بيان
قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم إلخ أما الهداية فيظهر معناها في ذيل الكلام على الصراط و أما الصراط فهو و الطريق و السبيل قريب المعنى، و قد وصف تعالى الصراط بالاستقامة ثم بين أنه الصراط الذي يسلكه الذين أنعم الله تعالى عليهم، فالصراط الذي من شأنه ذلك هو الذي سئل الهداية إليه و هو بمعنى الغاية للعبادة أي: إن العبد يسأل ربه أن تقع عبادته الخالصة في هذا الصراط.
بيان ذلك: أن الله سبحانه قرر في كلامه لنوع الإنسان بل لجميع من سواه سبيلا يسلكون به إليه سبحانه فقال تعالى: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه»: الإنشقاق - 6 و قال تعالى: «و إليه المصير: التغابن - 3، و قال: «ألا إلى الله تصير الأمور»: الشورى - 53، إلى غير ذلك من الآيات و هي واضحة الدلالة على أن الجميع سالكوا سبيل، و أنهم سائرون إلى الله سبحانه.
ثم بين: أن السبيل ليس سبيلا واحدا ذا نعت واحد بل هو منشعب إلى شعبتين منقسم إلى طريقين، فقال: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم»: يس - 61.
فهناك طريق مستقيم و طريق آخر وراءه، و قال تعالى «فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي لعلهم يرشدون»: البقرة - 186، و قال تعالى: «ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين»: غافر - 60، فبين تعالى: أنه قريب من عباده و أن الطريق الأقرب إليه تعالى طريق عبادته و دعائه، ثم قال تعالى في وصف الذين لا يؤمنون: «أولئك ينادون من مكان بعيد»: السجدة - 44 فبين: أن غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم و سبيلهم بعيدة.
فتبين: أن السبيل إلى الله سبيلان: سبيل قريب و هو سبيل المؤمنين و سبيل بعيد و هو سبيل غيرهم فهذا نحو اختلاف في السبيل و هناك نحو آخر من الاختلاف، قال تعالى: «إن الذين كذبوا بآياتنا و استكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء»: الأعراف - 40.
و لو لا طروق من متطرق لم يكن للباب معنى فهناك طريق من السفل إلى العلو، و قال تعالى: «و من يحلل عليه غضبي فقد هوى»: طه - 81 و الهوي هو السقوط إلى أسفل، فهناك طريق آخر أخذ في السفالة و الانحدار، و قال تعالى: «و من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل»: البقرة - 108، فعرف الضلال عن سواء السبيل بالشرك لمكان قوله: فقد ضل، و عند ذلك تقسم الناس في طرقهم ثلاثة أقسام: من طريقه إلى فوق و هم الذين يؤمنون بآيات الله و لا يستكبرون عن عبادته، و من طريقه إلى السفل و هم المغضوب عليهم، و من ضل الطريق و هو حيران فيه و هم الضالون، و ربما أشعر بهذا التقسيم قوله تعالى: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين.
و الصراط المستقيم لا محالة ليس هو الطريقين الآخرين من الطرق الثلاث أعني: طريق المغضوب عليهم و طريق الضالين فهو من الطريق الأول الذي هو طريق المؤمنين غير المستكبرين إلا أن قوله تعالى: «يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات»: المجادلة - 11.
يدل على أن نفس الطريق الأول أيضا يقع فيه انقسام.
و بيانه: أن كل ضلال فهو شرك كالعكس على ما عرفت من قوله تعالى: «و من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل»: البقرة - 108.
و في هذا المعنى قوله تعالى «أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم و لقد أضل منكم جبلا كثيرا»: يس - 62.
و القرآن يعد الشرك ظلما و بالعكس، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن الشيطان لما قضي الأمر: «إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم»: إبراهيم - 22.
كما يعد الظلم ضلالا في قوله تعالى «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون»: الأنعام - 82 و هو ظاهر من ترتيب الاهتداء و الأمن من الضلال أو العذاب الذي يستتبعه الضلال، على ارتفاع الظلم و لبس الإيمان به، و بالجملة الضلال و الشرك و الظلم أمرها واحد و هي متلازمة مصداقا، و هذا هو المراد من قولنا: إن كل واحد منها معرف بالآخر أو هو الآخر، فالمراد المصداق دون المفهوم.
