المعنى المحمدي العظيم
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » المعنى المحمدي العظيم

 البحث  الرقم: 530  التاريخ: 3 ذو الحجّة 1429 هـ  المشاهدات: 8425
قائمة المحتويات

فجر الخليقة

كان الله، ولا شيء معه. وأراد الله (جلّ جلاله) أن يتجلّى بأسمائه وصفاته القدسيّة، فخلق الخليقة مَرايا تعكس ـ كلٌّ بقدرِه ـ أسماءه وصفاته، فَسالَتْ أوديةٌ بقَدَرها. كان أوّل ما خلق الله: المشيئة، وهي العقل النوريّ الأوّل، وبالمشيئة خلق العوالم والأكوان.
أوّل فَيض قدسيّ فاض من الحضرة الأحَديّة المقدّسة.. كان نوراً عُلْويّاَ، هو لله سبحانه أوّل العابدين، انطوَتْ فيه عوالم الخليقة كلّها، وذلكم هو النور المحمديّ الجامع لحقائق المُلْك والملَكوت. قال (صلوات الله عليه وعلى آله): «أوّل ما خلق الله تعالى نوري»، وقال أيضاً: «أوّل ما خلق الله المشيئة»، وقال: «أوّل ما خلق الله العقل».
متوحِّدٌ هو ـ إذَن ـ النور الأوّل والمشيئة والعقل النوريّ، وكأنّ هذه ثلاثة تعابير عن معنىً واحد، هو المعنى المحمديّ المخلوق أوّلاً في فجر الأزل.
وما يزال خَلْق العوالم ـ منذ ذلكم الأزل ـ يتجدّد ويتكاثر بلا انقطاع، وما تزال التجلّيات الإلهيّة المستمرّة في العوالم تُحدِث ـ من خلال العقل النوريّ الأوّل (المشيئة) ـ هذا الخلقَ المتجدِّد المتكاثر على الدوام، وفي كلّ لحظة من لحظات الزمان تَلْبَس خلائق ـ نعرف منها اليسير ونجهل الكثير ـ لباسَ الوجود، فـ كلَّ يَومٍ هو في شأن، وهُم في لَبْسٍ مِن خَلْقِ جديد.
وهذا الخلق المتجدِّد المستمرّ مظهر من مظاهر الرحمة الإلهيّة الفيّاضة بلا توقّف على الإطلاق، ومن أجل هذا وصف الله تعالى محمّداً (صلّى الله عليه وآله) ـ وهو واسطة الفيض الإلهيّ ـ بأنّه «رحمةً للعالمين»، وقال (صلّى الله عليه وآله): «أنا الرحمة المُهْداة».
إنّها الرحمة الشاملة لكلّ العالَمين: من الغيب إلى الشهادة، ومن التكوين إلى التشريع، ومن البشر إلى كافّة مخلوقات الله المأهولة بها عوالم السماوات والأرضين.

