بيان
ثم ساق الله سبحانه نبأ موسى و أخيه و وزيره هارون مع فرعون و ملئه و قد أوجز في القصة غير أنه ساقها سوقا ينطبق بفصولها على المحصل من حديث بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و دعوته عتاة قومه و الطواغيت من قريش و غيرهم، و عدم إيمانهم به إلا ضعفاؤهم الذين كانوا يفتنونهم حتى التجئوا إلى الهجرة فهاجر هو (صلى الله عليه وآله وسلم) و جمع من المؤمنين به إلى المدينة فعقبه فراعنة هذه الأمة و ملؤهم فأهلكهم الله بذنوبهم و بوأ الله المؤمنين ببركة الإسلام مبوأ صدق و رزقهم من الطيبات ثم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم و سيقضي الله بينهم.
فكان ذلك كله تصديقا لما أسر الله سبحانه إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآيات فيما سيستقبله و قومه من الحوادث، و لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطب أصحابه و أمته: لتتبعن سنة بني إسرائيل حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه.
قوله تعالى: «ثم بعثنا من بعدهم موسى و هارون» إلخ، أي ثم بعثنا من بعد نوح و الرسل الذين من بعده موسى و أخاه هارون بآياتنا إلى فرعون و الجماعة الذين يختصون به من قومه و هم القبط فاستكبروا عن آياتنا و كانوا مستمرين على الإجرام.
قوله تعالى: «فلما جاءهم الحق من عندنا» إلخ، الظاهر أن المراد بالحق هو الآية الحقة كالثعبان و اليد البيضاء، و قد جعلهما الله آية لرسالته بالحق فلما جاءهم الحق قالوا و أكدوا القول: إن هذا - يشيرون إلى الحق من الآية - لسحر مبين واضح كونه سحرا، و إنما سمى الآية حقا قبال تسميتهم إياها سحرا.
قوله تعالى: «قال موسى أ تقولون للحق لما جاءكم أ سحر هذا» إلخ، أي فلما سمع مقالتهم تلك و رميهم الحق بأنه سحر مبين قال لهم منكرا لقولهم في صورة الاستفهام: «أ تقولون للحق لما جاءكم» إنه لسحر؟ ثم كرر الإنكار مستفهما بقوله: «أ سحر هذا»؟ فمقول القول في الجملة الاستفهامية محذوف إيجازا لدلالة الاستفهام الثاني عليه، و قوله: «و لا يفلح الساحرون» يمكن أن يكون جملة حالية معللة للإنكار الذي يدل عليه قوله: «أ سحر هذا»، و يمكن أن يكون إخبارا مستقلا بيانا للواقع يبرىء به نفسه من أن يقترف السحر لأنه يرى لنفسه الفلاح و للساحرين أنهم لا يفلحون.
قوله تعالى: «قالوا أ جئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا» إلخ، اللفت هو الصرف عن الشيء، و المعنى: قال فرعون و ملؤه لموسى معاتبين له: «أ جئتنا لتلفتنا» و تصرفنا «عما وجدنا عليه آباءنا» يريدون سنة قدمائهم و طريقتهم «و تكون لكما الكبرياء في الأرض» يعنون الرئاسة و الحكومة و انبساط القدرة و نفوذ الإرادة يؤمون بذلك أنكما اتخذتما الدعوة الدينية وسيلة إلى إبطال طريقتنا المستقرة في الأرض، و وضع طريقة جديدة أنتما واضعان مبتكران لها موضعها تحوزان بإجرائها في الناس و إيماننا بكما و طاعتنا لكما الكبرياء و العظمة في المملكة.
و بعبارة أخرى إنما جئتما لتبدلا الدولة الفرعونية المتعرقة في القبط إلى دولة إسرائيلية تدار بإمامتكما و قيادتكما، و ما نحن لكما بمؤمنين حتى تنالا بذلك أمنيتكما و تبلغا غايتكما من هذه الدعوة المزورة.
قوله تعالى: «و قال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم» كان يأمر به ملأه فيعارض بسحر السحرة معجزة موسى كما فصل في سائر الآيات القاصة للقصة و تدل عليه الآيات التالية.
