أم المؤمنين خديجة (عليها السلام)
المسار الصفحة الرئيسة » المقالات » أم المؤمنين خديجة (عليها السلام)

 البحث  الرقم: 77  التاريخ: 21 شوال المكرم 1429 هـ  المشاهدات: 9035
قائمة المحتويات

المقدمة

(يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) [الأحزاب: 28ـ29].
كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب (رضوان الله عليها) من المحسنات اللواتي ظهرت نجابتهن منذ عهد بعيد، فهي شريفة قريش، وقد لقبت في الجاهلية بـ (الطاهرة)، وعرفت بالسيرة الكريمة، فكان أن اختارتها العناية الربانية لتكون زوجة بارّة مخلصة لخاتم الأنبياء والمرسلين محمّد (صلى الله عليه وآله الطاهرين)، وأُمّاً لسيدة نساء العالمين فاطمة (صلوات الله عليها وعلى أبنائها الطيبين)، وجدةً للائمة من أولاد الزهراء (سلام الله عليهم أجمعين)، وحانيةً على سيد الأوصياء علي (عليه السلام) منذ طفولته حينما ضمّه الرسولُ الأعظم (صلى الله عليه وآله) إليه بعد أن ضاق ما في يد أبي طالب (رضوان الله تعالى عليه)، فخدَمَته خديجةُ صغيراً يافعاً وصبياً ناشئا، فعاشا في بيت الطهر والرسالة، وقد كرّم الله وجهه وكان أول الناس إسلاما.
فجزاها الله عنه وعن المصطفى وعن بضعته الزهراء أفضل الجزاء وأحسنه.