عالَم العهد والميثاق

وفي الغيب الإلهيّ المقدّس.. كان العهد والميثاق: أخذ الله (جلّ جلاله) من الخلائق عهدَ الإيمان به، وميثاقَ الإقرار له بالربوبيّة والولاية العُلْويّة.. يذكر ذلك مَن يذكره، ونَسِيَه مَن نَسِيَه.
والقرآن المجيد يقرّر واقعة (الإشهاد الإلهيّ) على الناس خاصّة بالربوبيّة له والولاية والحاكميّة الباطنة والظاهرة: (وإذْ أخَذَ ربُّكَ مِن بني آدمَ مِن ظُهورِهم ذُرِّيَّتَهُم، وأشْهَدَهم على أنفُسِهم: ألَسْتُ بربِّكُم؟ قالوا: بلى. أنْ تَقولوا يومَ القيامةِ: إنّا كُنّا عن هذا غافلين). والخلائق البشريّة يومئذ ـ في ضمير الغيب ـ خلائقُ على هيئة الذَّرّ، في ذلك العالَم الذي عُرِف ـ مِن أجل هذا ـ باسم (عالَم الذَّرّ)، أو عالم الأرواح.
نور (المعنى المحمّديّ) كان حاضراً في عملية الإشهاد والإقرار، هو نفسه (صلّى الله عليه وآله) يحكي مبادرتَه الأُولى ـ في ذلكم العالَم ـ إلى الإقرار لله وعقدِ الميثاق. يقول (صلّى الله عليه وآله): «إنّي كنتُ أوّلَ مَن آمنَ بربيّ، وأوّلَ مَن أجاب حيث أخذَ اللهُ ميثاقَ النبيّين، وأشهدهم على أنفسهم: ألَسْتُ بربِّكم؟ فكنتُ أنا أوّلَ نبيّ».
وثَمّةَ أحاديث جَمّة وفيرة يَرويها المسلمون كافّة، تُعبِّر عن مظاهرَ لهذه (الأوّليّة) المحمّديّة في كلّ شيء، وتدلّ على المقام العظيم عند الله، الذي تبوّأه النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) في تَحقُّقه بمقام العبودية المطلقة لله تعالى. ولعلّ هذا يفسِّر معنى أنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) هو فخر الكائنات وأشرف المخلوقات وسيّد الأنبياء جميعاً بلا مُنازِع.
ولقد نطق رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) ـ وهو في مقام تبليغ الرسالة الإلهيّة للناس ـ بمعانٍ ومضامين، مثل قوله: «كنتُ نبيّاً وآدمُ بين الماء والطين»، ونظير قوله أيضاً: «أنا سيّد وُلْد آدم، ولا فخر». إنّه (صلّى الله عليه وآله) لا يفخر، لأنّه عارف حقّ المعرفة أنّ مقاماته كلّها هي نِعَم من الله سبحانه تستحقّ الشكر المتواصل والثناء الكبير. وقال (صلّى الله عليه وآله) في موضعٍ آخر: «أنا قائد المرسلين، ولا فخر، وأنا خاتم النبيّين، ولا فخر، وأنا أوّل شافع وأوّل مُشفَّع، ولا فخر». «أنا أوّل مَن يدقّ بابَ الجنّة». «أنا أوّل وافدٍ على العزيز الجبّار يوم القيامة، وكتابُه وأهلُ بيتي، ثمّ أُمّتي...». ولا غَرْوأنّه (صلّى الله عليه وآله) المرآة الوجودية الأصفى العاكسة ـ بأجلى ما يحتمل الوجود ـ لأسماء الحقّ تعالى وصفاته في العالم، والأنبياء ـ بَعدُ ـ يتفاوتون بمقدار ما في مَراياهم (عليهم السّلام) مِن جَلاء.
إنّه (صلّى الله عليه وآله) في مقام الجامعيّة والبَرْزَخيّة لِما بين الخالق والخلائق، في أرض الله وسمائه، في أوّل الزمان وفي ختامه، والنُّطق المحمّديّ الكريم يَفيض بما يقرّر هذا المعنى الجليل، في مثل ما قال (صلّى الله عليه وآله): «أمَا والله، إنّي لأمينٌ في السماء وأمين في الأرض» و «كنتُ أوّلَ الأنبياء في الخَلق، وآخرهم في البعث».
وهو (صلّى الله عليه وآله) في مقام «الأوّليّة» للخلائق و «الآخِريّة»، وفي مقام ظُهوره في عالم البشريّة وبُطونه في أنوار الغيب، فهو التجلّي الأوّل الأكمل للأسماء الإلهيّة المقدّسة: هُوالأوّل والآخِر والظاهر والباطن.