قوله تعالى: «فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا» إلخ، أي لما جاءوا و واجهوا موسى و تهيئوا لمعارضته قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقوه من الحبال و العصي، و قد كانوا هيئوها ليلقوها فيظهروها في صور الحيات و الثعابين بسحرهم.
قوله تعالى: «فلما ألقوا قال لهم موسى ما جئتم به السحر» ما قاله (عليه السلام) بيان لحقيقة من الحقائق لينطبق عليها ما سيظهره الله من الحق على يديه من صيرورة العصا ثعبانا يلقف ما ألقوه من الحبال و العصي و أظهروه في صور الحيات و الثعابين بسحرهم.
و الحقيقة التي بينها لهم أن الذي جاءوا به سحر و السحر شأنه إظهار ما ليس بحق واقع في صورة الحق الواقع لحواس الناس و أنظارهم، و إذ كان باطلا في نفسه فإن الله سيبطله لأن السنة الإلهية جارية على إقرار الحق و إحقاقه في التكوين و إزهاق الباطل و إبطاله فالدولة للحق و إن كانت للباطل جولة أحيانا.
و لذا علل قوله: «إن الله سيبطله» بقوله: «إن الله لا يصلح عمل المفسدين» فإن الصلاح و الفساد شأنان متقابلان، و قد جرت السنة الإلهية أن يصلح ما هو صالح و يفسد ما هو فاسد أي إن يرتب على كل منهما أثره المناسب له المختص به و أثر العمل الصالح أن يناسب و يلائم سائر الحقائق الكونية في نظامها الذي تجري هي عليه، و يمتزج بها و يخالطها فيصلحه الله سبحانه و يجريه على ما كان من طباعه، و أثر العمل الفاسد أن لا يناسب و لا يلائم سائر الحقائق الكونية فيما تقتضيه بطباعها و تجري عليه بجبلتها فهو أمر استثنائي في نفسه، و لو أصلحه الله في فساده كان ذلك إفسادا للنظام الكوني.
فيعارضه سائر الأسباب الكونية بما لها من القوى و الوسائل المؤثرة، و تعيده إلى السيرة الصالحة إن أمكن و إلا أبطلته و أفنته و محته عن صحيفة الوجود البتة.
و هذه الحقيقة تستلزم أن السحر و كل باطل غيره لا يدوم في الوجود و قد قررها الله سبحانه في كلامه في مواضع مختلفة كقوله: «و الله لا يهدي القوم الظالمين» و قوله: «و الله لا يهدي القوم الفاسقين» و قوله: «إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب:» المؤمن: - 28، و منها قوله في هذه الآية: «إن الله لا يصلح عمل المفسدين».
و أكده بتقريره في جانب الإثبات بقوله في الآية التالية: «و يحق الله الحق بكلماته و لو كره المجرمون» كما سيأتي توضيحه.
قوله تعالى: «و يحق الله الحق بكلماته و لو كره المجرمون» لما كشف الله عن الحقيقة المتقدمة في جانب النفي بقوله: «إن الله لا يصلح عمل المفسدين» أبان عنه في جانب الإثبات أيضا في هذه الآية بقوله: «و يحق الله الحق بكلماته» و قد جمع تعالى بين معنيي النفي و الإثبات في قوله: «ليحق الحق و يبطل الباطل و لو كره المجرمون:» الأنفال: - 8.
و من هنا يقوى احتمال أن يكون المراد بالكلمات في الآية أقسام الأقضية الإلهية في شئون الأشياء الكونية الجارية على الحق فإن قضاء الله ماض و سنته جارية أن يضرب الحق و الباطل في نظام الكون ثم لا يلبث الباطل دون أن يفنى و يعفى أثره و يبقى الحق على جلائه، و ذلك قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض:» الرعد: - 17، و سيجيء استيفاء البحث فيه في ذيل الآية إن شاء الله تعالى.