إذا عرفت هذا علمت أن الصراط المستقيم الذي هو صراط غير الضالين صراط لا يقع فيه شرك و لا ظلم البتة كما لا يقع فيه ضلال البتة، لا في باطن الجنان من كفر أو خطور لا يرضى به الله سبحانه، و لا في ظاهر الجوارح و الأركان من فعل معصية أو قصور في طاعة، و هذا هو حق التوحيد علما و عملا إذ لا ثالث لهما و ما ذا بعد الحق إلا الضلال؟ و ينطبق على ذلك قوله تعالى: «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون»: الأنعام - 82، و فيه تثبيت للأمن في الطريق و وعد بالاهتداء التام بنائا على ما ذكروه: من كون اسم الفاعل حقيقة في الاستقبال فليفهم فهذا نعت من نعوت الصراط المستقيم.
ثم إنه تعالى عرف هؤلاء المنعم عليهم الذين نسب صراط المستقيم إليهم بقوله تعالى: «و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا»: النساء - 68.
و قد وصف هذا الإيمان و الإطاعة قبل هذه الآية بقوله «فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما و لو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم و لو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم و أشد تثبيتا»: النساء - 66.
فوصفهم بالثبات التام قولا و فعلا و ظاهرا و باطنا على العبودية لا يشذ منهم شاذ من هذه الجهة و مع ذلك جعل هؤلاء المؤمنين تبعا لأولئك المنعم عليهم و في صف دون صفهم لمكان مع و لمكان قوله: «و حسن أولئك رفيقا» و لم يقل: فأولئك من الذين.
و نظير هذه الآية قوله تعالى: «و الذين آمنوا بالله و رسله أولئك هم الصديقون و الشهداء عند ربهم لهم أجرهم و نورهم»: الحديد - 19.
و هذا هو إلحاق المؤمنين بالشهداء و الصديقين في الآخرة، لمكان قوله: عند ربهم، و قوله: لهم أجرهم.
فأولئك و هم أصحاب الصراط المستقيم أعلى قدرا و أرفع درجة و منزلة من هؤلاء و هم المؤمنون الذين أخلصوا قلوبهم و أعمالهم من الضلال و الشرك و الظلم، فالتدبر في هذه الآيات يوجب القطع بأن هؤلاء المؤمنين و شأنهم هذا الشأن فيهم بقية بعد، لو تمت فيهم كانوا من الذين أنعم الله عليهم، و ارتقوا من منزلة المصاحبة معهم إلى درجة الدخول فيهم و لعلهم نوع من العلم بالله، ذكره في قوله تعالى: «يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات»: المجادلة - 11.
فالصراط المستقيم أصحابه منعم عليهم بنعمة هي أرفع النعم قدرا، يربو على نعمة الإيمان التام، و هذا أيضا نعت من نعوت الصراط المستقيم.
ثم إنه تعالى على أنه كرر في كلامه ذكر الصراط و السبيل لم ينسب لنفسه أزيد من صراط مستقيم واحد، و عد لنفسه سبلا كثيرة فقال عز من قائل «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا»: العنكبوت - 69.
و كذا لم ينسب الصراط المستقيم إلى أحد من خلقه إلا ما في هذه الآية صراط الذين أنعمت عليهم الآية و لكنه نسب السبيل إلى غيره من خلقه، فقال تعالى: «قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة»: يوسف - 108.
و قال تعالى «سبيل من أناب إلي»: لقمان - 15.
و قال: «سبيل المؤمنين»: النساء - 114، و يعلم منها: أن السبيل غير الصراط المستقيم فإنه يختلف و يتعدد و يتكثر باختلاف المتعبدين السالكين سبيل العبادة بخلاف الصراط المستقيم كما يشير إليه قوله تعالى: «قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم»: المائدة - 16، فعد السبل كثيرة و الصراط واحدا و هذا الصراط المستقيم إما هي السبل الكثيرة و إما أنها تؤدي إليه باتصال بعضها إلى بعض و اتحادها فيها.
و أيضا قال تعالى: «و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون»: يوسف - 106.