وجه إلى الله.. ووجه إلى الخلق

المعنى المحمّديّ النوريّ لا حدّ له ولا مثيل. إنّه كلمات الله التامّات، والكلمات الإلهيّة هنا ليست الكلمات المألوفة المكتوبة بالحروف، ولكنّها الكلمات المعنويّة المعبِّرة عن الحقائق الإلهيّة، إنها كلمات غير متناهية، ولا ريب، وهي المعبَّر عنها بلسان التنزيل العظيم: (ولو انما في الارض من شجرة اقلام والبحر يمده من بعده سبعة ابحر ما نفدت كلمات الله) [سورة لقمان: 27].
هذه الكلمات الإلهيّة التي لا تَنفَد ولا تنتهي عند غاية.. قد عبّر عنها آخِرُ سورة (الكهف)، في الإشارة إلى مقام النبيّ الجامع بين الغيب المطلق والشهادة الظاهرة؛ فهو (صلّى الله عليه وآله): البرزخ الأعظم، ومجمع البحرين. قال الحقّ (جلّ وعلا) في المعنى المحمّديّ الشريف الجامع للعالَمين: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا * قل انما انا بشر مثلكم يوحى الي انما الهكم اله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا) [سورة الكهف: 109 ـ 110].
إنّ مقام (البَشَريّة) لكلمات الله التي تنفد بحار العالم وهي لا تفند.. هو (تنزّلٌ) من تنزّلات الرحمة الإلهيّة بالإنسان الأرضيّ، هدايةً وإيصالاً له إلى الله تعالى، الذي إليه الرُّجعى وإليه المصير.
إنّ معاناة النبيّ العظيم ـ وهو يقود البشريّة في جهادها الأكبر ثمّ الأصغر ـ لَمعاناة كبيرة مُضْنية؛ لأنها معاناة المعنى النوريّ العُلْويّ وهو يتنزّل إلى أرض الأنسان في ظلامها وخرابها، من أجل الإصلاح والتنقية والتعبيد، ولعلّ مِن هذه المعاناة: ما كان يصدر منه (صلّى الله عليه وآله) من استغفار مائة مرّة كلَّ يوم، بدون ذنبٍ ـ حاشاه ـ، ولعلّ منها: شوق النبيّ الباطن القويّ إلى الله (تبارك وتعالى) فيما يظهر من صَلاته الطويلة المضنية، وهو يومئذ رسولٌ صاحب شريعة وكتاب، حتّى خاطبه ربّه خطاب الحبيب الشفيق: (طه * ما أنزَلْنا عليكَ القرآنَ لِتَشْقى) [سورة طه: 1 ـ 2].
لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ـ إذَن ـ وجهان إلهيّان، أحدهما: الوجه المتوجّه إلى الحقّ، الصاعد دائماً تلقاء الحضرة الأحديّة المنزَّهة، والآخر: وجهه القدسيّ المتنزِّل ـ رحمةً ـ نحو عالَم الخَلق، ناطقاً عن الله، ومبلِّغاً عن الله، ومتحمّلاً تكاليف الرسالة والتبليغ في الله.
وهذا المعنى البرزخ بين عالَم الغيب وعالَم الشهادة.. ممّا توحي به سورة (النور) المباركة. ذلك أنّ النور الإلهيّ العُلْويّ الذي مَثَلُه كمشكاة فيها مصباح، والمصباح في زجاجة كأنّها كوكب دُرّيّ، يوقَد من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ، يكاد زيتُها يضيء ولو لم تَمْسَسْه نار.. هذا النور قد تنزّلَ في ظهورٍ له من عوالمه العليا ليظهر في صورة (البشريّة) نبيّاً ووليّاً، في بُيوتٍ أذِنَ اللهُ أن تُرفَعَ ويُذكَرَ فيها اسمُه، يُسبِّحُ له فيها بالغُدُوِّ والآصالِ، رجالٌ لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بَيعٌ عن ذِكرِ اللهِ وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ، وما هؤلاء الرجال المسبِّحون ـ على الحقيقة ـ إلاّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الهداة الطاهرون (سلام الله عليهم أجمعين).
