بيان
قوله تعالى: و إذ جعلنا البيت مثابة للناس و أمنا إشارة إلى تشريع الحج و الأمن في البيت، و المثابة هي المرجع، من ثاب يثوب إذا رجع.
قوله تعالى: «و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى كأنه عطف على قوله: جعلنا البيت مثابة، بحسب المعنى، فإن قوله: جعلنا البيت مثابة، لما كان إشارة إلى التشريع كان المعنى و إذ قلنا للناس ثوبوا إلى البيت و حجوا إليه، و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، و ربما قيل إن الكلام على تقدير القول، و التقدير: و قلنا اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، و المصلى اسم مكان من الصلاة بمعنى الدعاء أي اتخذوا من مقامه (عليه السلام) مكانا للدعاء و الظاهر أن قوله: جعلنا البيت مثابة إلخ بمنزلة التوطئة أشير به إلى مناط تشريع الصلاة و لذا لم يقل: و صلوا، في مقام إبراهيم، بل قال: و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فلم يعلق الأمر بالصلاة في المقام، بل علق على اتخاذ المصلى منه.
قوله تعالى: و عهدنا إلى إبراهيم و إسمعيل أن طهرا، العهد هو الأمر و التطهير إما تخليص البيت لعبادة الطائفين، و العاكفين، و المصلين، و نسكهم فيكون من الاستعارة بالكناية، و أصل المعنى: أن خلصا بيتي لعبادة العباد، و ذلك تطهير و إما تنظيفه من الأقذار و الكثافات الطارئة من عدم مبالات الناس، و الركع السجود جمعا راكع و ساجد و كان المراد به المصلون.
قوله تعالى: و إذ قال إبراهيم رب اجعل، هذا دعاء دعا به إبراهيم يسأل به الأمن على أهل مكة و الرزق و قد أجيبت دعوته، و حاشا لله سبحانه أن ينقل في كلامه دعاء لا يستجيبه و لا يرده في كلامه الحق فيشتمل كلامه على هجاء لغو لغا به لاغ جاهل، و قد قال تعالى: «و الحق أقول»: ص - 84، و قال تعالى: «إنه لقول فصل و ما هو بالهزل»: الطارق - 14.
و قد نقل القرآن العظيم عن هذا النبي الكريم دعوات كثيرة دعا بها و سألها ربه كدعائه لنفسه في بادىء أمره، و دعائه عند مهاجرته إلى سورية و دعائه و مسألته بقاء الذكر الخير، و دعائه لنفسه و ذريته و لوالديه و للمؤمنين و المؤمنات، و دعائه لأهل مكة بعد بناء البيت، و دعائه و مسألته بعثة النبي من ذريته.
و من دعواته و مسائله التي تجسم آماله و تشخص مجاهداته و مساعيه في جنب الله و فضائل نفسه المقدسة، و بالجملة تعرف موقعه و زلفاه من الله عز اسمه، و سائر قصصه و ما مدحه به ربه، يستنبط شرح حياته الشريفة، و سنتعرض للميسور من ذلك في سورة الأنعام.
قوله تعالى: من آمن منهم، لما سأل (عليه السلام) لبلد مكة الأمن، ثم سأل لأهله أن يرزقوا من الثمرات، استشعر: أن الأهل سيكون منهم مؤمنون، و كافرون و دعاؤه للأهل بالرزق يعم الكافر و المؤمن، و قد تبرأ من الكافرين و ما يعبدونه، قال تعالى «فلما تبين له أنه عدو لله تبرء منه»: التوبة - 114، فشهد تعالى له: بالبراءة و التبري عن كل عدو لله، حتى أبيه، و لذلك لما استشعر ما استشعره من عموم دعوته قيدها بقوله من آمن منهم - و هو يعلم أن رزقهم من الثمرات لا يتم من دون شركة الكافرين على ما يحكم به ناموس الحياة الدنيوية الاجتماعية - غير أنه خص مسألته - و الله أعلم بما يحكم لسائر عباده، و يريد في حقهم، فأجيب (عليه السلام) بما يشمل المؤمن و الكافر، و و فيه بيان أن المستجاب من دعوته ما يجري على حكم العادة و قانون الطبيعة من غير خرق للعادة، و إبطال لظاهر حكم الطبيعة، و لم يقل: و ارزق من آمن من أهله من الثمرات لأن المطلوب استيهاب الكرامة للبلد لكرامة البيت المحرم، و لا ثمرة تحصل في واد غير ذي زرع، وقع فيه البيت، و لو لا ذلك لم يعمر البلد، و لا وجد أهلا يسكنونه.
قوله تعالى: و من كفر فأمتعه قليلا، قرىء فأمتعه من باب الإفعال و التفعيل و الإمتاع و التمتيع بمعنى واحد.
قوله تعالى: ثم اضطره إلى عذاب النار إلخ، فيه إشارة إلى مزيد إكرام البيت و تطييب لنفس إبراهيم (عليه السلام)، كأنه قيل: ما سألته من إكرام البيت برزق المؤمنين من أهل هذا البلد استجبته و زيادة، و لا يغتر الكافر بذلك أن له كرامة على الله، و إنما ذلك إكرام لهذا البلد، و إجابة لدعوتك بأزيد مما سألته، فسوف يضطر إلى عذاب النار، و بئس المصير.
قوله تعالى: و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسمعيل، القواعد جمع قاعدة و هي ما قعد من البناء على الأرض، و استقر عليه الباقي، و رفع القواعد من المجاز بعد ما يوضع عليها منها، و نسبة الرفع المتعلق بالمجموع إلى القواعد وحدها.
و في قوله تعالى: من البيت تلميح إلى هذه العناية المجازية.
قوله تعالى: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، دعاء لإبراهيم و إسمعيل، و ليس على تقدير القول، أو ما يشبهه، و المعنى يقولان: ربنا تقبل منا إلخ، بل هو في الحقيقة حكاية المقول نفسه، فإن قوله: يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسمعيل حكاية الحال الماضية، فهما يمثلان بذلك تمثيلا كأنهما يشاهدان و هما مشتغلان بالرفع، و السامع يراهما على حالهما ذلك ثم يسمع دعاءهما بألفاظهما من غير وساطة المتكلم المشير إلى موقفهما و عملهما، و هذا كثير في القرآن، و هو من أجمل السياقات القرآنية - و كلها جميل - و فيه من تمثيل القصة و تقريبه إلى الحس ما لا يوجد و لا شيء من نوع بداعته في التقبل بمثل القول و نحوه.
