كتباً يطالبون فيها الإمام بالبيعة، ثم يتحدث عن الناصحين للإمام بعدم الخروج أو بالبيعة ليزيد، بعدها يذكر خروجه من المدينة ومن ثم مكة، وينقل رواية ابن سعد ليتحدث بشكل موجز ومخل بالحادثة التي تتحدث عن لحظات الإمام لحسين الأخيرة، ننقلها لنختم به تحليلنا للمقتل.
روى ابن سعد بأسانيده: قالوا: وأخذ الحسين طريق العذيب، حتى نزل قصر أبي مقاتل، فخفق خفقة، ثم استرجع، وقال: رأيت كأن فارسا يسايرنا، ويقول: القوم يسيرون، والمنايا تسري إليهم.
ثم نزل كربلاء، فسار إليه عمر بن سعد كالمكره، إلى أن قال: وقتل أصحابه حوله، وكانوا خمسين، وتحول إليه من أولئك عشرون، وبقي عامة نهاره لا يقدم عليه أحد، وأحاطت به الرجالة، وكان يشد عليهم، فيهزمهم، وهم يكرهون الاقدام عليه، فصرخ بهم شمر! ثكلتكم أمهاتكم، ماذا تنتظرون به؟ فطعنه سنان بن أنس النخعي في ترقوته، ثم طعنه في صدره فخر، واحتز رأسه خولي الاصبحي لا رضي الله عنهما. [13]
ـ
[1] نص المحاضرة التي ألقيت في دار الإمام الحسين للبحوث والدراسات بسيهات ليلة السادس من محرم لعام 1429هـ
[2] ابن كثير، البداية والنهاية، ج8 ص209.
[3] رد حديث علي خير البشر، وحديث سفينة نوح واعتبارها مناكير...
[4] السبحاني، العلامة جعفر، موسوعة طبقات الفقهاء ج 8 ص 31.
[5] آل مكباس، محمد عيسى، موسوعة مقتل الإمام الحسين، ج2 ص 679.
[6] المصدر نفسة.
[7] المجلسي، بحار الأنوار ج 44 ص329.
[8] موسوعة مقتل الإمام الحسين، مصدر سابق ج 2 ص 680.
[9] بحار الأنوار، ج 44 ص366.
[10] موسوعة مقتل الإمام الحسين، ج 2 ص 681.
[11] المصدر نفسه ص 692.
[12] المصدر السابق، ص 692.
[13] موسوعة، مصدر سابق ص 686.

الروابط
المقالات: قراءة في مقتل الإمام الحسين عليه السلام لابن خلدون
الأشخاص: الشيخ زكريا داوود [المراسل]
مواقع الإنترنيت: شبكة أنصار الصحابة المنتجبين
مفاتيح البحث: إبن نما الحلي،
عمر بن سعد،
محمد بن الحنفية،
كربلاء،
ليت أشياخي ببدر شهدوا،
الكوفة،
...
المواضيع: تاريخ أهل البيت،
وقائع وأحداث
الواحات: الواحة الحسينية

الفهرسة