بيان
قوله تعالى: «و إلى مدين أخاهم شعيبا» الآية معطوف على القصة الأولى و هي قصة نوح (عليه السلام)، و قد بنى (عليه السلام) دعوته على أساس التوحيد كما بناها عليه من قبله من الرسل المذكورين في القصص المتقدمة.
و قوله: «قد جاءتكم بينة من ربكم» يدل على مجيئه بآية تدل على رسالته و لكن الله سبحانه لم يذكر ذلك في كتابه و ليست هذه الآية هي آية العذاب التي يذكرها الله تعالى في آخر قصته فإن عامة قومه من الكفار لم ينتفعوا بها بل كان فيها هلاكهم و لا معنى لكون آية العذاب آية للرسالة مبينة للدعوة.
على أنه يفرع قوله: «فأوفوا الكيل و الميزان» الآية على مجيء الآية ظاهرا، و إنما يستقيم الدعوة إلى العمل بالدين قبل نزول العذاب و تحقق الهلاك.
و هو ظاهر.
و قد دعاهم أولا بعد التوحيد الذي هو أصل الدين إلى إيفاء الكيل و الميزان و أن لا يبخسوا الناس أشياءهم فقد كان الإفساد في المعاملات رائجا فيهم شائعا بينهم.
ثم دعاهم ثانيا بقوله: «و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها «إلى الكف عن الإفساد في الأرض بعد ما أصلحها الله بحسب طبعها، و الفطرة الإنسانية الداعية إلى إصلاحها كي ينتظم بذلك أمر الحياة السعيدة، و الإفساد في الأرض و إن كان بحسب إطلاق معناه يشمل جميع المعاصي و الذنوب مما يتعلق بحقوق الله أو بحقوق الناس كائنة ما كانت لكن مقابلته لما قبله و ما بعده يخصه - تقريبا - بالإفساد الذي يسلب الأمن العام في الأموال و الأعراض و النفوس كقطع الطرق و نهب الأموال و هتك الأعراض و قتل النفوس المحترمة.
ثم علل دعوته إلى الأمرين بقوله: «ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين» أما كون إيفاء الكيل و الميزان و عدم بخس الناس أشياءهم خيرا فلأن حياة الإنسان الاجتماعية في استقامتها مبنية على المبادلة بين الأفراد بإعطاء كل منهم ما يفضل من حاجته، و أخذ ما يعادله مما يتمم به نقصه في ضروريات الحياة و ما يتبعها، و هذا يحتاج إلى أمن عام في المعاملات تحفظ به أوصاف الأشياء و مقاديرها على ما هي عليه فمن يجوز لنفسه البخس في أشياء الناس فهو يجوز ذلك لكل من هو مثله، و هو شيوعه، و إذا شاع البخس و الغش و الغرر من غير أن يؤمن حلول السم محل الشفاء و الردي مكان الجيد، و الخليط مكان الخالص، و بالآخرة كل شيء محل كل شيء بأنواع الحيل و العلاجات كان فيه هلاك الأموال و النفوس جميعا.
و أما كون الكف عن إفساد الأرض خيرا لهم فلأن سلب الأمن العام يوقف رحى المجتمع الإنساني عن حركتها من جميع الجهات و في ذلك هلاك الحرث و النسل و فناء الإنسانية.
فالمعنى: إيفاء الكيل و الميزان و عدم البخس و الكف عن الفساد في الأرض خير لكم يظهر لكم خيريته إن كنتم مصدقين لقولي مؤمنين بي، أو المعنى: ذلكم خير لكم تعلمون أنه خير إن كنتم ذوي إيمان بالحق.
و ربما قيل: إن المعنى ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين بدعوتي فإن غير المؤمن لا ينتفع بسبب ما عنده من الكفر القاضي بشقائه و خسرانه و ضلال سعيه بهذه الخيرات الدنيوية بحسب الحقيقة لأن انتفاعه إنما هو انتفاع في موطن خيالي و هو الحياة الدنيا التي هي لعب، و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون.
هذا كله على تقدير كون المشار إليه بقوله: «ذلكم» هو إيفاء الكيل و ما بعده كما هو ظاهر السياق، و أما أخذ الإشارة إلى جميع ما تقدم و جعل المراد بالإيمان هو الإيمان المصطلح دون الإيمان اللغوي كما احتمله بعضهم فهو أشبه باشتراط الشيء بنفسه لرجوع المعنى إلى نحو قولنا إن كنتم مؤمنين فالعبادة لله وحده بالإيمان به و إيفاء الكيل و الميزان و عدم الفساد في الأرض خير لكم.