و في عدم ذكر متعلق التقبل - و هو بناء البيت - تواضع في مقام العبودية، و استحقار لما عملا به و المعنى ربنا تقبل منا هذا العمل اليسير إنك أنت السميع لدعوتنا، العليم بما نويناه في قلوبنا.
قوله تعالى: ربنا و اجعلنا مسلمين لك، و من ذريتنا أمة مسلمة لك، من البديهي أن الإسلام على ما تداول بيننا من لفظه، و يتبادر إلى أذهاننا من معناه أول مراتب العبودية، و به يمتاز المنتحل من غيره، و هو الأخذ بظاهر الاعتقادات و الأعمال الدينية، أعم من الإيمان و النفاق، و إبراهيم (عليه السلام) - و هو النبي الرسول أحد الخمسة أولي العزم، صاحب الملة الحنيفية - أجل من أن يتصور في حقه أن لا يكون قد ناله إلى هذا الحين، و كذا ابنه إسمعيل رسول الله و ذبيحه، أو يكونا قد نالاه و لكن لم يعلما بذلك، أو يكونا علما بذلك و أرادا البقاء على ذلك، و هما في ما هما فيه من القربى و الزلفى، و المقام مقام الدعوة عند بناء البيت المحرم، و هما أعلم بمن يسألانه، و أنه من هو، و ما شأنه، على أن هذا الإسلام من الأمور الاختيارية التي يتعلق بها الأمر و النهي كما قال تعالى: «إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين»: البقرة - 131، و لا معنى لنسبة ما هو كذلك إلى الله سبحانه أو مسألة ما هو فعل اختياري للإنسان من حيث هو كذلك من غير عناية يصح معها ذلك.
فهذا الإسلام المسئول غير ما هو المتداول المتبادر عندنا منه، فإن الإسلام مراتب و الدليل على أنه ذو مراتب قوله تعالى: «إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت» الآية حيث يأمرهم إبراهيم بالإسلام و قد كان مسلما، فالمراد بهذا الإسلام المطلوب غير ما كان عنده من الإسلام الموجود، و لهذا نظائر في القرآن.
فهذا الإسلام هو الذي سنفسره من معناه، و هو تمام العبودية و تسليم العبد كل ما له إلى ربه، و هو إن كان معنى اختياريا للإنسان من طريق مقدماته إلا أنه إذا أضيف إلى الإنسان العادي و حاله القلبي المتعارف كان غير اختياري بمعنى كونه غير ممكن النيل له - و حاله حاله - كسائر مقامات الولاية و مراحله العالية، و كسائر معارج الكمال البعيدة عن حال الإنسان المتعارف المتوسط الحال بواسطة مقدماته الشاقة، و لهذا يمكن أن يعد أمرا إلهيا خارجا عن اختيار الإنسان، و يسأل من الله سبحانه أن يفيض به، و أن يجعل الإنسان متصفا به.
على أن هنا نظرا أدق من ذلك، و هو أن الذي ينسب إلى الإنسان و يعد اختياريا له، هو الأفعال، و أما الصفات و الملكات الحاصلة من تكرر صدورها فليست اختيارية بحسب الحقيقة، فمن الجائز أو الواجب أن ينسب إليه تعالى، و خاصة إذا كانت من الحسنات و الخيرات التي نسبتها إليه تعالى، أولى من نسبتها إلى الإنسان، و على ذلك جرى ديدن القرآن، كما في قوله تعالى: «رب اجعلني مقيم الصلوة و من ذريتي»: إبراهيم - 40، و قوله تعالى: «و ألحقني بالصالحين»: الشعراء - 83، و قوله تعالى: «رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي، و على والدي و أن أعمل صالحا ترضيه»: النمل - 18، و قوله تعالى: «ربنا و اجعلنا مسلمين لك» الآية، فقد ظهر أن المراد بالإسلام غير المعنى الذي يشير إليه قوله تعالى: «قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لما يدخل الإيمان في قلوبكم»: الحجرات - 14، بل معنى أرقى و أعلى منه سيجيء بيانه.
قوله تعالى: و أرنا مناسكنا و تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، يدل على ما مر من معنى الإسلام أيضا، فإن المناسك جمع منسك بمعنى العبادة، كما في قوله تعالى: «و لكل أمة جعلنا منسكا»: الحج - 34، أو بمعنى المتعبد، أعني الفعل المأتي به عبادة و إضافة المصدر يفيد التحقق، فالمراد بمناسكنا هي الأفعال العبادية الصادرة منهما و الأعمال التي يعملانها دون الأفعال، و الأعمال التي يراد صدورها منهما، فليس قوله: أرنا بمعنى علمنا أو وفقنا، بل التسديد بآرائه حقيقة الفعل الصادر منهما، كما أشرنا إليه في قوله تعالى: «و أوحينا إليهم فعل الخيرات، و إقام الصلوة و إيتاء الزكوة»: الأنبياء - 73، و سنبينه في محله: أن هذا الوحي تسديد في الفعل، لا تعليم للتكليف المطلوب، و كأنه إليه الإشارة بقوله تعالى: «و اذكر عبادنا إبراهيم، و إسحاق، و يعقوب، أولي الأيدي و الأبصار. إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار»: ص - 46.
فقد تبين أن المراد بالإسلام و البصيرة في العبادة، غير المعنى الشائع المتعارف، و كذلك المراد بقوله تعالى: و تب علينا، لأن إبراهيم و إسماعيل كانا نبيين معصومين بعصمة الله تعالى، لا يصدر عنهما ذنب حتى يصح توبتهما منه، كتوبتنا من المعاصي الصادرة عنا.
