بيان
رجوع ثان إلى ما في بدء الكلام فإنه تعالى بعد ما بين في أول السورة ما بين أوضحه بنحو التلخيص بقوله: يا أيها الناس اعبدوا ربكم إلى بضع آيات، ثم رجع إليه ثانيا و أوضحه بنحو البسط و التفصيل بقوله: كيف تكفرون إلى اثنتي عشرة آية، ببيان حقيقة الإنسان و ما أودعه الله تعالى فيه من ذخائر الكمال و ما تسعه دائرة وجوده و ما يقطعه هذا الموجود في مسير وجوده من منازل موت و حياة ثم موت ثم حياة ثم رجوع إلى الله سبحانه و إن إلى ربك المنتهى و فيه ذكر جمل ما خص الله تعالى به الإنسان من مواهب التكوين و التشريع، أنه كان ميتا فأحياه، ثم لا يزال يميته و يحييه حتى يرجعه إليه، و قد خلق له ما في الأرض و سخر له السماوات و جعله خليفته في الأرض و أسجد له ملائكته و أسكن أباه الجنة و فتح له باب التوبة و أكرمه بعبادته و هدايته، و هذا هو المناسب لسياق قوله: كيف تكفرون بالله و كنتم أمواتا فأحياكم إلخ، فإن السياق سياق العتبى و الامتنان.
قوله تعالى: كيف تكفرون بالله و كنتم أمواتا.
الآية قريبة السياق من قوله تعالى: «قالوا ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل:» المؤمن - 11، و هذه من الآيات التي يستدل بها على وجود البرزخ بين الدنيا و الآخرة، فإنها تشتمل على إماتتين، فلو كان إحداهما الموت الناقل من الدنيا لم يكن بد في تصوير الإماتة الثانية من فرض حياة بين الموتين و هو البرزخ، و هو استدلال تام اعتني به في بعض الروايات أيضا، و ربما ذكر بعض المنكرين للبرزخ أن الآيتين أعني قوله: كيف تكفرون الآية، و قوله: قالوا ربنا الآية، متحدتا السياق، و قد اشتملتا على موتين و حياتين، فمدلولهما واحد، و الآية الأولى ظاهرة في أن الموت الأول هو حال الإنسان قبل ولوج الروح في الحياة الدنيا، فالموت و الحياة الأوليان هما الموت قبل الحياة الدنيا و الحياة الدنيا، و الموت و الحياة الثانيتان هما الموت عن الدنيا و الحياة يوم البعث، و المراد بالمراتب في الآية الثانية هو ما في الآية الأولى، فلا معنى لدلالتها على البرزخ، و هو خطأ فإن الآيتين مختلفتان سياقا إذ المأخوذ في الآية الأولى موت واحد و إماتة واحدة و إحيائان، و في الآية الثانية إماتتان و إحيائان، و من المعلوم أن الإماتة لا يتحقق لها مصداق من دون سابقة حياة بخلاف الموت، فالموت الأول في الآية الأولى غير الإماتة الأولى في الآية الثانية، فلا محالة في قوله تعالى، أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين، الإماتة الأولى هي التي بعد الدنيا و الإحياء الأول بعدها للبرزخ و الإماتة و الإحياء الثانيتان للآخرة يوم البعث، و في قوله تعالى.
و كنتم أمواتا فأحياكم إنما يريد الموت قبل الحياة و هو موت و ليس بإماتة و الحياة هي الحياة الدنيا، و في قوله تعالى: ثم إليه ترجعون حيث فصل بين الإحياء و الرجوع بلفظ ثم تأييد لما ذكرنا هذا.
قوله تعالى: و كنتم أمواتا، بيان حقيقة الإنسان من حيث وجوده فهو وجود متحول متكامل يسير في مسير وجوده المتبدل المتغير تدريجا و يقطعه مرحلة مرحلة، فقد كان الإنسان قبل نشأته في الحياة الدنيا ميتا ثم حيي بإحياء الله ثم يتحول بإماتة و إحياء و هكذا و قد قال سبحانه: «و بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه و نفخ فيه من روحه:» السجدة - 9، و قال تعالى: «ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين:» المؤمنون - 14، و قال تعالى، «و قالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد، بل هم بلقاء ربهم كافرون. قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم:» السجدة - 11، و قال تعالى.
«منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى:» طه - 55.