فبين أن من الشرك و هو ضلال ما يجتمع مع الإيمان و هو سبيل، و منه يعلم أن السبيل يجامع الشرك، لكن الصراط المستقيم لا يجامع الضلال كما قال: و لا الضالين.
و التدبر في هذه الآيات يعطي أن كل واحد من هذه السبل يجامع شيئا من النقص أو الامتياز، بخلاف الصراط المستقيم، و أن كلا منها هو الصراط المستقيم لكنه غير الآخر و يفارقه لكن الصراط المستقيم يتحد مع كل منها في عين أنه يتحد مع ما يخالفه، كما يستفاد من بعض الآيات المذكورة و غيرها كقوله: «و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم»: يس - 61.
و قوله تعالى: «قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا»: الأنعام - 161.
فسمى العبادة صراطا مستقيما و سمى الدين صراطا مستقيما و هما مشتركان بين السبل جميعا، فمثل الصراط المستقيم بالنسبة إلى سبل الله تعالى كمثل الروح بالنسبة إلى البدن، فكما أن للبدن أطوارا في حياته هو عند كل طور غيره عند طور آخر، كالصبا و الطفولية و الرهوق و الشباب و الكهولة و الشيب و الهرم لكن الروح هي الروح و هي متحدة بها و البدن يمكن أن تطرأ عليه أطوار تنافي ما تحبه و تقتضيه الروح لو خليت و نفسها بخلاف الروح فطرة الله التي فطر الناس عليها و البدن مع ذلك هو الروح أعني الإنسان، فكذلك السبيل إلى الله تعالى هو الصراط المستقيم إلا أن السبيل كسبيل المؤمنين و سبيل المنيبين و سبيل المتبعين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو غير ذلك من سبل الله تعالى، ربما اتصلت به آفة من خارج أو نقص لكنهما لا يعرضان الصراط المستقيم كما عرفت أن الإيمان و هو سبيل ربما يجامع الشرك و الضلال لكن لا يجتمع مع شيء من ذلك الصراط المستقيم، فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه و شوبه و قربه و بعده، و الجميع على الصراط المستقيم أو هي هو.
و قد بين الله سبحانه هذا المعنى، أعني: اختلاف السبل إلى الله مع كون الجميع من صراطه المستقيم في مثل ضربه للحق و الباطل في كلامه، فقال تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال»: الرعد - 17.
فبين: أن القلوب و الأفهام في تلقي المعارف و الكمال مختلفة، مع كون الجميع متكئة منتهية إلى رزق سماوي واحد، و سيجيء تمام الكلام في هذا المثل في سورة الرعد، و بالجملة فهذا أيضا نعت من نعوت الصراط المستقيم.
و إذا تأملت ما تقدم من نعوت الصراط المستقيم تحصل لك أن الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل إلى الله و الطرق الهادية إليه تعالى، بمعنى أن السبيل إلى الله إنما يكون سبيلا له موصلا إليه بمقدار يتضمنه من الصراط المستقيم حقيقة، مع كون الصراط المستقيم هاديا موصلا إليه مطلقا و من غير شرط و قيد، و لذلك سماه الله تعالى صراطا مستقيما، فإن الصراط هو الواضح من الطريق، مأخوذ من سرطت سرطا إذا بلعت بلعا، كأنه يبلع سالكيه فلا يدعهم يخرجوا عنه و لا يدفعهم عن بطنه، و المستقيم هو الذي يريد أن يقوم على ساق فيتسلط على نفسه و ما لنفسه كالقائم الذي هو مسلط على أمره، و يرجع المعنى إلى أنه الذي لا يتغير أمره و لا يختلف شأنه فالصراط المستقيم ما لا يتخلف حكمه في هدايته و إيصاله سالكيه إلى غايته و مقصدهم قال تعالى: «فأما الذين آمنوا بالله و اعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه و فضل و يهديهم إليه صراطا مستقيما»: النساء - 174.
أي لا يتخلف أمر هذه الهداية، بل هي على حالها دائما، و قال تعالى: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون و هذا صراط ربك مستقيما»: الأنعام - 126.
أي هذه طريقته التي لا يختلف و لا يتخلف، و قال تعالى: «قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين»: الحجر - 42.