فإن قلت: كل ما ذكر من معنى الإسلام و إراءة المناسك و التوبة مما يليق بشأن إبراهيم و إسمعيل (عليهما السلام)، لا يلزم أن يكون هو مراده في حق ذريته فإنه لم يشرك ذريته معه و مع ابنه إسماعيل إلا في دعوة الإسلام و قد سأل لهم الإسلام بلفظ آخر في جملة أخرى، فقال: و من ذريتنا أمة مسلمة لك و لم يقل: و اجعلنا و من ذريتنا مسلمين، أو ما يؤدي معناه فما المانع أن يكون مراده من الإسلام ما يعم جميع مراتبه حتى ظاهر الإسلام، فإن الظاهر من الإسلام أيضا له آثار جميلة، و غايات نفيسة في المجتمع الإنساني، يصح أن يكون بذلك بغية لإبراهيم (عليه السلام) يطلبها من ربه كما كان كذلك عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث اكتفى (صلى الله عليه وآله وسلم) من الإسلام بظاهر الشهادتين الذي به يحقن الدماء، و يجوز التزويج، و يملك الميراث، و على هذا يكون المراد بالإسلام في قوله تعالى: ربنا و اجعلنا مسلمين لك، ما يليق بشأن إبراهيم و إسماعيل، و في قوله: و من ذريتنا أمة مسلمة لك، ما هو اللائق بشأن الأمة التي فيها المنافق، و ضعيف الإيمان و قويه و الجميع مسلمون.
قلت مقام: التشريع و مقام السؤال من الله مقامان مختلفان، لهما حكمان متغايران لا ينبغي أن يقاس أحدهما على الآخر، فما اكتفى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمته بظاهر الشهادتين من الإسلام، إنما هو لحكمة توسعة الشوكة و الحفظ لظاهر النظام الصالح، ليكون ذلك كالقشر يحفظ به اللب الذي هو حقيقة الإسلام، و يصان به عن مصادمة الآفات الطارئة.
و أما مقام الدعاء و السؤال من الله سبحانه فالسلطة فيها للحقائق، و الغرض متعلق هناك بحق الأمر، و صريح القرب و الزلفى و لا هوى للأنبياء في الظاهر من جهة ما هو ظاهر و لا هوى لإبراهيم (عليه السلام) في ذريته و لو كان له هوى لبدأ فيه لأبيه قبل ذريته و لم يتبرأ منه لما تبين أنه عدو لله، و لم يقل في ما حكى الله من دعائه «و لا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم»: الشعراء - 89، و لم يقل «و اجعل لي لسان صدق في الآخرين»: الشعراء - 84، بل اكتفى بلسان ذكر في الآخرين إلى غير ذلك.
فليس الإسلام الذي سأله لذريته إلا حقيقة الإسلام، و في قوله تعالى: أمة مسلمة لك، إشارة إلى ذلك فلو كان المراد مجرد صدق اسم الإسلام على الذرية لقيل: أمة مسلمة، و حذف قوله: لك، هذا.
قوله تعالى: ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم إلخ دعوة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «أنا دعوة إبراهيم
بحث روائي
في الكافي، عن الكناني:، قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل نسي أن يصلي الركعتين عند مقام إبراهيم في طواف الحج و العمرة، فقال (عليه السلام) إن كان بالبلد صلى الركعتين عند مقام إبراهيم، فإن الله عز و جل يقول: و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى و إن كان قد ارتحل، فلا آمره أن يرجع.
أقول: و روى قريبا منه، الشيخ في التهذيب، و العياشي في تفسيره بعدة أسانيد و خصوصيات الحكم - و هو الصلاة عند المقام أو خلفه، كما في بعض الروايات: ليس لأحد أن يصلي ركعتي الطواف إلا خلف المقام، الحديث - مستفادة من لفظة من، و مصلى من قوله تعالى: و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى الآية.
و في تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: أن طهرا بيتي للطائفين الآية يعني «نح عنه المشركين».
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل يقول في كتابه: طهرا بيتي للطائفين و العاكفين، و الركع السجود، فينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلا و هو طاهر قد غسل عرقه، و الأذى، و تطهر.
أقول: و هذا المعنى مروي في روايات أخر، و استفادة طهارة الوارد من طهارة المورد، ربما تمت من آيات أخر، كقوله تعالى «الطيبات للطيبين، و الطيبون للطيبات»: النور - 26 و نحوها.
و في المجمع، عن ابن عباس قال: لما أتى إبراهيم بإسماعيل و هاجر، فوضعهما بمكة و أتت على ذلك مدة، و نزلها الجرهميون، و تزوج إسماعيل امرأة منهم، و ماتت هاجر، و استأذن إبراهيم سارة، فأذنت له» و شرطت عليه أن لا ينزل، فقدم إبراهيم و قد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل، فقال لامرأته أين صاحبك؟ قالت له ليس هو هاهنا، ذهب يتصيد، و كان إسماعيل يخرج من الحرم يتصيد و يرجع، فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ فقالت ليس عندي شيء، و ما عندي أحد، فقال لها إبراهيم: إذا جاء زوجك، فأقرئيه السلام و قولي له: فليغير عتبة بابه و ذهب إبراهيم فجاء إسماعيل، و وجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا و كذا، كالمستخفة بشأنه، قال: فما قال لك؟ قالت: قال لي: أقرئي زوجك السلام، و قولي له: فليغير عتبة بابه، فطلقها و تزوج أخرى، فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة: أن يزور إسماعيل و أذنت له، و اشترطت عليه: أن لا ينزل فجاء إبراهيم، حتى انتهى إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيد و هو يجيء الآن إن شاء الله، فانزل، يرحمك الله، قال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم فجاءت باللبن و اللحم، فدعا لها بالبركة، فلو جاءت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكان أكثر أرض الله برا و شعيرا و تمرا، فقالت له انزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءت بالمقام فوضعته على شقه فوضع قدمه عليه، فبقي أثر قدمه عليه، فغسلت شق رأسه الأيمن، ثم حولت المقام إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدمه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام، و قولي له: قد استقامت عتبة بابك فلما جاء إسمعيل (عليه السلام) وجد ريح أبيه فقال لامرأته هل جاءك أحد؟ قالت نعم شيخ أحسن الناس وجها، و أطيبهم ريحا، فقال لي كذا و كذا و قلت له: كذا و غسلت رأسه، و هذا موضع قدميه على المقام، فقال إسماعيل لها: ذاك إبراهيم.
