بيان
قوله تعالى: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا إلى آخر الآيتين، الحلال مقابل الحرام الممنوع اقتحامه، و الحل مقابل الحرمة، و الحل مقابل حرم، و الحل مقابل العقد، و هو في جميع موارد استعماله يعطي معنى حرية الشيء في فعله و أثره، و الطيب - مقابل الخبيث - ما يلائم النفس و الشيء، كالطيب من القول لملاءمته السمع، و الطيب من العطر يلائم الشامة، و الطيب من المكان يلائم حال المتمكن فيه.
و الخطوات بضمتين جمع خطوة، و هي ما بين القدمين للماشي، و قرىء خطوات بفتحتين و هي جمع خطوة و هي المرة، و خطوات الشيطان هي الأمور التي نسبته إلى غرض الشيطان - و هو الإغواء بالشرك - نسبة خطوات الماشي إلى مقصده و غرضه، فهي الأمور التي هي مقدمات للشرك و البعد من الله سبحانه، و الأمر هو تحميل الآمر إرادة نفسه على المأمور ليأتي ما يريده، و الأمر من الشيطان وسوسته و تحميله ما يريده من الإنسان عليه بإخطاره في قلبه و تزيينه في نظره و السوء ما ينافره الإنسان و يستقبحه بنظر الاجتماع فإذا جاوز حده و تعدى طوره كان فحشاء و لذلك سمي الزنا بالفحشاء و هو مصدر كالسراء و الضراء.
و قد عمم تعالى الخطاب لجميع الناس لأن الحكم الذي يقرعه سمعهم و يبينه لهم مما يبتلى به الكل، أما المشركون: فقد كان عندهم أمور مما حرموه على أنفسهم افتراء على الله كما روي أن ثقيفا و خزاعة و بني عامر بن صعصعة و بني مدلج كانوا قد حرموا على أنفسهم أشياء من الحرث و الأنعام و البحيرة و السائبة و الوصيلة، هذا في العرب، و في غيرهم أيضا يوجد أشياء كثيرة من هذا القبيل، و أما المؤمنون: فربما كان يبقى بعد الإسلام بينهم أمور خرافية طبق ناموس توارث الأخلاق و الآداب القومية و السنن المنسوخة بنواسخ غير تدريجية كالأديان و القوانين و غيرهما فإن كل طريقة جديدة دينية أو دنيوية إذا نزلت بدار قوم فإنما تتوجه أول ما تتوجه إلى أصول الطريقة القديمة و أعراقها فتقطعه فإن دامت على حياتها و قوتها - و ذلك بحسن التربية و حسن القبول - أماتت الفروع و قطعت الأذناب و إلا فاختلطت بقايا من القديمة بالحديثة و التأمت بها و صارت كالمركب النباتي، ما هو بهذا و لا ذاك.
فأمر تعالى الناس أن يأكلوا مما في الأرض، و الأكل هو البلع عن مضغ و ربما يكنى بالأكل عن مطلق التصرف في الأموال لكون الأكل هو الأصل في أفعال الإنسان و الركن في حياته كما قال تعالى: «و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض»: النساء - 29، و الآية لا تأبى الحمل على هذا المعنى الوسيع لإطلاقها، و المعنى كلوا و تصرفوا و تمتعوا مما في الأرض من النعم الإلهية التي هيأته لكم طبيعة الأرض بإذن الله و تسخيره أكلا حلالا طيبا، أي لا يمنعكم عن أكله أو التصرف فيه مانع من قبل طبائعكم و طبيعة الأرض، كالذي لا يقبل بطبعه الأكل، أو الطبع لا يقبل أكله، و لا تنفر طبائعكم عن أكله مما يقبل الطبع أكله لكن ينافره و يأبى عنه السليقة كالأكل الذي توسل إليه بوسيلة غير جائزة.
