بيان
رجوع إلى أمر القرآن و أنه كتاب منزل من عند الله لا ريب فيه و تلقين الحجة في ذلك، و للآيات اتصال بما تقدمها من قوله: «قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق» الآية، فقد تقدم أن من هدايته تعالى إلى الحق هدايته الناس إلى دينه الذي يرتضيه من طريق الوحي إلى أنبيائه و الكتب التي أنزلها إليهم ككتب نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هذه الآيات تذكرها و تقيم الحجة على أن القرآن منها هاد إلى الحق، و لذلك أشير إليها معه حيث قيل: «و لكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين».
و في آخر الآيات الرجوع إلى ذكر الحشر و هو من مقاصد السورة كما تقدم.
قوله تعالى: «و ما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله» إلى آخر الآية، قد تقدمت الإشارة إلى أن نفي صفة أو معنى بنفي الكون يفيد نفي الشأن و الاستعداد، و هو أبلغ من نفيه نفسه ففرق بين قولنا ما كان زيد ليقوم، و قولنا: لم يقم أو ما قام زيد إذ الأول يدل على أن القيام لم يكن من شأن زيد و لا استعد له استعدادا، و الثاني ينفي القيام عنه فحسب، و في القرآن منه شيء كثير كقوله: «فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل:» يونس: - 74 و قوله: «ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان:» الشورى: - 53: «و قوله و ما كان الله ليظلمهم:» العنكبوت: - 40.
فقوله: «و ما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله» نفي لشأنية الافتراء عن القرآن كما قيل و هو أبلغ من نفي فعليته، و المعنى ليس من شأن هذا القرآن و لا في صلاحيته أن يكون افتراء من دون الله يفتريه على الله سبحانه.
و قوله: «و لكن تصديق الذي بين يديه» أي تصديقا لما هو حاضر منزل من الكتاب و هو التوراة و الإنجيل كما حكى عن المسيح قوله: «يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة:» الصف: - 6، و إنما وصفهما بما بين يديه مع تقدمهما لأن هناك كتابا غير الكتابين ككتاب نوح و كتاب إبراهيم (عليه السلام) فإذا لوحظ تقدم جميعها عليه كان الأقرب منها زمانا إليه و هو التوراة و الإنجيل موصوفا بأنه بين يديه.
و ربما قيل: إن المراد بما بين يديه هو ما يستقبل نزوله من الأمور كالبعث و النشور و الحساب و الجزاء، و ليس بشيء.
و قوله: «و تفصيل الكتاب» عطف على «تصديق» و المراد بالكتاب بدلالة من السياق جنس الكتاب السماوي النازل من عند الله سبحانه على أنبيائه و التفصيل إيجاد الفصل بين أجزائها المندمجة بعضها في بعض المنطوية جانب منها في آخر بالإيضاح و الشرح.
و فيه دلالة على أن الدين الإلهي المنزل على أنبيائه (عليهم السلام) واحد لا اختلاف فيه إلا بالإجمال و التفصيل، و القرآن يفصل ما أجمله غيره كما قال تعالى: «إن الدين عند الله الإسلام:» آل عمران: - 19.
و إن القرآن الكريم مفصل لما أجمله الكتب السماوية السابقة مهيمن عليها جميعا كما قال تعالى: «و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه:» المائدة: - 48 و قوله: «لا ريب فيه من رب العالمين» أي لا ريب فيه هو من رب العالمين، و الجملة الثانية كالتعليل للأولى.
قوله تعالى: «أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله» إلى آخر الآية، أم منقطعة و المعنى بل يقولون افتراه، و الضمير للقرآن، و اتصاف السورة بكونها مثل القرآن شاهد على أن القرآن يصدق على الكثير منه و القليل.
و المعنى قل للذين يقولون افتراه: إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة مثل هذا القرآن المفترى و ادعوا كل من استطعتم من دون الله مستمدين مستظهرين فإنه لو كان كلاما مفترى كان كلاما بشريا و جاز أن يؤتى بمثله و في ذلك تحد ظاهر بسورة واحدة من سور القرآن طويلة كانت أو قصيرة.
و من هنا يظهر أولا: أن التحدي ليس بسورة معينة فإنهم لم يرموا بالافتراء بعض القرآن دون بعض بل جميعه، و هو يكلفهم أن يأتوا بسورة مثل ما يدعون أنه افتراه، و إنما ادعوه لجميع القرآن دون بعضه.
و لا يصغي إلى قول من يقول: إن التنكير في «سورة» للتعظيم أو للتنويع و المراد سورة من السور يذكر فيها قصص الأنبياء و أخبار وعيد الدنيا و الآخرة لأن الافتراء إنما يتهم به الإخبار دون الإنشاء.
أو يقول: المراد سورة طويلة مثل هذه السورة سورة يونس - في اشتمالها على أصول الدين و الوعد و الوعيد.