ظهير الرسالة والرسول

بُعث النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالرسالة الخاتمة، فحباه الله (عزّ وجل) بمخلصَين مصدّقَين، هما علي ابن عمه وخديجة زوجته، وهي أول من آمنت به وصدقته من النساء، وكانت من قبل ذلك تصدقه ولما يُبعث بعد، لما ألقى اللهُ تعالى في قلبها من نور الإيمان وصفاء الروح والاستعداد لتقبّل الحق. وقد شهد جملة من المؤرخين بأنها امتازت بتنظيمها للنبي (صلى الله عليه وآله) وتصديق حديثه قبل البعثة الشريفة وبعدها، وإنها كانت مسلمة من اليوم الأول والساعات الأولى من التبليغ.
عن عفيفٍ قال: جئتُ في الجاهلية إلى مكة وأنا أريد أن أبتاع لأهلي من ثيابها وعطرها، فأتيت العباس بن عبد المطلب ـ وكان رجلاً تاجرا ـ، وأنا عنده جالس أنظر إلى الكعبة وقد حلقت الشمس في السماء فارتفعت، إذ جاء شابّ فرمى ببصره إلى السماء ثم قام مستقبل القبلة، ثم لم يلبث إلا يسيراً حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، فسجد الشاب فسجد الغلام والمرأة، فقلتُ: يا عباس، أمرٌ عظيم! قال العباس: أمرٌ عظيم، أتدري من هذا الشابّ؟ قلت: لا، قال: هذا محمد بن عبد الله ابن أخي، أتدري من هذا الغلام؟ هذا علي ابن أخي، أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد زوجته، إن ابن أخي هذا اخبرني أن ربه رب السماء والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، ولا والله ما على الأرض كلها احد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة [خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) للشريف الرضي: 45].
وفي خطبته المسماة بـ (القاصعة) قال الإمام علي (عليه السلام): ولقد كنتُ اتّبعه ـ أي: النبي (صلى الله عليه وآله) ـ إتباع الفصيل اثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، واشم ريح النبوة [نهج البلاغة: الخطبة 192].
ولم تكتف خديجة (عليها السلام) بأن تؤمن بالإسلام ديناً، بل وقفت إلى جانب النبي (صلى الله عليه وآله) تدعم الدين الحق بأموالها الطائلة، وذلك هو التصديق الواقعي. قال الزهري: بلغنا أن خديجة أنفقت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أربعين ألفاً وأربعين ألفا [تذكرة خواص الأمة لسبط ابن الجوزي: 314].
بل كانت (رضوان الله عليها) قد بعثت بعد زواجها من يعلن للملا إنها وهبت لمحمد (صلى الله عليه وآله) نفسها ومالها وعبيدها وجميع ما تملكه يمينها، إجلالاً له وإعظاما لشرفه ورغبة فيه، فنودي بذلك بين زمزم والمقام ـ مقام إبراهيم (عليه السلام) ـ، واُشهد معاشر العرب على ذلك، وهذا مؤشر على أنها كانت ترى في المصطفى (صلوات الله عليه وعلى آله) رجلاً من أولياء الله لما روى لها خادمها عما رآه من كرامات خلال تجارته، وذلك توفيق نالته خديجة قبل غيرها، بل وتفردت به من بين قريناتها في زمانها.
عاشت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيام المحنة وسنوات القحط ومرحلة الضيق، وشاركته سنيّ الدعوة الأولى بآلامها وأتراحها، لا تفارقه ولا تغيب عنه، بل تلازمه وتؤازره في كل شدة، ولا تضعف عن مناصرته، ففي حصار الشِعب ـ شِعب أبي طالب (عليه السلام) ـ كانت خديجة تشتري الطعام والضروري من الحاجات بأضعاف أثمانها لتقدم ذلك للمسلمين الجياع، حتى مرت سنوات الحصار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي فرضته قريش على النبي (صلى الله عليه وآله) وأنصاره المؤمنين بسلام.
وكانت خديجة (رضوان الله عليها) صابرة محتسبة، نالها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قريش نصيب كبير من الأذى، حيث هجرتها نسوة مكة وقاطعنها، فلم يدخلن عليها ولم يسلّمن، بل ومنعن أن تدخل عليها امرأة، وهذا ليس بقليل على امرأة كانت في يوم ما سيدة عشيرتها وثريتها، وكانت النسوة يتشرفن بزيارتها ويأنسن بلقائها، لكنها التضحية المخلصة الصادقة في سبيل الله (جلّ وعلا)، ومن اجل اعلاء رسالة الاسلام، فصبرت وصابرت وكابدت المحن والمصائب وعانت المصاعب، وليس ذلك فحسب، بل راحت تطرد الهموم عن قلب النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) وعن خاطره الشريف، وتنصره وتؤازره، حتى كتبها الله تعالى من المفلحات الفائزات.
قال الرسولُ الأعظم (صلى الله عليه وآله): أتاني جبرائيل، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتتك ومعها إناء فيه أدام وطعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشّرها ببيت في الجنة من قصب [الزبرجد الرطب المرصع بالياقوت]، لا صخب فيه ولا نصب [أسد الغابة لابن الأثير: 5/438].
وقال (صلى الله عليه وآله): خيرُ نساء العالمين مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) [نفسه: 5/437].
وفي رواية أخرى: كمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد (صلى الله عليه وآله) [الفصول المهمة لابن صباغ المالكي: 129].

