بيان
عاد الكلام في الآيات إلى وصف القرآن الكريم بما له من كرائم الأوصاف و يتلوه متفرقات ترتبط بسابق القول في غرض السورة، و فيها موعظة و حكمة و حجة على مقاصد شتى، و فيها وصف أولياء الله و بشارتهم.
قوله تعالى: «يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم» إلى آخر الآية.
قال الراغب في المفردات: الوعظ زجر مقترن بتخويف، و قال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له، القلب و العظة و الموعظة الاسم، انتهى.
و الصدر معروف و الناس لما وجدوا القلب في الصدر و هم يرون أن الإنسان إنما يدرك ما يدرك بقلبه و به يعقل الأمور و يحب و يبغض و يريد و يكره و يشتاق و يرجو و يتمنى، عدوا الصدر خزانة لما في القلب من أسراره و الصفات الروحية التي في باطن الإنسان من فضائل و رذائل، و في الفضائل صحة القلب و استقامته، و في الرذائل سقمه و مرضه، و الرذيلة داء يقال: شفيت صدري بكذا إذا ذهب به ما في صدره من ضيق و حرج، و يقال: شفيت قلبي، فشفاء الصدور و شفاء ما في الصدور كناية عن ذهاب ما فيها من الصفات الروحية الخبيثة التي تجلب إلى الإنسان الشقاء و تنغص عيشته السعيدة و تحرمه خير الدنيا و الآخرة.
و الهدى هي الدلالة على المطلوب بلطف على ما ذكره الراغب، و قد تقدم في ذيل قوله تعالى: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام:» الأنعام: - 125 في الجزء السابع من الكتاب بحث فيها.
و الرحمة تأثر خاص في القلب عن مشاهدة ضر أو نقص في الغير يبعث الراحم إلى جبر كسره و إتمام نقصه، و إذا نسبت إليه تعالى كان بمعنى النتيجة دون أصل التأثر لتنزهه تعالى عن ذلك فينطبق على مطلق عطيته تعالى و إفاضته الوجود على خلقه.
و عطيته إذا نسبت إلى مطلق خلقه كانت هي ما ينسب إليه تعالى من وجودهم و بقائهم و رزقهم الذي يمد به بقاؤهم و سائر ما ينعم به عليهم من نعمة التي لا تحصى كثرة و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، و إذا نسبت إلى المؤمنين خاصة كانت هي ما يختص بهم من سعادة الحياة الإنسانية بمظاهرها المختلفة التي ينعم الله بها عليهم من المعارف الحقة الإلهية و الأخلاق الكريمة و الأعمال الصالحة، و الحياة الطيبة في الدنيا و الآخرة و الجنة و الرضوان.
و من ثم إذا وصف القرآن بأنه رحمة للمؤمنين كان معناه أنه يغشى المؤمنين أنواع الخيرات و البركات التي كنزها الله فيه لمن تحقق بحقائقها و تلبس بمعانيها، قال تعالى: «و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا:» إسراء: - 82.
و إذا أخذت هذه النعوت الأربعة التي عدها الله سبحانه للقرآن في هذه الآية أعني أنه موعظة و شفاء لما في الصدور و هدى و رحمة، و قيس بعضها إلى بعض ثم اعتبرت مع القرآن كانت الآية بيانا جامعا لعامة أثره الطيب الجميل و علمه الزاكي الطاهر الذي يرسمه في نفوس المؤمنين منذ أول ما يقرع أسماعهم إلى آخر ما يتمكن من نفوسهم و يستقر في قلوبهم.
فإنه يدركهم أول ما يدركهم و قد غشيهم يم الغفلة و أحاطت بهم لجة الحيرة فأظلمت باطنهم بظلمات الشك و الريب، و أمرضت قلوبهم بأدواء الرذائل و كل صفة أو حالة ردية خبيثة فيعظهم موعظة حسنة ينبههم بها عن رقدة الغفلة، و يزجرهم عما بهم من سوء السريرة و الأعمال السيئة، و يبعثهم نحو الخير و السعادة.
ثم يأخذ في تطهير سرهم عن خبائث الصفات، و لا يزال يزيل آفات العقول و أمراض القلوب واحدا بعد آخر حتى يأتي على آخرها.
ثم يدلهم على المعارف الحقة و الأخلاق الكريمة و الأعمال الصالحة دلالة بلطف برفعهم درجة بعد درجة، و تقريبهم منزلة فمنزلة حتى يستقروا في مستقر المقربين، و يفوزوا فوز المخلصين.
ثم يلبسهم لباس الرحمة و ينزلهم دار الكرامة و يقرهم على أريكة السعادة حتى يلحقهم بالنبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا، و يدخلهم في زمرة عبادة المقربين في أعلى عليين.
فالقرآن واعظ شاف لما في الصدور هاد إلى مستقيم الصراط مفيض للرحمة بإذن الله سبحانه، و إنما يعظ بما فيه و يشفي الصدور و يهدي و يبسط الرحمة بنفسه لا بأمر آخر فإنه السبب الموصول بين الله و بين خلقه فهو موعظة و شفاء لما في الصدور و هدى و رحمة للمؤمنين.
فافهم ذلك.
و قد افتتح سبحانه الآية بقوله: «يا أيها الناس» و هو خطاب لعامة الناس دون المشركين أو مشركي مكة خاصة و إن كانت الآية واقعة في سياق الكلام معهم و ذلك لأن النعوت المذكورة فيها بقوله: «قد جاءتكم موعظة من ربكم و شفاء لما في الصدور و هدى و رحمة للمؤمنين» تتعلق بعامتهم دون قبيل خاص منهم.
و من غريب التفسير قول بعضهم: إن المراد بالرحمة ما يتصف به المؤمنون من الرحمة و الرأفة فيما بينهم و هو خطأ يدفعه السياق البتة.
قوله تعالى: «قل بفضل الله و برحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون» الفضل هو الزيادة، و تسمى العطية فضلا لأن المعطي إنما يعطي غالبا ما لا يحتاج إليه من المال ففي تسمية ما يفيضه الله على عباده فضلا إشارة إلى غناه تعالى و عدم حاجته في إفاضته إلى ما يفيضه و لا إلى من يفيض عليه.
