Table Of Content
ومن خطبة له عليه السلام في ذم الدنيا
أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرِةٌ، حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، وَتَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ، وَرَاقَتْ بِالْقَلِيلِ، وَتَحَلَّتْ بِالْآمَالِ، وَتَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ، لاَ تَدُومُ حَبْرَتُهَا (1)، وَلاَ تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا، غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ، حَائِلَةٌ (2) زَائِلَةٌ، نَافِدَةٌ (3) بَائِدَةٌ (4)، أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ (5)، لاَ تَعْدُوـ إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَالرِّضَاءِ بِهَا ـ أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى سُبْحَانَهُ: ﴿كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّماَءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً (6) تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً﴾.
لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَة إِلاَّ أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةً (7)، وَلَمْ يَلْقَ منْ سَرَّائِهَا بَطْناً (8) إِلاَّ مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً (9)، وَلَمْ تَطُلَّهُ (10) فِيهَا دِيمَةُ (11) رَخَاءٍ السّعة.">(12) إِلاَّ هَتَنَتْ (13) عَلَيهِ مُزْنَةُ بَلاَءٍ!
وَحَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً، وَإِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ وَاحْلَوْلَى، أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى (14)!
لاَ يَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا والسّعة.">(15) رَغَباً
(16)، إِلاَّ أَرْهَقَتْهُ
(17) مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً!
وَلاَ يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْنٍ، إِلاَّ أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ
الطائر، وهي القوادم، والعَشْر التي تحتها هي الخَوَافي.">(18) خَوْفٍ! غَرَّارَةٌ، غُرُورٌ مَا فِيهَا، فَانِيَةٌ، فَانٍ مَنْ عَلَيْهَا، لاَ خَيْرَ في
شَيْءٍ مِنْ أَزْوَادِهَا إِلاَّ التَّقْوَى. مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ! وَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ
يُهْلكه.">(19)، وَزَالَ عَمَّا قَلِيلٍ عَنْهُ.
كُمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ، وَذِي طُمَأْنِينَةٍ إِلَيْهَا قَدْ صَرَعَتْهُ، وَذِي أُبَّهَةٍ
(20) قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً، وَذِي نَخْوَةٍ
(21) قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلاً!
سُلْطَانُهَا دُوَّلٌ
(22)، وَعَيْشُهَا رَنِقٌ
(23)، وَعَذْبُهَا أُجَاجٌ
(24)، وَحُلْوُهَا
صَبِرٌ الصّبِر ـ كَكَتِف ـ: عُصارة شجر مُرّ.">(25)، وَغِذَاؤُهَا سِمَامٌ
فقتل صاحبه.">(26)، وَأَسْبَابُهَا رِمَامٌ
(27)! حَيُّهَا بِعَرَضِ مَوْتٍ، وَصَحِيحُهَا بَعَرَضِ سُقْمٍ!
مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ، وَعَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ، وَمَوْفُورُهَا
(28) مَنْكُوبٌ، وَجَارُهَا مَحْرُوبٌ
(29).
أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً، وَأَبْقَى آثَاراً، وَأَبْعَدَ آمَالاً، وَأَعَدَّ عَدِيداً، وَأَكْثَفَ جُنُوداً!
تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ، وَآثَرُوهَا أَيَّ إِيثَارٍ، ثُمَّ ظَعَفُوا عَنْهَا بَغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ وَلاَ ظَهْرٍ قَاطِعٍ
(30).
فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَةٍ
(31)؟ أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ؟ أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً! بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بَالْقَوَادِحِ
(32)، وَأوْهَنَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ
(33)، وَضَعْضَعَتْهُمْ
(34) بِالنَّوَائِبِ، وَعَفَّرَتْهُمْ
(35) لِلْمَنَاخِرَ،
وَوَطِئَتْهُمْ بَالْمَنَاسِمِ
(36)، وَأَعَانَتْ عَلَيْهِمْ (رَيْبَ الْمَنُونِ)، فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا
(37)، وَآثَرَهَا وَأَخْلَدَ إِلَيْهَا
(38)، حِينَ ظَعَنُوا عَنْهَا لَفِرَاقِ الْأَبَدِ.
هَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلاَّ السَّغَبَ
(39)، أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلاَّ الضَّنْكَ
(40)، أوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلاَّ الظُّلْمَةَ، أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلاَّ
النَّدَامَةَ، أَفَهذِهِ تُؤْثِرُونَ، أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ، أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ، فَبِئْسَتِ الدَّارُ لَمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا!