إنّ نصوصاً أخرى ـ قرآنيّة وحديثيّة ـ غير قليلة تَعضِد هذا المعنى، منها عبارات قدسيّة مِن نصّ (الزيارة الجامعة) المرويّة عن الإمام عليّ الهاديّ (عليه السّلام)، تقول: «خَلَقَكُمُ اللهُ أنواراً فكُنتم بعرشِه مُحْدِقين، حتّى مَنّ علَينا بكم، فجَعَلَكُم في بيوتٍ أذِنَ اللهُ أن تُرفَعَ ويُذكرَ فيها اسمُه».
إنّ الصورة البشرية للرسول (صلّى الله عليه وآله) هي مظهر هذا التنزّل إلى عالم الشهادة رسولاً بَشَراً من الناس، حريصاً عليهم، بالمؤمنين رؤوف رحيم، وهي الصورة الشريفة التي استنكرها أهل العناد والفساد، وطلبوا أن يَنزِل عليهم وجود روحيّ ورسول ملكوتيّ. وقالوا: لَولا أُنزِل عليه مَلَك، وهذا الطلب منهم يتضمّن إدراكَ أنّه لا يُبلّغ عن الله إلاّ وجودٌ إلهيّ كالملائكة النوريّين، وما منَعَ الناسَ أن يؤمنوا إذْ جاءهُم الهُدى، إلاّ أن قالوا: أبَعثَ الله بَشَراً رسولاً؟! وقالوا: ما لهذا الرسولِ يأكلُ الطَّعامَ [كالبَشَر] ويمشي في الأسواق؟! أي يشارك في الحياة الاجتماعيّة كسائر بني آدم المخلوقين!
إنّ أشياء قيّمة قد غابت عن هؤلاء في رؤيتهم القاصرة هذه، إذ لابدّ ـ لأسرارٍ جمّة ـ أن تكون للرسول صورة بشريّة ومظهر آدميّ، لتحقيق هدف بعثة النبيّ وإرسال الرسول، ولو جَعَلناه مَلَكاً لَجعلناهُ رَجُلاً.
بَيْد أنّ هذه الصورة البشريّة للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) تكاد ـ لشرفها وكمالها ـ تَشِفّ، إذ هي مجبولة من أشرف طينة في الوجود، ومُخَمَّرة بيد التخمير الإلهيّ، ومتحدِّرة ـ عبر القرون والأحقاب ـ من خلال الأصلاب الشامخة والأرحام المطهَّرة، وقد توالده (صلّى الله عليه وآله) نبيٌّ بعد نبيّ ذُرِّيَّةً بعضُها مِن بعضٍ، وما وقع في آبائه إلاّ نبيّ أو وليّ لله موحِّد.
ولقد لحَظ الناسُ في بَشَريّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما لم يعهدوه في البشر، إذ كان (صلّى الله عليه وآله) يَرى مِن أمامه ومن وراء ظهره، وكان لا يقع له ظلّ على الأرض.. إنّه ـ إذَن ـ جسد بشريّ، لكنّه في الوقت نفسه: جسد روحانيّ ملكوتيّ، له من مزايا النورانيّة والجمال والكمال أرقاها.
وقد قال (صلّى الله عليه وآله) عن هذا الأفق: «تنام عيني، ولا ينام قلبي»، فالقلب النبويّ الطاهر مفتوح أبداً على عوالم النور والجمال، وهو (صلّى الله عليه وآله) يقظان أبداً لا يغفو ولا يسهو، وحاشاه. وقال (صلّى الله عليه وآله) ـ وقد سئل عن صوم الوصال الذي أُبيح له دون غيره ـ: «أبِيتُ عند ربّي، يُطعمني ويسقيني».

