الخطبة ٢٨: وهو فصل من الخطبة التي أولها: «الحمد لله غير مقنوط من رحمته»
المسار الصفحة الرئيسة » نهج البلاغة » الخطب » الخطبة ٢٨: وهو فصل من الخطبة التي أولها: «الحمد لله غير مقنوط من رحمته»

 البحث  الرقم: 29  المشاهدات: 5784
قائمة المحتويات ومن خطبة له عليه السلام وهو فصل من الخطبة التي أولها: الحمد لله غير مقنوط من رحمته وفيه أحد عشر تنبيهاً:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ، وَآذَنَتْ (1) بِوَدَاعٍ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَشْرَفَتْ بِاطِّلاَعٍ (2)، أَلاَ وَإِنَّ الْيَوْمَ المِضْمارَ لتخف في الجري يوم السباق.">(3)، وَغَداً السِّبَاقَ، وَالسَّبَقَةُ الْجَنَّةُ (4)، وَالْغَايَةُ النَّارُ؛ أَفَلاَ تَائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنِيَّتِهِ الموت
والاجل.">(5)!
أَلا عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِهِ (6)!
أَلا وَإِنَّكُمْ في أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ، فَمَنْ عَمِلَ في أَيَّامِ أَمَلهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ، وَلَمْ يَضْرُرْهُ أَجَلُهُ؛ وَمَنْ قَصَّرَ في أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ، فَقَدْ خَسِرَ عَمَلَهُ، وَضَرَّهُ أَجَلُهُ، أَلاَ فَاعْمَلُوا فِي الرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ فِي الرَّهْبَةِ خاف.">(7)، أَلاَ وَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلاَ كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، أَلاَ وَإنَّهُ مَنْ لاَيَنْفَعُهُ الْحَقُّ يَضُرُّهُ البَاطِلُ، وَمَنْ لايَسْتَقِيمُ بِهِ الْهُدَى يَجُرُّ بِهِ الضَّلاَلُ إِلَى الرَّدَىْ، أَلاَ وَإِنَّكُمْ قَد أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ (8)، وَدُلِلْتُمْ عَلى الزَّادَ.
وَإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخافُ عَلَيْكُمُ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الْأَمَلِ، تَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ الهلاك الابدي.">(9) غَداً.
قال السيد الشريف ـرضي الله عنه ـ وأقول: إنّهُ لو كان كلامٌ يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا، ويضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام، وكفى به قاطعاً لعلائق الآمال، وقادحاً زناد الاتعاظ والازدجار.
ومِن أعجبه قوله عليه السلام: ألا وَإنّ اليَوْمَ المِضْمارَ وَغَداً السِّبَاقَ، وَالسّبَقَةُ الجَنّة وَالغَايَة النّار فإن فيه ـ مع فخامة اللفظ، وعظم قدر المعنى، وصادق التمثيل، وواقع التشبيه ـ سرّاً عجيباً، ومعنى لطيفاً، وهو قوله عليه السلام: والسَبَقَة الجَنّة، وَالغَايَة النّار، فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين، ولم يقل: «السّبَقَة النّار» كما قال: السّبَقَة الجَنّة، لان الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوبٍ، وغرض مطلوبٍ، وهذه صفة الجنة، وليس هذا المعنى موجوداً في النار، نعوذ بالله منها!
فلم يجز أن يقول: «والسّبَقَة النّار»، بل قال: والغَايَة النّار، لان الغاية قد ينتهي إليها من لا يسره الانتهاء إليها ومن يسره ذلك، فصَلح أن يعبر بها عن الأمرين معاً، فهي في هذا الموضع كالمصير والمآل، قال الله تعالى: ﴿قُلْ تَمتَّعُوا فَإنَّ مَصِيرَكُم إلى النّارِ﴾، ولا يجوز في هذا الموضع أن يقال: سبْقتكم ـ بسكون الباء ـ إلى النار، فتأمل ذلك، فباطنه عجيب، وغوره بعيد لطيف. وكذلك أكثر كلامه عليه السلام.
وفي بعض النسخ: وقد جاء في رواية أخرى: «والسُّبْقة الجنة» ـ بضم السين ـ والسبّقة عندهم اسم لما يجعل للسابق إذا سبق من مال أوعَرَض، والمعنيان متقاربان، لأن ذلك لا يكون جزاءً على فعل الأمر المذموم، وإنما يكون جزاءً على فعل الامر المحمود.

الهوامش

1- آذَنَتْ: أعْلَمَتْ.
2- أشَرَفَتْ باطّلاع: أقبلت علينا بغتةً.
3- المِضْمار: الموضع والزمن الذي تضمّر فيه الخيل، وتضمير الخيل أن تربط ويكثر علفها وماؤها حتى تسمن، ثم يُقلل علفها وماؤها وتجري في الميدان حتى تهزل، ثم تُرَدّ إلى القوت، والمدة أربعون يوماً، وقد يطلق التضمير على العمل الاول أو الثاني، وإطلاقه على الاول لانه مقدمة للثاني وإلاّ فحقيقة التضمير: إحداث الضمور وهو الهزال وخفة اللحم، وإنما يفعل ذلك بالخيل لتخف في الجري يوم السباق.
4- السَّبَقَة ـ بالتحريك ـ: الغاية التي يجب على السابق أن يصل إليها.
5- المنيّة: الموت والاجل.
6- البُؤس ـ بالضم ـ: اشتداد الحاجة، وسوء الحالة.
7- الرهبة ـ بالفتح ـ: هي مصدر رَهِبَ الرجل ـ من باب عَلمَ ـ رهباً بالفتح وبالتحريك وبالضم، ومعناه خاف.
8- الظعن ـ بالسكون والتحريك ـ: الرحيل عن الدنيا وفعْله كَقَطَعَ.
9- تحرزون انفسكم: تحفظونها من الهلاك الابدي.



الفهرسة