أقول: و روى القمي، في تفسيره: ما يقرب منه.
و في تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن إبراهيم كان نازلا، في بادية الشام فلما ولد له من هاجر إسماعيل اغتمت سارة من ذلك غما شديدا، لأنه لم يكن لها ولد، و كانت تؤذي إبراهيم في هاجر و تغمه، فشكى إبراهيم ذلك إلى الله عز و جل، فأوحى الله إليه: «مثل المرأة مثل الضلع العوجاء، إن تركتها استمتعت بها، و إن أقمتها كسرتها» ثم أمره: أن يخرج إسماعيل و أمه، فقال: يا رب إلى أي مكان؟ فقال إلى حرمي و أمني، و أول بقعة خلقتها من الأرض، و هي مكة فأنزل الله عليه جبرئيل بالبراق فحمل هاجر و إسماعيل و إبراهيم و كان إبراهيم لا يمر بموضع حسن فيه شجر و زرع و نخل إلا و قال إبراهيم: يا جبرئيل إلى هاهنا، إلى هاهنا فيقول جبرئيل لا امض، امض، حتى وافى مكة فوضعه في موضع البيت، و قد كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها، فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها، فاستظلوا تحته، فلما سرحهم إبراهيم و وضعهم أراد الانصراف عنهم إلى سارة، قالت له هاجر: يا إبراهيم أ تدعنا في موضع ليس فيه أنيس و لا ماء و لا زرع؟ فقال إبراهيم: الله الذي أمرني، أن أضعكم في هذا المكان هو يكفيكم ثم انصرف عنهم، فلما بلغ كداء، و هو جبل بذي طوى التفت إبراهيم، فقال: رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع، عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلوة، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، و ارزقهم من الثمرات، لعلهم يشكرون، ثم مضى و بقيت هاجر، فلما ارتفع النهار عطش إسماعيل، فقامت هاجر في موضع السعي فصعدت على الصفا، و لمع لها السراب في الوادي، فظنت أنه ماء، فنزلت في بطن الوادي، و سعت فلما بلغت المروة غاب عنها إسماعيل، عادت حتى بلغت الصفا، فنظرت حتى فعلت ذلك سبع مرات فلما كان في الشوط السابع، و هي على المروة نظرت إلى إسماعيل و قد ظهر الماء من تحت رجليه فعادت حتى جمعت حوله رملا، فإنه كان سائلا، فزمته بما جعلت حوله، فلذلك سميت زمزم و كانت جرهم نازلة بذي المجاز و عرفات، فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير و الوحش على الماء، فنظرت جرهم إلى تعكف الطير و الوحش على ذلك المكان فاتبعتها، حتى نظروا إلى امرأة و صبي نازلين في ذلك الموضع، قد استظلا بشجرة، و قد ظهر الماء لهما، فقالوا لهاجر: من أنت و ما شأنك و شأن هذا الصبي؟ قالت: أنا أم ولد إبراهيم خليل الرحمن، و هذا ابنه، أمره الله أن ينزلنا هاهنا، فقالوا لها: أ تأذنين لنا أن نكون بالقرب منكم؟ فقالت لهم: حتى يأتي إبراهيم، فلما زارهم إبراهيم في اليوم الثالث قالت هاجر: يا خليل الله إن هاهنا قوما من جرهم يسئلونك: أن تأذن لهم، حتى يكونوا بالقرب منا، أ فتأذن لهم في ذلك؟ قال إبراهيم: نعم، فأذنت هاجر لهم، فنزلوا بالقرب منهم، و ضربوا خيامهم، فأنست هاجر و إسماعيل بهم، فلما زارهم إبراهيم في المرة الثانية نظر إلى كثرة الناس حولهم فسر بذلك سرورا شديدا، فلما تحرك إسماعيل و كانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كل واحد منهم شاة، و شاتين فكانت هاجر و إسماعيل، يعيشان بها فلما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال، أمر الله إبراهيم: أن يبني البيت إلى أن قال: فلما أمر الله إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أي مكان يبنيه، فبعث الله جبرئيل، و خط له موضع البيت إلى أن قال فبنى إبراهيم البيت، و نقل إسماعيل من ذي طوى فرفعه في السماء تسعة أذرع، ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم، و وضعه في موضعه الذي هو فيه الآن، فلما بنى جعل له بابين بابا إلى الشرق، و بابا إلى الغرب، و الباب الذي إلى الغرب، يسمى المستجار، ثم ألقى عليه الشجر و الإذخر، و ألقت هاجر على بابها كساء كان معها و كانوا يكونون تحته، فلما بنى و فرغ منه، حج إبراهيم و إسماعيل، و نزل عليهما جبرئيل يوم التروية، لثمان من ذي الحجة فقال: يا إبراهيم قم و ارتو من الماء، لأنه لم يكن بمنى و عرفات ماء، فسميت التروية لذلك ثم أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل بآدم، فقال إبراهيم لما فرغ من بناء البيت: «رب اجعل هذا بلدا آمنا، و ارزق أهله من الثمرات، من آمن منهم الآية، قال (عليه السلام): من ثمرات القلوب، أي حببهم إلى الناس، ليستأنسوا بهم، و يعودوا إليهم.
أقول: هذا الذي لخصناه من أخبار القصة هو الذي تشتمل عليه الروايات الواردة في خلاصة القصة، و قد اشتملت عدة منها، و ورد في أخبار أخرى: أن تاريخ بناء البيت يتضمن أمورا خارقة للعادة، ففي بعض الأخبار، أن البيت أول ما وضع كان قبة من نور، نزلت على آدم، و استقرت في البقعة التي بنى إبراهيم عليها البيت، و لم تزل حتى وقع طوفان نوح، فلما غرقت الدنيا رفعه الله تعالى، و لم تغرق البقعة، فسمي لذلك البيت العتيق.
و في بعض الأخبار: أن الله أنزل قواعد البيت من الجنة.
و في بعضها: أن الحجر الأسود نزل من الجنة و كان أشد بياضا من الثلج فاسودت: لما مسته أيدي الكفار.
