بيان
تذكر الآيات إجمال قصة نوح (عليه السلام) و من بعده من الرسل إلى زمن موسى و هارون (عليهما السلام)، و ما عامل به الله سبحانه أممهم المكذبين لرسلهم حيث أهلكهم و نجا رسله و المؤمنين بهم ليعتبر بها أهل التكذيب من هذه الأمة.
قوله تعالى: «و اتل عليهم نبأ نوح» إلى آخر الآية المقام مصدر ميمي و اسم زمان و مكان من القيام، و المراد به الأول أو الثالث أي قيامي بأمر الدعوة إلى توحيد الله أو مكانتي و منزلتي و هي منزلة الرسالة، و الإجماع العزم و ربما يتعدى بعلى قال الراغب: و أجمعت كذا أكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوسل إليه بالفكرة نحو فأجمعوا كيدكم و شركاءكم.
و الغمة هي الكربة و الشدة و فيه معنى التغطية كان الهم يغطي القلب، و منه الغمام للغيم سمي به لتغطيته وجه السماء، و القضاء إلى الشيء إتمام أمره بقتل و إفناء و نحو ذلك.
و معنى الآية: «و اتل» يا محمد «عليهم نبأ نوح» و خبره العظيم حيث واجه قومه و هو واحد يتكلم عن نفسه، و هو مرسل إلى أهل الدنيا فتحدى عليهم بأن يفعلوا به ما بدا لهم إن قدروا على ذلك، و أتم الحجة على مكذبيه في ذلك «إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي» و نهضتي لأمر الدعوة إلى التوحيد أو منزلتي من الرسالة «و تذكيري بآيات الله» و هو داعيكم لا محالة إلى قتلي و إيقاع ما تقدرون عليه من الشر بي لإراحة أنفسكم مني «فعلى الله توكلت» قبال ما يهددني من تحرج صدوركم و ضيق نفوسكم علي بإرجاع أمري إليه و جعله وكيلا يتصرف في شئوني و من غير أن أشتغل بالتدبير «فأجمعوا أمركم و شركاءكم» الذين تزعمون أنهم ينصرونكم في الشدائد، و اعزموا علي بما بدا لكم، و هذا أمر تعجيزي، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة» إن لم تكونوا اجتهدتم في التوسل إلى كل سبب في دفعي «ثم اقضوا إلي» بدفعي و قتلي «و لا تنظرون» و لا تمهلوني.
و في الآية تحديه (عليه السلام) على قومه بأن يفعلوا به ما بدا لهم، و إظهار أن ربه قدير على دفعهم عنه و إن أجمعوا عليه و انتصروا بشركائهم و آلهتهم.
قوله تعالى: «فإن توليتم فما سألتكم من أجر» إلى آخر الآية.
تفريع على توكله بربه، و قوله: «فما سألتكم» إلخ، بمنزلة وضع السبب موضع المسبب و التقدير فإن توليتم و أعرضتم عن استجابة دعوتي فلا ضير لي في ذلك فإني لا أتضرر في إعراضكم شيئا لأني إنما كنت أتضرر بإعراضكم عني لو كنت سألتكم أجرا على ذلك يفوت بالإعراض و ما سألتكم عليه من أجر إن أجري إلا على الله.
و قوله: «و أمرت أن أكون من المسلمين» أي الذين يسلمون الأمر إليه فيما أراده لهم و عليهم، و لا يستكبرون عن أمره بالتسليم لسائر الأسباب الظاهرة حتى يخضعوا لها و يتوقعوا به إيصال نفع أو دفع شر.
قوله تعالى: «فكذبوه فنجيناه و من معه في الفلك و جعلناهم خلائف» إلى آخر الآية، الخلائف جمع خليفة أي جعلنا هؤلاء الناجين خلائف في الأرض و الباقين من بعدهم يخلفون سلفهم و يقومون مقامهم، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم» إلى آخر الآية، يريد بالرسل من جاء منهم بعد نوح إلى زمن موسى (عليه السلام).
و ظاهر السياق أن المراد بالبينات الآيات المعجزة التي اقترحتها الأمم على أنبيائهم بعد مجيئهم و دعوتهم و تكذيبهم لهم فأتوا بها و كان فيها القضاء بينهم و بين أممهم، و يؤيده قوله بعده: «فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل» إلخ، فإن السابق إلى الذهن أنهم جاءوهم بالآيات البينات لكن الله قد كان طبع على قلوبهم لاعتدائهم فلم يكن في وسعهم أن يؤمنوا ثانيا بما كذبوا به أولا.
و لازم ذلك أن يكون تكذيبهم بذلك قبل مجيء الرسل بتلك الآيات البينات فقد كانت الرسل بثوا دعوتهم فيهم و دعوهم إلى توحيد الله فكذبوا به و بهم ثم اقترحوا عليهم آية معجزة فجاءوهم بها فلم يؤمنوا.
و قد أسلفنا بعض البحث عن هذه الآية في تفسير قوله: «فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل: الأعراف: - 101 في الجزء الثامن من الكتاب، و بينا هناك أن في الآية إشارة إلى عالم الذر غير أنه لا ينافي إفادتها لما قدمناه من المعنى آنفا فليراجع.