و ذلك أن القرآن بجميع آياته منسوب إلى الله سبحانه، و لا يختلف في ذلك ما يتضمن الإخبار و ما يتضمن الإنشاء، و ما كانت سورة طويلة أو قصيرة حتى الآية الواحدة، و الرمي بالافتراء يصح أن يتعلق بالجميع لأنه تكذيب للنسبة المتعلقة بالجميع.
و ثانيا: أن الآية لا تتحدى ببلاغة القرآن و فصاحته فحسب بل السياق في هذه الآية و في سائر الآيات التي وردت مورد التحدي يشهد على أن التحدي إنما هو بما عليه القرآن من صفة الكمال و نعت الفضيلة من اشتماله على مخ المعارف الإلهية، و جوامع الشرائع من الأحكام العبادية و القوانين المدنية السياسية و الاقتصادية و القضائية، و الأخلاق الكريمة و الآداب الحسنة، و قصص الأنبياء و الأمم الماضية، و الملاحم و الأخبار الغيبية، و وصف الملائكة و الجن و السماء و الأرض و الحكمة و الموعظة و الوعد و الوعيد، و أخبار البدء و العود، و قوة الحجة و جذالة البيان و النور و الهداية من غير أن يختلف جزء منه عن جزء، أضف إلى ذلك وقوعه في بلاغته و فصاحته موقعا يقصر عن البلوغ إليه أيدي البشر.
و لقد قصر الباحثون من علماء الصدر الأول و من يتلونهم إذ قصروا إعجازه على بلاغته و فصاحته و كتبوا في ذلك كتبا و ألفوا رسائل فصرفهم ذلك عن التدبر في حقائقه و التعمق في معارفه و أنهاهم إلى أن عدوا المعاني أمورا مطروحة في الطريق يستوي فيه البدوي و الحضري و العامي و الخاصي و الجاهل و العالم، و أن الفضل لنظم اللفظ على نظم المعنى و لا قيمة لما وراء ذلك.
و قد وصفه الله تعالى بكل وصف جميل دخيل في التحدي كوصفه بأنه نور و رحمة و هدى و حكمة و موعظة و برهان و تبيان لكل شيء و تفصيل الكتاب و شفاء للمؤمنين و قول فصل و ما هو بالهزل، و أنه مواقع للنجوم، و أنه لا اختلاف فيه و لم يصرح ببلاغته بعينها.
و أطلق القول بأنهم لا يأتون بمثله و لو دعوا من استطاعوا من دون الله، و لو اجتمع على ذلك الجن و الإنس و كان بعضهم لبعض ظهيرا و لم يقيد الكلام بالبلاغة و الفصاحة.
و قد فصلنا القول في إعجاز القرآن في تفسير قوله: «و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله:» البقرة: - 23 في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: «بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله» إلى آخر الآية.
الآية تبين وجه الحقيقة في عدم إيمانهم به و قولهم إنه افتراء و هو أنهم كذبوا من القرآن بما لم يحيطوا بعلمه أو كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه ففيه معارف حقيقية من قبيل العلوم الواقعية لا يسعها علمهم، و لم يأتهم تأويله بعد أي تأويل ذاك الذي كذبوا به حتى يضطرهم إلى تصديقه.
هذا ما يقتضيه السياق من المعنى فقوله: «و لما يأتهم تأويله» يشير إلى يوم القيامة كما يؤيده قوله تعالى: «هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل:» الأعراف - 53.
و هذا يؤيد ما قدمناه في تفسير قوله: «ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله:» آل عمران - 7 في الجزء الثالث من الكتاب أن المراد بالتأويل في عرف القرآن هو الحقيقة التي يعتمد عليها معنى من المعاني من حكم أو معرفة أو قصة أو غير ذلك من الحقائق الواقعية من غير أن يكون من قبيل المعنى، و أن لجميع القرآن و ما يتضمنه من معرفة أو حكم أو خبر أو غير ذلك تأويلا.
و يؤيد ذلك أيضا قوله بعد: «كذلك كذب الذين من قبلهم» فإن التشبيه يعطي أن المراد أن الذين من قبلهم من المشركين أيضا كذبوا بما دعاهم إليه أنبياؤهم لكونهم لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله، فلما جاء به سائر الأنبياء من أجزاء الدعوة الدينية من معارف و أحكام تأويل كما أن لمعارف القرآن و أحكامه تأويلا من غير أن يكون من قبيل المفاهيم و معاني الألفاظ كما توهموه.
فمحصل المعنى أن هؤلاء المشركين الرامين للقرآن بأنه افتراء مثل المشركين و الكفار من الأمم السابقة استقبلتهم من الدعوة الدينية بمعارفها و أحكامها أمور لم يحيطوا بها علما حتى يوقنوا بها و يصدقوا، فحملهم الجهل على التكذيب بها و لما يأتهم اليوم الذي يظهر لهم فيه تأويلها و حقيقة أمرها ظهورا يضطرهم على الإيقان و التصديق بها و هو يوم القيامة الذي يكشف لهم فيه الغطاء عن وجه الحقائق بواقعيتها فهؤلاء كذبوا و ظلموا كما كذب الذين من قبلهم و ظلموا فانظر كيف كان عاقبة أولئك الظالمين حتى تحدس بما سيصيب هؤلاء.