و في الكافي، أيضا عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إن الله أمر إبراهيم ببناء الكعبة، و أن يرفع قواعدها، و يري الناس مناسكهم، فبنى إبراهيم و إسماعيل البيت كل يوم ساقا، حتى انتهى إلى موضع الحجر الأسود، و قال أبو جعفر (عليه السلام): فنادى أبو قبيس: أن لك عندي وديعة، فأعطاه الحجر، فوضعه موضعه.
و في تفسير العياشي، عن الثوري عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن الحجر، فقال: نزلت ثلاثة أحجار من الجنة، الحجر الأسود استودعه إبراهيم، و مقام إبراهيم، و حجر بني إسرائيل.
و في بعض الأخبار: أن الحجر الأسود كان ملكا من الملائكة.
أقول: و نظائر هذه المعاني كثيرة واردة في أخبار العامة و الخاصة، و هي و إن كانت آحادا غير بالغة حد التواتر لفظا، أو معنى، لكنها ليست بعادمة النظير في أبواب المعارف الدينية و لا موجب لطرحها من رأس.
أما ما ورد من نزول القبة على آدم، و كذا سير إبراهيم إلى مكة بالبراق، و نحو ذلك، مما هو كرامة خارقة لعادة الطبيعة، فهي أمور لا دليل على استحالتها، مضافا إلى أن الله سبحانه خص أنبياءه بكثير من هذه الآيات المعجزة، و الكرامات الخارقة، و القرآن يثبت موارد كثيرة منها.
و أما ما ورد من نزول قواعد البيت من الجنة و نزول الحجر الأسود من الجنة، و نزول حجر المقام - و يقال: إنه مدفون تحت البناء المعروف اليوم بمقام إبراهيم - من الجنة و ما أشبه ذلك، فذلك كما ذكرنا كثير النظائر، و قد ورد في عدة من النباتات و الفواكه و غيرها: أنها من الجنة، و كذا ما ورد: أنها من جهنم، و من فورة الجحيم، و من هذا الباب أخبار الطينة القائلة: إن طينة السعداء من الجنة، و إن طينة الأشقياء من النار، أو هما من عليين، و سجين، و من هذا الباب أيضا ما ورد: أن جنة البرزخ في بعض الأماكن الأرضية، و نار البرزخ في بعض آخر، و أن القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، إلى غير ذلك، مما يعثر عليه المتتبع البصير في مطاوي الأخبار، و هي كما ذكرنا بالغة في الكثرة حدا ليس مجموعها من حيث المجموع بالذي يطرح أو يناقش في صدوره أو صحة انتسابه و إنما هو من إلهيات المعارف التي سمح بها القرآن الشريف، و انعطف إلى الجري على مسيرها الأخبار الذي يقضي به كلامه تعالى: أن الأشياء التي في هذه النشأة الطبيعية المشهودة جميعا نازلة إليها من عند الله سبحانه، فما كانت منها خيرا جميلا، أو وسيلة خير، أو وعاء لخير، فهو من الجنة، و إليها تعود، و ما كان منها شرا، أو وسيلة شر، أو وعاء لشر، فهو من النار، و إليها ترجع، قال تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه، و ما ننزله إلا بقدر معلوم: الحجر - 21، أفاد: أن كل شيء موجود عنده تعالى وجودا غير محدود بحد، و لا مقدر بقدر، و عند التنزيل - و هو التدريج في النزول - يتقدر بقدره و يتحدد بحده، فهذا على وجه العموم، و قد ورد بالخصوص أيضا أمثال قوله تعالى: «و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج»: الزمر - 6، و قوله تعالى: «و أنزلنا الحديد»: الحديد - 25، و قوله تعالى: «و في السماء رزقكم و ما توعدون»: الذاريات - 22، على ما سيجيء من توضيح معناها إن شاء الله العزيز، فكل شيء نازل إلى الدنيا من عند الله سبحانه، و قد أفاد في كلامه: أن الكل راجع إليه سبحانه، فقال: «و أن إلى ربك المنتهى»: النجم - 42، و قال تعالى: «إلى ربك الرجعى»: العلق - 8، قال: «و إليه المصير»: المؤمن - 3، و قال تعالى: «ألا إلى الله تصير الأمور»: الشورى - 53، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
و أفاد: أن الأشياء - و هي بين بدئها و عودها - تجري على ما يستدعيه بدؤها، و يحكم به حظها من السعادة و الشقاء، و الخير و الشر، فقال تعالى: «كل يعمل على شاكلته»: إسراء - 84، و قال: «و لكل وجهة هو موليها»: البقرة - 148، و سيجيء توضيح دلالتها جميعا، و الغرض هاهنا مجرد الإشارة إلى ما يتم به البحث، و هو أن هذه الأخبار الحاكية عن كون هذه الأشياء الطبيعية، من الجنة، أو من النار، إذا كانت ملازمة لوجه السعادة أو الشقاوة لا تخلو عن وجه صحة، لمطابقتها لأصول قرآنية ثابتة في الجملة، و إن لم يستلزم ذلك كون كل واحد واحد صحيحا، يصح الركون إليه، فافهم المراد.
و ربما قال القائل: إن قوله تعالى: «و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسمعيل» الآية ظاهر في أنهما، هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله تعالى في تلك البلاد الوثنية، و لكن القصاصين و من تبعهم من المفسرين، جاءونا من ذلك بغير ما قصه الله تعالى علينا، و تفننوا في رواياتهم، عن قدم البيت، و عن حج آدم، و عن ارتفاعه إلى السماء وقت الطوفان، و عن كون الحجر الأسود من أحجار الجنة، و قد أراد هؤلاء القصاصون أن يزينوا الدين و يرقشوه برواياتهم هذه، و هذه التزيينات بزخارف القول، و إن أثرت أثرها في قلوب العامة، لكن أرباب اللب و النظر من أهل العلم يعلمون أن الشرف المعنوي الذي أفاضه الله سبحانه، بتكريم بعض الأشياء على بعض، فشرف البيت إنما هو بكونه بيتا لله، منسوبا إليه، و شرف الحجر الأسود بكونه موردا للاستلام بمنزلة يد الله سبحانه و أما كون الحجر في أصله ياقوتة، أو درة، أو غير ذلك، فلا يوجب مزية فيه، و شرفا حقيقيا له، و ما الفرق بين حجر أسود، و حجر أبيض، عند الله تعالى في سوق الحقائق، فشرف هذا البيت بتسمية الله تعالى إياه بيته، و جعله موضعا لضروب من عبادته، لا تكون في غيره - كما تقدم - لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار، و لا بكون موقعه تفضل سائر المواقع، و لا بكونه من السماء، و عالم الضياء و كذلك شرف الأنبياء على غيرهم من البشر ليس لمزية في أجسامهم، و لا في ملابسهم، و إنما هو لاصطفاء الله تعالى إياهم، و تخصيصهم بالنبوة، التي هي أمر معنوي، و قد كان أهل الدنيا أحسن زينة، و أكثر نعمة منهم.