فقوله تعالى: كلوا مما في الأرض حلالا طيبا، يفيد الإباحة العامة من غير تقييد و اشتراط فيه إلا أن قوله و لا تتبعوا خطوات الشيطان، إلخ يفيد: أن هاهنا أمورا تسمى خطوات الشيطان - متعلقة بهذا الأكل الحلال الطيب - إما كف عن الأكل اتباعا للشيطان، و إما إقدام عليه اتباعا للشيطان، ثم ذكر ضابط ما يتبع فيه الشيطان بأنه سوء و فحشاء، و قول ما لا يعلم على الله سبحانه و إذا كان الكف غير جائز إلا برضى من الله تعالى فالفعل أيضا كذلك فليس الأكل مما في الأرض حلالا طيبا إلا أن يأذن الله تعالى و يشرعه و قد شرعه بهذه الآية و نظائرها و لا يمنع عنه بنهي أو ردع كما سيأتي من قوله تعالى: «إنما حرم عليكم الميتة و الدم» الآية فرجع معنى الآية - و الله أعلم - إلى نحو قولنا كلوا مما في الأرض من نعم الله المخلوقة لكم فقد جعله الله لكم حلالا طيبا و لا تتركوا بعضا منها كفا و امتناعا فيكون سوء و فحشاء و قولا بغير علم أي تشريعا ليس لكم ذلك و هو اتباع خطوات الشيطان.
فالآية تدل أولا: على عموم الحلية في جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل فإن لله سبحانه المنع فيما له الإذن فيه.
و ثانيا: على أن الامتناع مما أحله الله من غير دليل علمي تشريع محرم.
و ثالثا: على أن المراد من اتباع خطوات الشيطان التعبد لله بما لم يأذن في التعبد بذلك فإنه لم ينه عن المشي و السلوك لكن عن المشي الذي يضع فيه الإنسان قدمه موضع قدم الشيطان فينطبق مشيته على مشيته فيكون متبعا لخطواته، و من هنا يعلم أن عموم التعليل، و هو قوله إنما يأمركم «إلخ» و إن اقتضى المنع عن الاقتحام في فعل بغير علم كما يقتضي المنع عن الامتناع بغير علم لكنه ليس بمراد في الخطاب فإنه ليس من اتباع خطوات الشيطان و إن كان اتباعا للشيطان.
قوله تعالى: إنما يأمركم بالسوء و الفحشاء و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون، السوء و الفحشاء يكونان في الفعل، و في مقابله القول، و بذلك يظهر: أن ما يأمر به الشيطان ينحصر في الفعل الذي هو سوء و فحشاء، و القول الذي هو قول بغير علم.
قوله تعالى: و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا، الإلفاء الوجدان أي وجدنا عليه آباءنا، و الآية تشهد بما استفدناه من الآية السابقة في معنى خطوات الشيطان.
قوله تعالى: أ و لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا و لا يهتدون، جواب عن قولهم، و بيانه أنه قول بغير علم و لا تبين، و ينافيه صريح العقل فإن قولهم: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، قول مطلق أي نتبع آباءنا على أي حال و على أي وصف كانوا، حتى لو لم يعلموا شيئا و لم يهتدوا و نقول ما فعلوه حق، و هذا هو القول بغير علم، و يؤدي إلى القول بما لا يقول به عاقل لو تنبه له و لو كانوا اتبعوا آباءهم فيما علموه و اهتدوا فيه و هم يعلمون: أنهم علموا و اهتدوا فيه لم يكن من قبيل الاهتداء بغير علم.
و من هنا: يعلم أن قوله تعالى: لا يعقلون شيئا و لا يهتدون، ليس واردا مورد المبالغة نظرا إلى أن سلب مطلق العلم عن آبائهم مع كونهم يعلمون أشياء كثيرة في حياتهم لا يحتمل إلا المبالغة.
و ذلك أن الكلام مسوق سوق الفرض بإبداء تقدير لا يقول بجواز الاتباع فيه قائل ليبطل به إطلاق قولهم نتبع ما ألفينا عليه آباءنا و هو ظاهر.
