الخطبة ٣: المعروفة بالشِّقْشِقِيَّة
المسار الصفحة الرئيسة » نهج البلاغة » الخطب » الخطبة ٣: المعروفة بالشِّقْشِقِيَّة

 البحث  الرقم: 4  المشاهدات: 29652
قائمة المحتويات ومن خطبة له عليه السلام وَ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِالشِّقْشِقِيَّة
وتشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له
أَمَا وَالله لَقَدْ تَقَمَّصَها لبسها كالقميص.">(1) فُلانٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّيَ مِنهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَا، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ (2) دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً (3).
وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ (4)، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ ظلمة
.">(5)، يَهْرَمُ فيهَا الكَبيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ!

ترجيح الصبر

فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى (6)، فَصَبَرتُ وَفي الْعَيْنِ قَذًى، وَفي الحَلْقِ شَجاً الحلق من عظم ونحوه.">(7)، أَرَى تُرَاثي التراث: الميراث.">(8) نَهْباً، حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ، فَأَدْلَى بِهَا (9) إِلَى فُلانٍ بَعْدَهُ. ثم تمثل بقول الاعشى:
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا (10)
وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

فَيَا عَجَباً!! بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُها إعفاءه
منها.">(11) فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لَآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ـ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا (12)! ـ فَصَيَّرَهَا في حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ، يَغْلُظُ كَلْمُهَا (13)، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا، وَيَكْثُرُ العِثَارُ (14) فِيهَا وَالْاِعْتَذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ الصّعْبة من الابل: ما ليستْ بِذَلُول.">(15)، إِنْ أَشْنَقَ (16) لَهَا خَرَمَ (17)، وَإِنْ أَسْلَسَ أسْلَسَ: أرخى.">(18) لَهَا تَقَحَّمَ الهلكة.">(19)، فَمُنِيَ النَّاسُ ابتُلُوا وأُصيبوا.">(20) ـ لَعَمْرُ اللهِ ـ بِخَبْطٍ (21) وَشِمَاسٍ (22)، وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِرَاضٍ (23) فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ، وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ، حَتَّى إِذا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ، فَيَا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى ليختاروا أحدهم للخلافة.">(24)!
مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ (25)!
لكِنِّي أَسْفَفْتُ الطائر: دنا من الارض.">(26) إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا صَغَى صَغْياً وَصَغَا صَغْواً: مالَ.">(27) رَجُلُ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ (28)، وَمَالَ الْآخَرُ لِصِهْرهِ، مَعَ هَنٍ وَهَنٍ (29).
إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ، نَافِجَاً حِضْنَيْهِ (30) بَيْنَ نَثِيلِهِ (31) وَمُعْتَلَفِهِ (32)، وَقَامَ مَعَهُ بَنُوأَبِيهِ يَخْضَمُونَ أكل الشيء الرّطْب.">(33) مَالَ اللهِ خَضْمَ الْإِبِل نِبْتَةَ الرَّبِيعِ (34)، إِلَى أَنِ انْتَكَثَ (35) عَلَيْهِ فَتْلُهُ، وَأَجْهَزَ قتله.">(36) عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَكَبَتْ (37) بِهِ بِطْنَتُهُ (38).