صاحب الخُلق العظيم

حين يصف الحقُّ (جلّ جلاله) أحداً بصفات العظَمة، فلابدّ أن يكون الموصوف عظيماً من غير النمط الذي تَوارَد البشرُ على وصفه، ولقد خاطب الله تعالى رسوله محمّداً (صلّى الله عليه وآله) بقوله القرآنيّ: (وإنّكَ لَعلى خُلُقٍ عظيمٍ) [سورة القلم: 4].
كما أنّ العظيم الأعظم لا يقول لأحد إنّه عظيم، إلاّ إذا كان المخاطَب في غاية العظَمة في ميزان الله سبحانه، وذلك فضل من الله خصّ به محمّداً (صلّى الله عليه وآله) من بين سائر مَن خلَق واصطفى، وعلّمكَ ما لَم تكن تَعلمُ، وكانَ فضلُ اللهِ عليكَ عظيماً، وهذه الآية إنّما تشير إلى المقامات المعرفيّة التوحيديّة التي وهبها اللهُ النبيَّ، وعبّر عنها (صلّى الله عليه وآله) في مثل قوله: «عُلِّمتُ علومَ الأوّلين والآخرين»، وفي مثل قوله ـ يعترف بتعلّمه على يدَي الله، وتربيته على عينه سبحانه وتعالى ـ: «علّمني ربيّ وأدّبني ربيّ، فأحسنَ تعليمي وأحسنَ تربيتي».
وثمّة تناسب محتوم بين مقام كلّ نبيّ والكتاب المنزل عليه، وقد وصف اللهُ القرآن بالعظمة، لهذا التناسب بين مقام رسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله) وكتابه القرآن، (ولَقد آتَيْناكَ سَبْعاً مِن المَثاني والقرآنَ العظيمَ) [سورة الحجر: 87]. وقالت إحدى زوجاته (صلّى الله عليه وآله) حين سئلت عن خُلقه: كان خُلقه القرآن.
الخُلق المحمّديّ العظيم هو خُلق الله تعالى في عالمَي الجمال والجلال.. أوَ ليس هو البرزخ الجامع للعوالم قاطبة؟ نفهم الآن ـ إذَن ـ معنى قوله (صلّى الله عليه وآله): «مَن رآني رأى الحقّ». ونستمدّ هذا المعنى من قول القرآن العظيم في المعنى الإلهيّ للنبيّ: (وما رَمَيْتَ إذ رَميتَ، ولكنّ الله رَمى) [سورة الأنفال: 17]. وتكون طاعة الناس للنبيّ في مقام رسالته، طاعةً لله.. ومَن يُطعِ الرسولَ فقد أطاعَ الله؛ لأنّه (صلّى الله عليه وآله) الناطق عن الله، المبرّأ من شبهات الأهواء وما يَنطِقُ عن الهوى.
هذه المعاني الشريفة في الخُلق المحمّديّ العظيم كلّها من مظاهر الطُّهر الإلهيّ، وقد طهّر الله عزّوجلّ نبيَّه وأهلَ بيته الهداة تطهيراً تَفرّدوا به، لا يَشرَكُهم فيه أحد، ولا يقاس بهم فيه أحد. وقد حكى القرآنُ هذا التطهيرَ القدسيّ في آية التطهير، بقوله: (إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عنكمُ الرِّجسَ ـ أهلَ البيتِ ـ ويُطهِّرَكم تطهيراً) [سورة الأحزاب: 33]. هذا التطهير يدلّ ـ إذَن ـ على مقاماتِ النبيّ وأهل البيت الخاصّة التي لا تضمّ اليهم فيها سواهم (صلوات الله عليهم)، ولم تضمَّ حتّى زوجتَه الصالحة (أُمّ سلَمة) التي كانت حاضرة لدى نزول الآية، في ضمن حادثة تَلفُّع النبيّ وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السّلام) بالكِساء اليَمانيّ. يومَها.. سألَتْ أُمُّ سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ فقال لها (صلّى الله عليه وآله): «لا، ولكنّكِ على خير».
هذا الطُّهر العُلْويّ المصفّى الذي فعله الحقّ تعالى بالنبيّ وأهل بيته.. يعني أشياء كثيرة وفيرة، منها: مقام العصمة الخالصة، بكلّ آفاقها وميادينها: العصمة في التلقّي عن الله، والعصمة في ضبط ما يُتلقّى، والعصمة في التبليغ، والعصمة في العمل والسلوك. وينفرد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من بين سائر الأطهار المشمولين بآية التطهير بمقام الرسالة وتلقّي الوحي الخاصّ.