و ليس من البعيد أن يكون المراد بالفضل ما يبسطه الله من عطائه على عامة خلقه، و بالرحمة خصوص ما يفيضه على المؤمنين فإن رحمة السعادة الدينية إذا انضمت إلى النعمة العامة من حياة و رزق و سائر البركات العامة كان المجموع منهما أحق بالفرح و السرور و أحرى بالانبساط و الابتهاج.
و من الممكن أن يتأيد ذلك بقوله: «بفضل الله و برحمته» حيث أدخلت باء السببية على كل من الفضل و الرحمة، و هو مشعر بكون كل واحد منهما سببا مستقلا و إن جمع بينهما ثانيا بقوله: «فبذلك فليفرحوا» للدلالة على استحقاق مجموعهما لأن ينحصر فيه الفرح.
و يمكن أن يكون المراد بالفضل غير الرحمة من الأمور المذكورة في الآية السابقة أعني الموعظة و شفاء ما في الصدر و الهدى، و المراد بالرحمة الرحمة بمعناها المذكور في الآية السابقة و هي العطية الخاصة الإلهية التي هي سعادة الحياة في الدنيا و الآخرة.
و المعنى على هذا أن ما تفضل الله به عليهم من الموعظة و شفاء ما في الصدور و الهدى، و ما رحم المؤمنين به من الحياة الطيبة ذلك أحق أن يفرحوا به دون ما يجمعونه من المال.
و ربما تأيد هذا الوجه بقوله سبحانه: «و لو لا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا و لكن الله يزكي من يشاء:» النور: - 21 حيث نسب زكاتهم إلى الفضل و الرحمة معا و استناد الزكاة إلى الفضل بمعنى العطية العامة بعيد عن الفهم، و مما يؤيد هذا الوجه ملائمته لما ورد في الرواية من تفسير الآية بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و علي (عليه السلام) أو بالقرآن و الاختصاص به و سيجيء إن شاء الله.
و قوله: «فبذلك فليفرحوا» ذكروا أن الفاء في قوله: «فليفرحوا» زائدة كقول الشاعر: «فإذا قتلت فعند ذلك فاجزعي».
و الظرف أعني قوله: «فبذلك» بدل من قوله: «بفضل الله و برحمته»، و متعلق بقوله: «فليفرحوا» قدم عليه لإفادة الحصر، و قوله: «هو خير مما يجمعون» بيان ثان لمعنى الحصر.
فظهر بذلك كله أن الآية تفريع على مضمون الآية السابقة فإنه تعالى لما خاطب الناس امتنانا عليهم بأن هذا القرآن موعظة لهم و شفاء لما في صدورهم و هدى و رحمة للمؤمنين منهم فرع عليه أنه ينبغي لهم حينئذ أن يفرحوا بهذا الذي امتن به عليهم من الفضل و الرحمة لا بالمال الذي يجمعونه فإن ذلك - و فيه سعادتهم و ما تتوقف عليه سعادتهم - خير من المال الذي ليس إلا فتنة ربما أهلكتهم و أشقتهم.
قوله تعالى: «قل أ رأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما و حلالا» إلى آخر الآية.
نسبة الرزق و هو ما يمد الإنسان في بقائه من الأمور الأرضية من مأكول و مشروب و ملبوس و غيرها إلى الإنزال مبني على حقيقة يفيدها القرآن و هي أن الأشياء لها خزائن عند الله تتنزل من هناك على حسب ما قدرها الله سبحانه، قال تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم:» الحجر: - 21 و قال تعالى: «و في السماء رزقكم و ما توعدون:» الذاريات: - 22 و قال: «و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج:» الزمر: - 6 و قال: «و أنزلنا الحديد:» الحديد: - 25.
و أما ما قيل: إن التعبير بالإنزال إنما هو لكون أرزاق العباد من المطر الذي ينزله الله من السماء، فوجه بسيط لا يطرد على تقدير صحته في جميع الموارد التي عبر فيها عن كينونتها بالإنزال كما في الأنعام و في الحديد، و الرزق الذي تذكر الآية أن الله أنزله لهم فجعلوا منه حراما و حلالا هو الأنعام من الإبل و الغنم كالوصيلة و السائبة و الحام و غيرها.
و اللام في قوله: «لكم» للغاية و تفيد معنى النفع أي أنزل الله لأجلكم و لتنتفعوا به، و ليست للتعدية فإن الإنزال إنما يتعدى بعلى أو إلى، و من هنا أفاد الكلام معنى الإباحة و الحل أي أنزلها الله فأحلها، و هذا هو النكتة في تقديم التحريم على الإحلال في قوله: «فجعلتم منه حراما و حلالا» أي كان الله أحله لكم بإنزاله رزقا لكم تنتفعون به في حياتكم و بقائكم و لكنكم قسمتموه قسمين من عند أنفسكم فحرمتم قسما و أحللتم آخر فالمعنى: قل لهم يا محمد: أخبروني عما أنزل الله لكم و لأجلكم من الرزق الحلال فقسمتموه قسمين و جعلتم بعضه حراما و بعضه حلالا ما هو السبب في ذلك؟ و من البين أنه افتراء على الله لا عن إذن منه تعالى.
و قوله: «قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون» سؤال عن سبب تقسيمهم الرزق إلى حرام و حلال، و إذ كان من البين أنه ليس ذلك عن إذن منه تعالى لعدم اتصالهم بربهم بوحي أو رسول كان من المتعين أنه افتراء فالاستفهام في سياق الترديد كناية عن إثبات الافتراء لهم و توبيخ و ذم.
و الذي يقضي به النظر الابتدائي أن الترديد في الآية غير حاصر إذ كما يجوز أن يكون تقسيمهم رزق الله إلى حرام و حلال عن إذن من الله أو افتراء عليه تعالى كذلك يجوز أن يكون عن مصلحة أحرزوها أو زعموها في ذلك أو عن هوى لهم فيه من غير أن ينسبوه إلى الله تعالى فيكون افتراء عليه.
و من وجه آخر الترديد في الآية بين إذن الله و الافتراء على الله يشعر بأن الحكم إنما هو لله فالحكم بكون بعض الرزق حراما و بعضه حلالا و هو دائر بينهم إما أن يكون من الله أو افتراء عليه، و من الممكن أن يمنع ذلك في بادىء النظر فكثير من السنن الدائرة بين الناس كونتها طبيعة مجتمعهم أو عادتهم القومية و غير ذلك.