مبايعة علي

فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ وَالنَّاسُ كَعُرْفِ الضَّبُعِ يُضرب به المثل في الكثرة والازدحام.">(39) إِلَيَّ، يَنْثَالُونَ (40) عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى لَقَدْ وُطِىءَ الْحَسَنَانِ، وَشُقَّ عِطْفَايَ (41)، مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الغَنَمِ (42).
فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ (43)، وَمَرَقَتْ أُخْرَى الخوارج أصحاب النّهْرَوَان.">(44)، وَقَسَطَ آخَرُونَ (45)
كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: (*تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُريدُونَ عُلُوّاً في الْأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ*)، بَلَى! وَاللهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا، وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتَ الدُّنْيَا (46) في أَعْيُنِهمْ، وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا (47)! أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ (48)، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ لِبَيْعَتِهِ، فحضوره يُلْزمه بالبيعة.">(49)، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ (50)، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا (51) عَلَى كِظَّةِ الاكل من الثّقَلِ والكَرْب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق.">(52) ظَالِمٍ، وَلا سَغَبِ (53) مَظْلُومٍ، لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا (54)، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها، وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ (55)!
قالوا: وقام إِليه رجل من أَهل السواد العراق، وسُمّيَ سواداً لخضرته بالزرع والاشجار، والعرب تسمي الاخضر أسود.">(56) عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته، فناوله كتاباً [قيل: إِن فيه مسائل كان يريد الإِجابة عنها]، فأَقبل ينظر فيه، [فلمّا فرغ من قراءته]
قال له ابن عباس: يا أميرالمؤمنين، لو اطَّرَدَتْ خُطْبَتكَ (57) من حيث أَفضيتَ (58)! فَقَالَ: هَيْهَاتَ يَابْنَ عَبَّاسٍ! تِلْكَ شِقْشِقَةٌ (59) هَدَرَتْ (60) ثُمَّ قَرَّتْ (61)!
قال ابن عباس: فوالله ما أَسفت على كلام قطّ كأَسفي على هذه الكلام أَلاَّ يكون أَمير المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد.
قال الشريف الرضي رضي اللّه عنه: قوله عليه السلام في هذه الخطبة: «كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم» يريد: أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها، وإن أرخى لها شيئاً مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها، يقال: أشنق الناقة: إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه، وشنقها أيضاً: ذكر ذلك ابن السكيت في «إصلاح المنطق». وإنما قال: «أشنق لها» ولم يقل: «أشنقها»، لانه جعله في مقابلة قوله: «أسلس لها»، فكأنه عليه السلام قال: إن رفع لها رأسها بمعني أمسكه عليها بالزمام.

