بيان
وعيد شديد للمغرمين بجمع المال المستعلين به على الناس المستكبرين عليهم فيزرون بهم و يعيبونهم بما ليس بعيب، و السورة مكية.
قوله تعالى: «ويل لكل همزة لمزة» قال في المجمع،: الهمزة الكثير الطعن على غيره بغير حق العائب له بما ليس بعيب، و أصل الهمز الكسر.
قال: و اللمز العيب أيضا و الهمزة و اللمزة بمعنى، و قد قيل: بينهما فرق فإن الهمزة الذي يعيبك بظهر الغيب، و اللمزة الذي يعيبك في وجهك.
عن الليث.
و قيل: الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء لفظه، و اللمزة الذي يكسر عينه على جليسه و يشير برأسه و يومىء بعينه.
قال: و فعله بناء المبالغة في صفة من يكثر منه الفعل و يصير عادة له تقول: رجل نكحة كثير النكاح و ضحكة كثير الضحك و كذا همزة و لمزة انتهى.
فالمعنى ويل لكل عياب مغتاب، و فسر بمعان أخر على حسب اختلافهم في تفسير الهمزة و اللمزة.
قوله تعالى: «الذي جمع مالا و عدده يحسب أن ماله أخلده» بيان لهمزة لمزة و تنكير «مالا» للتحقير فإن المال و إن كثر ما كثر لا يغني عن صاحبه شيئا غير أن له منه ما يصرفه في حوائج نفسه الطبيعية من أكلة تشبعه و شربة ماء ترويه و نحو ذلك و «عدده» من العد بمعنى الإحصاء أي أنه لحبه المال و شغفه بجمعه يجمع المال و يعده عدا بعد عد التذاذا بتكثره.
و قيل: المعنى جعله عدة و ذخرا لنوائب الدهر.
و قوله: «يحسب أن ماله أخلده» أي يخلده في الدنيا و يدفع عنه الموت و الفناء فالماضي أريد به المستقبل بقرينة قوله: «يحسب».
فهذا الإنسان لإخلاده إلى الأرض و انغماره في طول الأمل لا يقنع من المال بما يرتفع به حوائج حياته القصيرة و ضروريات أيامه المعدودة بل كلما زاد مالا زاد حرصا إلى ما لا نهاية له فظاهر حاله أنه يرى أن المال يخلده، و لحبه الغريزي للبقاء يهتم بجمعه و تعديده، و دغاه ما جمعه و عدده من المال و ما شاهده من الاستغناء إلى الطغيان و الاستعلاء على غيره من الناس كما قال تعالى: «إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى»: العلق 7، و يورثه هذا الاستكبار و التعدي الهمز و اللمز.
و من هنا يظهر أن قوله: «يحسب أن ماله أخلده» بمنزلة التعليل لقوله: «الذي جمع مالا و عدده»، و قوله: «الذي جمع» إلخ بمنزلة التعليل لقوله: «ويل لكل همزة لمزة».
قوله تعالى: «كلا لينبذن في الحطمة» ردع عن حسبانه الخلود بالمال، و اللام في «لينبذن» للقسم، و النبذ القذف و الطرح، و الحطمة مبالغة من الحطم و هو الكسر و جاء بمعنى الأكل، و هي من أسماء جهنم على ما يفسرها قوله الآتي: «نار الله الموقدة».
و المعنى ليس مخلدا بالمال كما يحسب أقسم ليموتن و يقذفن في الحطمة.
قوله تعالى: «و ما أدراك ما الحطمة» تفخيم و تهويل.
قوله تعالى: «نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة» إيقاد النار إشعالها و الاطلاع و الطلوع على الشيء الإشراف و الظهور، و الأفئدة جمع فؤاد و هو القلب، و المراد به في القرآن مبدأ الشعور و الفكر من الإنسان و هو النفس الإنسانية.
و كان المراد من اطلاعها على الأفئدة أنها تحرق باطن الإنسان كما تحرق ظاهره بخلاف النار الدنيوية التي إنما تحرق الظاهر فقط قال تعالى: «وقودها الناس و الحجارة»: البقرة 24.
قوله تعالى: «إنها عليهم مؤصدة» أي مطبقة لا مخرج لهم منها و لا منجا.
قوله تعالى: «في عمد ممددة» العمد بفتحتين جمع عمود و التمديد مبالغة في المد قيل: هي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار، و قيل: عمد ممددة يوثقون فيها مثل المقاطر و هي خشب أو جذوع كبار فيها خروق توضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص و غيرهم، و قيل غير ذلك.
بحث روائي
في روح المعاني،: في قوله تعالى: «ويل لكل همزة لمزة» نزل ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق عن عثمان بن عمر في أبي بن خلف، و على ما أخرج عن السدي في أبي بن عمر و الثقفي الشهير بالأخنس بن شريق فإنه كان مغتابا كثير الوقيعة. و على ما قال ابن إسحاق في أمية بن خلف الجمحي و كان يهمز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). و على ما أخرج ابن جرير و غيره عن مجاهد في جميل بن عامر و على ما قيل في الوليد بن المغيرة و اغتيابه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و غضه منه، و على قول في العاص بن وائل.
أقول: ثم قال: و يجوز أن يكون نازلا في جمع من ذكر.
انتهى و لا يبعد أن يكون من تطبيق الرواة و هو كثير في أسباب النزول.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «ويل لكل همزة» قال: الذي يغمز الناس و يستحقر الفقراء، و قوله: «لمزة» يلوي عنقه و رأسه و يغضب إذا رأى فقيرا أو سائلا «الذي جمع مالا و عدده» قال: أعده و وضعه.
و فيه،: قوله تعالى: «التي تطلع على الأفئدة» قال: تلتهب على الفؤاد قال أبو ذر رضي الله عنه: بشر المتكبرين بكي في الصدور و سحب على الظهور. قوله «إنها عليهم مؤصدة» قال: مطبقة «في عمد ممددة» قال: إذا مدت العمد عليهم أكلت و الله الجلود.
و في المجمع، روى العياشي بإسناده عن محمد بن النعمان الأحول عن حمران بن أعين عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الكفار و المشركين يعيرون أهل التوحيد في النار و يقولون: ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئا و ما نحن و أنتم إلا سواء قال: فيأنف لهم الرب تعالى فيقول للملائكة: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ثم يقول للنبيين: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله ثم يقول للمؤمنين: اشفعوا فيشفعون لمن شاء الله و يقول الله: أنا أرحم الراحمين اخرجوا برحمتي فيخرجون كما يخرج الفراش. قال: ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): ثم مدت العمد و أوصدت عليهم و كان و الله الخلود.
|