و الحاصل أن موسى (عليه السلام) إنما ذكر هذه الحقيقة لهم ليوقفهم على سنة إلهية حقة غفلوا عنها، و ليهيىء نفوسهم لما سيظهره عملا من غلبة الآية المعجزة على السحر و ظهور الحق على الباطل، و لذا بادروا إلى الإيمان حين شاهدوا المعجزة، و ألقوا أنفسهم على الأرض ساجدين على ما فصله الله سبحانه في مواضع أخرى من كلامه.
و قوله: «و لو كره المجرمون» ذكر الإجرام من بين أوصافهم لأن فيه معنى القطع فكأنهم قطعوا سبيل الحق على أنفسهم و بنوا على ذلك بنيانهم فهم على كراهية من ظهور الحق، و لذلك نسب الله كراهة ظهور الحق إليهم بما هم مجرمون في قوله: «و لو كره المجرمون» و في معناه قوله في أول الآيات: «فاستكبروا و كانوا قوما مجرمين».
قوله تعالى: «فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون و ملئهم» إلى آخر الآيتين ذكر بعض المفسرين أن الضمير في «قومه» راجع إلى فرعون، و الذرية الذين آمنوا من قومه كانت أمهاتهم من بني إسرائيل و آباؤهم من القبط فتبعوا أمهاتهم في الإيمان بموسى، و قيل: الذرية بعض أولاد القبط، و قيل: أريد بها امرأة فرعون و مؤمن آل فرعون، و قد ذكرا في القرآن و جارية و امرأة هي مشاطة امرأة فرعون.
و ذكر آخرون أن الضمير لموسى (عليه السلام) و المراد بالذرية جماعة من بني إسرائيل تعلموا السحر و كانوا من أصحاب فرعون، و قيل: هم جميع بني إسرائيل و كانوا ستمائة ألف نسمة سماهم ذرية لضعفهم، و قيل: ذرية آل إسرائيل ممن بعث إليهم موسى و قد هلكوا بطول العهد، و هذه الوجوه - كما ترى - لا دليل على شيء منها في الآيات من جهة اللفظ.
و الذي يفيده السياق و هو الظاهر من الآية أن يكون الضمير راجعا إلى موسى و المراد بالذرية من قوم موسى بعض الضعفاء من بني إسرائيل دون ملئهم الأقوياء و الشرفاء، و الاعتبار يساعد على ذلك فإنهم جميعا كانوا أسراء للقبط محكومين بحكمهم بأجمعهم، و العادة الجارية في أمثال هذه الموارد أن يتوسل الشرفاء و الأقوياء بأي وسيلة أمكنت إلى حفظ مكانتهم الاجتماعية و جاههم القومي، و يتقربوا إلى الجبار المسيطر عليهم بإرضائه بالمال و التظاهر بالخدمة و مراءاة النصح و التجنب عما لا يرتضيه فلم يكن في وسع الملإ من بني إسرائيل أن يعلنوا موافقة موسى على بغيته، و يتظاهروا بالإيمان به.
على أن قصص بني إسرائيل في القرآن أعدل شاهد على أن كثيرا من عتاة بني إسرائيل و مستكبريهم لم يؤمنوا بموسى إلى أواخر عهده و إن كانوا يتسلمون له و يطيعونه في عامة أوامره التي كان يصدرها لبذل المساعي في سبيل نجاة بني إسرائيل لما كان فيها صلاح قوميتهم و حرية شعبهم و منافع أشخاصهم، فالإطاعة في هذه الأمور أمر و الإيمان بالله و ما جاء به الرسول أمر آخر.
و يستقيم على هذا معنى قوله: «و ملئهم» بأن يكون الضمير إلى الذرية و يفيد الكلام أن الذرية الضعفاء كانوا في إيمانهم يخافون الملأ و الأشراف من بني إسرائيل فإنهم ربما كانوا يمنعونهم لعدم إيمانهم أنفسهم أو تظاهروا بذلك ليرضوا به فرعون و قومه و يطيبوا أنفسهم فلا يضيقوا عليهم و ينقصوا من إيذائهم و التشديد عليهم.
و أما ما قيل: إن الضمير راجع إلى فرعون لأنه ذو أصحاب أو للذرية لأنهم كانوا من القبط فمما لا يصار إليه البتة و خاصة أول الوجهين.
