بيان
لما كانت السورة نازلة نجوما لم يجمعها غرض واحد إلا أن معظمها تنبىء عن غاية واحدة محصلة و هو بيان أن من حق عبادة الله سبحانه أن يؤمن عبده بكل ما أنزله بلسان رسله من غير تفرقة بين وحي و وحي، و لا بين رسول و رسول و لا غير ذلك ثم تقريع الكافرين و المنافقين و ملامة أهل الكتاب بما ابتدعوه من التفرقة في دين الله و التفريق بين رسله، ثم التخلص إلى بيان عدة من الأحكام كتحويل القبلة و أحكام الحج و الإرث و الصوم و غير ذلك.
قوله تعالى: الم، سيأتي بعض ما يتعلق من الكلام بالحروف المقطعة التي في أوائل السور، في أول سورة الشورى إن شاء الله، و كذلك الكلام في معنى هداية القرآن و معنى كونه كتابا.
و قوله تعالى: هدى للمتقين الذين يؤمنون إلخ، المتقون هم المؤمنون، و ليست التقوى من الأوصاف الخاصة لطبقة من طبقاتهم أعني: لمرتبة من مراتب الإيمان حتى تكون مقاما من مقاماته نظير الإحسان و الإخبات و الخلوص، بل هي صفة مجامعة لجميع مراتب الإيمان إذا تلبس الإيمان بلباس التحقق، و الدليل على ذلك أنه تعالى لا يخص بتوصيفه طائفة خاصة من طوائف المؤمنين على اختلاف طبقاتهم و درجاتهم و الذي أخذه تعالى من الأوصاف المعرفة للتقوى في هذه الآيات التسع عشرة التي يبين فيها حال المؤمنين و الكفار و المنافقين خمس صفات، و هي الإيمان بالغيب، و إقامة الصلاة، و الإنفاق مما رزق الله سبحانه، و الإيمان بما أنزله على أنبيائه، و الإيقان بالآخرة، و قد وصفهم بأنهم على هدى من ربهم فدل ذلك على أن تلبسهم بهذه الصفات الكريمة بسبب تلبسهم بلباس الهداية من الله سبحانه، فهم إنما صاروا متقين أولي هذه الصفات بهداية منه تعالى، ثم وصف الكتاب بأنه هدى لهؤلاء المتقين بقوله تعالى: «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين» فعلمنا بذلك: أن الهداية غير الهداية، و أن هؤلاء و هم متقون محفوفون بهدايتين، هداية أولى بها صاروا متقين، و هداية ثانية أكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى و بذلك صحت المقابلة بين المتقين و بين الكفار و المنافقين، فإنه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين و عمائين، ضلال أول هو الموجب لأوصافهم الخبيثة من الكفر و النفاق، و ضلال ثان يتأكد به ضلالهم الأول، و يتصفون به بعد تحقق الكفر و النفاق كما يقوله تعالى في حق الكفار: «ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة»: البقرة - 7، فنسب الختم إلى نفسه تعالى و الغشاوة إلى أنفسهم، و كما يقوله في حق المنافقين: «في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا»: البقرة - 10 فنسب المرض الأول إليهم و المرض الثاني إلى نفسه على حد ما يستفاد من قوله تعالى: «يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة - 26، و قوله تعالى: «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم»: الصف - 5.
و بالجملة المتقون واقعون بين هدايتين، كما أن الكفار و المنافقين واقعون بين ضلالين.
ثم إن الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الأولى قبل القرآن و بسبب سلامة الفطرة، فإن الفطرة إذا سلمت لم تنفك من أن تتنبه شاهده لفقرها و حاجتها إلى أمر خارج عنها، و كذا احتياج كل ما سواها مما يقع عليه حس أو وهم أو عقل إلى أمر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحس منه يبدأ الجميع و إليه ينتهي و يعود، و إنه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الأعمال و الأخلاق، و هذا هو الإذعان بالتوحيد و النبوة و المعاد و هي أصول الدين، و يلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيته، و استعمال ما في وسع الإنسان من مال و جاه و علم و فضيلة لإحياء هذا الأمر و نشره، و هذان هما الصلاة و الإنفاق.
