تداعيات تشكيلية
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » تداعيات تشكيلية

 البحث  الرقم: 652  التاريخ: 29 ذو الحجّة 1429 هـ  المشاهدات: 4913
قائمة المحتويات

اللوحة الأولى

اللوحة الأولى
*دمعة الدم*
هيأ الرسام عدته.. وعلى صدر بياض اللوحة رسم جواداً أصيلاً اشهباً وعليه فارس مهيب تكاد رجلاه تنوشان الارض وبيده القربة، وقد خرقها سهم غادر.. فإندلق الماء منها، سال نحو الأسفل، فأتلف ألوان اللوحة.
إنتزع الرسام الورقة من المحمل واستبدلها بورقة أخرى، ورسم للفارس
قربةً بلا ماء هذه المرّة.. حمساً للمأزق لكنه إستذكر اطفالا عطاشى ينتظرون، ووعد حرٍ قطعه لنساء، ومثله لا يمكن أن يخلف وعده
همس الرسام مع ذاته بحيرة:
ما قيمة لوحةٍ كهذه في واقعةٍ كتلك من دون الماء؟ _
مزقها أيضا.. فنزلت من عينيه دمعة بلون الدم، وبجوارها رسم قربةً فارغة نبت السهم فيها وراية مطروحة أرضاً قرب المشرعة وكفاً مبتورا

اللوحة الثانية

اللوحة الثانية
*رأس ورمح*
في أعلى اللوحة.. وسط مساحة سوداء كقطعة ليلٍ دامس، اكمل الرسام بإعجاز لمسات الريشة رسم تفاصيل الرأس التريب، المخضب بالدم.. بالشفاه الذابلة، مراعياً ومتبعاً مسارب الضوء والظل، وحُسن تدريج الالوان، وبراعة المزج بينها.. مأخوذا بسحر التجسيد تراجع للخلف قليلاً
كي يلقي نظرة.. فبدا الرأس له في لحظة يتوهج كوجه البدر في فضاءٍ داج وينتشر قبس نوره الباهر بأرجاء المكان، فتراءت له الشفتين، تبسمل!
اندهش الرسام.. فسقطت من بين أنامله الريشة، وانقلبت الوانه، وانسكب الماء
فجثى على ركبتيه وبكى.. وأجهش في البكاء، حتى تثاقل رأسه وهوى نحو الارض،
حينما خطرت له ضرورة إتمام نقص اللوحة برسم الرمح، فعفّر وجهه بالتراب
وبيأس همس في ذات:
_ أيّ رمح سيقوى على رفع ثقل الامام في هذا الرأس المذبوح؟

اللوحة الثالثة

اللوحة الثالثة
*صهيل النخوة*
بضربات ريشة غاية في الدقة والاتقان، جسد الرسام صعوبة حركة جواد واقف عمودياً على رجليه، وقوائمه الامامية مرفوعة نحو الاعلى، فوق مستوى رؤوس الصف الأقرب من الفرسان، بعد سقوط سيده مضرجاً بالدم، وقد بان الذعر في حركتهم وتبعثرهم بانكماش الحيوانات وتقهقرها، والجواد يحاول التخلص من طوق حصار الخيل والرجال المحتشدة لأسره فأودى
بحياة عدد منهم، وفكاه منفرجان كأنه يصرخ فيهم غضبا عبر صهيله الذي يقطع نياط القلب ويصكّ آذان الكون: الظليمة.. الظليمة!!
همس الرسام بحسرة:
ثارت في الحيوان النخوة.. ايمكن أن تموت بهذا الشكل في الانسان؟
فرشق وجه اللوحة، بمزيجٍ متناقضٍ من الالوان بغية إسكات غرور تعجرفها بالامساك بسرّ اللحظة.. وتزييف الازمان

اللوحة الرابعة

اللوحة الرابعة
*قربان الدم*
صوّر تقاطيع الكف الطاهرة تحت نحر رضيعها النازف، المذبوح غدراً.. فتراءت للرسام يدا الرضيع؛ ترتجفان بعد إنفلاتهما من أسر القماط الملفوف حولهما؛ بفعل اختراق السهم، ولمح الشفتين القرمزيتين تختلجان عطشا
إختلاجتهما الاخيرة.. كفّاه سمكة تنازلت عن حقها في الماء من أجل شهقة هواء
بينما القطرات تنزل.. فتتصل كخيط دلق وقبل ان تقذف تلك الكف برشقة الدم المتجمع فيها.. الطافح من راحتها نحو الاعلى.. أمطرت السماء.. فاصطبغت اللوحة بالدم ّ

