بيان
الآيات، ختام السورة تفرغ المحصل من بياناتها فتشير إجمالا إلى التوحيد و المعاد و النبوة، و تأمر باتباع القرآن و الصبر في انتظار حكم الله بينه و بين أمته.
قوله تعالى: «قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني» إلخ، قد تقدم غير مرة أن الدين هو السنة المعمول بها في الحياة لنيل سعادتها و فيه معنى الطاعة كما في قوله تعالى: «و أخلصوا دينهم لله:» النساء: - 146 و ربما استعمل بمعنى الجزاء.
و قوله: «إن كنتم في شك من ديني» أي في طريقتي التي أسلكها و أثبت عليها و شك الإنسان في دين غيره و طريقته المعمولة له إنما يكون في ثباته عليه هل يستقر عليه و يستقيم؟ و قد كان المشركون يطمعون في دينه (صلى الله عليه وآله وسلم) و ربما رجوا أن يحولوه عنه فينجوا من دعوته إلى التوحيد و رفض الشرك بالآلهة.
فالمعنى: إن كنتم تشكون فيما أدين به و أدعو إليه هل أستقيم عليه؟ أو شككتم في ديني ما هو؟ و لم تحصلوا الأصل الذي يبتني عليه فإني أصرح لكم القول فيه و أبينه لكم و هو أني لا أعبد آلهتكم و أعبد الله وحده.
و قد أخذ في قوله: «و لكن أعبد الله الذي يتوفاكم» له تعالى وصف توفيهم دون غيره من أوصافه تعالى لأنهم إنما كانوا يعبدون الإله لزعمهم الحاجة إليه في دفع الضرر و جلب النفع، و التوفي أمر لا يشكون أنه سيصيبهم و أنه لله وحده فمساس الحاجة إلى الأمن من ضرره يوجب عبادة الله سبحانه.
على أن اختيار التوفي للذكر ليكون في الكلام تلويح إلى تهديدهم فإن الآيات.
السابقة وعدتهم العذاب وعدا قطعيا، و وفاة المشركين ميعاد عذابهم، و يؤيد ذلك اتباع قوله: «و لكن أعبد الله الذي يتوفاكم» بقوله: «أمرت أن أكون من المؤمنين» فإن نجاتهم من العذاب جزء الوعد الذي ذكره الله في الآيتين السابقتين على هذه الآية: «فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم - - إلى قوله ننج المؤمنين».
و المعنى: فاعلموا و استيقنوا أني لا أعبد آلهتكم و لكن أعبد الله الذي وعد عذاب المكذبين منكم و إنجاء المؤمنين و أمرني أن أكون منهم كما أمرني أن أجتنب عبادة الآلهة.
قوله تعالى: «و أن أقم وجهك للدين حنيفا» عطف على موضع قوله: «و أمرت أن» إلخ، فإنه في معنى و كن من المؤمنين، و قد مر الكلام في معنى إقامة الوجه للدين الحنيف غير مرة.
قوله تعالى: «و لا تدع من دون الله ما لا ينفعك و لا يضرك» نهي بعد نهي عن الشرك، و بيان أن الشرك يدخل الإنسان في زمرة الظالمين فيحق عليه ما أوعد الله به الظالمين في كلامه.
و من لطيف التعبير قوله حين ذكر الدعاء: «ما لا ينفعك و لا يضرك» و حين ذكر العبادة: «الذين تعبدون من دون الله» فإن العبادة بالطبع يعطي للمعبود شعورا و عقلا فناسب أن يعبر عنه بنحو «الذين» المستعمل في ذوي العلم و العقل، و الدعاء و إن كان كذلك لمساوقته العبادة غير أنه لما وصف المدعو بما لا ينفع و لا يضر، و ربما توهم أن ذوي العلم و العقل يصح أن تنفع و تضر، عبر بلفظة «ما» ليلوح إلى أنها جماد لا يتخيل في حقهم إرادة نفع أو ضرر.
و في التعبير نفسه أعني قوله: «ما لا ينفعك و لا يضرك» إعطاء الحجة على النهي عن الدعاء.
قوله تعالى: «إن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو» إلخ، الجملة حالية و هي تتمة البيان في الآية السابقة، و المعنى: و لا تدع من دون الله ما لا نفع لك عنده و لا ضرر، و الحال أن ما مسك الله به من ضر لا يكشفه غيره و ما أرادك به من خير لا يرده غيره فهو القاهر دون غيره يصيب بالخير عباده بمشيئته و إرادته، و هو مع ذلك غفور رحيم يغفر ذنوب عباده و يرحمهم، و اتصافه بهذه الصفات الكريمة و كون غيره صفر الكف منها يقتضي تخصيص العبادة و الدعوة به.
قوله تعالى: «قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم» و هو القرآن أو ما يشتمل عليه من الدعوة الحقة، و قوله: «فمن اهتدى» إلى آخر الآية، إعلام لهم بكونهم مختارين فيما ينتخبونه لأنفسهم من غير أن يسلبوا الخيرة ببيان حقيقة هي أن الحق - و قد جاءهم - من حكمه أن من اهتدى إليه فإنما يهتدي و نفعه عائد إليه، و من ضل عنه فإنما يضل و ضرره على نفسه فلهم أن يختاروا لأنفسهم ما يحبونه من نفع أو ضرر، و ليس هو (صلى الله عليه وآله وسلم) وكيلا لهم يتصدى من الفعل ما هو لهم فالآية كناية عن وجوب اهتدائهم إلى الحق لأن فيه نفعهم.
قوله تعالى: «و اتبع ما يوحى إليك و اصبر حتى يحكم الله و هو خير الحاكمين» أمر باتباع ما يوحى إليه و الصبر على ما يصيبه في جنب هذا الاتباع من المصائب و المحن، و وعد بأن الله سبحانه سيحكم بينه و بين القوم، و لا يحكم إلا بما فيه قرة عينه فالآية تشتمل على أمره بالاستقامة في الدعوة و تسليته فيما يصيبه، و وعده بأن العاقبة الحسنى له.
و قد اختتمت الآية بحكمه تعالى، و هو الذي عليه يعتمد معظم آيات السورة في بيانها.
و الله أعلم.
|