بيان
قوله تعالى: و قالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا، لما بين تعالى أن الدين الحق الذي كان عليه أولاد إبراهيم من إسماعيل و إسحاق و يعقوب و أولاده كان هو الإسلام الذي كان عليه إبراهيم حنيفا، استنتج من ذلك أن الاختلافات و الانشعابات التي يدعو إليها فرق المنتحلين من اليهود و النصارى، أمور اخترعتها هوساتهم، و لعبت بها أيديهم لكونهم في شقاق، فتقطعوا بذلك طوائف و أحزابا دينية، و صبغوا دين الله سبحانه - و هو دين التوحيد و دين الوحدة، بصبغة الأهواء و الأغراض و المطامع، مع أن الدين واحد كما أن الإله المعبود بالدين واحد و هو دين إبراهيم، و به فليتمسك المسلمون و ليتركوا شقاق أهل الكتاب.
فإن من طبيعة هذه الحياة الأرضية الدنيوية التغير و التحول في عين الجري و الاستمرار كنفس الطبيعة التي هي كالمادة لها و يوجب ذلك أن تتغير الرسوم و الآداب و الشعائر القومية بين طوائف الملل و شعباتها، و ربما يوجب ذلك تغييرا و انحرافا في المراسم الدينية، و ربما يوجب دخول ما ليس من الدين في الدين، أو خروج ما هو منه و الأغراض و الغايات الدنيوية ربما تحل محل الأغراض الدينية الإلهية و هي بلية الدين، و عند ذلك ينصبغ الدين بصبغة القومية فيدعو إلى هدف دون هدفه الأصلي و يؤدب الناس غير أدبه الحقيقي، فلا يلبث حتى يعود المنكر و هو ما ليس من الدين معروفا يتعصب له الناس لموافقته هوساتهم و شهواتهم و المعروف منكرا ليس له حام يحميه و لا واق يقيه و يئول الأمر إلى ما نشاهده اليوم من... و بالجملة فقوله تعالى: و قالوا كونوا هودا أو نصارى، إجمال تفصيل معناه و قالت اليهود كونوا هودا تهتدوا، و قالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا، كل ذلك لتشعبهم و شقاقهم.
قوله تعالى: قل بل ملة إبراهيم حنيفا و ما كان من المشركين، جواب عن قولهم أي قل، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا فإنها الملة الواحدة التي كان عليها جميع أنبيائكم، إبراهيم، فمن دونه، و ما كان صاحب هذه الملة و هو إبراهيم من المشركين و لو كان في ملته هذه الانشعابات، و هي الضمائم التي ضمها إليها المبتدعون، من الاختلافات لكان مشركا بذلك، فإن ما ليس من دين الله لا يدعو إلى الله سبحانه، بل إلى غيره و هو الشرك، فهذا دين التوحيد الذي لا يشتمل على ما ليس من عند الله تعالى.
قوله تعالى: قولوا آمنا بالله و ما أنزل إلينا، لما حكى ما يأمره به اليهود و النصارى من اتباع مذهبهم، ذكر ما هو عنده من الحق و الحق يقول و هو الشهادة على الإيمان بالله، و الإيمان بما عند الأنبياء، من غير فرق بينهم، و هو الإسلام و خص الإيمان بالله بالذكر و قدمه و أخرجه من بين ما أنزل على الأنبياء لأن الإيمان بالله فطري، لا يحتاج إلى بينة النبوة، و دليل الرسالة.
ثم ذكر سبحانه ما أنزل إلينا و هو القرآن أو المعارف القرآنية و ما أنزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب، ثم ذكر ما أوتي موسى و عيسى و خصهما بالذكر لأن المخاطبة مع اليهود و النصارى و هم يدعون إليهما فقط ثم ذكر ما أوتي النبيون من ربهم، ليشمل الشهادة جميع الأنبياء فيستقيم قوله بعد ذلك: لا نفرق بين أحد منهم.