قال: و هذه الروايات فاسدة، في تناقضها و تعارضها في نفسها، و فاسدة في عدم صحة أسانيدها، و فاسدة في مخالفتها لظاهر الكتاب.
قال: و هذه الروايات خرافات إسرائيلية، بثها زنادقة اليهود في المسلمين، ليشوهوا عليهم دينهم، و ينفروا أهل الكتاب منه.
أقول: ما ذكره لا يخلو من وجه في الجملة، إلا أنه أفرط في المناقشة، فاعترضه من خبط القول ما هو أردى و أشنع.
أما قوله: إن هذه الروايات فاسدة أولا من جهة التناقض و التعارض و ثانيا من جهة مخالفة الكتاب، ففيه أن التناقض أو التعارض إنما يضر لو أخذ بكل واحد واحد منها، و أما الأخذ بمجموعها من حيث المجموع بمعنى أن لا يطرح الجميع لعدم اشتمالها على ما يستحيل عقلا أو يمنع نقلا فلا يضره التعارض الموجود فيها و إنما نعني بذلك: الروايات الموصولة إلى مصادر العصمة، كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الطاهرين من أهل بيته، و أما غيرهم من مفسري الصحابة، و التابعين، فحالهم حال غيرهم من الناس و حال ما ورد من كلامهم الخالي عن التناقض، حال كلامهم المشتمل على التناقض و بالجملة لا موجب لطرح رواية، أو روايات، إلا إذا خالفت الكتاب أو السنة القطعية، أو لاحت منها لوائح الكذب و الجعل، كما لا حجية إلا للكتاب و السنة القطعية، في أصول المعارف الدينية الإلهية.
فهناك ما هو لازم القبول، و هو الكتاب و السنة القطعية، و هناك ما هو لازم الطرح، و هو ما يخالفهما من الآثار، و هناك ما لا دليل على رده، و لا على قبوله، و هو ما لا دليل من جهة العقل على استحالته، و لا من جهة النقل أعني: الكتاب و السنة القطعية على منعه.
و به يظهر فساد إشكاله بعدم صحة أسانيدها فإن ذلك لا يوجب الطرح ما لم يخالف العقل أو النقل الصحيح.
و أما مخالفتها لظاهر قوله: و إذ يرفع إبراهيم القواعد الآية فليت شعري: أن الآية الشريفة كيف تدل على نفي كون الحجر الأسود من الجنة؟ أم كيف تدل على نفي نزول قبة على البقعة في زمن آدم، ثم ارتفاعها في زمن نوح؟ و هل الآية تدل على أزيد من أن هذا البيت المبني من الحجر و الطين بناء إبراهيم؟ و أي ربط له إثباتا أو نفيا بما تتضمنه الروايات التي أشرنا إليها، نعم لا يستحسنه طبع هذا القائل، و لا يرتضيه رأيه لعصبية مذهبية توجب نفي معنويات الحقائق عن الأنبياء، و اتكاء الظواهر الدينية على أصول و أعراق معنوية، أو لتبعية غير إرادية للعلوم الطبيعية المتقدمة اليوم، حيث تحكم: أن كل حادثة من الحوادث الطبيعية، أو ما يرتبط بها أي ارتباط من المعنويات يجب أن يعلل بتعليل مادي أو ما ينتهي إلى المادة، الحاكمة في جميع شئون الحوادث كالتعليمات الاجتماعية.
و قد كان من الواجب: أن يتدبر في أن العلوم الطبيعية شأنها البحث عن خواص المادة و تراكيبها و ارتباط الآثار الطبيعية بموضوعاتها، ذاك الارتباط الطبيعي و كذا العلوم الاجتماعية إنما تبحث عن الروابط الاجتماعية بين الحوادث الاجتماعية فقط.
و أما الحقائق الخارجة عن حومة المادة و ميدان عملها، المحيطة بالطبيعة و خواصها و ارتباطاتها المعنوية غير المادية مع الحوادث الكونية و ما اشتمل عليه عالمنا المحسوس فهي أمور خارجة عن بحث العلوم الطبيعية و الاجتماعية، و لا يسعها أن تتكلم فيها، أو تتعرض لإثباتها، أو تقضي بنفيها فالعلوم الطبيعية إنما يمكنها أن تقضي أن البيت يحتاج في الطبيعة إلى أجزاء من الطين و الحجر، و إلى بان يبنيه و يعطيه بحركاته و أعماله هيئة البيت أو كيف تتكون الحجرة من الأحجار السود و كذا الأبحاث الاجتماعية تعين الحوادث الاجتماعية التي أنتجت بناء إبراهيم للبيت، و هي جمل من تاريخ حياته، و حياة هاجر، و إسماعيل، و تاريخ، تهامة و نزول جرهم، إلى غير ذلك، و أما أنه ما نسبة هذا الحجر مثلا إلى الجنة أو النار الموعودتين فليس من وظيفة هذه العلوم أن تبحث عنه، أو تنفي ما قيل، أو يقال فيه، و قد عرفت: أن القرآن الشريف هو الناطق بكون هذه الموجودات الطبيعية المادية نازلة إلى مقرها و مستقرها من عند الله سبحانه ثم راجعة إليه متوجهة نحوه «أيما إلى جنة أيما إلى نار»، و هو الناطق بكون الأعمال صاعدة إلى الله، مرفوعة نحوه، نائلة إياه، مع أنها حركات و أوضاع طبيعية، تألفت تألفا اعتباريا اجتماعيا من غير حقيقة تكوينية، قال تعالى: «و لكن يناله التقوى منكم»: الحج - 37، و التقوى فعل، أو صفة حاصلة من فعل، و قال تعالى: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه»: الفاطر - 10، فمن الواجب على الباحث الديني أن يتدبر في هذه الآيات فيعقل أن المعارف الدينية لا مساس لها مع الطبيعيات و الاجتماعيات من جهة النظر الطبيعي و الاجتماعي على الاستقامة و إنما اتكاؤها و ركونها إلى حقائق و معان وراء ذلك.