مقام «قاب قَوسَين أو أدنى»

جاء المعراج موهبةً أخرى عظيمة من الله سبحانه لهذا النبيّ العظيم.. وهي في مَراقيها الرفيعة من أسرار الله المكنونة التي أطلَعَ عليها حبيبَه المصفّى محمّداً (صلّى الله عليه وآله)، إذ بلغ فيها رُتبةً غيبيّة ما تجرّأ حتّى جبرئيل ـ وهو عالِم الملائكة الكبار ـ أن يدنو قيدَ أنمُلة، إذ قال للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) حين كان معه في رحلة العروج: «لو دنوتُ أنملة لآحترقتُ».. ذلك أنّ مقام جبرئيل (عليه السّلام) لا يحتمل القرب من المقام الذي بلغه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في معراجه العجيب.
عَرَج محمّد (صلّى الله عليه وآله) في سماوات الله الموّاجة بالأسرار، في ليلة من ليالي مكّة، خلال ساعة واحدة، عروجاً كاملاً جامعاً للروح والجسد، ثمّ رجع إلى مكّة في أقلّ من طرفة عَين.. وكان ذلك له (صلّى الله عليه وآله) مزيد قرب ومزيدَ مواهب سخيّة وعطاء، وكان ذلك للمحجوبين بظلام المادّة المحبوسين وراء أقفال الحسّ فتنةً ومزيد إنكار.
في مَراقي العروج السماويّ المتشعشع الأنوار.. وقعت الرؤية. لقد رأى مِن آياتِ ربِّهِ الكبرى، وما كَذَبَ الفؤادُ ما رأى، أفَتُمارونَهُ على ما يَرى؟! (والنَّجمِ إذا هَوى * ما ضَلَّ صاحبُكم وما غَوى * وما يَنطِقُ عن الهوى * إنْ هُوَ إلاّ وَحيٌ يُوحى * علَّمَهُ شديدُ القُوى * ذو مِرَّةٍ فاستَوى * وهو بالأُفُق الأعلى * ثُمَّ دَنا فتدلّى * فكانَ قابَ قوسَينِ أو أدنى * فأوحى إلى عبدِه ما أوحى * ما كَذَبَ الفؤادُ ما رأى * أفَتُمارُونَهُ على ما يرى * ولقد رآهُ نَرْلةً أُخرى * عند سِدرَةِ المنتهى * عندها جَنّةُ المأوى * إذْ يَغشى السِّدرةَ ما يَغشى * ما زاغَ البَصرُ وما طغى * لقد رأى مِن آياتِ ربِّهِ الكبرى) [سورة النجم: 1 ـ 18].
لقد تحقّق رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) ـ خلال رحلة المعراج القدسيّة ـ في مقامات توحيدية غيبيّة باهرة، نَصّت الآياتُ الشريفات هذه منها على مقام (الأُفق الأعلى)، ومقام (سِدرة المنتهى)، ومقام (جنّة المأوى)، كما نَصّت على مقام (قاب قوسَين أو أدنى).. وهذا المقام ـ أي مقام قاب قوسين ـ هو مقام المُشاهدة القلبيّة، التي لا قُربَ أقرب منها إلاّ مقام (أو أدنى)، الذي تحقّق فيه رسول الله كذلك! هنالك.. عايَنَ ما عاين، وأراه الله (جلّ جلاله) من أنوار عظمته ما أراد.
وهذا المعراج الذي حكى النبيُّ للناس بعدئذٍ شيئاً ممّا يمكن أن يحكيه، إنّما يعبِّر عن الوجه المحمّديّ الصاعد إلى حضرة الحقّ (جلّ وعلا)، فبلغ في هذا الوجهِ الوجيهِ ما لم يبلغه أحد قبله، ولا يبلغه أحد بعده.. (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله).
وهو يعني ـ مِن ثَمّ ـ مزيد تشريف للأمّة التي تتّبعه وتتّبع منهاجه، وهو في الوقت نفسه عروج حَملَ معه تشريفاً لمخلوقات الله في السماوات، وهم الذين كانوا يتمنّون أن تطأ الأقدام المحمّديّة المباركة تلك البقاعَ السماويّة والأصقاع الملكوتيّة، ليحظَوا بمزيد من الفيوضات والبركات. لقد شاهدوا الطَّلعة المحمّديّة النوريّة الغرّاء مشاهدةً شرَّفتهم إلى الأبد.