و قوله: «أن يفتنهم» أي يعذبهم ليعودوا إلى ملته و قوله: «و إن فرعون لعال في الأرض» أي و الظرف هذا الظرف و هو أن فرعون عال في الأرض مسرف في الأمر.
فالمعنى - و الله أعلم - فتفرع على قصة بعثهما و استكبار فرعون و ملئه أنه لم يؤمن بموسى إلا ضعفاء من بني إسرائيل و هم يخافون ملأهم و يخافون فرعون أن يعذبهم لإيمانهم و كان ينبغي لهم و من شأنهم أن يخافوا فإن فرعون كان يومئذ عاليا في الأرض مسلطا عليهم و إنه كان من المسرفين لا يعدل فيما يحكم و يجاوز الحد في الظلم و التعذيب.
و لو صح أن يراد بقومه كل من بعث إليهم موسى و بلغهم الرسالة و هم القبط و بنو إسرائيل استقام الكلام من طريق آخر من غير حاجة إلى ما تقدم من تكلفاتهم.
قوله تعالى: و قال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين» لما كان الإيمان بالله بما يفيده للمؤمن من العلم بمقام ربه و لو إجمالا و أنه سبب فوق الأسباب إليه ينتهي كل سبب، و هو المدبر لكل أمر، يدعوه إلى تسليم الأمر إليه و التجنب عن الاعتماد بظاهر ما يمكنه التسبب به من الأسباب فإنه من الجهل، و لازم ذلك إرجاع الأمر إليه و التوكل عليه، و قد أمرهم في الآية بالتوكل على الله، علقه أولا على الشرط الذي هو الإيمان ثم تمم الكلام بالشرط الذي هو الإسلام.
فالكلام في تقدير: إن كنتم آمنتم بالله و مسلمين له فتوكلوا عليه.
و قد فرق بين الشرطين و لعله لم يجمع بينهما فيقول: «إن كنتم آمنتم و أسلمتم فتوكلوا» لاختلاف الشرطين بحسب الحال فقد كان الإيمان واقعا محرزا منهم، و أما الإسلام فهو من كمال الإيمان، و ليس من الواجب الضروري أن يكون كل مؤمن مسلما بل من الأولى الأحرى أن يكمل إيمانه بالإسلام.
فالتفريق بين الشرطين للإشعار بكون أحدهما واجبا واقعا منهم، و الآخر مما ينبغي لهم أن يتحققوا به فالمعنى: يا قوم إن كنتم آمنتم بالله - و قد آمنتم - و كنتم مسلمين له - و ينبغي أن تكونوا كذلك - فتوكلوا على الله ففي الكلام من لطيف الصنعة ما لا يخفى.
قوله تعالى: «فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين» إلى آخر الآيتين، إنما توكلوا على الله لينجيهم من فرعون و ملئه فدعاؤهم بما دعوا به من قولهم: «ربنا لا تجعلنا فتنة» إلخ، سؤال منهم نتيجة توكلهم و هو أن ينزع الله منهم لباس الضعف و الذلة، و ينجيهم من القوم الكافرين.
أما الأول فقد أشاروا إليه بقولهم: «ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين» و ذلك أن الذي يغري الأقوياء الظالمين على الضعفاء المظلومين هو ما يشاهدون فيهم من الضعف فيفتتنون به فيظلمونهم فالضعيف بما له من الضعف فتنة للقوي الظالم كما أن الأموال و الأولاد بما عندها من جاذبة الحب فتنة للإنسان قال تعالى: «إنما أموالكم و أولادكم فتنة:» التغابن: - 15، و الدنيا فتنة لطالبها فسؤالهم ربهم أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين سؤال منهم أن يسلبهم الضعف و الذلة بسلب الغرض منه و هو سلب الشيء بسلب سببه.
و أما الثاني أعني التنجية فهو الذي ذكره حكاية عنهم في الآية الثانية: «و نجنا برحمتك من القوم الكافرين».