و يرد على الوجهين الأخيرين جميعا أن ظاهر قوله «إن كنتم مؤمنين» ثبوت اتصافهم بالإيمان قبل حال الخطاب فإنه مقتضى تعليق الحكم بقوله: «كنتم مؤمنين» المؤلف من ماضي الكون الناقص و اسم الفاعل من الإيمان، المقتضي لاستقرار الصفة فيهم زمانا، و لا يخاطب بمثل هذا المعنى القوم الذين فيهم الكافر و المؤمن و المستكبر و المنقاد و لو كان كما يقولون لكان من حق الكلام أن يقال: ذلكم خير لكم إن آمنتم أو أن تؤمنوا فالظاهر أنه لا محيص من كون المراد بالإيمان غير الإيمان المصطلح.
قوله تعالى: «و لا تقعدوا بكل صراط توعدون و تصدون عن سبيل الله من آمن به و تبغونها عوجا» الآية ظاهر السياق أن «توعدون و تصدون» حالان من فاعل «لا تقعدوا» و قوله «و تبغونها» حال من فاعل «تصدون».
ثم دعاهم ثالثا إلى ترك التعرض لصراط الله المستقيم الذي هو الدين فإن في الكلام تلويحا إلى أنهم كانوا يقعدون على طريق المؤمنين بشعيب (عليه السلام) و يوعدونهم على إيمانهم به و الحضور عنده و الاستماع منه و إجراء العبادات الدينية معه، و يصرفونهم عن التدين بدين الحق و السلوك في طريقة التوحيد و هم يسلكون طريق الشرك، و يطلبون سبيل الله الذي هو دين الفطرة عوجا.
و بالجملة كانوا يقطعون الطريق على الإيمان بكل ما يستطيعون من قوة و احتيال فنهاهم عن ذلك، و وصاهم أن يذكروا نعمة الله عليهم و يعتبروا بالنظر إلى ما يعلمونه من تاريخ الأمم الغابرة، و ما آل إليه أمر المفسدين من عاقبة السوء.
فقوله: «و اذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم، و انظروا كيف كان عاقبة المفسدين» كلام مسوق سوق العظة و التوصية و هو يقبل التعلق بجميع ما تقدم من الأوامر و النواهي فقوله: «و اذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم» أمر بتذكر تدرجهم من القلة إلى الكثرة بازدياد النسل فإن ذلك من نعم الله العظيمة على هذا النوع الإنساني لأن الإنسان لا يقدر على أن يعيش وحده من غير اجتماع إذ الغاية الشريفة و السعادة العالية الإنسانية التي يمتاز بها عن سائر الأنواع الحيوانية و غيرها اقتضت أن تهب العناية الإلهية له أدوات و قوى مختلفة و تركيبا وجوديا خاصا لا يستطير أن يقوم بضروريات حوائجها العجيبة المتفننة وحده بل بالتعاضد مع غيره في تحصيل المأكل و المشرب و الملبس و المسكن و المنكح و غيرها تعاضدا في الفكر و الإرادة و العمل.
و من المعلوم أنه كلما ازداد عدد المجتمعين ازدادت القوة المركبة الاجتماعية، و اشتدت في فكرتها و إرادتها و عملها فأحست و شعرت بدقائق الحوائج، و تنبهت للطائف من الحيل لتسخير القوى الطبيعية في رفع نواقصها.
فمن المنن الإلهية أن النسل الإنساني آخذ دائما في الزيادة متدرج من القلة إلى الكثرة، و ذلك من الأركان في سير النوع من النقص إلى الكمال فليست الأمم العظيمة كالشراذم القليلة التي تتخطف من كل جانب، و لا الأقوام و العشائر الكبيرة كالطوائف الصغيرة التي لا تستقل في شأن من شئونها السياسية و الاقتصادية و الحربية و غيرها مما يوزن بزنة العلم و الإرادة و العمل.
و أما عاقبة المفسدين فيكفي في التبصر بها ما نقل عن عواقب أحوال الأمم المستعلية المستكبرة الطاغية التي ملأت القلوب رعبا، و النفوس دهشة، و خربت الديار، و نهبت الأموال، و سفكت الدماء، و أفنت الجموع، و استعبدت العباد، و أذلت الرقاب.
مهلهم الله في عتوهم و اعتدائهم حتى إذا بلغوا أوج قدرتهم، و استووا على أريكة شوكتهم غرتهم الدنيا بزينتها و اجتذبتهم الشهوات إلى خلاعتها فألهتهم عن فضيلة التعقل و اشتغلوا بملاهي الحياة و العيش و اتخذوا إلههم هواهم و أضلهم الله على علم فسلبوا القدرة و الإرادة، و حرموا النعمة فتفرقوا أيادي سبإ.
