بيان
قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى، الظاهر و الله أعلم - أن المراد بالهدى ما تضمنه الدين الإلهي من المعارف و الأحكام الذي يهدي تابعيه إلى السعادة، و بالبينات الآيات و الحجج التي هي بينات و أدلة و شواهد على الحق الذي هو الهدى، فالبينات في كلامه تعالى وصف خاص بالآيات النازلة، و على هذا يكون المراد بالكتمان و هو الإخفاء - أعم من كتمان أصل الآية، و عدم إظهاره للناس، أو كتمان دلالته بالتأويل أو صرف الدلالة بالتوجيه، كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه لهم، و ما يعلم به الناس يؤولونه بصرفه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: من بعد ما بيناه للناس، أفاد أن كتمانهم إنما هو بعد البيان و التبين للناس، لا لهم فقط، و ذلك أن التبين لكل شخص شخص من أشخاص الناس أمر لا يحتمله النظام الموجود المعهود في هذا العالم، لا في الوحي فقط، بل في كل إعلام عمومي و تبيين مطلق، بل إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة و إلى بعض آخرين بواسطتهم، بتبليغ الحاضر الغائب، و العالم الجاهل، فالعالم يعد من وسائط البلوغ و أدواته، كاللسان و الكلام: فإذا بين الخبر للعالم المأخوذ عليه الميثاق بعلمه مع غيره من المشافهين فقد بين الناس، فكتمان العالم علمه هذا كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم و هو السبب الوحيد الذي عده الله سبحانه سببا لاختلاف الناس في الدين و تفرقهم في سبل الهداية و الضلالة، و إلا فالدين فطري تقبله الفطرة و تخضع له القوة المميزة بعد ما بين لها، قال تعالى «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون»: الروم - 30، فالدين فطري على الخلقة لا يدفعه الفطرة أبدا لو ظهر لها ظهورا ما بالصفاء من القلب، كما في الأنبياء، أو ببيان قولي، و لا محالة ينتهي هذا الثاني إلى ذلك الأول فافهم ذلك.
و لذلك جمع في الآية بين كون الدين فطريا على الخلقة و بين عدم العلم به فقال: فطرة الله التي فطر الناس عليها، و قال: لكن أكثر الناس لا يعلمون، و قال تعالى: «و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم»: البقرة - 213، فأفاد أن الاختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب إنما هو ناش عن بغي العلماء الحاملين له، فالاختلافات الدينية و الانحراف عن جادة الصواب معلول بغي العلماء بالإخفاء و التأويل و التحريف، و ظلمهم، حتى أن الله عرف الظلم بذلك يوم القيامة كما قال: «فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا»: الأعراف - 44، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.
فقد تبين أن الآية مبتنية على الآية أعني، أن قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب الآية، مبتنية على قوله تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم الآية، و مشيرة إلى جزاء هذا البغي بذيلها و هو قوله: أولئك يلعنهم الله إلخ.
قوله تعالى: أولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون، بيان لجزاء بغي الكاتمين لما أنزله الله من الآيات و الهدى، و هو اللعن من الله، و اللعن من كل لاعن، و قد كرر اللعن لأن اللعن مختلف فإنه من الله التبعيد من الرحمة و السعادة و من اللاعنين سؤاله من الله، و قد أطلق اللعن منه و من اللاعنين و أطلق اللاعنين، و هو يدل على توجيه كل اللعن من كل لاعن إليهم و الاعتبار يساعد عليه فإن الذي يقصده لاعن بلعنه هو البعد عن السعادة، و لا سعادة بحسب الحقيقة، إلا السعادة الحقيقية الدينية، و هذه السعادة لما كانت مبينة من جانب الله، مقبولة عند الفطرة، فلا يحرم عنها محروم إلا بالرد و الجحود، و كل هذا الحرمان إنما هو لمن علم بها و جحدها عن علم دون من لا يعلم بها و لم تبين له، و قد أخذ الميثاق على العلماء أن يبثوا علمهم و ينشروا ما عندهم من الآيات و الهدى، فإذا كتموه و كفوا عن بثه فقد جحدوه فأولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون، و يشهد لما ذكرنا الآية الآتية: إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار - إلى قوله أجمعين الآية فإن الظاهر أن قوله: إن للتعليل أو لتأكيد مضمون هذه الآية، بتكرار ما هو في مضمونها و معناها و هو قوله: الذين كفروا و ماتوا و هم كفار.