لا شرقيّة ولا غربيّة

هذه الخصائص النبويّة المعجزة، ظاهرةٌ أيضاً في كتاب الله المنزَل على قلب النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وإذا كان لا شبيه ولا نظير لمحمّد (صلّى الله عليه وآله) ـ مقاماً ورتبة ـ في العوالم كلّها، كان القرآن العظيم لا شبيه له ولا نظير في خصائصه ومزاياه بين جميع كتب السماء المُوحاة من الله إلى الأنبياء.
والقرآن ـ كتاب النبيّ الموحى ـ يماثل النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) في كونه الكتابَ الجامع، وهذا الجمع جمعٌ شامل لكلّ الآفاق والمستويات: من الغيب إلى الشهادة، والظاهر والباطن، والحقيقة والشريعة، والآخرة والدنيا، وهو ـ إلى جوار ذلك كلّه ـ الكتاب الإلهيّ الجامع لجميع الكتب الإلهية والصحف والزُّبُر والألواح، وهو الوارث لها، كما يرث البحرُ الأنهار، وهذه مزيّة له لا يشاركه فيها كتاب، ولعلّ هذا وغير هذا يفسّر قولَ الحقّ سبحانه في القرآن: (لا يأتونَ بِمثْلهِ ولو كانَ بعضُهم لبعضٍ ظهيراً) [سورة الإسراء: 88].
وتسمية القرآن بالقرآن منظور فيها معنى الجمع والجامعيّة، إذ القرآن في اللغة هو ما يَجمع المتفرِّق ويضمّه إليه.
إنّ كلّ كتاب أُنزل على نبيّ من الأنبياء يناسب مقام ذلك النبيّ، ويلائم حالة قومه من أجل الهداية والتبصير، وما أرسَلْنا مِن رسولٍ إلاّ بلسانِ قومِه، وهو ـ أي نبيّ الأمّة ـ مأمور بتكليم الناس على قَدر عقولهم. وقد ناسبَ القرآنُ العظيم مقامَ النبيّ العظيم، ولاءم حال أمّته إلى يوم القيامة، ذلك أنّ مقامه (صلّى الله عله وآله) هو المقام الجامع بين الظاهر والباطن، والأوّل والآخِر، أمّا التابعون له السائرون على خُطاه من أمّته، فيستمدّون من مقامه، وينصبغون بصبغته، على مقاديرهم وحسب درجاتهم.
إنّ الجمع بين الظاهر والباطن إنّما يشبه النقطة المتوسطة التي تَحدُث من تماسّ دائرتين متلاصقتين، وهذا أعلى المقامات وأعدلها، مطّلع عليهما وجامع لهما في الوقت نفسه، وهو لها سرّ الالتقاء.
ولهذه البرزخيّة الوسَطيّة يوصف النور المحمّديّ والكتاب القرآنيّ بوصف لا شرقيّة ولا غربيّة، وتوصف أمّته بكونها خيرَ أمّةٍ أُخرِجَت للناس، وهي ـ أي الأمّة المحمّديّة المُتابِعة المُشايِعة ـ الأمّة الوسَط الشاهدة على الناس كافّة.. وكذلكَ جَعَلناكُم أُمّةً وسَطاً، لتكونوا شُهَداءَ على الناسِ ويكونَ الرسولُ عليكُم شهيداً.
وكانت أُمّته الأُمّةَ الخاتمة للأمم، اشتقاقاً من كونه (صلّى الله عليه وآله) النبيَّ الخاتم، ومن كون شريعته الشريعةَ الأخيرة التي أُغلق باب الشرائع من بعدها إلى يوم القيامة. إنّه (صلّى الله عليه وآله) النبيّ الناسخ الذي لا ينسخ شريعتَه نبيٌّ بعده، وهذه فضيلة له نابعة من مقامه الحاوي على كلّ مقامات الأنبياء من قبله، وهي مزيّه لكتابه (اللاشرقيّ واللاغربيّ) المهيمن على كلّ كتاب قبله. وترتبط (الخاتميّة) بالشهادة على الأمم برباط وثيق، فهو الشاهد على الناس كافّة، ولا أحد يشهد عليه.