و من هنا يعلم: أن الذي أخذه سبحانه من أوصافهم هو الذي يقضي به الفطرة إذا سلمت و أنه سبحانه وعدهم أنه سيفيض عليهم أمرا سماه هداية، فهذه الأعمال الزاكية منهم متوسطة بين هدايتين كما عرفت، هداية سابقة و هداية لاحقة، و بين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد و صلاح العمل، و من الدليل على أن هذه الهداية الثانية من الله سبحانه فرع الأولى، آيات كثيرة كقوله تعالى: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا و في الآخرة»: إبراهيم - 27.
و قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به»: الحديد - 28.
و قوله تعالى: «إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم»: محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - 7.
و قوله تعالى: و الله لا يهدي القوم الظالمين»: الصف - 7.
و قوله تعالى: «و الله لا يهدي القوم الفاسقين»: الصف - 5.
إلى غير ذلك من الآيات.
و الأمر في ضلال الكفار و المنافقين كما في المتقين على ما سيأتي إن شاء الله.
و في الآيات إشارة إلى حياة أخرى للإنسان كامنة مستبطنة تحت هذه الحياة الدنيوية، و هي الحياة التي بها يعيش الإنسان في هذه الدار و بعد الموت و حين البعث، قال تعالى: «أو من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها»: الأنعام - 123.
و سيأتي الكلام فيه إن شاء الله.
و قوله سبحانه: يؤمنون، الإيمان تمكن الاعتقاد في القلب مأخوذ من الأمن كأن المؤمن يعطي لما أمن به الأمن من الريب و الشك و هو آفة الاعتقاد، و الإيمان كما مر معنى ذو مراتب، إذ الإذعان ربما يتعلق بالشيء نفسه فيترتب عليه أثره فقط، و ربما يشتد بعض الاشتداد فيتعلق ببعض لوازمه، و ربما يتعلق بجميع لوازمه فيستنتج منه أن للمؤمنين طبقات على حسب طبقات الإيمان.
و قوله سبحانه: بالغيب، الغيب خلاف الشهادة و ينطبق على ما لا يقع عليه الحس، و هو الله سبحانه و آياته الكبرى الغائبة عن حواسنا، و منها الوحي، و هو الذي أشير إليه بقوله: «و الذين يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك» فالمراد بالإيمان بالغيب في مقابل الإيمان بالوحي و الإيقان بالآخرة، هو الإيمان بالله تعالى ليتم بذلك الإيمان بالأصول الثلاثة للدين، و القرآن يؤكد القول على عدم القصر على الحس فقط و يحرص على اتباع سليم العقل و خالص اللب.
و قوله سبحانه: و بالآخرة هم يوقنون، العدول في خصوص الإذعان بالآخرة عن الإيمان إلى الإيقان، كأنه للإشارة إلى أن التقوى لا تتم إلا مع اليقين بالآخرة الذي لا يجامع نسيانها، دون الإيمان المجرد، فإن الإنسان ربما يؤمن بشيء و يذهل عن بعض لوازمه فيأتي بما ينافيه، لكنه إذا كان على علم و ذكر من يوم يحاسب فيه على الخطير و اليسير من أعماله لا يقتحم معه الموبقات و لا يحوم حوم محارم الله سبحانه البتة قال تعالى: «و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب»: ص - 26، فبين تعالى: أن الضلال عن سبيل الله إنما هو بنسيان يوم الحساب فذكره و اليقين به ينتج التقوى.
و قوله تعالى: أولئك على هدى من ربهم، الهداية كلها من الله سبحانه، لا ينسب إلى غيره البتة إلا على نحو من المجاز كما سيأتي إن شاء الله، و لما وصفهم الله سبحانه بالهداية و قد قال في نعتها: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره»: الأنعام - 125، و شرح الصدر سعته و هذا الشرح يدفع عنه كل ضيق و شح، و قد قال تعالى: «و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون»: الحشر - 9، عقب سبحانه هاهنا أيضا قوله: أولئك على هدى من ربهم بقوله: و أولئك هم المفلحون الآية.
بحث روائي
في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: الذين يؤمنون بالغيب، قال: من آمن بقيام القائم (عليه السلام) أنه حق.
أقول: و هذا المعنى مروي في غير هذه الرواية و هو من الجري.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: «و مما رزقناهم ينفقون» قال: و مما علمناهم يبثون.