لكن التدبر في كلامه تعالى و البحث العميق يدفع ذلك فإن القرآن يرى أن الحكم يختص بالله تعالى، و ليس لأحد من خلقه أن يبادر إلى تشريع حكم و وضعه في المجتمع الإنساني، قال تعالى: «إن الحكم إلا لله:» يوسف: - 40.
و قد أشار تعالى إلى لم ذلك في قوله: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم:» الروم: - 30 فتبين به أن معنى كون الحكم لله كونه معتمدا على الخلقة و الفطرة منطبقا عليها غير مخالف لما ينطق به الكون و الوجود.
و ذلك أن الله سبحانه لم يخلق الخلق عبثا كما قال: «أ فحسبتم أنما خلقناكم عبثا:» المؤمنون: - 115 بل خلقهم لأغراض إلهية و غايات كمالية يتوجهون إليها بحسب جبلتهم و يسيرون نحوها بفطرتهم بما جهزهم به من الأسباب و الأدوات و هداهم إليه من السبيل الميسر لهم كما قال: «أعطى كل شيء خلقه ثم هدى:» طه: - 50، و قال: «ثم السبيل يسره:» عبس: - 20.
فوجود الأشياء في بدء خلقها مناسب لما هيىء لها من منزلة الكمال مجهز بقوى و أدوات يتوسل بها إلى غايتها، و لا يسير شيء منها إلى كماله المهيا له إلا من طريق الصفات الاكتسابية و الأعمال، فمن الواجب بالنظر إلى ذلك أن يكون الدين أعني القوانين الجارية في الصفات و الأعمال الاكتسابية منطبقا على الخلقة و الفطرة فإن الفطرة لا تنسى غايتها و لا تتخطاها، و لا تبعث نحو فعل و لا تزجر عن فعل إلا لدعوة ما جهزت به إليه، و لا يدعو الجهاز إلا لأجل ما جهز لأجله و هو الغاية.
فالإنسان لما كان مجهزا بجهاز التغذية و النكاح كان حكمه الحقيقي في دين الفطرة هو التغذي و النكاح دون الجوكية و الرهبانية مثلا، و لما كان مطبوعا على الاجتماع و التعاون كان من حكمه أن يشارك سائر الناس في مجتمعهم و يقوم بالأعمال الاجتماعية، و على هذا القياس.
فالذي يتعين للإنسان من الأحكام و السنن هو الذي يدعوه إليه الكون العالمي الذي هو جزء حقير منه، و قد جهز وجوده بما يسوقه إليه من مرحلة الكمال، فهذا الكون العام المرتبط بعض أجزائه ببعض، و هو مركب إرادة الله تعالى هو الحامل للشريعة الفطرية الإنسانية، و الداعي إلى دين الله الحنيف.
فالدين الحق هو حكم الله سبحانه لا حكم إلا له، و هو المنطبق على الخلقة الإلهية، و ما وراءه من حكم هو باطل لا يسوق الإنسان إلا إلى الشقاء و الهلاك و لا يهديه إلا إلى عذاب السعير.
و من هنا ينحل ما تقدم من العقدتين فإن الحكم لما كان لله سبحانه وحده كان كل حكم دائر بين الناس إما حكما لله حقيقة مأخوذا من لدنه بوحي أو رسالة أو حكما مفترى على الله، و لا ثالث للقسمين.
على أن المشركين كانوا ينسبون أمثال هذه الأحكام التي ابتدعوها و استنوا بها فيما بينهم إلى الله سبحانه كما يشير إليه قوله تعالى: «و إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا و الله أمرنا بها:» الآية الأعراف: - 28.
قوله تعالى: «و ما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة» إلى آخر الآية، لما كان جواب الاستفهام المتقدم: «آلله أذن لكم أم على الله تفترون» معلوما من المورد، و هو أنه افتراء، استعظم وخامة عاقبته فإنه افتراء على الله سبحانه و الافتراء من الآثام و الذنوب بحكم البداهة فلا محالة له أثر سيىء، و لذلك قال تعالى إيعادا و تهديدا: «و ما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة».
و أما قوله: «إن الله لذو فضل على الناس و لكن أكثرهم لا يشكرون» فهو شكوى و عتبى يشار به إلى ما اعتاد عليه الناس من كفران أكثرهم لنعمة الله، و عدم شكرهم قبال عطيته و نعمته، و المراد بالفضل هاهنا هو العطية الإلهية فإن الكلام في الرزق الذي أنزله الله لهم و هو الفضل و تحريمهم بعضه و هو الكفران و عدم الشكر.
و برجوع ذيل الآية إلى صدرها يكون الافتراء على الله من مصاديق كفران نعمته، و المعنى أن الله ذو فضل و عطاء على الناس و لكن أكثرهم كافرون لنعمته و فضله فما ظن الذين يكفرون بنعمة الله و رزقه بتحريمه افتراء على الله الكذب يوم القيامة.
قوله تعالى: «و ما تكون في شأن و ما تتلوا منه من قرآن و لا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا» إلى آخر الآية، قال الراغب: الشأن الحال و الأمر الذي يتفق و يصلح، و لا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال و الأمور قال: «كل يوم هو في شأن» انتهى.
و قوله: «و ما تتلوا منه من قرآن» الظاهر أن الضمير إلى الله سبحان و من الأولى للابتداء و النشوء و الثانية للبيان، و المعنى و لا تتلو شيئا هو القرآن ناشئا و نازلا من قبله تعالى، و الإفاضة في الفعل الخوض فيه جمعا.
و قد وقع في قوله: «إلا كنا عليكم شهودا» التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، و النكتة فيه الإشارة إلى كثرة الشهود فإن لله شهودا على أعمال الناس من الملائكة و الناس و الله من ورائهم محيط، و العظماء يتكلمون عنهم و عن غيرهم للدلالة على أن لهم أعوانا و خدمة.
و ليس ينبغي أن يغفل عن أن أصل الالتفات يبدأ من أول الآية فإن الآيات السابقة كانت تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تأخذ المشركين على الغيبة و تكلمهم بوساطته من غير أن تواجهه بشيء من الخطاب يخص نفسه، و قد حولت هذه الآية وجه الكلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما يخص به نفسه فقالت: «و ما تكون من شأن و ما تتلوا منه من قرآن» ثم جمعته و المشركين و غيرهم جميعا في خطاب واحد فقالت: «و لا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا» و ذلك بضمهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم على غيبتهم و بسط الخطاب على الجميع بنوع من التغليب كما تقول لمخاطبك أنت و قومك تفعلون كذا و كذا.