بحث روائي
في الكافي، عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن إسماعيل عن صالح بن عقبة عن عبد الله بن محمد الجعفي و عقبة جميعا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل خلق الخلق فخلق من أحب مماأحب فكان مما 1 أحب أن خلقه من طين الجنة و خلق من أبغض مما أبغض و كان ما أبغضه أن خلقه من طينة النار ثم بعثهم في الظلال، فقلت: و أي شيء الظلال؟ فقال: أ لم تر إلى ظلك في الشمس شيء و ليس بشيء. ثم بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله عز و جل: «و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله» ثم دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأقر بعض و أنكر بعض، ثم دعوهم إلى ولايتنا فأقر بها و الله من أحب و أنكرها من أبغض، و هو قوله: «ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل». ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): كان التكذيب من قبل:. أقول: و رواه في العلل، بإسناده إلى محمد بن إسماعيل عن صالح عن عبد الله و عقبة عنه (عليه السلام)، و رواه العياشي عن الجعفي عنه (عليه السلام).
و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): خلق الخلق و هم أظلة فأرسل رسوله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فمنهم من آمن به و منهم من كذبه ثم بعثه في الخلق الآخر فآمن به من كان آمن به في الأظلة و جحده من جحده يومئذ فقال: «ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل».
أقول: قد فصلنا القول في ما يسمى عالم الذر في تفسير قوله تعالى: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم أ لست بربكم قالوا بلى» الآية.
و أوضحنا هناك أن آيات الذر تثبت عالما إنسانيا آخر غير هذا العالم الإنساني المادي التدريجي المشوب بالآلام و المصائب و المعاصي و الآثام المشهود لنا من طريق الحس.
و هو مقارن لهذا العالم المحسوس نوعا من المقارنة لكنه غير محكوم بهذه الأحكام المادية، و ليس تقدمه على عالمنا هذا تقدما بالزمان بل بنوع آخر من التقدم نظير التقدم المستفاد من قوله: «أن يقول له كن فيكون:» يس: - 82 فإن «كن» و «يكون» يحكيان عن مصداق واحد و هو وجود الشيء خارجا لكن هذا الوجود بعينه بوجهه الذي إلى الله متقدم عليه بوجهه الآخر، و هو بوجهه الرباني غير تدريجي و لا زماني و لا غائب عن ربه و لا منقطع عنه بخلاف وجهه إلى الخلق على التفصيل الذي تقدم هناك.
و الذي أوردناه من الرواية في هذا البحث الروائي تشير إلى عالم الذر كالذي مرت سابقا غير أنها تختص بمزية و هي ما فيها من لطيف التعبير بالظلال فإن بإجادة التأمل في هذا التعبير يتضح المراد أحسن الاتضاح فإن في الأشياء الكونية أمورا هي كالظلال في أنها لازمة لها حاكية لخصوصيات وجودها و آثار وجودها، و مع ذلك فهي هي و ليست هي.
فإنا إذا نظرنا إلى الأشياء و جردنا النظر و محضناه في كونها صنع الله و فعله المحض غير المنفك منه و لا المنفصل عنه - و هي نظرة حقة واقعية - لم يتحقق فيها إلا التسليم لله و الخضوع لإرادته و التذلل لكبريائه و التعلق برحمته و أمر ربوبيته و الإيمان بوحدانيته و بما أرسل به رسله و أنزله إليهم من دينه.
و هذه الوجودات ظلال - أشياء و ليست بأشياء - إذا قيست إلى وجودات الأشياء المادية، و أخذ العالم المادي أصلا مقيسا إليه و هو الذي بنت عليه الآيات من جهة كون غرضها بيان ثبوت التكليف بالتوحيد تكليفا لا محيص عنه مسئولا عنه يوم القيامة.
و لو أخذت جهة الرب تعالى أصلا و قيس إليه هذا العالم المادي بما فيه من الموجودات المادية - و هو أيضا نظر حق - كان هذا العالم هو الظل و كانت جهة الرب تعالى هو الأصل و الشخص الذي له الظل كما يشير إليه قوله تعالى: «كل شيء هالك إلا وجهه:» القصص: - 88، و قوله: «كل من عليها فان و يبقى وجه ربك:» الرحمن - 27،.
و أما ما رواه العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: «فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل» قال: «بعث الله الرسل إلى الخلق و هم في أصلاب الرجال و أرحام النساء فمن صدق حينئذ صدق بعد ذلك، و من كذب حينئذ كذب بعد ذلك».
فظاهره أن للبعث تعلقا بالنطف التي في الأصلاب و الأرحام.
و هم أحياء عقلاء مكلفون، و هذا مما يدفعه الضرورة كما تقدم في الكلام على آية الذر اللهم إلا أن يحمل على أن المراد كون عالم الذر محيطا بهذا العالم المادي التدريجي الزماني من جهة كونه غير زماني فلا يتعلق الوجود الذري بزمان دون زمان و هو مع ذلك محمل بعيد.
|