قوله تعالى: «و أوحينا إلى موسى و أخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا» إلخ، التبوي أخذ المسكن و المنزل، و مصر بلد فرعون، و القبلة في الأصل بناء نوع من المصدر كجلسة أي الحالة التي يحصل بها التقابل بين الشيء و غيره فهو مصدر بمعنى الفاعل أي اجعلوا بيوتكم متقابلة يقابل بعضها بعضا و في جهة واحدة و كان الغرض أن يتمكنا منهم بالتبليغ و يتمكنوا من إقامة الصلاة جماعة كما يدل عليه أو يشعر به قوله بعده: «و أقيموا الصلاة» لوقوعه بعده.
و أما قوله: «و بشر المؤمنين» فالسياق يدل على أن المراد به البشارة بإجابة ما سألوه في دعائهم المذكور آنفا: «ربنا لا تجعلنا فتنة» إلى آخر الآيتين.
و المعنى: و أوحينا إلى موسى و أخيه أن اتخذا لقومكما مساكن من البيوت في مصر - و كأنهم لم يكونوا إلى ذاك الحين إلا كهيئة البدويين يعيشون في الفساطيط أو عيشة تشبهها - و اجعلا أنتما و قومكما بيوتكم متقابلة و في جهة واحدة يتصل بذلك بعضكم ببعض و يتمشى أمر التبليغ و المشاورة و الاجتماع في الصلوات، و أقيموا الصلاة و بشر يا موسى أنت المؤمنين بأن الله سينجيهم من فرعون و قومه.
قوله تعالى: «و قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون و ملأه زينة و أموالا» إلخ، الزينة بناء نوع من الزين و هي الهيأة التي تجذب النفس إلى الشيء، و النسبة بين الزينة و المال العموم من وجه فبعض الزينة ليس بمال يبذل بإزائه الثمن كحسن الوجه و اعتدال القامة، و بعض المال ليس بزينة كالأنعام و الأراضي، و بعض المال زينة كالحلي و التقابل الواقع بين الزينة و المال يعطي أن يكون المراد بالزينة جهة الزينة من غير نظر إلى المالية كالحلي و الرياش و الأثاث و الأبنية الفاخرة و غيرها.
و قوله: «ربنا ليضلوا عن سبيلك» قيل اللام للعاقبة، و المعنى و عاقبة أمرهم أنهم يضلون عن سبيلك و لا يجوز أن يكون لام الغرض لأنا قد علمنا بالأدلة الواضحة أن الله سبحانه لا يبعث الرسول ليأمر الخلق بالضلال و لا يريد أيضا منهم الضلال، و كذلك لا يؤتيهم المال ليضلوا.
انتهى.
و هو حق لكن في الإضلال الابتدائي المستحيل عليه تعالى، و أما الإضلال بعنوان المجازاة و مقابلة السوء بالسوء فلا دليل على امتناعه على الله سبحانه بل يثبته كلامه في موارد كثيرة، و قد كان فرعون و ملؤه مصرين على الاستكبار و الإفساد ملحين على الإجرام فلا مانع من أن يؤتيهم الله بذلك زينة و أموالا ليضلوا عن سبيله جزاء بما كسبوا.
و ربما قيل: إن اللام في «ليضلوا» للدعاء، و ربما قيل: إن الكلام بتقدير لا أي لئلا يضلوا عن سبيلك، و السياق لا يساعد على شيء من الوجهين.
و الطمس - كما قيل - تغير إلى الدثور و الدروس فمعنى «اطمس على أموالهم» غيرها إلى الفناء و الزوال، و قوله: «و اشدد على قلوبهم» من الشد المقابل للحل أي أقس قلوبهم و اربط عليها ربطا لا ينشرح للحق فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فهو الطبع على القلوب، و قول بعضهم: إن المراد بالشد تثبيتهم على المقام بمصر بعد الطمس على أموالهم ليكون ذلك أشد عليهم و آلم، و كذا قول آخرين: إنه كناية عن إماتتهم و إهلاكهم من الوجوه البعيدة.