و الدليل على أن هذا الخطاب بنحو الضم و التغليب قوله بعده: «و ما يعزب عن ربك» إلخ، فإنه يكشف عن كون الخطاب معه (صلى الله عليه وآله وسلم) جاريا على ما كان.
و على أي حال فالتحول المذكور في خطاب الآية للإشارة إلى أن السلطنة و الإحاطة التامة الإلهية واقعة على الأعمال شهادة و علما على أتم ما يكون من كل جهة من غير أن يستثني منه نبي و لا مؤمن و لا مشرك أو يغفل عن عمل من الأعمال فلا يتوهمن أحد أن الله يخفى عليه شيء من أمره فلا يحاسبه عليه يوم القيامة، و ليكن هذا هو ظنه بربه يوم القيامة و ليأخذ حذره.
و ذكر تلاوة القرآن مستقلا مع دخوله في قوله قبلا: «و ما تكون في شأن» فإن أحد شئونه (صلى الله عليه وآله وسلم) للإيماء إلى أهمية أمرها و مزيد العناية بها.
و في الآية أولا تشديد في العظة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و على أمته و ثانيا: أن الذي يتلوه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من القرآن للناس من وحي الله و كلامه لا يطرقه تغيير و لا يدب فيه باطل لا في تلقيه من الله و لا في تلاوته للناس فالآية قريبة المضمون من قوله: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم:» الجن: - 28.
و قوله: «و ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة» إلى آخر الآية.
العزوب الغيبة و التباعد و الخفاء، و فيه إشارة إلى حضور الأشياء عنده تعالى من غير غيبة و حفظه لها في كتاب من غير زوال، و قد تقدم بعض ما يتعلق به من الكلام في ذيل قوله: «و عنده مفاتح الغيب:» الأنعام: - 59 في الجزء السابع من الكتاب.
قوله تعالى: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون» استئناف في الكلام غير أنه متعلق بغرض السورة و هو الدعوة إلى الإيمان بكتاب الله و الندب إلى توحيد الله تعالى بمعناه الوسيع.
و للدلالة على أهمية المطلب افتتح بلفظة «ألا» التنبيهية، و الله سبحانه يذكر في هذه الآية و الآيتين بعدها أولياءه و يعرفهم و يصف آثار ولايتهم و ما يختصون به من الخصيصة.
و الولاية و إن ذكروا لها معاني كثيرة لكن الأصل في معناها ارتفاع الواسطة الحائلة بين الشيئين بحيث لا يكون بينهما ما ليس منهما، ثم استعيرت لقرب الشيء من الشيء بوجه من وجوه القرب كالقرب نسبا أو مكانا أو منزلة أو بصداقة أو غير ذلك و لذلك يطلق الولي على كل من طرفي الولاية، و خاصة بالنظر إلى أن كلا منهما يلي من الآخر ما لا يليه غيره فالله سبحانه ولي عبده المؤمن لأنه يلي أمره و يدبر شأنه فيهديه إلى صراطه المستقيم و يأمره و ينهاه فيما ينبغي له أو لا ينبغي و ينصره في الحياة الدنيا و في الآخرة.
و المؤمن حقا ولي ربه لأنه يلي منه إطاعته في أمره و نهيه و يلي منه عامة البركات المعنوية من هداية و توفيق و تأييد و تسديد و ما يعقبها من الإكرام بالجنة و الرضوان.
فأولياء الله - على أي حال - هم المؤمنون فإن الله يعد نفسه وليا لهم في حياتهم المعنوية حيث يقول: «و الله ولي المؤمنين:» آل عمران: - 68.
غير أن الآية التالية لهذه الآية المفسرة للكلمة تأبى أن تكون الولاية شاملة لجميع المؤمنين و فيهم أمثال الذين يقول الله سبحانه فيهم: «و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون:» يوسف: - 106 فإن قوله في الآية التالية: «الذين آمنوا و كانوا يتقون» يعرفهم بالإيمان و التقوى مع الدلالة على كونهم على تقوى مستمر سابق على إيمانهم من حيث الزمان حيث قيل: «آمنوا» ثم قيل عطفا عليه: «و كانوا يتقون» فدل على أنهم كانوا يستمرون على التقوى قبل تحقق هذا الإيمان منهم و من المعلوم أن الإيمان الابتدائي غير مسبوق بالتقوى بل هما متقاربان أو هو قبل التقوى و خاصة التقوى المستمر.
فالمراد بهذه الإيمان مرتبة أخرى من مراتب الإيمان غير المرتبة الأولى منه.
فقد تقدم في الجزء الأول من الكتاب آية 130 من البقرة أن لكل من الإيمان و الإسلام و كذا الشرك و الكفر مراتب مختلفة بعضها فوق بعض فالمرتبة الأولى من الإسلام إجراء الشهادتين لسانا و التسليم ظاهرا، و تليه المرتبة الأولى من الإيمان و هو الإذعان بمؤدى الشهادتين قلبا إجمالا و إن لم يسر إلى جميع ما يعتقد في الدين من الاعتقاد الحق، و لذا كان من الجائز أن يجتمع مع الشرك من بعض الجهات، قال تعالى: «و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون:» يوسف: - 106.
و لا يزال إسلام العبد يصفو و ينمو حتى يستوعب تسليمه لله سبحانه في كل ما يرجع إليه و إليه مصير كل أمر، و كلما ارتفع الإسلام درجة و رقي مرتبة كان الإيمان المناسب له الإذعان بلوازم تلك المرتبة حتى يسلم العبد لربه حقيقة معنى ألوهيته و ينقطع عنه السخط و الاعتراض فلا يسخط لشيء من أمره من قضاء و قدر و حكم، و لا يعترض على شيء من إرادته، و بإزاء ذلك الإيمان باليقين بالله و جميع ما يرجع إليه من أمر، و هو الإيمان الكامل الذي تتم به للعبد عبوديته.