فَاعْلَمُوا ـ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ـ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَظَاعِنُونَ عَنْهَا، وَاتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ
﴿قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾: حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ فَلاَ يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً
(41)، وَأُنْزِلُوا الْأَجْدَاثَ
القبور.">(42) فَلاَ يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً، وَجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ
(43) أَجْنَانٌ
القبر.">(44)، وَمِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ، وَمِنَ الرُّفَاتِ
(45) جِيرَانٌ، فَهُمْ جِيرَةٌ لاَ يُجِيبُونَ دَاعِياً، وَلاَ
يَمْنَعُونَ ضَيْماً، وَلاَ يُبَالُونَ مَنْدَبَةً، إِنْ جِيدُوا
للمجهول ـ: مُطِرُوا.">(46) لَمْ يَفْرَحُوا، وَإِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَطُوا، جَمِيعٌ وَهُمْ آحَادٌ، وَجِيرَةٌ وَهُمْ أَبْعَادٌ، مُتَدَانُونَ لاَ يَتَزَاوَرُونَ، وَقَرِيبُونَ لاَ يَتَقَارَبُونَ، حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ، وَجُهَلاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ، لاَ يُخْشَى فَجْعُهُمْ
تَخافُ منهم أن يَفْجعوك بضرر.">(47)، وَلاَ يُرْجَى دَفْعُهُمْ، اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ
الْأَرْضِ بَطْناً،
وَبِالسَّعَةِ ضِيقاً، وَبِالْأَهْلِ غُرْبَةً، وَبِالنُّورِ ظُلْمَةً، فَجَاؤُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا، حُفَاةً عُرَاةً، قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ الْدَّائِمَةِ وَالدَّارِ الْبَاقِيَةِ، كَمَا قَالَ
اللهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى:
﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾.
Footnotes
1- الحَبْرَة ـ بالفتح ـ: السرور والنعمة.
6- الهَشِيم: النبت اليابس المكسّر.
7- العَبْرَة ـ بالفتح ـ: الدمعة قبل أن تفيض.
8- كنّى «بالبطن» عن الإقبال.
9- كنّى «بالظهر» عن الإدبار.
10- الطَلّ: المطر الخفيف. وطَلّتْهُ السماء: أمطرتْه مطراً قليلاً.
11- الدّيمة: مطر يدوم في سكون، لا رعد ولا برق معه.
13- هَتَنَتِ المُزْن: انصبّت.
14- أوْبى: صار كثير الوباء، والوباء هو المعروف بالريح الأصفر.
15- الغَضَارة: النعمة
والسّعة.
16- الرّغَب ـ بالتحريك ـ: الرغبة والمرغوب.
17- أرْهَقَتْهُ التعب: ألحقَتْهُ به.
18- القَوَادِم: جمع قادِمة، الواحدة من أربع أوعشر ريشات في مقدّم جناح
الطائر، وهي القوادم، والعَشْر التي تحتها هي الخَوَافي.
20- أُبّهَة ـ بضم فتشديد ـ: عظَمَة.
21- النَّخْوَة ـ بفتح النون ـ: الإفتخار.
22- دُوَّل ـ بضم الدال وفتح الواو المشددة ـ: المتحوِّل.
23- رَنِق ـ بفتح فكسر ـ: كَدِر.
24- أُجاج: شديد المُلوحة.
25-
الصّبِر ـ كَكَتِف ـ: عُصارة شجر مُرّ.
26- سِمام: جمع سم، مثلّث السين وهو من المواد ما إذا خالط المزاجَ أفسده
فقتل صاحبه.
27- رِمام: جمع رُمّة بالضم: وهي القطعة البالية من الحبل.
28- مَوْفُورها: ما كثر منها. مصاب بالنكبة، وهي المصيبة: أي في مَعْرِض لذلك.
29- مَحْرُوب: من «حَرَبَهُ حَرْباً» ـ بالتحريك ـ إذا سلب ماله.
30- ظهر قاطع: راحلة تُرْكَبُ لقطع الطريق.
32- أَرْهَقَتْهُمْ: غَشِيَتْهُمْ. القوادح: جمع قادح، وهو أكال ـ كزُكام ـ يقع في الشجر والأسنان.
33- القوارع: المِحَن والدواهي.
34- ضَعْضَعَتْهُمْ: ذَلَّلَتْهُمْ.
35- عَفّرَتْهم: كَبّتْهُمْ على مَنَاخِرَهِم في العَفَر، وهو التراب.
36- المَنَاسِم: جمع مِنْسَمْ، وهو مقدّم خُفّ البعير، أوالخُفّ نفسه.
38- أخلدَ لها: ركن إليها.
39- السّغَب ـ بالتحريك ـ: الجوع.
41- لا يُدْعَوْنَ رُكباناً: لا يقال لهم رُكْبان: جمع راكب، لأن الراكب من يكون مختاراً، وله التصرّف في مركوبه.
43- الصّفِيح: وَجْهُ كل شيء عريض، والمراد وجه الأرض.
44- الأجْنان: جمع جَنَن ـ بالتحريك ـ وهو
القبر.
45- الرُفات: العظام المندقّة المحطومة.
46- جِيدُوا ـ بالبناء
للمجهول ـ: مُطِرُوا.
47- «لا يُخْشى فَجْعُهم»: لا
تَخافُ منهم أن يَفْجعوك بضرر.