هذا ما يعطيه دقيق البحث في معنى الآية، و للمفسرين فيها أقوال شتى مختلفة مبنية على ما ذهبوا إليه من معنى التأويل لا جدوى في التعرض لها و قد استقصينا أقوالهم سابقا.
قوله تعالى: «و منهم من يؤمن به و منهم من لا يؤمن به و ربك أعلم بالمفسدين» قسمهم قسمين من يؤمن بالقرآن و من لا يؤمن به ثم كنى عمن لا يؤمن به أنهم مفسدون فتحصل من ذلك أن الذين يكذبون بما في القرآن إنما كذبوا به لأنهم مفسدون.
فالآية لبيان حالهم الذي هم عليه من إيمان البعض و كفر البعض و أن الكفر ناش من رذيلة الإفساد.
و أما ما ذكره بعضهم في تفسير الآية: أن المراد أن قومك لن يكونوا كأولئك الظالمين من قبلهم الذين كذبوا رسلهم إلا قليلا منهم فكان عاقبتهم عذاب الاستئصال بل سيكون قومك قسمين قسم سيؤمن بهذا القرآن و قسم لا يؤمن به أبدا فهو معنى خارج عن مدلول الآية البتة.
قوله تعالى: «و إن كذبوك فقل لي عملي و لكم عملكم» إلى آخر الآية، تلقين للتبري على تقدير تكذيبهم له، و هو من مراتب الانتصار للحق ممن انتهض لإحيائه فالطريق هو حمل الناس عليه إن حملوا و إلا فالتبري منهم لئلا يحملوه على باطلهم.
و قوله: «أنتم بريئون مما أعمل و أنا بريء مما تعملون» تفسير لقوله: «لي عملي و لكم عملكم».
قوله تعالى: «و منهم من يستمعون إليك أ فأنت تسمع الصم و لو كانوا لا يعقلون» الاستفهام للإنكار، و قوله: «و لو كانوا لا يعقلون» قرينة على أن المراد بنفي السمع نفي ما يقارنه من تعقل ما يدل عليه الكلام المسموع و هو المسمى بسمع القلب.
و المعنى: و منهم الذين يستمعون إليك و هم صم لا سمع لقلوبهم، و لست أنت قادرا على إسماعهم و لا سمع لهم.
قوله تعالى: «و منهم من ينظر إليك» إلى آخر الآية.
الكلام فيها نظير الكلام في سابقتها.
قوله تعالى: «إن الله لا يظلم الناس شيئا و لكن الناس أنفسهم يظلمون» مسوق للإشارة إلى أن ما ابتلي به هؤلاء المحرومون من السمع و البصر من جهة الصمم و العمى من آثار ظلمهم أنفسهم من غير أن يكون الله تعالى ظلمهم بسلب السمع و البصر عنهم فإنهم إنما أوتوا ما أوتوا من قبل أنفسهم.
قوله تعالى: «و يوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم» «إلخ» ظاهر الآية أن يكون «يوم» ظرفا متعلقا بقوله: «قد خسر» إلخ، و قوله: «كأن لم يلبثوا إلا ساعة» إلخ، حالا من ضمير الجمع في «يحشرهم» و قوله: «يتعارفون بينهم» حالا ثانيا مبينا للحال الأول.
و المعنى قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله في يوم يحشرهم إليه حال كونهم يستقلون هذه الحياة الدنيا فيعدونها كمكث ساعة من النهار و هم يتعارفون بينهم من غير أن ينكر بعضهم بعضا أو ينساه.
و قد ذكر بعضهم أن قوله: «كأن لم يلبثوا» صفة ليوم أو صفة للمصدر المحذوف المدلول عليه بقوله: «يحشرهم»، و ذكر بعض آخر أن قوله: «يتعارفون بينهم» صفة لساعة، و هما من الاحتمالات البعيدة التي لا يساعد عليها اللفظ.
و كيف كان ففي الآية رجوع إلى حديث اللقاء المذكور في أول السورة و انعطاف على ما ذكره آنفا أن من المتوقع أن يأتيهم تأويل الدين.
فكأنها تقول: إنهم و إن لم يأتهم تأويل القرآن بعد لا ينبغي لهم أن يغتروا بالجمود على مظاهر هذه الحياة الدنيا و يستكثروا الأمد و يستبطئوا الأجل فإنهم سوف يحشرون إلى الله فيشاهدون أن ليست الحياة الدنيا إلا متاعا قليلا، و لا اللبث فيها إلا لبثا يسيرا كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم.
فيومئذ يظهر لهم خسرانهم في تكذيبهم بلقاء الله ظهور عيان و ذلك بإتيان تأويل الدين و انكشاف حقيقة الأمر و ظهور نور التوحيد على ما كان، و وضوح أن الملك يومئذ لله الواحد القهار جل شأنه.
|