قيل فيها

وممن ذكر خديجة (عليها السلام) بخير أمُّ سلمة أم المؤمنين (رضوان الله عليها)، حيث قالت للمصطفى (صلى الله عليه وآله): إنك لا تذكر من خديجة أمراً إلا وقد كانت كذلك، غير إنها مضت إلى ربها، فهنّأها الله بذلك، وجمع بيننا وبينها في جنته [أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: 15/79].
وقال ابن اسحاق: كانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام [أسد الغابة 5/439]، وكانت امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله بها من كرامته [سيرة ابن هشام: 1/200].
وقال محمد بن احمد الذهبي: أم المؤمنين، وسيدة نساء العالمين في زمانها، مناقبها جمّة، وهي ممّن كمل من النساء، وكانت عاقلة جليلة ديّنة مصونة كريمة، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يثني عليها ويبالغ في تعظيمها، بحيث أن هايشة كانت تقول: ما غرتُ من امرأة كما غرتُ من خديجة، ومن كرامتها عليه (صلى الله عليه وآله) أنه لم يتزوج امرأة قبلها، وجاء منها عدة أولاد، ولم يتزوج عليها امرأة قط، إلى أن قضت نحبها، فوجدَ لفقدها، فإنها كانت نعم القربى [سير أعلام النبلاء: 2/81].
وقال الحافظ عبد العزيز الجنابذي الحنبلي: كانت خديجة (رضي الله عنها) امرأة حازمة شريفة، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكل قومها قد كان حريصاً على تزويجها فأبت، وعرضت نفسها على النبي (صلى الله عليه وآله)، وقالت: يا ابن عم، إني رغبت فيك لقرابتك مني، وشرفك في قومك، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك [الفصول المهمة: 133].
وقال السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي: صدّيقة هذه الأمة وأولها إيمانا وتصديقا بكتابه، ومواساة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من النساء، انفردت به خمساً وعشرين سنة لم تشاركها فيه امرأة ثانية، ولو بقيت ما شاركتها فيه أخرى، وكانت شريكته في محنته طيلة أيامها معه [عقيلة الوحي: 20].
وقال الكاتب المسيحي الأستاذ سليمان كتاني: أعطت خديجةُ زوجَها حباً وهي لا ترى إنها تعطي بل تأخذ منه حبا في كل السعادة، وأعطته ثروة وهي لا ترى إنها تعطي بل تأخذ منه هداية تفوق كنوز الأرض، وهو (صلى الله عليه وآله) بدوره أعطاها حباً وتقديراً رفعاها إلى أعلى مرتبة، ويقول: ما قام الإسلام إلا بسيف علي وثروة خديجة [فاطمة الزهراء، وتر في غمد: 112].
وقالت الدكتورة بنت الشاطئ: خديجة.. أُولى أمّهات المؤمنين، واقرب زوجات النبي وأعزهن عليه حية وميتة، وقفت إلى جانبه في سنيّ الاضطهاد الأولى، تؤازره وترعاه وتهوّن عليه ما كان يلقى من قريش في سبيل رسالته [بطلة كربلاء: 13].
ويكفينا في ذلك كله ما روته لنا عائشة [أسد الغابة: 5/539؛ الاستيعاب: 2/721]، حيث قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيُحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزا، فقد أبدلك الله خيرا منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله، ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء، وكلّمته أزواجه في زواج فاطمة (عليها السلام)، قالت أم سلمة: فلما ذكرنا خديجة بكى وقال: خديجة، وأين مثل خديجة، واخذ في الثناء عليها.

وأخيرا

لقد أحسنت خديجة (عليها السلام) عشرتها مع المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وخدمته في منزله وأسرته، وأدت وظائف الزوجية والأمومة معا، كما أدت وظائفها تجاه الدين، ونهضت بمهمة تأييد الرسالة والرسول، فعُرفت بالتصديق والتسليم، بل بالسبق في ذلك، وعُرفت بالدعوة والتأييد والتضحية والبذل، لا تنافسها امرأة في ذلك، واتصفت بالفضائل والمكارم ما شهد لها الإخلاص والوفاء والعفة والهيبة والسخاء والصفاء، فهنيئاً لها وقد شرّفها الله بسلامه عليها، وهنيئا لها اقترانها بأشرف الأنبياء والمرسلين، وهنيئاً لها ذاك الجهاد الصعب في مرحلة هي من أهم مراحل الدعوة الإسلامية المباركة، فجمعت الشرف من أطرافه، ومضت على عاقبة حسنة تغدو معها راضية مرضية في مقعد صدق عند مليك مقتدر، بعد أن بقيت في تاريخ الإنسانية مثال المرأة المؤمنة المخلصة الصالحة المجاهدة.

الروابط
المقالات: مآثر الشرف.. في حياة خديجة (عليها السلام)
الأشخاص: الأستاذ جعفر البياتي [المترجم]
مواقع الإنترنيت: شبكة جنة الحسين (عليه السلام)
مفاتيح البحث: السيدة خديجة (رضوان الله تعالى عليها)
المواضيع: تاريخ الإسلام

الفهرسة