و أما قوله: إن شرف الأنبياء و المعاهد و الأمور المنسوبة إليهم كالبيت و الحجر الأسود ليس شرفا ظاهريا بل شرف معنوي ناش عن التفضيل الإلهي فكلام حق، لكن يجب أن يفهم منه حق المعنى الذي يشتمل عليه، فما هذا الأمر المعنوي الذي يتضمن الشرافة؟ فإن كان من المعاني التي يعطيها الاحتياجات الاجتماعية لموضوعاتها و موادها نظير الرتب و المقامات التي يتداولها الدول و الملل كالرئاسة و القيادة في الإنسان و غلاء القيمة في الذهب و الفضة و كرامة الوالدين و حرمة القوانين و النواميس فإنما هي معان يعتبرها الاجتماعات لضرورة الاحتياج الدنيوي، لا أثر منها في خارج الوهم و الاعتبار الاجتماعي، و من المعلوم أن الاجتماع الكذائي لا يتعدى عالم الاجتماع الذي صنعته الحاجة الحيوية، و الله عز سلطانه أقدس ساحة من أن يتطرق إليه هذه الحاجة الطارقة على حياة الإنسان، و مع ذلك فإذا جاز أن يتشرف النبي بهذا الشرف غير الحقيقي فليجز أن يتشرف بمثله بيت أو حجر، و إن كان هذا الشرف حقيقيا واقعيا من قبيل النسبة بين النور و الظلمة، و العلم و الجهل، و العقل و السفه بأن كان حقيقة وجود النبي غير حقيقة وجود غيره و إن كانت حواسنا الظاهرية لا تنال ذلك و هو اللائق بساحة قدسه من الفعل و الحكم، كما قال الله تعالى: «و ما خلقنا السموات و الأرض و ما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق، و لكن أكثرهم لا يعلمون»: الدخان - 39 و سيجيء بيانه كان ذلك عائدا إلى نسبة حقيقية معنوية غير مادية إلى ما وراء الطبيعة، فإذا جاز تحققها في الأنبياء بنحو فليجز تحققها في غير الأنبياء كالبيت و الحجر و نحوهما و إن وقع التعبير عن هذه النسب الحقيقية المعنوية بما ظاهره المعاني المعروفة عند العامة التي اصطلحت عليه أهل الاجتماع.
و ليت شعري: ما ذا يصنعه هؤلاء في الآيات التي تنطق بتزيين الجنة و تشريف أهلها بالذهب و الفضة، و هما فلزان ليس لهما من الشرف إلا غلاء القيمة المستندة إلى عزة الوجود؟ فما ذا يراد من تشريف أهل الجنة بهما؟ و ما الذي يؤثره معنى الثروة في الجنة و لا معنى للاعتبار المالي في الخارج من ظرف الاجتماع؟ فهل لهذه البيانات الإلهية و الظواهر الدينية وجه غير أنها حجب من الكلام و أستار وراءها أسرار؟ فلئن جاز أمثال هذه البيانات في أمور نشأة الآخرة فليجز نظيرتها في بعض الأمور نشأة الدنيا.
و في تفسير العياشي، عن الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن أمة محمد «(صلى الله عليه وآله وسلم)» من هم؟ قال أمة محمد «(صلى الله عليه وآله وسلم)» بنو هاشم خاصة قلت: فما الحجة في أمة محمد أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟ قال: قول الله: و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسمعيل - ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم - ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك، و أرنا مناسكنا و تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، فلما أجاب الله إبراهيم و إسماعيل و جعل من ذريتهما أمة مسلمة و بعث فيها رسولا منهم يعني من تلك الأمة يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة و ردف دعوته الأولى دعوته الأخرى فسأل لهم تطهيرا من الشرك و من عبادة الأصنام ليصح أمره فيهم و لا يتبعوا غيرهم، فقال: و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام - رب إنهن أضللن كثيرا من الناس، فمن تبعني فإنه مني و من عصاني فإنك غفور رحيم، ففي هذا دلالة على أنه لا يكون الأئمة و الأمة المسلمة التي بعث فيها محمدا إلا من ذرية إبراهيم لقوله: اجنبني و بني أن نعبد الأصنام.
أقول: استدلاله (عليه السلام) في غاية الظهور، فإن إبراهيم (عليه السلام) إنما سأل أمة مسلمة من ذريته خاصة، و من المعلوم من ذيل دعوته: ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم إه: أن هذه الأمة المسلمة هي أمة محمد «(صلى الله عليه وآله وسلم)» لكن لا أمة محمد بمعنى الذين بعث «(صلى الله عليه وآله وسلم)» إليهم و لا أمة محمد بمعنى من آمن بنبوته فإن هذه الأمة أعم من ذرية إبراهيم و إسماعيل بل أمة مسلمة هي من ذرية إبراهيم (عليه السلام) ثم سأل ربه أن يجنب و يبعد ذريته و بنيه من الشرك و الضلال و هي العصمة، و من المعلوم أن ذرية إبراهيم و إسماعيل - و هم عرب مضر أو قريش خاصة فيهم ضال و مشرك فمراده من بنيه في قوله: و بني، أهل العصمة من ذريته خاصة، و هم النبي و عترته الطاهرة، فهؤلاء هم أمة محمد «(صلى الله عليه وآله وسلم)» في دعوة إبراهيم (عليه السلام)، و لعل هذه النكتة هي الموجبة للعدول عن لفظ الذرية إلى لفظ البنين، و يؤيده قوله: فمن تبعني فإنه مني، و من عصاني فإنك غفور رحيم الآية.