قال تعالى: «فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما:» النساء: - 65، و الأشبه أن تكون هذه المرتبة من الإيمان أو ما يقرب منه هو المراد بالآية أعني قوله: «الذين آمنوا و كانوا يتقون» فإنه الإيمان المسبوق بتقوى مستمر دون الإيمان بمرتبته الأولى كما تقدم.
على أن توصيفه أهل هذا الإيمان بأنهم «لا خوف عليهم و لا هم يحزنون» يدل على أن المراد منه الدرجة العالية من الإيمان الذي يتم معه معنى العبودية و المملوكية المحضة للعبد الذي يرى معه أن الملك لله وحده لا شريك له، و أن ليس إليه من الأمر شيء حتى يخاف فوته أو يحزن لفقده.
و ذلك أن الخوف إنما يعرض للنفس عن توقع ضرر يعود إليها، و الحزن إنما يطرأ عليها لفقد ما تحبه أو تحقق ما تكرهه مما يعود إليها نفعه أو ضرره، و لا يستقيم تحقق ذلك إلا فيما يرى الإنسان لنفسه ملكا أو حقا متعلقا بما يخاف عليه أو يحزن لفقده من ولد أو مال أو جاه أو غير ذلك.
و أما ما لا علقة للإنسان به بوجه من الوجوه أصلا فلا يخاف الإنسان عليه و لا يحزن لفقده البتة.
و الذي يرى كل شيء ملكا طلقا لله سبحانه لا يشاركه في ملكه أحد لا يرى لنفسه ملكا أو حقا بالنسبة إلى شيء حتى يخاف في أمره أو يحزن، و هذا هو الذي يصفه الله من أوليائه إذ يقول: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون» فهؤلاء لا يخافون شيئا و لا يحزنون لشيء لا في الدنيا و لا في الآخرة إلا أن يشاء الله و قد شاء أن يخافوا من ربهم و أن يحزنوا لما فاتهم من كرامته إن فاتهم و هذا كله من التسليم لله فافهم ذلك.
فإطلاق الآية يفيد اتصافهم بهذين الوصفين: عدم الخوف و عدم الحزن في النشأتين الدنيا و الآخرة، و أما مثل قوله تعالى: «إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم و لا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا و كانوا مسلمين:» الزخرف: - 70 فإن ظاهر الآيات و إن كان هو أنها تريد الأولياء بالمعنى الذي تصفه الآية التي نحن فيها إلا أن إثبات عدم الخوف و الحزن لهم يوم القيامة لا ينفي ذلك عنهم في غيره.
نعم هناك فرق من جهة أخرى و هو خلوص النعمة و الكرامة و بلوغ صفائها يوم القيامة و كونها مشوبة غير خالصة في غيره.
و نظيرها قوله تعالى: «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا و في الآخرة:» فصلت: - 31 فإن الآيات و إن كانت ظاهرة في كون هذا التنزل و القول و البشارة يوم الموت لمكان قوله: «كنتم توعدون» و قوله: «أبشروا» غير أن الإثبات في وقت لا يكفي للنفي في وقت آخر كما عرفت.
هذا ما يدل عليه الآية بحسب إطلاق لفظها و تأييد سائر الآيات لها، و قد قيد أكثر المفسرين قوله: «لا خوف عليهم و لا هم يحزنون» - بالاستناد إلى آيات الآخرة - بيوم الموت و القيامة، و أهملوا ما تفيده خصوصية اللفظ في قوله: «الذين آمنوا و كانوا يتقون» و أخذوا الإيمان و التقوى أمرين متقارنين فرجع المعنى إلى أن أولياء الله هم المتقون من أهل الإيمان و لا خوف عليهم في الآخرة و لا هم يحزنون و هذا - كما عرفت - من التقييد من غير مقيد.
و عمم بعضهم نفي الخوف و الحزن فذكر أنهم متصفون به في الدنيا و الآخرة غير أنه أفسد المعنى من جهة أخرى فقال: إن المراد بالأولياء على ما تفسرهم به الآية الثانية جميع المتقين من المؤمنين، و المراد بعدم خوفهم و حزنهم أنهم لا يخافون في الآخرة مما يخاف منه الكافرون و الفاسقون و الظالمون من أهوال الموقف و عذاب الموقف و عذاب الآخرة و لا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم و أنهم لا يخافون في الدنيا كخوف الكفار و لا يحزنون كحزنهم.
قال: و أما أصل الخوف و الحزن فهو من الأعراض البشرية التي لا يسلم منها أحد في الدنيا، و إنما يكون المؤمنون الصالحون أصبر الناس و أرضاهم بسنن الله اعتقادا و علما بأنه إذا ابتلاهم بشيء مما يخيف أو يحزن فإنما يربيهم بذلك لتكميل نفوسهم و تمحيصها بالجهاد في سبيله الذي يزداد به أجرهم كما صرحت بذلك الآيات الكثيرة.
انتهى.
أما تقييده الآية بأن المنفي عن الأولياء هو الخوف و الحزن اللذين يعرضان للكفار دون ما يعرض لعامة المؤمنين بحسب الطبع البشري و استناده في ذلك إلى الآيات الكثيرة فهو من التقييد من غير مقيد، و أما قوله إن أصل الخوف و الحزن مما لا يسلم منه أحد أصلا فهو من عدم تحصيل المراد بالكلام لعدم تعمقه في البحث عن الأخلاق العالية و المقامات المعنوية الإنسانية فحمله ذلك على أن يقيس حال المكرمين من عباد الله المقربين من الأنبياء و الأولياء إلى ما يجده من حال المتوسطين من عامة الناس فزعم أن ما يغشى العامة من الأعراض التي سماها أحوالا طبيعية يغشى الخاصة لا محالة، و أن ما يتعذر أو يتعسر على المتوسطين من الأحوال فهو كذلك عند الكاملين، و لا يبقى حينئذ للمقامات المعنوية و الدرجات الحقيقية إلا أنها أسماء ليس وراءها حقيقة، و اعتبارات وضعية اصطلح عليها نظير المقامات الوهمية و الدرجات الرسمية الاجتماعية التي نتداولها في مجتمعاتنا لمصلحة الاجتماع.