صلاة الله

الصلاة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لا تتوقّف لحظةً في العوالم، وتلكم مزيّة له (صلّى الله عليه وآله) هي من نمط الإعجاز.
إنّ الحقّ (تبارك وتعالى) هو الذي دعا المؤمنين إلى الصلاة عليه، بعد أن بدأ بذاته الأحديّة المقدّسة، وبملائكته كافّة.. (إنّ اللهَ وملائكتَهُ يُصلّونَ على النبيِّ، يا أيّها الذينَ آمَنوا صَلُّوا عليه وسَلِّموا تَسليماً) [سورة الأحزاب: 56]. من هنا لا يُتَصوَّر وقت من الأوقات إطلاقاً لا ترتفع فيه أنوار الصلوات عليه (صلّى الله عليه وآله).
الله (جلّ جلاله) هو أوّل المصلّين على حبيبه ونبيّه الخاتم محمّد (صلّى الله عليه وآله)، والملائكة بعد ذلك يصلّون، وما ثَمَّ خَلْق خلقه الله أكثر عدداً من الملائكة، إذ لا يخلو منهم في السماوات موضع قدَم.
وأمرَ الله المؤمنين بالصلاة عليه أمرَ وجوب، تشبّهاً بالله تعالى وبملائكته في ملئهم الأعلى.. وعندئذ: تغدو صلاتُنا عليه (صلّى الله عليه وآله) تزكيةً لنا، وتنويراً لقلوبنا، وطهارةً لحياتنا، وعروجاً بنا إلى آفاق محمّديّة كريمة عظيمة لا يقوى عليها وصف.
قالوا: يا رسولَ الله، وكيف نصلّي عليك؟ قال: «قولوا: اللّهمّ صلِّ على محمّدٍ وعلى آل محمّدٍ، كما صلّيتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيمَ، إنّكَ حميدٌ مجيد».
وقال (صلّى الله عليه وآله) وهو يعلّم أتباعه ويقوّي صِلتهم الروحية به، رحمةً بهم ورأفة: «حيثما كنتم فصَلُّوا علَيّ، فإنّ صلاتكم تَبْلُغني».
وهذا هو تفسير الصلاة الإلهيّة والصلاة الملائكيّة والصلاة البشريّة: قال الإمام أبو الحسن عليّ بن موسى الرضا (عليه السّلام): «صلاة الله رحمة من الله، وصلاة الملائكة تزكية منهم له، وصلاة المؤمنين دعاء منهم له».
والدعاء بالصلاة عليه وعلى آله (صلوات الله عليهم أجمعين) مقرون بالتسليم: يا أيّها الذينَ آمَنوا صَلُّوا عليهِ وسَلِّموا تسليماً. فهو ـ إذن ـ أمر إلهيّ للمؤمنين مزدوج: أمر بالصلاة عليه، وأمر بالتسليم له (صلّى الله عليه وآله).
والتسليم له يعني ـ فيما يعني ـ المتابعةَ والمشايعةَ في منهج المعرفة، وفي العمل، وفي الموقف، وفي كلّ شيء.. وحينئذٍ ينصبغ الفرد المصلّي عليه والأمّة المصلّية عليه المسلِّمة له، بالصبغة المحمّديّة الأصيلة البيضاء، التي لا هي شرقيّة ولا هي غربيّة، وهي في النهاية: صبغة الله، ومَن أحسَنُ مِن الله صِبغةً، ونحنُ له عابِدون!

الروابط
مواقع الإنترنيت: شبكة الإمام الرضا عليه السلام
مفاتيح البحث: الخلق العظيم،
محمد بن عبد الله،
ألست بربكم،
عالم العهد،
النبي محمّد (صلى الله عليه وآله)،
عالم الميثاق،
...

الفهرسة