و اختلاف التعبير في الكلام، حيث عبر عما عندنا و عند إبراهيم و إسحاق و يعقوب بالإنزال و عما عند موسى و عيسى و النبيين بالإيتاء و هو الإعطاء، لعل الوجه فيه أن الأصل في التعبير هو الإيتاء، كما قال تعالى بعد ذكر إبراهيم، و من بعده و من قبله من الأنبياء في سورة الأنعام: «أولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة»:، الأنعام - 89، لكن لفظ الإيتاء ليس بصريح في الوحي و الإنزال كما قال تعالى: «و لقد آتينا لقمان الحكمة»: لقمان - 12، و قال: «و لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة»: الجاثية - 16، و لما كان كل من اليهود و النصارى يعدون إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط من أهل ملتهم، فاليهود من اليهود، و النصارى من النصارى، و اعتقادهم أن الملة الحق من النصرانية، أو اليهودية، هي ما أوتيه موسى و عيسى، فلو كان قيل: و ما أوتي إبراهيم و إسماعيل لم يكن بصريح في كونهم بأشخاصهم صاحب ملة بالوحي و الإنزال و احتمل أن يكون ما أوتوه، هو الذي أوتيه موسى و عيسى (عليهما السلام) نسب إليهم بحكم التبعية كما نسب إيتاؤه إلى بني إسرائيل فلذلك خص إبراهيم و من عطف عليه باستعمال لفظ الإنزال، و أما النبيون قبل إبراهيم فليس لهم فيهم كلام حتى يوهم قوله: و ما أوتي النبيون شيئا يجب دفعه.
قوله تعالى: و الأسباط، الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل و السبط كالقبيلة الجماعة يجتمعون على أب واحد، و قد كانوا اثنتي عشرة أسباطا أمما و كل واحدة منهم تنتهي إلى واحد من أولاد يعقوب و كانوا اثني عشر، فخلف كل واحد منهم أمة من الناس.
فإن كان المراد بالأسباط الأمم و الأقوام فنسبة الإنزال إليهم لاشتمالهم على أنبياء من سبطهم، و إن كان المراد بالأسباط الأشخاص كانوا أنبياء أنزل إليهم الوحي و ليسوا بإخوة يوسف لعدم كونهم أنبياء، و نظير الآية قوله تعالى: «و أوحينا إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط و عيسى»: النساء - 163.
قوله تعالى: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا، الإتيان بلفظ المثل مع كون أصل المعنى، فإن آمنوا بما آمنتم به، لقطع عرق الخصام و الجدال، فإنه لو قيل لهم أن آمنوا بما آمنا به أمكن أن يقولوا كما قالوا، بل نؤمن بما أنزل علينا و نكفر بما وراءه، لكن لو قيل لهم، إنا آمنا بما لا يشتمل إلا على الحق فآمنوا أنتم بما يشتمل على الحق مثله، لم يجدوا طريقا للمراء و المكابرة، فإن الذي بيدهم لا يشتمل على صفوة الحق.
قوله تعالى: في شقاق، الشقاق النفاق و المنازعة و المشاجرة و الافتراق.
قوله تعالى: فسيكفيكهم الله، وعد لرسول الله بالنصرة عليهم، و قد أنجز وعده و سيتم هذه النعمة للأمة الإسلامية إذا شاء، و اعلم: أن الآية معترضة بين الآيتين السابقة و اللاحقة.
قوله تعالى: صبغة الله و من أحسن من الله صبغة، الصبغة بناء نوع من الصبغ أي هذا الإيمان المذكور صبغة إلهية لنا، و هي أحسن الصبغ لا صبغة اليهودية و النصرانية بالتفرق في الدين، و عدم إقامته.
قوله تعالى: و نحن له عابدون، في موضع الحال، و هو كبيان العلة لقوله: صبغة الله و من أحسن.
قوله تعالى: قل أ تحاجوننا في الله، إنكار لمحاجة أهل الكتاب، المسلمين في الله سبحانه و قد بين وجه الإنكار، و كون محاجتهم لغوا و باطلا، بقوله و هو ربنا و ربكم و لنا أعمالنا و لكم أعمالكم و نحن له مخلصون، و بيانه: أن محاجة كل تابعين في متبوعهما و مخاصمتهما فيه إنما تكون لأحد أمور ثلاثة: إما لاختصاص كل من التابعين بمتبوع دون متبوع الآخر، فيريدان بالمحاجة كل تفضيل متبوعه و ربه على الآخر، كالمحاجة بين وثني و مسلم، و إما لكون كل واحد منهما أو أحدهما و يريد مزيد الاختصاص به، و إبطال نسبة رفيقه، أو قربه أو ما يشبه ذلك، بعد كون المتبوع واحدا، و إما لكون أحدهما ذا خصائص و خصال لا ينبغي أن ينتسب إلى هذا المتبوع و فعاله ذاك الفعال، و خصاله تلك الخصال لكونه موجبا، لهتكه أو سقوطه أو غير، ذلك فهذه علل المحاجة و المخاصمة بين كل تابعين، و المسلمون و أهل الكتاب إنما يعبدون إلها واحدا، و أعمال كل من الطائفتين لا تزاحم الأخرى شيئا و المسلمون مخلصون في دينهم لله، فلا سبب يمكن أن يتشبث به أهل الكتاب في محاجتهم، و لذلك أنكر عليهم محاجتهم أولا ثم نفى واحدا واحدا من أسبابها الثلاثة، ثانيا.