قوله تعالى: و مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء، المثل هو الكلام السائر و المثل هو الوصف كقوله تعالى: «انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا»: الفرقان - 9، و النعيق صوت الراعي لغنمه زجرا يقال: نعق الراعي بالغنم ينعق نعيقا إذا صاح بها زجرا، و النداء مصدر نادى ينادي مناداة، و هو أخص من الدعاء ففيه معنى الجهر بالصوت و نحوه بخلاف الدعاء، و المعنى - و الله أعلم - و مثلك في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق من البهائم بما لا يسمع من نعيقه إلا دعاء و نداء ما، فينزجر بمجرد قرع الصوت سمعه من غير أن يعقل شيئا فهم صم لا يسمعون كلاما يفيدهم، و بكم لا يتكلمون بما يفيد معنى، و عمي لا يبصرون شيئا فهم لا يعقلون شيئا لأن الطرق المؤدية إلى التعقل مسدودة عليهم.
و من ذلك يظهر أن في الكلام قلبا أو عناية أخرى يعود إليه فإن المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى إلا أن الأوصاف الثلاثة التي استنتج و استخرج من المثل و ذكرت بعده، و هي قوله: صم بكم عمي فهم لا يعقلون، لما كانت أوصافا للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحق استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذين كفروا لا إلى رسول الله تعالى فأنتج ما أشبه القلب.
بحث روائي
في التهذيب، عن عبد الرحمن، قال: سألت أبا عبد الله عن رجل حلف أن ينحر ولده قال: ذلك من خطوات الشيطان.
و عن منصور بن حازم أيضا قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): أ ما سمعت بطارق إن طارقا كان نخاسا بالمدينة فأتى أبا جعفر فقال يا أبا جعفر إني حلفت بالطلاق و العتاق و النذر؟ فقال له يا طارق إن هذا من خطوات الشيطان.
و في تفسير العياشي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كل يمين بغير الله فهو من خطوات الشيطان.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إذا حلف الرجل على شيء و الذي حلف عليه إتيانه خير من تركه فليأت الذي هو خير و لا كفارة له، و إنما ذلك من خطوات الشيطان.
أقول: و الأحاديث كما ترى مبنية على كون المراد من خطوات الشيطان الأعمال التي يتقرب بها و ليست بمقربة لعدم العبرة بها شرعا كما ذكرناه في البيان السابق نعم في خصوص الطلاق و نحوه وجه آخر للبطلان و هو التعليق المنافي للإنشاء، و المسألة فقهية، و المراد باليمين بغير الله هو اليمين الذي يترتب عليه أثر اليمين الشرعي أو القسم بما لم يقسم به الله و لم يثبت له كرامة شيئا.
و في المجمع، عن الباقر: في قوله تعالى: و مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق الآية، قال: أي مثلهم في دعائك إياهم إلى الإيمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم و إنما تسمع الصوت.
بحث أخلاقي و اجتماعي
الآراء و العقائد التي يتخذها الإنسان إما نظرية لا تعلق لها بالعمل من غير واسطة كالمسائل المتعلقة بالرياضيات و الطبيعيات و ما وراء الطبيعة، و إما عملية متعلقة بالعمل بلا واسطة كالمسائل المتعلقة بما ينبغي فعله و ما لا ينبغي، و السبيل في القسم الأول هو اتباع العلم و اليقين المنتهي إلى برهان أو حس، و في القسم الثاني اتباع ما يوصل إلى الخير الذي فيه سعادة الإنسان أو النافع فيها، و اجتناب ما ينتهي إلى شقائه أو يضره في سعادته، و أما الاعتقاد بما لا علم له بكونه حقا في القسم الأول، و الاعتقاد بما لا يعلم كونه خيرا أو شرا فهو اعتقاد خرافي.