و في المعاني، عنه (عليه السلام): في الآية: و مما علمناهم يبثون، و ما علمناهم من القرآن يتلون.
أقول: و الروايتان مبنيتان على حمل الإنفاق على الأعم من إنفاق المال كما ذكرناه.
بحث فلسفي
هل يجوز التعويل على غير الإدراكات الحسية من المعاني العقلية؟ هذه المسألة من معارك الآراء بين المتأخرين من الغربيين و إن كان المعظم من القدماء و حكماء الإسلام على جواز التعويل على الحس و العقل معا بل ذكروا أن البرهان العلمي لا يشمل المحسوس من حيث إنه محسوس، لكن الغربيين مع ذلك اختلفوا في ذلك، و المعظم منهم و خاصة من علماء الطبيعة على عدم الاعتماد على غير الحس، و قد احتجوا على ذلك بأن العقليات المحضة يكثر وقوع الخطإ و الغلط فيها مع عدم وجود ما يميز به الصواب من الخطإ و هو الحس و التجربة المماسان للجزئيات بخلاف الإدراكات الحسية فإنا إذا أدركنا شيئا بواحد من الحواس أتبعنا ذلك بالتجربة بتكرار الأمثال، و لا نزال نكرر حتى نستثبت الخاصة المطلوبة في الخارج ثم لا يقع فيه شك بعد ذلك، و الحجة باطلة مدخولة.
أولا: بأن جميع المقدمات المأخوذة فيها عقلية غير حسية فهي حجة على بطلان الاعتماد على المقدمات العقلية بمقدمات عقلية فيلزم من صحة الحجة فسادها.
و ثانيا: بأن الغلط في الحواس لا يقصر عددا من الخطإ و الغلط في العقليات، كما يرشد إليه الأبحاث التي أوردوها في المبصرات و سائر المحسوسات، فلو كان مجرد وقوع الخطإ في باب موجبا لسده و سقوط الاعتماد عليه لكان سد باب الحس أوجب و ألزم.
و ثالثا: أن التميز بين الخطإ و الصواب مما لا بد منه في جميع المدركات غير أن التجربة و هو تكرر الحس ليست آلة لذلك التميز بل القضية التجربية تصير إحدى المقدمات من قياس يحتج به على المطلوب، فإنا إذا أدركنا بالحس خاصة من الخواص ثم أتبعناه بالتجربة بتكرار الأمثال تحصل لنا في الحقيقة قياس على هذا الشكل: إن هذه الخاصة دائمي الوجود أو أكثري الوجود لهذا الموضوع، و لو كانت خاصة لغير هذا الموضوع لم يكن بدائمي أو أكثري، لكنه دائمي أو أكثري و هذا القياس كما ترى يشتمل على مقدمات عقلية غير حسية و لا تجريبية.
و رابعا: هب أن جميع العلوم الحسية مؤيدة بالتجربة في باب العمل لكن من الواضح أن نفس التجربة ليس ثبوتها بتجربة أخرى و هكذا إلى غير النهاية بل العلم بصحته من طريق غير طريق الحس، فالاعتماد على الحس و التجربة اعتماد على العلم العقلي اضطرارا.
و خامسا: أن الحس لا ينال غير الجزئي المتغير و العلوم لا تستنتج و لا تستعمل غير القضايا الكلية و هي غير محسوسة و لا مجربة، فإن التشريح مثلا إنما ينال من الإنسان مثلا أفرادا معدودين قليلين أو كثيرين، يعطي للحس فيها مشاهدة أن لهذا الإنسان قلبا و كبدا مثلا، و يحصل من تكرارها عدد من المشاهدة يقل أو يكثر و ذلك غير الحكم الكلي في قولنا: كل إنسان فله قلب أو كبد، فلو اقتصرنا في الاعتماد و التعويل على ما يستفاد من الحس و التجربة فحسب من غير ركون على العقليات من رأس لم يتم لنا إدراك كلي و لا فكر نظري و لا بحث علمي، فكما يمكن التعويل أو يلزم على الحس في مورد يخص به كذلك التعويل فيما يخص بالقوة العقلية، و مرادنا بالعقل هو المبدأ لهذه التصديقات الكلية و المدرك لهذه الأحكام العامة، و لا ريب أن الإنسان معه شيء شأنه هذا الشأن، و كيف يتصور أن يوجد و يحصل بالصنع و التكوين شيء شأنه الخطأ في فعله رأسا؟ أو يمكن أن يخطىء في فعله الذي خصه به التكوين؟ و التكوين إنما يخص موجودا من الموجودات بفعل من الأفعال بعد تثبت الرابطة الخارجية بينهما، و كيف يثبت رابطة بين موجود و ما ليس بموجود أي خطأ و غلط؟ و أما وقوع الخطإ في العلوم أو الحواس فلبيان حقيقة الأمر فيه محل آخر ينبغي الرجوع إليه و الله الهادي.