الهوامش

1- تَقَمّصَها: لبسها كالقميص.
2- سَدَلَ الثوبَ: أرخاه.
3- طَوَى عنها كشحاً: مالَ عنها.
4- الجَذّاءُ ـ بالجيم والذال المعجمة ـ: المقطوعة.
5- طَخْيَة ـ بطاء فخاء بعدها ياء، ويثلّثُ أوّلها ـ: ظلمة.
6- أحجى: ألزم، من حَجِيَ بهِ كرَضيَ: أُولِعَ به ولَزِمَهُ.
7- الشّجَا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه.
8- التراث: الميراث.
9- أدْلَى بها: ألقى بها.
10- الكُور ـ بالضم ـ: الرّحْل أوهو مع أداته.
11- يَسْتَقِيلها: يطلب إعفاءه منها.
12- تشطرا ضرعيها: اقتسماه فأخذ كلّ منهما شطراً، والضرع للناقة كالثدي للمرأة.
13- كَلْمُها: جرحها، كأنه يقول: خشونتها تجرح جرحاً غليظاً.
14- العِثار: السقوط والكَبْوَةُ.
15- الصّعْبة من الابل: ما ليستْ بِذَلُول.
16- أشْنَقَ البعير وشنقه: كفه بزمامه حتى ألصق ذِفْرَاه (العظم الناتىء خلف الاذن) بقادمة الرحل.
17- خَرَمَ: قطع.
18- أسْلَسَ: أرخى.
19- تَقَحّمَ: رمى بنفسه في القحمة أي الهلكة.
20- مُنيَ الناسُ: ابتُلُوا وأُصيبوا.
21- خَبْط: سير على غير هدى.
22- الشِّماس ـ بالكسر ـ: إباء ظَهْرِ الفرسِ عن الركوب.
23- الاعتراض: السير على غير خط مستقيم، كأنه يسير عَرْضاً في حال سيره طولاً.
24- أصل الشّورى: الاستشارة، وفي ذكرها هنا إشارة إلى الستة الذين عيّنَهم عمر ليختاروا أحدهم للخلافة.
25- النّظَائر: جمع نَظِير أي المُشابِه بعضهم بعضاً دونه.
26- أسَفّ الطائر: دنا من الارض.
27- صَغَى صَغْياً وَصَغَا صَغْواً: مالَ.
28- الضِّغْنُ: الضّغِينَة والحقد.
29- مع هَنٍ وَهَنٍ: أي أغراض أخرى أكره ذكرها.
30- نافجاً حضْنَيْه: رافعاً لهما، والحِضْن: ما بين الابط والكَشْح، يقال للمتكبر: جاء نافجاً حِضْنَيْه.
31- النّثِيلُ: الرّوْثُ وقذَر الدوابّ.
32- الـمُعْتَلَفُ: موضع العلف.
33- الخَضم: أكل الشيء الرّطْب.
34- النِّبْتَة ـ بكسر النون ـ: كالنبات في معناه.
35- انْتَكَثَ عليه فَتْلُهُ: انتقض.
36- أجهزَ عليه عملُه: تَمّمَ قتله.
37- كَبَتْ به: من كبابِه الجوادُ: إذا سقط لوجهه.
38- البِطْنَةُ ـ بالكسر ـ: البَطَرُ والاشَرُ والتّخْمة.
39- عُرْفُ الضّبُع: ماكثر على عنقها من الشعر، وهو ثخين يُضرب به المثل في الكثرة والازدحام.
40- يَنْثَالون: يتتابعون مزدحمين.
41- شُقّ عطفاه: خُدِشَ جانباه من الاصطكاك.
42- رَبيضَةُ الغنم: الطائفة الرابضة من الغنم.
43- نَكَثَتْ طَائفة: نَقَضَتْ عهدَها، وأراد بتلك الطائفة الناكثة أصحابَ الجمل وطلحةَ والزبيرَ خاصة.
44- مَرَقَتْ: خَرَجَتْ، وفي المعنى الديني: فَسَقَتْ، وأراد بتلك الطائفة المارقة الخوارج أصحاب النّهْرَوَان.
45- قَسَطَ آخرون: جاروا، وأراد بالجائرين أصحاب صفين.
46- حَلِيَتِ الدنيا: من حَليتِ المرأهُ إذا تزيّنَت بِحُلِيّها.
47- الزِبْرِجُ: الزينة من وَشْي أوجوهر.
48- النَسَمَة ـ محركة ـ: الروح وهي في البشر أرجح، وبَرَأها: خلقها.
49- أراد «بالحاضر» هنا: من حضر لِبَيْعَتِهِ، فحضوره يُلْزمه بالبيعة.
50- أراد «بالناصر» هنا: الجيش الذي يستعين به على إلزام الخارجين بالدخول في البيعة الصحيحة.
51- ألاّ يُقَارّوا: ألاّ يوافقوا مُقرّين.
52- الكِظّةُ: ما يعتري الاكل من الثّقَلِ والكَرْب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق.
53- السَغَب: شدة الجوع، والمراد منه هضم حقوقه.
54- الغارب: الكاهلُ، والكلام تمثيلٌ للترك وإرسال الامر.
55- عَفْطَة العَنْز: ما تنثره من أنفها. وأكثر ما يستعمل ذلك في النعجة وإن كان الاشهر في الاستعمال «النّفْطَة» بالنون.
56- السّوَاد: العراق، وسُمّيَ سواداً لخضرته بالزرع والاشجار، والعرب تسمي الاخضر أسود.
57- اطّرَدَتْ خطبتك: أُتْبِعَتْ بخطبة أُخرى، من اطّراد النهر إذا تتابع جَرْيُهُ.
58- أفْضَيْتَ: أصل أفضى: خرج إلى الفضاء، والمراد هنا سكوت الامام عما كان يريد قوله.
59- الشّقْشِقَةُ ـ بكسر فسكون فكسر ـ: شيء كالرّئَهِ يخرجه البعير من فيه إذا هاج.
60- هَدَرَتْ: أَطْلَقَتْ صوتاً كصوت البعير عند إخراج الشِقْشِقَةِ من فيه، ونسبة الهدير إليها نسبة إلى الالة.
61- قَرّتْ: سكنت وَهَدَأتْ.


الروابط
المقالات: المقال التجريبي الثالث *

الفهرسة