أي هذه سنتي و طريقتي دائما من غير تغيير، فهو يجري مجرى قوله: «فلن تجد لسنة الله تبديلا و لن تجد لسنة الله تحويلا»: الفاطر - 42.
و قد تبين مما ذكرناه في معنى الصراط المستقيم أمور.
أحدها: أن الطرق إلى الله مختلفة كمالا و نقصا و غلاء و رخصا، في جهة قربها من منبع الحقيقة و الصراط المستقيم كالإسلام و الإيمان و العبادة و الإخلاص و الإخبات، كما أن مقابلاتها من الكفر و الشرك و الجحود و الطغيان و المعصية كذلك، قال سبحانه «و لكل درجات مما عملوا و ليوفيهم أعمالهم و هم لا يظلمون»: الأحقاف - 19.
و هذا نظير المعارف الإلهية التي تتلقاها العقول من الله فإنها مختلفة باختلاف الاستعدادات و متلونة بألوان القابليات على ما يفيده المثل المضروب في قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها» الآية.
و ثانيها: أنه كما أن الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل، فكذلك أصحابه الذين مكنهم الله تعالى فيه و تولى أمرهم و ولاهم أمر هداية عباده حيث قال: «و حسن أولئك رفيقا»: النساء - 71.
و قال تعالى: «إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة و يؤتون الزكوة و هم راكعون»: المائدة - 55.
و الآية نازلة في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بالأخبار المتواترة و هو (عليه السلام) أول فاتح لهذا الباب من الأمة و سيجيء تمام الكلام في الآية.
و ثالثها: أن الهداية إلى الصراط يتعين معناها بحسب تعين معناه، و توضيح ذلك أن الهداية هي الدلالة على ما في الصحاح، و فيه أن تعديتها لمفعولين لغة أهل الحجاز، و غيرهم يعدونه إلى المفعول الثاني بإلى، و قوله هو الظاهر، و ما قيل: إن الهداية إذا تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها، فهي بمعنى الإيصال إلى المطلوب، و إذا تعدت بإلى فبمعنى إراءة الطريق، مستدلا بنحو قوله تعالى: «إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء»: القصص - 56.
حيث إن هدايته بمعنى إراءة الطريق ثابتة فالمنفي غيرها و هو الإيصال إلى المطلوب قال تعالى: «و هديناهم صراطا مستقيما»: النساء - 70.
و قال تعالى: «و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم»: الشورى - 52.
فالهداية بالإيصال إلى المطلوب تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها، و الهداية بإراءة الطريق بإلي، و فيه أن النفي المذكور نفي لحقيقة الهداية التي هي قائمة بالله تعالى، لا نفي لها أصلا، و بعبارة أخرى هو نفي الكمال دون نفي الحقيقة، مضافا إلى أنه منقوض بقوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: «يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد»: غافر - 38.
فالحق أنه لا يتفاوت معنى الهداية باختلاف التعدية، و من الممكن أن يكون التعدية إلى المفعول الثاني من قبيل قولهم دخلت الدار و بالجملة فالهداية هي الدلالة و إراءة الغاية بإراءة الطريق و هي نحو إيصال إلى المطلوب، و إنما تكون من الله سبحانه، و سنته سنة الأسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب و يتحقق به وصول العبد إلى غايته في سيره، و قد بينه الله سبحانه بقوله: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام»: الأنعام - 125.
و قوله: «ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء»: الزمر - 23.
و تعدية قوله تلين بإلى لتضمين معنى مثل الميل و الاطمينان، فهو إيجاده تعالى وصفا في القلب به يقبل ذكر الله و يميل و يطمئن إليه، و كما أن سبله تعالى مختلفة، فكذلك الهداية تختلف باختلاف السبل التي تضاف إليه فلكل سبيل هداية قبله تختص به.
و إلى هذا الاختلاف يشير قوله تعالى: «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين»: العنكبوت - 69.
إذ فرق بين أن يجاهد العبد في سبيل الله، و بين أن يجاهد في الله، فالمجاهد في الأول يريد سلامة السبيل و دفع العوائق عنه بخلاف المجاهد في الثاني فإنه إنما يريد وجه الله فيمده الله سبحانه بالهداية إلى سبيل دون سبيل بحسب استعداده الخاص به، و كذا يمده الله تعالى بالهداية إلى السبيل بعد السبيل حتى يختصه بنفسه جلت عظمته.