حيث أتى بفاء التفريع و أثبت من تبعه جزءا من نفسه، و سكت عن غيرهم كأنه ينكرهم و لا يعرفهم، هذا.
و قوله (عليه السلام): فسأل لهم تطهيرا من الشرك و من عبادة الأصنام، إنما سأل إبراهيم (عليه السلام) التطهير من عبادة الأصنام إلا أنه (عليه السلام) علله بالضلال فأنتج سؤال التطهير من جميع الضلال من عبادة الأصنام و من أي شرك حتى المعاصي، فإن كل معصية شرك كما مر بيانه في قوله تعالى: «صراط الذين أنعمت عليهم»: فاتحة الكتاب - 6. و قوله (عليه السلام): و في هذا دلالة على أنه لا يكون الأئمة و الأمة المسلمة، إلخ أي إنهما واحد، و هما من ذرية إبراهيم كما مر بيانه.
فإن قلت: لو كان المراد بالأمة في هذه الآيات و نظائرها كقوله تعالى «كنتم خير أمة أخرجت للناس»:، آل عمران - 110، عدة معدودة من الأمة دون الباقين كان لازمه المجاز في الكلام من غير موجب يصحح ذلك و لا مجوز لنسبة ذلك إلى كلامه تعالى، على أن كون خطابات القرآن متوجهة إلى جميع الأمة ممن آمن بالنبي ضروري لا يحتاج إلى إقامة حجة.
قلت: إطلاق أمة محمد و إرادة جميع من آمن بدعوته من الاستعمالات المستحدثة بعد نزول القرآن و انتشار الدعوة الإسلامية و إلا فالأمة بمعنى القوم كما قال تعالى «على أمم ممن معك و أمم سنمتعهم»: هود - 48، و ربما أطلق على الواحدة كقوله تعالى «إن إبراهيم كان أمة قانتا لله»: النحل - 120، و على هذا فمعناها من حيث السعة و الضيق يتبع موردها الذي استعمل فيه لفظها، أو أريد فيه معناها.
فقوله تعالى: ربنا و اجعلنا مسلمين لك، و من ذريتنا أمة مسلمة لك الآية - و المقام مقام الدعاء بالبيان الذي تقدم - لا يراد به إلا عدة معدودة ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كذا قوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس و هو في مقام الامتنان و تعظيم القدر و ترفيع الشأن لا يشمل جميع الأمة، و كيف يشمل فراعنة هذه الأمة و دجاجلتها الذين لم يجدوا للدين أثرا إلا عفوه و محوه، و لا لأوليائه عظما إلا كسروه و سيجيء تمام البيان في الآية إن شاء الله فهو من قبيل قوله تعالى لبني إسرائيل: «و أني فضلتكم على العالمين»: البقرة - 47، فإن منهم قارون و لا يشمله الآية قطعا، كما أن قوله تعالى: «و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا»: الفرقان - 30، لا يعم جميع هذه الأمة و فيهم أولياء القرآن و رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله تعالى.
و أما قوله تعالى: «تلك أمة قد خلت لها ما كسبت، و لكم ما كسبتم و لا تسئلون عما كانوا يعملون»: البقرة - 134، فالخطاب فيه متوجه إلى جميع الأمة ممن آمن بالنبي، أو من بعث إليه.
بحث علمي
إذا رجعنا إلى قصة إبراهيم (عليه السلام) و سيره بولده و حرمته إلى أرض مكة، و إسكانهما هناك، و ما جرى عليهما من الأمر، حتى آل الأمر، إلى ذبح إسماعيل و فدائه من جانب الله و بنائهما البيت، وجدنا القصة دورة كاملة من السير العبودي الذي يسير به العبد من موطن نفسه إلى قرب ربه، و من أرض البعد إلى حظيرة القرب بالإعراض عن زخارف الدنيا، و ملاذها، و أمانيها من جاه، و مال، و نساء و أولاد، و الانقلاع و التخلص عن وسائس الشياطين، و تكديرهم صفو الإخلاص و الإقبال و التوجه إلى مقام الرب و دار الكبرياء.
فها هي وقائع متفرقة مترتبة تسلسلت و تألفت قصة تاريخية تحكي عن سير عبودي من العبد إلى الله سبحانه و تشمل من أدب السير و الطلب و الحضور و رسوم الحب و الوله و الإخلاص على ما كلما زدت في تدبره إمعانا زادك استنارة و لمعانا.
ثم: إن الله سبحانه أمر خليله إبراهيم، أن يشرع للناس عمل الحج، كما قال «و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالا و على كل ضامر يأتين من كل فج عميق إلى آخر الآيات»: الحج - 27، و ما شرعه (عليه السلام) و إن لم يكن معلوما لنا بجميع خصوصياته، لكنه كان شعارا دينيا عند العرب في الجاهلية إلى أن بعث الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و شرع فيه ما شرع و لم يخالف فيه ما شرعه إبراهيم إلا بالتكميل كما يدل عليه قوله تعالى: «قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا»: الأنعام - 161، و قوله تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، و الذي أوحينا إليك، و ما وصينا به إبراهيم و موسى، و عيسى»: الشورى - 13.
و كيف كان فما شرعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من نسك الحج المشتمل على الإحرام و الوقوف بعرفات و مبيت المشعر و التضحية و رمي الجمرات و السعي بين الصفا و المروة و الطواف و الصلاة بالمقام تحكي قصة إبراهيم، و تمثل مواقفه و مواقف أهله و مشاهدهم و يا لها من مواقف طاهرة إلهية القائد إليها جذبة الربوبية و السائق نحوها ذلة العبودية.
و العبادات المشروعة - على مشرعيها أفضل السلام - صور لمواقف الكملين من الأنبياء من ربهم، و تماثيل تحكي عن مواردهم و مصادرهم في مسيرهم إلى مقام القرب و الزلفى، كما قال تعالى: «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة»: الأحزاب - 21 و هذا أصل.
و في الأخبار المبينة لحكم العبادات و أسرار جعلها و تشريعها شواهد كثيرة على هذا المعنى، يعثر عليها المتتبع البصير.
|