فمعنى الآية: و قال موسى - و كان ذلك بعد يأسه من إيمان فرعون و ملئه و يقينه بأنهم لا يدومون إلا على الضلال و الإضلال كما يدل عليه سياق كلامه في دعائه - ربنا إنك جازيت فرعون و ملأه على كفرهم و عتوهم جزاء السوء فآتيتهم زينة و أموالا في الحياة الدنيا ربنا إرادة منك لأن يضلوا من اتبعهم عن سبيلك، و إرادتك لا تبطل و غرضك لا يلغو ربنا أدم على سخطك عليهم و اطمس على أموالهم و غيرها عن مجرى النعمة إلى مجرى النقمة و اجعل قلوبهم مشدودة مربوطة فلا يؤمنوا حتى يقفوا موقفا لا ينفعهم الإيمان و هو زمان يرون فيه العذاب الإلهي.
و هذا الدعاء من موسى (عليه السلام) على فرعون و ملئه إنما هو بعد يأسه التام من إيمانهم، و علمه أنه لا يترقب منهم في الحياة إلا أن يضلوا و يضلوا كدعاء نوح على قومه فيما حكاه الله: «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا:» نوح: - 27، و حاشا ساحة الأنبياء (عليهم السلام) أن يتكلموا على الخرص و المظنة في موقف يشافهون فيه رب العالمين جلت كبرياؤه و عز شأنه.
قوله تعالى: «قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما و لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون» الخطاب - على ما يدل عليه السياق - لموسى و هارون و لم يحك الدعاء في الآية السابقة إلا عن موسى، و هذا يؤيد ما ذكره المفسرون: أن موسى (عليه السلام) كان يدعو، و كان هارون يؤمن له و آمين دعاء فقد كانا معا يدعوان و إن كان متن الدعاء لموسى (عليه السلام) وحده.
و الاستقامة هو الثبات على الأمر، و هو منهما (عليه السلام) الثبات على الدعوة إلى الله و على إحياء كلمة الحق، و المراد بالذين لا يعلمون الجهلة من شعب إسرائيل و قد وصفهم موسى (عليه السلام) بالجهل كما في قوله: «قال إنكم قوم تجهلون:» الأعراف: - 138.
و المعنى: «قال» الله مخاطبا لموسى و هارون «قد أجيبت دعوتكما» من سؤال العذاب الأليم لفرعون و ملئه، و الطمس على أموالهم و الشد على قلوبهم «فاستقيما» و اثبتا على ما أمرتما به من الدعوة إلى الله و إحياء كلمة الحق «و لا تتبعان» البتة «سبيل الذين لا يعلمون» بإجابة ما يقترحون عليكما عن أهواء أنفسهم و دواعي شهواتهم، و فيه نوع تلويح إلى أنهم سيسألون أمورا فيها إحياء سنتهم القومية و سيرتهم الجاهلية.
و بالجملة فالآية تذكر إجابة دعوتهما المتضمنة لعذاب فرعون و ملئه و عدم توفيقهم للإيمان و وعدهما بذلك و لذلك ذكر في الآية التالية وفاؤه تعالى بهذا الوعد بخصوصيته التي فيه.
و لم يكن في الدعاء ما يدل على مسألة الفور أو التراخي في القضاء عليهم بالعذاب و على ذلك جرى أيضا سياق الآية الدالة على القبول و الإجابة و كذا الآية المخبرة عن كيفية إنجازه، و قد نقل في المجمع، عن ابن جريح: أن فرعون مكث بعد هذا الدعاء أربعين سنة: قال: و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و رواه عنه (عليه السلام) في الإحتجاج، و كذا في الكافي، و تفسير العياشي، عن هشام بن سالم عنه (عليه السلام) و في تفسير القمي، عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عنه (عليه السلام).
قوله تعالى: «و جاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون و جنوده بغيا و عدوا» إلى آخر الآية، البغي و العدو كالعدوان الظلم و إدراك الشيء اللحوق به و التسلط عليه كما أن إتباع الشيء طلب اللحوق به.
و قوله: «آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل» أي آمنت بأنه.