بحث آخر فلسفي
الإنسان البسيط في أوائل نشأته حين ما يطأ موطأ الحياة لا يرى من نفسه إلا أنه ينال من الأشياء أعيانها الخارجية من غير أن يتنبه أنه يوسط بينه و بينها وصف العلم، و لا يزال على هذا الحال حتى يصادف في بعض مواقفه الشك أو الظن، و عند ذلك يتنبه: أنه لا ينفك في سيره الحيوي و معاشه الدنيوي عن استعمال العلم لا سيما و هو ربما يخطىء و يغلط في تميزاته، و لا سبيل للخطإ و الغلط إلى خارج الأعيان، فيتيقن عند ذلك بوجود صفة العلم و هو الإدراك المانع من النقيض فيه.
ثم البحث البالغ يوصلنا أيضا إلى هذه النتيجة، فإن إدراكاتنا التصديقية تحلل إلى قضية أول الأوائل و هي أن الإيجاب و السلب لا يجتمعان معا و لا يرتفعان معا فما من قضية بديهية أو نظرية إلا و هي محتاجة في تمام تصديقها إلى هذه القضية البديهية الأولية، حتى إنا لو فرضنا من أنفسنا الشك فيها وجدنا الشك المفروض لا يجامع بطلان نفسه و هو مفروض، و إذا ثبتت هذه القضية على بداهتها ثبت جم غفير من التصديقات العلمية على حسب مساس الحاجة إلى إثباتها، و عليها معول الإنسان في أنظاره و أعماله.
فما من موقف علمي و لا واقعة عملية إلا و معول الإنسان فيه على العلم، حتى أنه إنما يشخص شكه بعلمه أنه شك، و كذا ظنه أو وهمه أو جهله بما يعلم أنه ظن أو وهم أو جهل هذا.
و لقد نشأ في عصر اليونانيين جماعة كانوا يسمون بالسوفسطائيين نفوا وجود العلم، و كانوا يبدون في كل شيء الشك حتى في أنفسهم و في شكهم، و تبعهم آخرون يسمون بالشكاكين قريبو المسلك منهم نفوا وجود العلم عن الخارج عن أنفسهم و أفكارهم إدراكاتهم و ربما لفقوا لذلك وجوها من الاستدلال.
منها: أن أقوى العلوم و الإدراكات و هي الحاصلة لنا من طرق الحواس مملوءة خطأ و غلطا فكيف بغيرها؟ و مع هذا الوصف كيف يمكن الاعتماد على شيء من العلوم و التصديقات المتعلقة بالخارج منا؟ و منها: أنا كلما قصدنا نيل شيء من الأشياء الخارجية لم ننل عند ذلك إلا العلم به دون نفسه فكيف يمكن النيل لشيء من الأشياء؟ إلى غير ذلك من الوجوه.
و الجواب عن الأول: أن هذا الاستدلال يبطل نفسه، فلو لم يجز الاعتماد على شيء من التصديقات لم يجز الاعتماد على المقدمات المأخوذة في نفس الاستدلال، مضافا إلى أن الاعتراف بوجود الخطإ و كثرته اعتراف بوجود الصواب بما يعادل الخطأ أو يزيد عليه، مضافا إلى أن القائل بوجود العلم لا يدعي صحة كل تصديق بل إنما يدعيه في الجملة، و بعبارة أخرى يدعي الإيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي و الحجة لا تفي بنفي ذلك.