و الإنسان لما كانت آراؤه منتهية إلى اقتضاء الفطرة الباحثة عن علل الأشياء و الطبيعة الباعثة له إلى الاستكمال بما هو كماله حقيقة فإنه لا تخضع نفسه إلى الرأي الخرافي المأخوذ على العمياء و جهلا إلا أن العواطف النفسانية و الإحساسات الباطنية التي تثيرها الخيال - و عمدتها الخوف و الرجاء - ربما أوجبت له القول بالخرافة من جهة أن الخيال يصور له صورا يستصحب خوفا أو رجاء فيحفظها إحساس الخوف أو الرجاء، و لا يدعها تغيب عن النفس الخائفة أو الراجية، كما أن الإنسان إذا أحل واديا - و هو وحده بلا أنيس و الليل داج مظلم و البصر حاسر عن الإدراك - فلا مؤمن يؤمنه بتميز المخاطر من غيرها بضياء و نحوه فترى أن خياله يصور له كل شبح يتراءى له غولا مهيبا يقصده بالإهلاك أو روحا من الأرواح، و ربما صور له حركة و ذهابا و إيابا و صعودا في السماء و نزولا إلى الأرض، و أشكالا و تماثيل ثم لا يزال الخيال يكرر له هذا الشبه المجعول كلما ذكره و حاله حاله من الخوف، ثم ربما نقله لغيره فأوجد فيه حالا نظير حاله و لا يزال ينتشر - و هو موضوع خرافي لا ينتهي إلى حقيقة -.
و ربما هيج الخيال حسن الدفاع من الإنسان أن يضع أعمالا لدفع شر هذا الموجود الموهوم و يحث غيره على العمل بها للأمن من شره فيذهب سنة خرافية.
و لم يزل الإنسان منذ أقدم أعصار حياته مبتلى بآراء خرافية حتى اليوم و ليس كما يظن من أنها من خصائص الشرقيين فهي موجودة بين الغربيين مثلهم لو لم يكونوا أحرص عليها منهم.
و لا يزال الخواص من الإنسان - و هم العلماء - يحتالون في إمحاء رسوم هذه الخرافات المتمكنة في نفوس العامة من الناس بلطائف حيلهم التي توجب تنبه العامة و تيقظهم في أمرها، و قد أعيا الداء الطبيب فإن الإنسان لا يخلو من التقليد و الاتباع في الآراء النظرية و المعلومات الحقيقية من جانب، و من الإحساسات و العواطف النفسانية من جانب آخر، و ناهيك في ذلك أن العلاج لم ينجح إلى اليوم.
و أعجب من الجميع ما يراه في ذلك أهل الحضارة و علماء الطبيعة اليوم! فقد ذكروا أن العلم اليوم يبنى أساسه على الحس و التجربة و يدفع ما دون ذلك، و المدنية و الحضارة تبنى أساسه على استكمال الاجتماع في كل كمال ميسور ما استيسر، و بنوا التربية على ذلك.
مع أن ذلك - و هو عجيب - نفسه من اتباع الخرافة فإن علوم الطبيعة إنما تبحث عن خواص الطبيعة و تثبتها لموضوعاتها، و بعبارة أخرى هذه العلوم المادية إنما تكشف دائما عن خبايا خواص المادة، و أما ما وراء ذلك فلا سبيل لها إلى نفيه و إبطاله فالاعتقاد بانتفاء ما لا تناله الحس و التجربة من غير دليل من أظهر الخرافات.
و كذلك بناء المدنية على استكمال الاجتماع المذكور فإن هذا الاستكمال و النيل بالسعادة الاجتماعية ربما يستلزم حرمان بعض الأفراد من سعادته الحيوية الفردية كتحمل القتل و التفدية في الدفاع عن الوطن أو القانون أو المرام، و المحرومية من سعادة الشخص لأجل وقاية حريم الاجتماع فهذه الحرمانات لا يقدم فيها الإنسان إلا عن عقيدة الاستكمال، و أن يراها كمالات - و ليست كمالات لنفسه - بل عدم و حرمان لها، و إنما هي كمالات - لو كانت كمالات - للمجتمع من حيث هو مجتمع و إنما يريد الإنسان الاجتماع لأجل نفسه لا نفسه لأجل الاجتماع، و لذلك كله ما احتالت هذه الاجتماعات لأفرادها فلقنوهم أن الإنسان يكتسب بالتفدية ذكرا جميلا و اسما باقيا على الفخر دائما و هو الحياة الدائمة، و هذه خرافة، و أي حياة بعد البطلان و الفناء غير أنا نسميه حياة، تسمية ليس وراءها شيء؟.