فلا وفى حق البحث العلمي حتى يهديه إلى حق النتيجة فيتبين أن التوحيد الكامل يقصر حقيقة الملك في الله سبحانه فلا يبقى لغيره شيء من الاستقلال في التأثير حتى يتعلق به لنفسه حب أو بغض أو خوف أو حزن و لا فرح و لا أسى و لا غير ذلك، و إنما يخاف هذا الذي غشيه التوحيد و يحزن أو يحب أو يكره بالله سبحانه، و يرتفع التناقض حينئذ بين قولنا: إنه لا يخاف شيئا إلا الله و بين قولنا: إنه يخاف كثيرا مما يضره و يحذر أمورا يكرهها فافهم ذلك.
و لا البحث القرآني أتقن و استفرغ فيه الوسع حتى يظهر له أن قوله تعالى: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون» أطلق فيه نفي الخوف و الحزن من غير تقييد بشيء أو حال إلا ما صرح به آيات من وجوب مخافة الله فهؤلاء لا يخافون من شيء في دنيا و لا آخرة إلا من الله سبحانه و لا يحزنون.
و أما الآيات الكثيرة التي تصف المؤمنين بعدم الخوف و الحزن عند الموت أو يوم القيامة فهي إنما تصف أحوالهم في ظرف و لا يستوجب نفي شيء أو إثباته في مورد خلافه في غيره و هو ظاهر.
و الآية مع ذلك تدل على أن هذا الوصف إنما هو لطائفة خاصة من المؤمنين يمتازون عن غيرهم بمرتبة خاصة من الإيمان تخصهم دون غيرهم من عامة المؤمنين و ذلك بما يفسرها من قوله: «الذين آمنوا و كانوا يتقون» بما تقدم من تقرير دلالته.
و بالجملة ارتفاع الخوف من غير الله و الحزن عن الأولياء ليس معناه أن الخير و الشر و النفع و الضرر و النجاة و الهلاك و الراحة و العناء و اللذة و الألم و النعمة و البلاء متساوية عندهم و متشابهة في إدراكهم فإن العقل الإنساني بل الشعور العام الحيواني لا يقبل ذلك.
بل معناه أنهم لا يرون لغيره تعالى استقلالا في التأثير أصلا، و يقصرون الملك و الحكم فيه تعالى فلا يخافون إلا إياه أو ما يحب الله و يريد أن يحذروا منه أو يحزنوا عليه.
قوله تعالى: «لهم البشرى في الحياة الدنيا و في الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم» يبشرهم الله تعالى بشارة إجمالية بما تقر به أعينهم فإن كان قوله: «لهم البشرى» إنشاء للبشارة كان معناه وقوع ما بشر به في الدنيا و في الآخرة كلتيهما، و إن كان إخبارا بأن الله سيبشرهم بشرى كانت البشارة واقعة في الدنيا و في الآخرة، و أما المبشر به فهل يقع في الآخرة فقط أو في الدنيا و الآخرة معا؟ الآية ساكتة عن ذلك.
و قد وقع في كلامه تعالى بشارات للمؤمنين بما ينطبق على أوليائه تعالى كقوله تعالى: «و كان حقا علينا نصر المؤمنين:» الروم: - 47 و قوله: «إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد:» المؤمن: - 51 و قوله: «بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار:» الحديد: - 12 إلى غير ذلك.
و قوله: «لا تبديل لكلمات الله» إشارة إلى أن ذلك من القضاء المحتوم الذي لا سبيل للتبدل إليه، و فيه تطييب لنفوسهم.
قوله تعالى: «و لا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم» تأديب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعزيته و تسليته فيما كانوا يؤذونه به بالوقوع في ربه و الطعن في دينه و الاعتزاز بشركائهم و آلهتهم كما يشعر به القول في الآية التالية فكاد يحزن لله فسلاه الله و طيب نفسه بتذكيره ما يسكن وجده و هو أن العزة لله و أنه سميع لمقالهم عليهم بحاله و حالهم و إذ كان له تعالى كل العزة فلا يعبأ بما اعتزوا به من العزة الوهمية فهذوا ما هذوا، و إذ كان سميعا عليما فلو شاء لأخذهم بالنكال و إذ كان لا يأخذهم فإنما في ذلك مصلحة الدعوة و خير العاقبة.
و من هنا يظهر أن كلا من قوله: «إن العزة لله» و قوله: «هو السميع العليم» علة مستقلة للنهي و لذا جيء بالفصل من غير عطف.
قوله تعالى: «ألا إن لله من في السماوات و من في الأرض» إلى آخر الآية فيه بيان مالكيته تعالى لكل من في السماوات و الأرض التي بها يتم للإله معنى الربوبية فإن الرب هو المالك المدبر لأمر مملوكه، و هذا الملك لله وحده لا شريك له فما يدعون له من الشركاء ليس لهم من معنى الشركة إلا ما في ظن الداعين و في خرصهم من المفهوم الذي لا مصداق له.
فالآية تقيس شركاءهم إليه تعالى و تحكم أن نسبتهم إليه تعالى نسبة الظن و الخرص إلى الحقيقة و الحق، و الباقي ظاهر.
و قد قيل: «من في السماوات و من في الأرض» و لم يقل: ما في السماوات و ما في الأرض لأن الكلام في ربوبية العباد من ذوي الشعور و العقل و هم الملائكة و الثقلان.
قوله تعالى: «هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه و النهار مبصرا» الآية.
الآية تتمم البيان الذي أورد في الآية السابقة لإثبات ربوبيته تعالى و الربوبية - كما تعلم - هي الملك و التدبير، و قد ذكر ملكه تعالى في الآية السابقة، فبذكر تدبير من تدابيره العامة في هذه الآية تصلح به عامة معيشة الناس و تستبقي به حياتهم يتم له معنى الربوبية.
و للإشارة إلى هذا التدبير ذكر مع الليل سكنهم فيه، و مع النهار إبصارهم فيه الباعث لهم إلى أنواع الحركات و التنقلات لكسب مواد الحياة و إصلاح شئون المعاش فليس يتم أمر الحياة الإنسانية بالحركة فقط أو بالسكون فقط فدبر الله سبحانه الأمر في ذلك بظلمة الليل الداعية إلى تجديد تجهيز القوى بعد ما لحقها من العي و التعب و النصب و إلى الارتياح و الأنس بالأهل و التمتع مما جمع و اكتسب بالنهار و الفراغ للعبودية، و بضوء النهار الباعث إلى الرؤية فالاشتياق فالطلب.