و رابعها: أن الصراط المستقيم لما كان أمرا محفوظا في سبل الله تعالى على اختلاف مراتبها و درجاتها، صح أن يهدي الله الإنسان إليه و هو مهدي فيهديه من الصراط إلى الصراط، بمعنى أن يهديه إلى سبيل من سبله ثم يزيد في هدايته فيهتدي من ذلك السبيل إلى ما هو فوقها درجة، كما أن قوله تعالى: اهدنا الصراط و هو تعالى يحكيه عمن هداه بالعبادة من هذا القبيل، و لا يرد عليه: أن سؤال الهداية ممن هو مهتد بالفعل سؤال لتحصيل الحاصل و هو محال، و كذا ركوب الصراط بعد فرض ركوبه تحصيل للحاصل و لا يتعلق به سؤال، و الجواب ظاهر.
و كذا الإيراد عليه: بأن شريعتنا أكمل و أوسع من جميع الجهات من شرائع الأمم السابقة، فما معنى السؤال من الله سبحانه أن يهدينا إلى صراط الذين أنعم الله عليهم منهم؟ و ذلك أن كون شريعة أكمل من شريعة أمر، و كون المتمسك بشريعة أكمل من المتمسك بشريعة أمر آخر وراءه، فإن المؤمن المتعارف من مؤمني شريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مع كون شريعته أكمل و أوسع ليس بأكمل من نوح و إبراهيم (عليه السلام) مع كون شريعتهما أقدم و أسبق، و ليس ذلك إلا أن حكم الشرائع و العمل بها غير حكم الولاية الحاصلة من التمكن فيها و التخلق بها، فصاحب مقام التوحيد الخالص و إن كان من أهل الشرائع السابقة أكمل و أفضل ممن لم يتمكن من مقام التوحيد و لم تستقر حياة المعرفة في روحه و لم يتمكن نور الهداية الإلهية من قلبه، و إن كان عاملا بالشريعة المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم) التي هي أكمل الشرائع و أوسعها، فمن الجائز أن يستهدي صاحب المقام الداني من أهل الشريعة الكاملة و يسأل الله الهداية إلى مقام صاحب المقام العالي من أهل الشريعة التي هي دونها.
و من أعجب ما ذكر في هذا المقام، ما ذكره بعض المحققين من أهل التفسير جوابا عن هذه الشبهة: أن دين الله واحد و هو الإسلام، و المعارف الأصلية و هو التوحيد و النبوة و المعاد و ما يتفرع عليها من المعارف الكلية واحد في الشرائع، و إنما مزية هذه الشريعة على ما سبقها من الشرائع هي أن الأحكام الفرعية فيها أوسع و أشمل لجميع شئون الحياة، فهي أكثر عناية بحفظ مصالح العباد، على أن أساس هذه الشريعة موضوع على الاستدلال بجميع طرقها من الحكمة و الموعظة و الجدال الأحسن، ثم إن الدين و إن كان دينا واحدا و المعارف الكلية في الجميع على السواء غير أنهم سلكوا سبيل ربهم قبل سلوكنا، و تقدموا في ذلك علينا، فأمرنا الله النظر فيما كانوا عليه و الاعتبار بما صاروا إليه هذا.
أقول: و هذا الكلام مبني على أصول في مسلك التفسير مخالفة للأصول التي يجب أن يبتني مسلك التفسير عليها، فإنه مبني على أن حقائق المعارف الأصلية واحدة من حيث الواقع من غير اختلاف في المراتب و الدرجات، و كذا سائر الكمالات الباطنية المعنوية، فأفضل الأنبياء المقربين مع أخس المؤمنين من حيث الوجود و كماله الخارجي التكويني على حد سواء، و إنما التفاضل بحسب المقامات المجعولة بالجعل التشريعي من غير أن يتكي على تكوين، كما أن التفاضل بين الملك و الرعية إنما هو بحسب المقام الجعلي الوضعي من غير تفاوت من حيث الوجود الإنساني هذا.