قوله تعالى: إلا الذين تابوا و أصلحوا و بينوا الآية استثناء من الآية السابقة، و المراد بتقييد توبتهم بالتبين أن يتبين أمرهم و يتظاهروا بالتوبة، و لازم ذلك أن يبينوا ما كتموه للناس و أنهم كانوا كاتمين و إلا فلم يتوبوا بعد لأنهم كاتمون بعد بكتمان أنهم كانوا كاتمين.
قوله تعالى: إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار، كناية عن إصرارهم على كفرهم و عنادهم و تعنتهم في قبول الحق فإن من لا يدين بدين الحق لا لعناد و استكبار بل لعدم تبينه له ليس بكافر بحسب الحقيقة، بل مستضعف، أمره إلى الله، و يشهد بذلك تقييد كفر الكافرين في غالب الآيات و التكذيب و خاصة في آيات هبوط آدم المشتملة على أول تشريع شرع لنوع الإنسان، قال تعالى: «قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى» إلى قوله - «و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»: البقرة - 39، فالمراد بالذين كفروا في الآية هم المكذبون المعاندون - و هم الكاتمون لما أنزل الله - و جازاهم الله تعالى بقوله: أولئك عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين، و هذا حكم من الله سبحانه أن يلحق بهم كل لعن لعن به ملك من الملائكة أو أحد من الناس جميعا من غير استثناء، فهؤلاء سبيلهم سبيل الشيطان، إذ قال الله سبحانه فيه: «و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين»: الحجر - 35، فجعل جميع اللعن عليه فهؤلاء - و هم العلماء الكاتمون لعلمهم - شركاء الشيطان في اللعن العام المطلق و نظراؤه فيه، فما أشد لحن هذه الآية و أعظم أمرها! و سيجيء في الكلام على قوله تعالى: «ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم»: الأنفال - 37، ما يتعلق بهذا المقام إن شاء الله العزيز.
قوله تعالى: خالدين فيها، أي في اللعنة و قوله: لا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينظرون، في تبديل السياق بوضع العذاب موضع اللعنة دلالة على أن اللعنة تتبدل عليهم عذابا.
و اعلم أن في هذه الآيات موارد من الالتفات، فقد التفت في الآية الأولى من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: أولئك يلعنهم الله، لأن المقام مقام تشديد السخط، و السخط يشتد إذا عظم اسم من ينسب إليه أو وصفه - و لا أعظم من الله سبحانه - فنسب إليه اللعن ليبلغ في الشدة كل مبلغ، ثم التفت في الآية الثانية من الغيبة إلى التكلم وحده بقوله: فأولئك أتوب عليهم و أنا التواب الرحيم، للدلالة على كمال الرحمة و الرأفة، بإلقاء كل نعت و طرح كل صفة و تصدى الأمر بنفسه تعالى و تقدس، فليست الرأفة و الحنان المستفادة من هذه الجملة كالتي يستفاد من قولنا مثلا: فأولئك يتوب الله عليهم أو يتوب ربهم عليهم، ثم التفت في الآية الثالثة من التكلم وحده إلى الغيبة بقوله: أولئك عليهم لعنة الله، و الوجه فيه نظير ما ذكرناه في الالتفات الواقع في الآية الأولى.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن بعض أصحابنا عن الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن قول الله عز و جل: إن الذين يكتمون الآية، قال: نحن نعنى بها و الله المستعان إن الواحد منا إذا صارت إليه لم يكن له أو لم يسعه إلا أن يبين للناس من يكون بعده.
و عن الباقر (عليه السلام)،: في الآية، قال: يعني بذلك نحن، و الله المستعان.
و عن محمد بن مسلم قال (عليه السلام): هم أهل الكتاب.
أقول: كل ذلك من قبيل الجري و الانطباق، و إلا فالآية مطلقة.
و في بعض الروايات عن علي (عليه السلام): تفسيره بالعلماء إذا فسدوا.
و في المجمع، عن النبي: في الآية، قال: من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، و هو قوله: أولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون.
أقول: و الخبران يؤيدان ما قدمناه.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و يلعنهم اللاعنون، قال: نحن هم، و قد قالوا: هوام الأرض.
أقول: هو إشارة إلى ما يفيده قوله تعالى: «و يقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين»: هود - 18، فإنهم الأشهاد المأذونون في الكلام يوم القيامة، و القائلون صوابا، و قوله: و قالوا: هوام الأرض، هو منقول عن المفسرين كمجاهد و عكرمة و غيرهما، و ربما نسب في بعض الروايات إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى، في علي.
أقول: و هو من قبيل الجري و الانطباق.
|