قوله تعالى: «قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات و ما في الأرض» إلى آخر الآية الاستيلاد بمعناه المعروف عند الناس هو أن يفصل الموجود الحي بعض أجزاء مادته فيربيه بالحمل أو البيض تربية تدريجية حتى يتكون فردا مثله، و الإنسان من بينها خاصة ربما يطلب الولد ليكون عونا له على نوائب الدهر و ذخرا ليوم الفاقة، و هذا المعنى بجميع جهاته محال عليه تعالى فهو عز اسمه منزه عن الأجزاء متعال عن التدريج في فعله بريء عن المثل و الشبه مستغن عن غيره بذاته.
و قد نفى القرآن الولد عنه بالاحتجاج عليه من كل من الجهات المذكورة كما تعرض لنفيه من جميعها في قوله: «و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات و الأرض كل له قانتون بديع السموات و الأرض و إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون:» البقرة: - 117 و قد مرت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآيات في الجزء الأول من الكتاب.
و أما الآية التي نحن فيها فهي مسوقة للاحتجاج على نفي الولد من الجهة الأخيرة فحسب و هو أن الغرض من وجوده الاستعانة به عند الحاجة و ذلك إنما يتصور فيمن كان بحسب طبعه محتاجا فقيرا، و الله سبحانه هو الغني الذي لا يخالطه فقر فإنه المالك لما فرض في السماوات و الأرض من شيء.
و قوله: «إن عندكم من سلطان أي برهان» بهذا» إثبات لكونهم إنما قالوه جهلا من غير دليل فيكون محصل المعنى أنه لا دليل لكم على ما قلتموه بل الدليل على خلافه و هو أنه تعالى غني على الإطلاق، و الولد إنما يطلبه من به فاقة و حاجة، و الكلام على ما اصطلح عليه في فن المناظرة من قبيل المنع مع السند.
و قوله: «أ تقولون على الله ما لا تعلمون» توبيخ لهم في قولهم ما ليس لهم به علم، و هو مما يستقبحه العقل الإنساني و لا سيما في ما يرجع إلى رب العالمين عز اسمه.
قوله تعالى: «قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون» تخويف و إنذار بشؤم العاقبة، و في الآيتين من لطيف الالتفات ما هو ظاهر فقد حكى الله أولا عنهم من طريق الغيبة قولهم: «اتخذ الله ولدا» ثم خاطبهم خطاب الساخط الغضبان مما نسبوا إليه و افتروا عليه فقال: «إن عندكم من سلطان بهذا أ تقولون على الله ما لا تعلمون» و إنما خاطبهم متنكرا من غير أن يعرفهم نفسه حيث قال: «على الله» و لم يقل: علي أو علينا صونا لعظمة مقامه أن يخالطهم معروفا ثم أعرض عنهم تنزها عن ساحة جهلهم و رجع إلى خطاب رسوله قائلا: «قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون» لأنه إنذار و الإنذار شأنه.
قوله تعالى: «متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون» خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه بيان وجه عدم فلاحهم بأنه كفر بالله ليس بحذائه إلا متاع قليل في الدنيا ثم الرجوع إلى الله و العذاب الشديد الذي يذوقونه.
بحث روائي
في أمالي الشيخ، قال: أخبرنا أبو عمرو قال: أخبرنا أحمد قال: حدثنا يعقوب بن يوسف بن زياد قال: حدثنا نصر بن مزاحم قال: حدثنا محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: بفضل الله و برحمته» بفضل الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و برحمته علي (عليه السلام): أقول: و رواه الطبرسي و ابن الفارسي عنه مرسلا، و رواه أيضا في الدر المنثور، عن الخطيب و ابن عساكر عنه. و في المجمع، قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): فضل الله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و رحمته علي بن أبي طالب (عليه السلام).
أقول: و ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نعمة أنعم الله بها على العالمين بما جاء به من الرسالة و مواد الهداية، و علي (عليه السلام) هو أول فاتح لباب الولاية و فعلية التحقق بنعمة الهداية فهو الرحمة فينطبق الخبر على ما قدمناه في تفسير الآية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي عن ابن عباس: قل بفضل الله القرآن و برحمته» حين جعلهم من أهل القرآن.
أقول: أي الفضل مواد المعارف و الأحكام التي فيه، و الرحمة فعلية تحقق ذلك في العاملين به فيرجع إلى ما قدمناه في تفسير الآية فتبصر، و لا مخالفة بين هذه الرواية و الرواية السابقة حينئذ بحسب الحقيقة.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و ما تكون في شأن» الآية قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قرأ هذه الآية بكى بكاء شديدا: أقول: و رواه في المجمع، عن الصادق (عليه السلام). و في أمالي المفيد، بإسناده عن عباية الأسدي عن ابن عباس قال: سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن قوله تعالى: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون» فقيل له: من هؤلاء الأولياء؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): قوم أخلصوا لله في عبادته، و نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها فعرفوا آجلها حين غرت الخلق سواهم بعاجلها فتركوا ما علموا أنه سيتركهم، و أماتوا منها ما علموا أنه سيميتهم. ثم قال: أيها المطل نفسه بالدنيا الراكض على حبائلها المجتهد في عمارة ما سيخرب منها أ لم تر إلى مصارع آبائك في البلاد و مصارع أبنائك تحت الجنادل و الثرى؟ كم مرضت ببدنك و عللت بكفنك تستوصف لهم الأطباء و تستغيث لهم الأحباء فلم تغن عنهم غناءك، و لا ينجع عنهم دواؤك؟ و في تفسير العياشي، عن مرثد العجلي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب علي بن الحسين (عليهما السلام): «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون» قال: إذا أدوا فرائض الله، و أخذوا بسنن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و تورعوا عن محارم الله، و زهدوا في عاجل زهرة الدنيا، و رغبوا فيما عند الله، و اكتسبوا الطيب من رزق الله، و لا يريدون هذا التفاخر و التكاثر ثم أنفقوا فيما يلزمهم من حقوق واجبة فأولئك الذين بارك الله لهم فيما اكتسبوا و يثابون على ما قدموا لآخرتهم.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الحكيم و الترمذي عن عمرو بن الجموح أنه سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنه لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله و يبغض لله تعالى فإذا أحب الله و أبغض الله فقد استحق الولاء من الله. الحديث.