و لهذا الأصل أصل آخر يبنى عليه، و هو القول بأصالة المادة و نفي الأصالة عما وراءها و التوقف فيه إلا في الله سبحانه بطريق الاستثناء بالدليل، و قد وقع في هذه الورطة من وقع، لأحد أمرين: إما القول بالاكتفاء بالحس اعتمادا على العلوم المادية و إما إلغاء التدبر في القرآن بالاكتفاء بالتفسير بالفهم العامي.
و للكلام ذيل طويل سنورده في بعض الأبحاث العلمية الآتية إن شاء الله تعالى.
و خامسها: أن مزية أصحاب الصراط المستقيم على غيرهم، و كذا صراطهم على سبيل غيرهم، إنما هو بالعلم لا العمل، فلهم من العلم بمقام ربهم ما ليس لغيرهم، إذ قد تبين مما مر: أن العمل التام موجود في بعض السبل التي دون صراطهم، فلا يبقى لمزيتهم إلا العلم، و أما ما هذا العلم؟ و كيف هو؟ فنبحث عنه إن شاء الله في قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها»: الرعد - 17.
و يشعر بهذا المعنى قوله تعالى: «يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات»: المجادلة - 11، و كذا قوله تعالى: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه»: الملائكة - 10، فالذي يصعد إليه تعالى هو الكلم الطيب و هو الاعتقاد و العلم، و أما العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيب و الأمداد دون الصعود إليه تعالى، و سيجيء تمام البيان في البحث عن الآية.
بحث روائي
في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في معنى العبادة قال: العبادة ثلاثة: قوم عبدوا الله خوفا، فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا الله تبارك و تعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الأجراء، و قوم عبدوا الله عز و جل حبا، فتلك عبادة الأحرار، و هي أفضل العبادة.
و في نهج البلاغة،: إن قوما عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجار، و إن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، و إن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار.
و في العلل، و المجالس، و الخصال، عن الصادق (عليه السلام): إن الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء و هو الطمع، و آخرون يعبدونه خوفا من النار فتلك عبادة العبيد، و هي رهبة، و لكني أعبده حبا له عز و جل فتلك عبادة الكرام، لقوله عز و جل: «و هم من فزع يومئذ آمنون». و لقوله عز و جل «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله»، فمن أحب الله عز و جل أحبه، و من أحبه الله كان من الآمنين، و هذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون.
أقول: و قد تبين معنى الروايات مما مر من البيان، و توصيفهم (عليهم السلام) عبادة الأحرار تارة بالشكر و تارة بالحب، لكون مرجعهما واحدا، فإن الشكر وضع الشيء المنعم به في محله، و العبادة شكرها أن تكون لله الذي يستحقها لذاته، فيعبد الله لأنه الله، أي لأنه مستجمع لجميع صفات الجمال و الجلال بذاته، فهو الجميل بذاته المحبوب لذاته، فليس الحب إلا الميل إلى الجمال و الانجذاب نحوه، فقولنا فيه تعالى هو معبود لأنه هو، و هو معبود لأنه جميل محبوب، و هو معبود لأنه منعم مشكور بالعبادة يرجع جميعها إلى معنى واحد.
و روي بطريق عامي عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: إياك نعبد الآية، يعني: لا نريد منك غيرك و لا نعبدك بالعوض و البدل: كما يعبدك الجاهلون بك المغيبون عنك.
أقول: و الرواية تشير إلى ما تقدم، من استلزام معنى العبادة للحضور و للإخلاص الذي ينافي قصد البدل.
و في تحف العقول، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و من زعم أنه يعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب، و من زعم أنه يعبد الصفة و الموصوف فقد أبطل التوحيد لأن الصفة غير الموصوف، و من زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير، و ما قدروا الله حق قدره.
الحديث.
و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام): في معنى قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، و المبلغ إلى جنتك، و المانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك و في المعاني، أيضا عن علي (عليه السلام): في الآية، يعني، أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا.
أقول: و الروايتان وجهان مختلفان في الجواب عن شبهة لزوم تحصيل الحاصل من سؤال الهداية للمهدي، فالرواية الأولى ناظرة إلى اختلاف مراتب الهداية مصداقا و الثانية إلى اتحادها مفهوما.