و الآيات كما ترى و سنزيدها توضيحا في محالها تدل على أن الإنسان جزء من الأرض غير مفارقها و لا مباين معها، انفصل منها ثم شرع في التطور بأطواره حتى بلغ مرحلة أنشىء فيها خلقا آخر، فهو المتحول خلقا آخر و المتكامل بهذا الكمال الجديد الحديث، ثم يأخذ ملك الموت هذا الإنسان من البدن نوع أخذ يستوفيه ثم يرجع إلى الله سبحانه، فهذا صراط وجود الإنسان.
ثم إن الإنسان صاغه التقدير صوغا يرتبط به مع سائر الموجودات الأرضية و السماوية من بسائط العناصر و قواها المنبجسة منها و مركباتها من حيوان و نبات و معدن و غير ذلك من ماء أو هواء و ما يشاكلها، و كل موجود من الموجودات الطبيعية كذلك، أي إنه مفطور على الارتباط مع غيره ليفعل و ينفعل و يستبقي به موهبة وجوده غير أن نطاق عمل الإنسان و مجال سعيه أوسع كيف؟ و هذا الموجود الأعزل على أنه يخالط الموجودات الآخر الطبيعية بالقرب و البعد و الاجتماع و الافتراق بالتصرفات البسيطة لغاية مقاصده البسيطة في حياته، فهو من جهة - تجهيزه بالإدراك و الفكر يختص بتصرفات خارجة عن طوق سائر الموجودات بالتفصيل و التركيب و الإفساد و الإصلاح، فما من موجود إلا و هو في تصرف الإنسان، فزمانا يحاكي الطبيعة بالصناعة فيما لا يناله من الطبيعة و زمانا يقاوم الطبيعة بالطبيعة، و بالجملة فهو مستفيد لكل غرض من كل شيء، و لا يزال مرور الدهور على هذا النوع العجيب يؤيده في تكثير تصرفاته و تعميق أنظاره ليحق الله الحق بكلماته، و ليصدق قوله: «سخر لكم ما في السموات و ما في الأرض جميعا منه»: الجاثية - 13، و قوله: «ثم استوى إلى السماء»: البقرة - 29.
و كون الكلام واقعا موقع بيان النعم لتمام الامتنان يعطي أن يكون الاستواء إلى السماء لأجل الإنسان فيكون تسويتها سبعا أيضا لأجله، و عليك بزيادة التدبر فيه.
فذاك الذي ذكرناه من صراط الإنسان في مسير وجوده، و هذا الذي ذكرناه من شعاع عمله في تصرفاته في عالم الكون هو الذي يذكره سبحانه من العالم الإنساني و من أين يبتدي و إلى أين ينتهي.
غير أن القرآن كما يعد مبدأ حياته الدنيوية آخذة في الشروع من الطبيعة الكونية و مرتبطة بها أحيانا كذلك يربطها بالرب تعالى و تقدس، فقال تعالى: «و قد خلقتك من قبل و لم تك شيئا»: مريم - 8، و قال تعالى: «إنه هو يبدىء و يعيد»: البروج - 13، فالإنسان و هو مخلوق مربى في مهد التكوين مرتضع من ثدي الصنع و الإيجاد متطور بأطوار الوجود يرتبط سلوكه بالطبيعة الميتة، كما أنه من جهة الفطر و الإبداع مرتبط متعلق بأمر الله و ملكوته، قال تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون»: يس - 82، و قال تعالى: «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون»: النحل - 40، فهذا من جهة البدء و أما من جهة العود و الرجوع فيعد صراط الإنسان متشعبا إلى طريقين طريق السعادة و طريق الشقاوة، فأما طريق السعادة فهو أقرب الطرق يأخذ في الانتهاء إلى الرفيع الأعلى و لا يزال يصعد الإنسان و يرفعه حتى ينتهي به إلى ربه، و أما طريق الشقاوة فهو طريق بعيد يأخذ في الانتهاء إلى أسفل السافلين حتى ينتهي إلى رب العالمين، و الله من ورائهم محيط، و قد مر بيان ذلك في ذيل قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم من سورة الفاتحة.
فهذا إجمال القول في صراط الإنسان، و أما تفصيل القول في حياته قبل الدنيا و فيها و بعد الدنيا فسيأتي كل في محله، غير أن كلامه تعالى إنما يتعرض لذلك من جهة ارتباطه بالهداية و الضلال و السعادة و الشقاء، و يطوي البحث عما دون ذلك إلا بمقدار يماس غرض القرآن المذكور.
و قوله تعالى: فسويهن سبع سموات، سيأتي الكلام في السماء في سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.
|