و الجواب عن الثاني: أن محل النزاع و هو العلم حقيقته الكشف عن ما وراءه فإذا فرضنا أنا كلما قصدنا شيئا من الأشياء الخارجية وجدنا العلم بذلك اعترفنا بأنا كشفنا عنه حينئذ، و نحن إنما ندعي وجود هذا الكشف في الجملة، و لم يدع أحد في باب وجود العلم: أنا نجد نفس الواقع و ننال عين الخارج دون كشفه، و هؤلاء محجوجون بما تعترف به نفوسهم اعترافا اضطراريا في أفعال الحياة الاختيارية و غيرها، فإنهم يتحركون إلى الغذاء و الماء عند إحساس ألم الجوع و العطش، و كذا إلى كل مطلوب عند طلبه لا عند تصوره الخالي، و يهربون عن كل محذور مهروب عنه عند العلم بوجوده لا عند مجرد تصوره، و بالجملة كل حاجة نفسانية ألهمتها إليهم إحساساتهم أوجدوا حركة خارجية لرفعها و لكنهم عند تصور تلك الحاجة من غير حاجة الطبيعة إليها لا يتحركون نحو رفعها، و بين التصورين فرق لا محالة، و هو أن أحد العلمين يوجده الإنسان باختياره و من عند نفسه و الآخر إنما يوجد في الإنسان بإيجاد أمر خارج عنه مؤثر فيه، و هو الذي يكشف عنه العلم، فإذن العلم موجود و ذلك ما أردناه.
و اعلم: أن في وجود العلم شكا قويا من وجه آخر و هو الذي وضع عليه أساس العلوم المادية اليوم من نفي العلم الثابت و كل علم ثابت، بيانه: أن البحث العلمي يثبت في عالم الطبيعة نظام التحول و التكامل، فكل جزء من أجزاء عالم الطبيعة واقع في مسير الحركة و متوجه إلى الكمال، فما من شيء إلا و هو في الآن الثاني من وجوده غيره و هو في الآن الأول من وجوده، و لا شك أن الفكر و الإدراك من خواص الدماغ فهي خاصة مادية لمركب مادي، فهي لا محالة واقعة تحت قانون التحول و التكامل، فهذه الإدراكات و منها الإدراك المسمى بالعلم واقعة في التغير و التحول فلا معنى لوجود علم ثابت باق و إنما هو نسبي، فبعض التصديقات أدوم بقاء و أطول عمرا أو أخفى نقيضا و نقضا من بعض آخر و هو المسمى بالعلم فيما وجد.
و الجواب عنه: أن الحجة مبنية على كون العلم ماديا غير مجرد في وجوده و ليس ذلك بينا و لا مبينا بل الحق أن العلم ليس بمادي البتة، و ذلك لعدم انطباق صفات المادة و خواصها عليه.
1 فإن الماديات مشتركة في قبول الانقسام و ليس يقبل العلم بما أنه علم الانقسام البتة.
2 و الماديات مكانية زمانية و العلم بما أنه علم لا يقبل مكانا و لا زمانا، و الدليل عليه إمكان تعقل الحادثة الجزئية الواقعة في مكان معين و زمان معين في كل مكان و كل زمان مع حفظ العينية.
3 و الماديات بأجمعها واقعة تحت سيطرة الحركة العمومية فالتغير خاصة عمومية فيها مع أن العلم بما أنه علم لا يتغير، فإن حيثية العلم بالذات تنافي حيثية التغير و التبدل و هو ظاهر عند المتأمل.
4 و لو كان العلم مما يتغير بحسب ذاته كالماديات لم يمكن تعقل شيء واحد و لا حادثة واحدة في وقتين مختلفين معا و لا تذكر شيء أو حادثة سابقة في زمان لاحق، فإن الشيء المتغير و هو في الآن الثاني غيره في الآن الأول، فهذه الوجوه و نظائرها دالة على أن العلم بما أنه علم ليس بمادي البتة، و أما ما يحصل في العضو الحساس أو الدماغ من تحقق عمل طبيعي فليس بحثنا فيه أصلا و لا دليل على أنه هو العلم، و مجرد تحقق عمل عند تحقق أمر من الأمور لا يدل على كونهما أمرا واحدا، و الزائد على هذا المقدار من البحث ينبغي أن يطلب من محل آخر.
|