و في المعاني، أيضا عن علي (عليه السلام): الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو، و ارتفع عن التقصير و استقام، و في الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنة.
و في المعاني، أيضا عن علي (عليه السلام): في معنى صراط الذين الآية: أي: قولوا: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك و طاعتك، لا بالمال و الصحة، فإنهم قد يكونون كفارا أو فساقا، قال: و هم الذين قال الله: «و من يطع الله و الرسول - فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم - من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين، و حسن أولئك رفيقا».
و في العيون، عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: قال الله عز و جل: قسمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي فنصفها لي و نصفها لعبدي، و لعبدي ما سأل، إذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله جل جلاله بدأ عبدي باسمي و حق علي أن أتمم له أموره، و أبارك له في أحواله، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله جل جلاله: حمدني عبدي، و علم أن النعم التي له من عندي، و أن البلايا التي دفعت عنه بتطولي، أشهدكم أني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة و أدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، و إذا قال الرحمن الرحيم، قال الله جل جلاله: شهد لي عبدي أني الرحمن الرحيم أشهدكم لأوفرن من رحمتي حظه و لأجزلن من عطائي نصيبه فإذا قال: مالك يوم الدين قال الله تعالى: أشهدكم، كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين، لأسهلن يوم الحساب حسابه، و لأتقبلن حسناته و لأتجاوزن عن سيئاته، فإذا قال: إياك نعبد، قال الله عز و جل: صدق عبدي، إياي يعبد أشهدكم لأثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي، فإذا قال: و إياك نستعين قال الله تعالى: بي استعان عبدي و إلي التجأ، أشهدكم لأعيننه على أمره، و لأغيثنه في شدائده و لآخذن بيده يوم نوائبه، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة، قال الله عز و جل: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل، و قد استجبت لعبدي و أعطيته ما أمل و آمنته مما منه وجل. أقول: و روى قريبا منه الصدوق في العلل، عن الرضا (عليه السلام)، و الرواية كما ترى تفسر سورة الفاتحة في الصلاة فهي تؤيد ما مر مرارا أن السورة كلام له سبحانه بالنيابة عن عبده في ما يذكره في مقام العبادة و إظهار العبودية من الثناء لربه و إظهار عبادته، فهي سورة موضوعة للعبادة، و ليس في القرآن سورة تناظرها في شأنها و أعني بذلك: أولا: أن السورة بتمامها كلام تكلم به الله سبحانه في مقام النيابة عن عبده فيما يقوله إذا وجه وجهه إلى مقام الربوبية و نصب نفسه في مقام العبودية.
و ثانيا: أنها مقسمة قسمين، فنصف منها لله و نصف منها للعبد.
و ثالثا: أنها مشتملة على جميع المعارف القرآنية على إيجازها و اختصارها فإن القرآن على سعته العجيبة في معارفه الأصلية و ما يتفرع عليها من الفروع من أخلاق و أحكام في العبادات و المعاملات و السياسات و الاجتماعيات و وعد و وعيد و قصص و عبر، يرجع جمل بياناتها إلى التوحيد و النبوة و المعاد و فروعاتها، و إلى هداية العباد إلى ما يصلح به أولاهم و عقباهم، و هذه السورة كما هو واضح تشتمل على جميعها في أوجز لفظ و أوضح معنى.
و عليك أن تقيس ما يتجلى لك من جمال هذه السورة التي وضعها الله سبحانه في صلاة المسلمين بما يضعه النصارى في صلاتهم من الكلام الموجود في إنجيل متى: و هو ما نذكره بلفظة العربي، «أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيتك كما في السماء كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا، أعطنا اليوم، و اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا، و لا تدخلنا في تجربة و لكن نجنا من الشرير آمين».