قوله تعالى: أم تقولون إن إبراهيم إلى قوله كانوا هودا أو نصارى، و هو قول كل من الفريقين، أن إبراهيم و من ذكر بعده منهم، و لازم ذلك كونهم هودا أو نصارى أو قولهم صريحا أنهم كانوا هودا أو نصارى، كما يفيده ظاهر قوله تعالى «يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم و ما أنزلت التوراة و الإنجيل إلا من بعده أ فلا تعقلون»: آل عمران - 65.
قوله تعالى: قل أ أنتم أعلم أم الله، فإن الله أخبرنا و أخبركم في الكتاب أن موسى و عيسى و كتابيهما بعد إبراهيم و من ذكر معه.
قوله تعالى: و من أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، أي كتم ما تحمل شهادة أن الله أخبر بكون تشريع اليهودية أو النصرانية بعد إبراهيم و من ذكر معه، فالشهادة المذكورة في الآية، شهادة تحمل، أو المعنى كتم شهادة الله على كون هؤلاء قبل التوراة و الإنجيل، فالشهادة شهادة أداء، المتعين هو المعنى الأول.
قوله تعالى: تلك أمة قد خلت، أي أن الغور في الأشخاص و أنهم ممن كانوا لا ينفع حالكم، و لا يضركم السكوت عن المحاجة و المجادلة فيهم، و الواجب عليكم الاشتغال بما تسألون غدا عنه، و تكرار الآية مرتين لكونهم يفرطون في هذه المحاجة التي لا تنفع لحالهم شيئا، و خصوصا مع علمهم بأن إبراهيم كان قبل اليهودية و النصرانية، و إلا فالبحث عن حال الأنبياء، و الرسل بما ينفع البحث فيه كمزايا رسالاتهم و فضائل نفوسهم الشريفة مما ندب إليه القرآن حيث يقص قصصهم و يأمر بالتدبر فيها.
بحث روائي
في تفسير العياشي،: في قوله تعالى قل: بل ملة إبراهيم حنيفا الآية، عن الصادق (عليه السلام) قال إن الحنيفية في الإسلام.
و عن الباقر (عليه السلام): ما أبقت الحنيفية شيئا، حتى أن منها قص الشارب و قلم الأظفار و الختان.
و في تفسير القمي،: أنزل الله على إبراهيم الحنيفية، و هي الطهارة، و هي عشرة: خمسة في الرأس و خمسة في البدن، فأما التي في الرأس فأخذ الشارب و إعفاء اللحى و طم الشعر و السواك و الخلال، و ما التي في البدن فأخذ الشعر من البدن و الختان و قلم الأظفار و الغسل من الجنابة، و الطهور بالماء و هي الحنيفية الطاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم تنسخ و لا تنسخ إلى يوم القيامة.
أقول: طم الشعر جزه، و توفيره و في معنى الرواية أو ما يقرب منه أحاديث كثيرة جدا روتها الفريقان في كتبهم.
و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى، قولوا آمنا بالله الآية، قال إنما عنى بها عليا و فاطمة و الحسن و الحسين و جرت بعدهم في الأئمة الحديث.
أقول: و يستفاد ذلك من وقوع الخطاب في ذيل دعوة إبراهيم و من ذريتنا أمة مسلمة لك الآية و لا ينافي ذلك توجيه الخطاب إلى عامة المسلمين و كونهم مكلفين بذلك، فإن لهذه الخطابات عموما و خصوصا بحسب مراتب معناها على ما مر في الكلام على الإسلام و الإيمان و مراتبهما.
و في تفسير القمي، عن أحدهما، و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى صبغة الله الآية، قال الصبغة هي الإسلام.
أقول: و هو الظاهر من سياق الآيات.
و في الكافي، و المعاني، عن الصادق (عليه السلام) قال: صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق.
أقول: و هو من باطن الآية على ما سنبين معناه و نبين أيضا معنى الولاية و معنى الميثاق إن شاء الله العزيز.
|