بسم الله الرحمن الرحيم والحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلين محمد وعلى آله الطاهرين و صحبه الميامين . وبعد ، فإن هذه الصحيفة السجادية مجموعة من الادعية المأثورة عن الامام زين العابدينعلي بن أبي طالب من أئمة أهل البيت الذين أَذهب الله عنهم الرجس وطهرهمتطهيراً . وهو الرابع من أئمة أهل البيت ، وجده الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله)وأول من أسلم به وكان منه بمنزلة هارون من موسى كما صح في الحديث عنه ، وجدته فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)وبضعته وفلذة كبده وسيدة نساء العالمين كما كان أبوها يصفها ، وأبوه الامام الحسين أحد سيدي شباب أهل الجنة سبط الرسول وريحانته و من قال فيه جده «حسين مني وأنا من حسين» وهو الذي استشهد فى كربلاءيوم عاشوراء دفاعاً عن الاسلام والمسلمين . وهو أحد الائمة الاثني عشر الذين أخبر عنهم النبي (صلى الله عليه وآله)كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما إذا قال الخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش . وقد ولد الامام علي بن الحسين في سنة ثمان وثلاثين للهجرة وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين وعاش حوالي سبعة وخمسين عاماً قضى بضع سنين منها في كنف جده الامام علي عليه السلام ثم نشأ في مدرسة عمه الحسن وأبيه الحسين سبطي الرسول وتغذى من نمير علوم النبوة واستقى من مصادر آبائه الطاهرين . وبرز على الصعيد العلمي والديني إماماً في الدين ومناراً في العلم ومرجعاً في الحلال والحرام ومثلاً أعلى في الورع والعبادة والتقوى وآمن المسلمون جميعاً بعلمه واستقامته وأفضليته وانقاد المواعون منهم إلى زعامته وفقهه ومرجعيته . قال الزهري : «ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين ولا أفقه منه» وقال في كلام آخر : «ما رأيت قرشياً أفضل منه» . وقال سعيد بن المسيب : «ما رأيت قط مثل علي بن الحسين» . وقال الامام مالك : «سمّي زين العابدين لكثرة عبادته» . وقال سفيان بن عيينة : «ما رأيت هاشمياً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه» . وعدّ الامام الشافعيعلي بن الحسين «أفقه أهل المدينة» . وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى حكام عصره من خلفاء بني أمية ـ على الرغم من كل شيء ـ فلقد قال له عبد الملك بن مروان : «ولقد أوتيت من العلم والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك قبلك إلا من مضى من سلفك» وقال عمر بن عبد العزيز : «سراج الدنيا وجمال الاسلام زين العابدين» . وقد كان للمسلمين عموماً تعلق عاطفي شديد بهذا الامام وولاء روحي عميق له وكانت قواعده الشعبية ممتدة في كل مكان العالم الاسلامي كما يشير إلى ذلك موقف الحجيج الاعظم منه حينما حجهشام بن عبد الملكوطاف وأراد أن يستلم فلم يقدر على استلام الحجرالاسود من الزحام فنصب له منبر فجلس عليه ينتظر ثم أقبل زين العابدين وأخذ يطوف فكان إذا بلغ موضع الحجر انفرجت الجماهير وتنحى الناس حتى يستلمه لعظيم معرفتها بقدره وحبها له على اختلاف بلدانهم والنتساباتهم وقد سجل الفرزدق هذا الموقف في قصيدة رائعه مشهورة . ولم تكن ثقة الامة بالامام زين العابدين على اختلاف اتجاهاتها ومذاهبها مقصورد على الجانب الفقهي والروحي فحسب ، بل كانت تؤمن به مرجعاً وقائداً ومفزعاً في كل مشاكل الحياة وقصاياها بوصفه امتداداً لابائه الطاهرين ومن أجل ذلك نجد أن عبد الملك ، حينما اصطدم بملك الروم وهدده الملك الروماني باستغلال حاجة المسلمين إلى استيراد نقودهم من بلاد الرومان لاذلال المسلمين وفرض الشروط عليهم وقف عبد الملك متحيراً وقد ضاقت به الارض كما جاء في الرواية وقال : أحسبني أشأم مولود ولد في الاسلام ، فجمع أهل الاسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به ، فقال له القوم : إنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الامر! فقال : ويحكم من؟ قالوا : الباقي من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) ، قال صدقتم ، وهكذا كان . فقد فزع إلى الامام زين العابدين فأرسل (عليه السلام) ولده محمد بن علي الباقر إلى الشام وزوده بتعليماته الخاصة فوضع خطة جديدة للنقد الاسلامي وأنقذ الموقف . وقد قْدِّر للامام زين العابدين أن يتسلم مسؤولياته القيادية والروحية بعد استشهاد أبيه ، فمارسها خلال النصف الثاني من القرن الاول في مرحلة من أدق المراحل التي مرت الامة وقتئذ ، وهي المرحلة التي أعقبت موجة الفتوح الاولى فقد امتدت هذه الموجة ، بزخمها الروحي وحماسها العسكري والعقائدي ، فزلزلت عروش الاكاسرة والقياصرة وضمت شعوباً مختلفة وبلاداً واسعة إلى الدعوة الجديدة وأصبح المسلمون قادة الجزء من العالم المتمدن وقتئذ خلال نصف قرن . وعلى الرغم من أن هذه القيادة ، جعلت من المسلمين قوة كبرى على الصعيد العالمي من الناحية السياسية والعسكرية ، فأنها عرضتهم لخطرين كبيرين خارج النطاق السياسي والعسكري ، وكان لا بد من البدء بعمل حاسم للوقوف في وجههما . أحدهما : الخطر الذي نجم عن انفتاح المسلمين على ثقافات متنوعة وأعراف تشريعية وأوضاع اجتماعية مختلفة بحكم تفاعلهم مع الشعوب التي دخلت في دين الله أفواجاً ، وكان لا بد من عمل على الصعيد العلمي يؤكد في المسلمين أصالتهم الفكرية وشخصيتهم التشريعية المتميزة المستمدة من الكتاب والستة وكان لابد من حركة فكرية اجتهادية تفتح آفاقهم الذهنية ضمن ذلك الاطار لكي يستطيعوا أن يحملوا مشعل الكتاب والسنة بروح المجتهد البصير والممارس الذكي الذي يسطيع أن يستنبط منها ما يفيده في كل ما يستجد له من حالات كان لابد إذن من تأصيل للشخصية الاسلامية ومن زرع بذور الاجتهاد وهذا ما قام به الامام علي بن الحسين (عليه السلام) فقد بدأ حلقة من البحث والدرس في مسجدالرسول (صلى الله عليه وآله) يحدث الناس بصنوف المعرفة الاسلامية من تفسير وحديث وفقه ويفيض عليهم من علوم آبائه الطاهرين ويمرن النابهين منهم على التفقه والاستنباط وقد تخرَّج من هذه الحلقة عدد مهم من فقهاء المسلمين وكانت هذه الحلقة هي المنطلق لما نشأبعد ذلك من مدارس الفقه والاساس لحركته الناشطة . وقد استقطب الامام عن هذا الطريق الجمهور الاعظم من القراء وحملة الكتاب والسنة حتى قال سعيد بن المسيب «إن القراء كانوا لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين ، فخرج وخرجنا معه ألف راكب» . وأما الخطر الاخر : فقد نجم عن موجة الرخاء التي سادت المجتمع الاسلامي في أعقاب ذلك الامتداد الهائل ، لان موجات الرخاء تعرض أي مجتمع إلى خطر الانسياق مع ملذات الدنيا الاسراف في زينة هذه الحياة المحدودة وانطفاء الشعور الملتهب باقيم الخلقية والصلة الروحية بالله واليوم الاخر وبما تضعه هذه الصلة أمام الانسان من أهداف كبيرة وهذا ما وقع فعلاً وتكفي نظرة واحدة في كتاب الاغاني لابي الفرج الاصبهاني ليتضح الحال . وقد أحس الامام علي بن الحسين بهذا الخطر وبدأ بعلاجه واتخذ من الدعاء أساساً لهذا العلاج . وكانت الصحيفة السجادية التي بين يديك من نتائج ذلك . فقد استطاع هذا الامام العظيم بما أوتي من بلاغة فريدة وقدرة فائقة على أساليب التعبير العربي وذهنية ربانية تتفتق عن أروع المعاني وأدقها في تصوير صلة الانسان بربه ووجده بخالقه وتعلقه بمبدئه ومعاده وتجسيد ما يعبر عنه ذلك من قيم خلقية وحقوق وواجبات. أقول قد استطاع الامام علي بن الحسين بما أوتي من هذه المواهب أن ينشر من خلال الدعاء جواً روحياً في المجتمع الاسلامي يساهم في تثبيت الانسان المسلم عندما تعصف به المغريات وشده إلى ربه حينما تجره الارض إليها وتأكيد ما نشأ عليه من قيم روحية لكي يظل أميناً عليها في عصر الغنى والثروة كما كان أميناً عليها وهو يشد حجر المجاعة على بطنه . وقد جاء في سيرة الامام أنه كان يخطب الناس في كل جمعة ويعظهم ويزهدهم في الدنيا ويرعبهم في أعمال الاخرة ويقرع أسماعهم بتلك القطع الفنية من ألوان الدعاء والحمد والثناء التي تمثل العبودية المخلصة لله سبحانه وحده لا شريك له . وهكذا نعرف أن الصحيفة السجادية تعبر عن عمل اجتماعي عظيم كانت ضرورة المرحلة تفرضه على الامام إضافة إلى كونها تراثاً ربانياً فرايداً يظل على مر الدهور مصدر عطاء ومشعل هداية ومدرسة أخلاق وتهذيب وتظل الانسانية بحاجة إلى هذا التراث المحمدي العلوي وتزداد حاجة كلما ازداد الشيطان إغراء والدنيا فتنة . فسلام على إمامنا زين العابدين يوم ولد ويوم أدى رسالته ويوم مات ويوم يبعث حياً . النجف الاشرف محمد باقر الصدر