و قد وصف الله بالذي آمنت به بنو إسرائيل ليظفر بما ظفروا به بإيمانهم و هو مجاوزة البحر و الأمان من الغرق، و لذلك أيضا جمع بين الإيمان و الإسلام ليزيل بذلك أثر ما كان يصر عليه من المعصية و هو الشرك بالله و الاستكبار على الله، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «ءالآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين» آلآن بالمد أصله أ الآن أي أ تؤمن بالله الآن و هو حين أدركك العذاب و لا إيمان و توبة حين غشيان العذاب و مجيء الموت من كل مكان، و قد عصيت قبل هذا و كنت من المفسدين، و أفنيت أيامك في معصيته، و لم تقدم التوبة لوقتها فما ذا ينفعك الإيمان بعد فوت وقته و هذا هو الذي كان موسى و هارون سألاه ربهما أن يأخذه بعذاب أليم و يسد سبيله إلى الإيمان إلا حين يغشاه العذاب فلا ينفعه الإيمان و لا تغني عنه التوبة شيئا.
قوله تعالى: «فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية و إن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون» التنجية و الإنجاء تفعيل و إفعال من النجاة كالتخليص و الإخلاص من الخلاص وزنا و معنى.
و تنجيته ببدنه تدل على أن له أمرا آخر وراء البدن فقده بدنه بغشيان العذاب و هو النفس التي تسمى أيضا روحا، و هذه النفس المأخوذة هي التي يتوفاها الله و يأخذها حين موتها كما قال تعالى: «الله يتوفى الأنفس حين موتها:» الزمر: - 42، و قال: «قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم:» الم السجدة: - 11، و هي التي يخبر عنها الإنسان بقوله: «أنا» و هي التي بها تتحقق للإنسان إنسانيته، و هي التي تدرك و تريد و تفعل الأفعال الإنسانية بواسطة البدن بما له من القوى و الأعضاء المادية، و ليس للبدن إلا أنه آلة و أداة تعمل بها النفس أعمالها المادية.
و لمكان الاتحاد الذي بينها و بين البدن يسمى باسمها البدن و إلا فأسماء الأشخاص في الحقيقة لنفوسهم لا لأبدانهم، و ناهيك في ذلك التغير المستمر الذي يعرض البدن مدة الحياة، و التبدل الطبيعي الذي يطرء عليه حينا بعد حين حتى ربما تبدل البدن بجميع أجزائه إلى أجزاء أخر تتركب بدنا آخر فلو كان زيد هو البدن الذي ولدته أمه يوم ولدته و الاسم له لكان غيره و هو ذو سبعين و ثمانين قطعا و الاسم لغيره حتما، و لم يثب و لم يعاقب الإنسان و هو شائب على ما عمله و هو شاب لأن الطاعة و المعصية لغيره.
فهذه و أمثالها شواهد قطعية على أن إنسانية الإنسان بنفسه دون بدنه، و الأسماء للنفوس لا للأبدان يدركها الإنسان و يعرفها إجمالا و إن كان ربما أنكرها في مقام التفصيل.
و بالجملة فالآية: «اليوم ننجيك ببدنك» كالصريح أو هو صريح في أن النفوس وراء الأبدان، و أن الأسماء للنفوس دون الأبدان إلا ما يطلق على الأبدان بعناية الاتحاد.
فمعنى «ننجيك ببدنك» نخرج بدنك من أليم و ننجيه، و هو نوع من تنجيتك - لما بين النفس و البدن من الاتحاد القاضي بكون العمل الواقع على أحدهما واقعا بنحو على الآخر - لتكون لمن خلفك آية، و هذا بوجه نظير قوله تعالى: «منها خلقناكم و فيها نعيدكم:» طه: - 55 فإن الذي يعاد إلى الأرض هو جسد الإنسان دون الإنسان التام فليست نسبة الإعادة إلى الإنسان إلا لما بين نفسه و بدنه من الاتحاد.
و قد ذكر المفسرون أن الإنجاء و التنجية لما كان دالا بلفظه على سلامة الذي أنجي إنجاء كان مفاد قوله: «ننجيك» أن يكون فرعون خارجا من أليم حيا و قد أخرجه الله ميتا فالمتعين أخذ قوله: «ننجيك» من النجوة و هي الأرض المرتفعة التي لا يعلوها السيل، و المعنى اليوم نخرج بدنك إلى نجوة من الأرض.