أقول: و الروايات الثلاث في معنى الولاية يرجع بعضها إلى بعض و ينطبق الجميع على ما قدمناه في تفسير الآية.
و فيه، أخرج ابن المبارك و ابن أبي شيبة و ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه عن سعيد بن جبير عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون» قال: يذكر الله لرؤيتهم.
أقول: ينبغي أن يحمل إلى أن من آثار ولايتهم ذلك لا أن كل من كان كذلك كان من أهل الولاية إلا أن يراد أنهم كذلك في جميع أحوالهم و أعمالهم، و في معناها ما روي عن أبي الضحى و سعد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في الآية قال: إذا رأوا ذكر الله.
و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو القاسم بن منده في كتاب سؤال القبر من طريق أبي جعفر عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل من أهل البادية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله: «الذين آمنوا و كانوا يتقون - لهم البشرى في الحياة الدنيا و في الآخرة» فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أما قوله لهم البشرى في الحياة الدنيا» فهي الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشر بها في دنياه، و أما قوله: «و في الآخرة» فإنها بشارة المؤمن عند الموت أن الله قد غفر لك و لمن حملك إلى قبرك.
أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة من طرق أهل السنة و رواها الصدوق مرسلا و قوله: «ترى للمؤمن» بصيغة المجهول أعم من أن يراها هو نفسه أو غيره و قوله: «عند الموت» قد أضيف إليه في بعض الروايات البشرى يوم القيامة بالجنة.
و في المجمع،: في قوله: «لهم البشرى في الحياة الدنيا و في الآخرة»: عن أبي جعفر (عليه السلام): في معنى البشارة في الدنيا: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى له، و في الآخرة الجنة و هي ما يبشرهم به الملائكة عند خروجهم من القبور، و في القيامة إلى أن يدخلوا الجنة يبشرونهم حالا بعد حال: أقول: و قال بعد ذلك و روي ذلك في حديث مروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انتهى و روي مثله عن الصادق (عليه السلام) و رواه القمي في تفسيره، مضمرا.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن زريق عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: «لهم البشرى في الحياة الدنيا» قال: هو أن يبشراه بالجنة عند الموت يعني محمدا و عليا (عليه السلام).
و في الكافي، بإسناده عن أبان بن عثمان عن عقبة أنه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الرجل إذا وقعت نفسه في صدره رأى. قلت: جعلت فداك و ما يرى؟ قال: يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول له رسول الله. أنا رسول الله أبشر، ثم قال: ثم يرى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فيقول: أنا علي بن أبي طالب الذي كنت تحب أما لأنفعنك اليوم. قال: قلت له: أ يكون أحد من الناس يرى هذا ثم يرجع إلى الدنيا؟ قال: إذا رأى هذا أبدا مات و أعظم ذلك قال: و ذلك في القرآن قول الله عز و جل: «الذين آمنوا و كانوا يتقون لهم البشرى - في الحياة الدنيا و في الآخرة - لا تبديل لكلمات الله».
أقول: و هذا المعنى مروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بطرق كثيرة جدا و قوله: «و أعظم ذلك» أي عده عظيما.
و قد أخذ في الحديث قوله تعالى: «الذين آمنوا و كانوا يتقون» كلاما مستقلا ففسره بما فسر، و تقدم نظيره في رواية الدر المنثور، عن جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أن ظاهر السياق كون الآية مفسرة لقوله قبلها: «ألا إن أولياء الله» الآية و هو يؤيد ما قدمناه في بعض الأبحاث السابقة أن جميع التقادير من التركيبات الممكنة في كلامه تعالى حجة يحتج بها كما في قوله: «قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون:» الأنعام: - 91 و قوله: «قل الله ثم ذرهم في خوضهم» و قوله: «قل الله ثم ذرهم» و قوله: «قل الله».
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و صححه و ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الرسالة و النبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي و لا نبي و لكن المبشرات. قالوا: يا رسول الله و ما المبشرات قال: رؤيا المسلم و هي جزء من أجزاء النبوة: أقول: و روي ما في معناه عن أبي قتادة و عائشة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و مسلم و الترمذي و أبو داود و ابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، و أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، و رؤيا المسلم جزء من ستة و أربعين جزء من النبوة، و الرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، و الرؤيا من تحزن و الرؤيا مما يحدث بها الرجل نفسه. و إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم و ليتفل و لا يحدث به الناس الحديث.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الرؤيا على ثلاثة: تخويف من الشيطان ليحزن به ابن آدم و منه الأمر يحدث به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، و منه جزء من ستة و أربعين جزء من النبوة.
أقول: أما انقسام الرؤيا إلى الأقسام الثلاثة كما ورد في الروايتين و في معناهما روايات أخرى من طرق أهل السنة و أخرى من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فسيجيء توضيحه في تفسير سورة يوسف إن شاء الله تعالى.
و أما كون الرؤيا الصالحة جزء من ستة و أربعين جزء من النبوة فقد وردت به روايات كثيرة من طرق أهل السنة رواها عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع من الصحابة كأبي هريرة و عبادة بن الصامت و أبي سعيد الخدري و أبي رزين، و روى أنس و أبو قتادة و عائشة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): أنها من أجزاء النبوة كما تقدم.
و عن الصفدي أنه وجه الرواية بأن مدة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث و عشرون سنة دعا فيها إلى ربه ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة، و عشر سنين بعدها، و قد ورد أن الوحي كان يأتيه ستة أشهر من أولها من طريق الرؤيا الصالحة حتى نزل القرآن، و النسبة بين الستة الأشهر و بين الثلاث و عشرين سنة نسبة الواحد إلى الستة و الأربعين.
و قد روي عن ابن عمر و أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): أنها جزء من سبعين جزء من النبوة فإن صحت هذه الرواية كان المراد بالتعداد مجرد التكثير من غير خصوصية لعدد السبعين.
و اعلم أن الرؤيا ربما أطلقت في لسان القرآن و الحديث على ما يشاهده الرائي ما لا يشاهده غيره و إن لم ينم نومه الطبيعي، و قد نبهنا عليه في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب و أحسن كلمة في تفسيرها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): تنام عيني و لا ينام قلبي.
|