اللوحة الخامسة

اللوحة الخامسة
*العار والنار*
بحركات بارعة من ريشته الفنانة وهي تضرب وجه اللوحة، رسم أوغاداً يحملون مشاعل وعدة خيام تلتهب النيران فيها بسرعة من كل جانب.. وتكاد تلتهمها بخفقاتها المتطاولة مع هبوب
الريح، بعد ان قضوا قتلا حماة الديار مجندلين ومجزرين كأفضل ما يلقى المرء من ميتة بالشرف الرفيع دفاعا عن دينه وداخل حلقتها المضاءة بإوار اللهب الصاعد صوّر اطفالا مذعورين ونسوة مبجلات يخرجن منها عنوة.. اذ لم يبق للتأجيل سبيل وقد نشبت باطراف ارديتهن ألسنتها المستعرة.. بهت الرسام لحظات مشدوها وهو يتلقى براحتيه قطرات الدمع.. الدم ويحجب وجهه عن جبن الفعلة وخستها فأغرى النار لان تأتي على كل التفاصيل الاخرى حتى على الريشة الالوان.. وأوراق الرسم، جمع الرسام الرماد المتبقي في كفيه بغضب.. وسوّد به وجه اللوحة

اللوحة السادسة

اللوحة السادسة
*تلبية العصور*
بعمق اللوحة من بين خيام معسكره، رسم جوادا يمرّ رشيقا كالرمح.. والفارس عليه يصول ويجول في الميدان وحيدا، من دون جدوى يطلب معينا ينصره، تحيط به كثبان الفرسان والخيل تتناسل كالدخان.. لا احد من اهل بيته او أصحابه يملك رمقا فيذود به في حماية عرينه ويسند ظهره حينما يزمجر فيهم كريح صرصر أنّى صال يكشف غبرتهم ويُخلّف هشيما وحوافر جواده تركس بالاجساد الرخوة متعثرة تبحث عن ارض اكثر صلابة لتوثبها.. ليقطع دابرهم في الاصلاب.. يشفي غيض الارض من وطأتهم.. وعندما فرغ الرسام من تصوير المشهد، توقف لبرهة مذهولا من سطوة استحواذ الشيطان عليهم وقد اختنق بعبرته، وصدى تلك النداءات تتعالى في ذاكرته... أما من معين يعيننا.. أما من ناصر؛ ينصرنا؟ أمامن...............!
ومزق اللوحة.. فسمع في ذاته حشود التاريخ المتكاثرة أبداً.. لها صخب يجتاز الافاق كالسيل الجارف وهي تهتف: لبيك.. لبيك.. لبيك

اللوحة السابعة والاخيرة

اللوحة السابعة والاخيرة
*عرس الشهادة*
تفنّنت ريشة الرسام وتجلت في تصوير خدٍ كفلقة قمر موضوع على خد اسود، لعبد نصراني يحتضر على وجه اللوحة، لكن الابتسامة لم تفارق شفتيه المبيضة عطشاً، والفرحة في عينيه كأنه يزف تواً لحبيبته، تحفّ به أسراب الملائكة وحور العين، ولأقدام الخيل خلفهما_ بعمق اللوحة_ تتصاعد غبرة تملأ فضاء الميدان.. حتى يكاد المرء لايتبين مواضع أقدامه بين القتلى والاشلاء وبرك الدم، همس الرسام في ذاته بعد أن انهى تصوير المشهد بسحر ريشته
هو ذا الخد ذاته الذي سيضعه على خد ولده الاكبر؛ شبيه محمد ليتعلم الناس الدرس فيدركوا معنى الانسانية ولكن........!!
فمزّق الرسام اللوحة ايضا وهو يبكي وقذف بالريشة والألوان بعيداً.. كي لا يوغل بتعسفه اكثر
فيقحم لامحدودا بالمحدود، ومضى يطلب فضاءاتٍ أرحب لا تكبلها قيود التجسيد.
بقلم: طالب عباس

الروابط
الأشخاص: الأستاذ طالب عباس [المترجم]
مواقع الإنترنيت: العتبة الحسينية المقدسة
المواضيع: الأدب واللغة
الواحات: الواحة الحسينية
أقسام الموقع: الأدب

الفهرسة