و مثلها القول: إن الإنسان يجب له تحمل مر القانون و الصبر على الحرمان في بعض ما يشتهيه نفسه ليتحفظ به الاجتماع فينال كماله في الباقي فيعتقد أن كمال الاجتماع كماله، و هذه خرافة، فإن كمال الاجتماع إنما هو كماله فيما يتطابق الكمالان و أما غير ذلك فلا فأي موجب على فرد بالنسبة إلى كماله أو اجتماع قوم بالنسبة إلى اجتماع الدنيا إذا قدر على نيل ما يبتغيه من آماله و لو بالجور و فاق في القوة و الاستطاعة من غير مقاوم يقاومه أن يعتقد أن كمال الاجتماع كماله و الذكر الجميل فخارة؟ كما أن أقوياء الأمم لا يزالون على الانتفاع من حياة الأمم الضعيفة، فلا يجدون منهم موطئا إلا وطئوه، و لا منالا إلا نالوه، و لا نسمة إلا استرقوه و استعبدوه، و هل ذلك إلا علاجا لمزمن الداء بالإفناء؟.
و أما ما سلكه القرآن في ذلك فهو أمره باتباع ما أنزل الله و النهي عن القول بغير علم، هذا في النظر، و أما في العمل فأمره بابتغاء ما عند الله فيه فإن كان مطابقا لما يشتهيه النفس كان فيه سعادة الدنيا و الآخرة و إن كان فيه حرمانها، فعند الله عظيم الأجر، و ما عند الله خير و أبقى.
و الذي يقوله أصحاب الحس: أن اتباع الدين تقليد يمنع عنه العلم و أنه من خرافات العهد الثاني من العهود الأربعة المارة على نوع الإنسان و هي عهد الأساطير و عهد المذهب و عهد الفلسفة و عهد العلم، و هو الذي عليه البشر اليوم من اتباع العلم و رفض الخرافات فهو قول بغير علم و رأي خرافي.
أما إن اتباع الدين تقليد فيبطله: أن الدين مجموع مركب من معارف المبدأ و المعاد، و من قوانين اجتماعية من العبادات و المعاملات مأخوذة من طريق الوحي و النبوة الثابت صدقه بالبرهان و المجموعة من الأخبار التي أخبر بها الصادق صادقة و اتباعها اتباع للعلم لأن المفروض العلم بصدق مخبرها بالبرهان، و قد مر في البحث التالي لقوله تعالى «و إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة»: البقرة - 67، كلام في التقليد فارجع.
و من العجيب أن هذا القول قول من ليس بيده في أصول الحياة و سنن الاجتماع: من مأكله و مشربه و ملبسه و منكحه و مسكنه و غير ذلك إلا التقليد على العمى و اتباع الهوى من غير تثبت و تبين، نعم اختلقوا للتقليد اسما آخر و هو اتباع السنة الذي ترتضيه الدنيا الراقية فصار التقليد بذلك ممحو الاسم ثابت الرسم، مهجور اللفظ، مأنوس المعنى، و كان ألق دلوك في الدلاء شعارا علميا و رقيا مدنيا و عاد و لا تتبع الهوى فيضلك تقليدا دينيا و قولا خرافيا.
و أما تقسيمهم سير الحياة الإنسانية إلى أربعة عهود فما بأيدينا من تاريخ الدين و الفلسفة يكذبه فإن طلوع دين إبراهيم إنما كان بعد عهد الفلسفة بالهند و مصر و كلدان و دين عيسى بعد فلسفة يونان و كذا دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - و هو الإسلام - كان بعد فلسفة يونان و إسكندرية، و بالجملة غاية أوج الفلسفة كانت قبل بلوغ الدين أوجه.
و قد مر فيما مر أن دين التوحيد يتقدم في عهده على جميع الأديان الأخر.
و الذي يرتضيه القرآن من تقسيم تاريخ الإنسان هو تقسيمه إلى عهد السذاجة و وحدة الأمم و عهد الحس و المادة، و سيجيء بيانه في الكلام على قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين»: البقرة - 213.
|