تأمل في المعاني التي تفيدها ألفاظ هذه الجمل بعنوان أنها معارف سماوية، و ما يشتمل عليه من الأدب العبودي، أنها تذكر أولا أن أباهم و هو الله تقدس اسمه في السماوات! ثم تدعو في حق الأب بتقدس اسمه و إتيان ملكوته و نفوذ مشيته في الأرض كما هي نافذة في السماء، و لكن من الذي يستجيب هذا الدعاء الذي هو بشعارات الأحزاب السياسية أشبه؟ ثم تسأل الله إعطاء خبز اليوم و مقابلة المغفرة بالمغفرة، و جعل الإغماض عن الحق في مقابل الإغماض، و ما ذا هو حقهم لو لم يجعل الله لهم حقا؟ و تسأله أن لا يمتحنهم بل ينجيهم من الشرير، و من المحال ذلك، فالدار دار الامتحان و الاستكمال و ما معنى النجاة لو لا الابتلاء و الامتحان؟ ثم اقض العجب مما ذكره بعض المستشرقين من علماء الغرب و تبعه بعض من المنتحلين: أن الإسلام لا يربو على غيره في المعارف، فإن جميع شرائع الله تدعو إلى التوحيد و تصفية النفوس بالخلق الفاضل و العمل الصالح، و إنما تتفاضل الأديان في عراقة ثمراتها الاجتماعية.
بحث آخر روائي
في الفقيه، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: الصراط المستقيم أمير المؤمنين (عليه السلام).
و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام) قال: هي الطريق إلى معرفة الله، و هما صراطان صراط في الدنيا و صراط في الآخرة، فأما الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا و اقتدى بهداه مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه في الآخرة فتردى في نار جهنم.
و في المعاني، أيضا عن السجاد (عليه السلام) قال: ليس بين الله و بين حجته حجاب، و لا لله دون حجته ستر، نحن أبواب الله و نحن الصراط المستقيم و نحن عيبة علمه، و نحن تراجمة وحيه و نحن أركان توحيده و نحن موضع سره.
و عن ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع بن الجراح عن الثوري عن السدي، عن أسباط و مجاهد، عن ابن عباس: في قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم، قال: قولوا معاشر العباد: أرشدنا إلى حب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و أهل بيته (عليهم السلام).
أقول: و في هذه المعاني روايات أخر، و هذه الأخبار من قبيل الجري، و عد المصداق للآية، و اعلم أن الجري و كثيرا ما نستعمله في هذا الكتاب اصطلاح مأخوذ من قول أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
ففي تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية ما في القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن و ما فيها حرف إلا و له حد، و لكل حد مطلع ما يعني بقوله: ظهر و بطن؟ قال؟ ظهره تنزيله و بطنه تأويله، منه ما مضى و منه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس و القمر، كلما جاء منه شيء وقع الحديث.
و في هذا المعنى روايات أخر، و هذه سليقة أئمة أهل البيت فإنهم (عليهم السلام) يطبقون الآية من القرآن على ما يقبل أن ينطبق عليه من الموارد و إن كان خارجا عن مورد النزول، و الاعتبار يساعده، فإن القرآن نزل هدى للعالمين يهديهم إلى واجب الاعتقاد و واجب الخلق و واجب العمل، و ما بينه من المعارف النظرية حقائق لا تختص بحال دون حال و لا زمان، دون زمان و ما ذكره من فضيلة أو رذيلة أو شرعة من حكم عملي لا يتقيد بفرد دون فرد و لا عصر دون عصر لعموم التشريع.
و ما ورد من شأن النزول و هو الأمر أو الحادثة التي تعقب نزول آية أو آيات في شخص أو واقعة لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها و يموت بموتها لأن البيان عام و التعليل مطلق، فإن المدح النازل في حق أفراد من المؤمنين أو الذم النازل في حق آخرين معللا بوجود صفات فيهم، لا يمكن قصرهما على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخر بعدهم و هكذا، و القرآن أيضا يدل عليه، قال تعالى: «يهدي به الله من اتبع رضوانه»: المائدة - 16 و قال: «و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه»: حم سجدة - 42.
و قال تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون»: الحجر - 9.
و الروايات في تطبيق الآيات القرآنية عليهم (عليهم السلام) أو على أعدائهم أعني: روايات الجري، كثيرة في الأبواب المختلفة، و ربما تبلغ المئين، و نحن بعد هذا التنبيه العام نترك إيراد أكثرها في الأبحاث الروائية لخروجها عن الغرض في الكتاب، إلا ما تعلق بها غرض في البحث فليتذكر.
|