و ربما قال بعضهم إن المراد بالبدن الدرع، و قد كان لفرعون درع من ذهب يعرف به فأخرجه الله فوق الماء بدرعه ليكون لمن خلفه آية و عبرة، و ربما قال بعضهم إن التعبير بالتنجية تهكم به.
و الحق أن هذا كله تكلف لا حاجة إليه، و لم يقل: «ننجيك» و إنما قيل «ننجيك ببدنك» و معناه ننجي بدنك، و الباء للآلية أو السببية، و العناية هي الاتحاد الذي بين النفس و البدن.
على أن جعل ننجيك ببدنك» بمعنى نجعلك على نجوة من الأرض لا يفي بدفع الإشكال من أصله فإن الذي جعل على نجوة هو بدن فرعون على قولهم، و هو غير فرعون قطعا و إلا كان حيا سالما، و لا مناص إلا أن يقال: إن ذلك بعناية الاتحاد الذي بين الإنسان و بدنه، و لو صححت هذه العناية إطلاق اسم الإنسان على بدنه من غير نفس لكان لها أن تصحح نسبة التنجية إلى الإنسان من جهة وقوع التنجية ببدنه، و خاصة مع وجود القرينة الدالة على أن المراد بالتنجية هي التي للبدن دون التي للإنسان المستتبع لحفظ حياته و سلامته نفسا و بدنا، و القرينة هي قوله: «ببدنك».
قوله تعالى: «و لقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق و رزقناهم من الطيبات» أي أسكناهم مسكن صدق، و إنما يضاف الشيء إلى الصدق نحو وعد صدق و قدم صدق و لسان صدق و مدخل صدق و مخرج صدق للدلالة على أن لوازم معناه و آثاره المطلوبة منه موجودة فيه صدقا من غير أن يكذب في شيء من آثاره التي يعدها بلسان دلالته الالتزامية لطالبه فوعد صدق مثلا هو الوعد الذي سيفي به واعده، و يسر بالوفاء به موعوده، و يحق أن يطمع فيه و يرجى وقوعه.
فإن لم يكن كذلك فليس بوعد صدق بل وعد كذب كأنه يكذب في معناه و لوازم معناه.
و على هذا فقوله: «مبوأ صدق» يدل على أن الله سبحانه بوأهم مبوءا يوجد فيه جميع ما يطلبه الإنسان من المسكن من مقاصد السكنى كطيب الماء و الهواء و بركات الأرض و وفور نعمها و الاستقرار فيها و غير ذلك، و هذه هي نواحي بيت المقدس و الشام التي أسكن الله بني إسرائيل فيها و سماها الأرض المقدسة المباركة و قد قص القرآن دخولهم فيها.
و أما قول بعضهم: إن المراد بهذا المبوء مصر دخلها بنو إسرائيل و اتخذوا فيها بيوتا فأمر لم يذكره القرآن.
على أنهم لو فرض دخولهم فيها ثانيا لم يستقروا فيها استقرارا مستمرا، و تسمية ما هذا شأنه مبوأ صدق مما لا يساعد عليه معنى اللفظ.
و الآية أعني قوله: «و لقد بوأنا بني إسرائيل - إلى قوله - من الطيبات» مسوقة سوق الشكوى و العتبى، و يشهد به تذييلها بقوله: «فما اختلفوا حتى جاءهم العلم، و قوله: «إن ربك يقضي بينهم إلى آخر الآية بيان لعاقبة اختلافهم عن علم و بمنزلة أخذ النتيجة من القصة.
و المعنى: أنا أتممنا على بني إسرائيل النعمة و بوأناهم مبوأ صدق و رزقناهم من الطيبات بعد حرمانهم من ذلك مدة طويلة كانوا فيها في إسارة القبط فوحدنا شعبهم و جمعنا شملهم فكفروا النعمة و فرقوا الكلمة و اختلفوا في الحق، و لم يكن اختلافهم عن عذر الجهل و إنما اختلفوا عن علم إن ربك يقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.
|