فكم في ذكر الدهر من أسماء القياصرة و الفراعنة و الأكاسرة و الفغافرة و غيرهم لم يبق منهم إلا أسماء إن لم تنس، و لم تثبت من هيمنتهم إلا أحاديث فمن السنة الإلهية الجارية في الكون أن تبتنى حياة الإنسان على التعقل فإذا تعدى ذلك و أخذ في الفساد و الإفساد أبى طباع الكون ذلك، و ضادته الأسباب بقواها، و طحنته بجموعها، و ضربت عليه بكل ذلة و مسكنة.
قوله تعالى: «و إن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به» إلى آخر الآية.
ثم دعاهم رابعا إلى الصبر على تقدير وقوع الاختلاف بينهم بالإيمان و الكفر فإنه كان يوصيهم جميعا قبل هذه الوصية بالاجتماع على الإيمان بالله و العمل الصالح، و كأنه أحس منهم أن ذلك مما لا يكون البتة، و أن الاختلاف كائن لا محالة، و أن الملأ المستكبرين من قومه و هم الذين كانوا يوعدون و يصدون عن سبيل الله سيأخذون في إفساد الأرض و إيذاء المؤمنين و يوجب ذلك في المؤمنين وهن عزيمتهم، و تسلط الناس على قلوبهم فأمرهم جميعا بالصبر و انتظار أمر الله فيهم ليحكم بينهم و هو خير الحاكمين.
فإن في ذلك صلاح المجتمع، أما المؤمنون فلا يقعون في البأس من الحياة الآمنة، و الاضطراب و الحيرة من جهة دينهم، و أما الكفار فلا يقعون في ندامة الإقدام من غير رؤية و مفسدة المظلمة على جهالة فحكم الله خير فاصل بين الطائفتين فهو خير الحاكمين لا يساهل في حكم إذا حان حينه، و لا يجور في حكم إذا ما حكم.
فقوله: «فاصبروا بالنسبة إلى الكفار أمر إرشادي، و بالنسبة إلى المؤمنين أمر مولوي أو إرشادي، و هو إرشاد الجميع إلى ما يصلح حالهم.
قوله تعالى: «قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب» الآية.
لم يسترشد الملأ المستكبرون من قومه بما أرشدهم إليه من الصبر و انتظار الحكم الفصل في ذلك من الله سبحانه بل بادروه بتهديده و تهديد المؤمنين بإخراجهم من أرضهم إلا أن يرجعوا إلى ملتهم بالارتداد عن دين التوحيد.
و في تأكيدهم القول «لنخرجنك» و «لتعودن» بالقسم و نون التأكيد دلالة على قطعهم العزم على ذلك، و لذا بادر (عليه السلام) بعد استماع هذا القول منهم إلى الاستفتاح من الله سبحانه.
قوله تعالى: «قال أ و لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم» الآية.
أجاب (عليه السلام) بكراهة العود في ملتهم بدليل ما بعده من الجمل، و لازم ذلك اختيار الشق الآخر على تقدير الاضطرار إلى أحدهما كما أخبروه.
و قد أجاب (عليه السلام) عن نفسه و عن المؤمنين به من قومه، و ذكر أنه و المؤمنين به جميعا كارهون للعود إلى ملتهم فإن في ذلك افتراء للكذب على الله سبحانه بنسبة الشركاء إليه، و ما يتبعها من الأحكام المفتراة في دين الوثنية فقوله: «قد افترينا على الله كذبا» الآية.
بمنزلة التعليل لقوله: «أ و لو كنا كارهين».
و من أسخف الاستدلال الاحتجاج بقوله: «إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها» على أن شعيبا (عليه السلام) كان قبل نبوته مشركا وثنيا - حاشاه - و قد تقدم آنفا أنه يتكلم عن نفسه و عن المؤمنين به من قومه و قد كانوا كفارا مشركين قبل الإيمان به فأنجاهم الله من ملة الشرك و هداهم بشعيب إلى التوحيد فقول شعيب: «نجانا الله» تكلم عن المجموع بنسبة وصف الجل إلى الكل، هذا لو كان المراد بالتنجية التنجية الظاهرية من الشرك الفعلي و أما لو أريد بها التنجية الحقيقية و هي الإخراج من كل ضلال محقق موجود أو مقدر مترقب كان شعيب - و هو لم يشرك بالله طرفة عين - و قومه - و هم كانوا مشركين قبل زمان إيمانهم بشعيب - جميعا ممن نجاهم الله من الشرك إذ لا يملك الإنسان لنفسه الهالكة ضرا و لا نفعا و ما أصابه من خير فهو من الله سبحانه.
و قوله: «و ما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا» كالإضراب و الترقي بالجواب القاطع كأنه قال: نحن كارهون العود إلى ملتكم لأن فيه افتراء على الله بل إن ذلك مما لا يكون البتة، و ذلك أن كراهة شيء إنما توجب تعسر التلبس به دون تعذره فأجاب (عليه السلام) ثانيا بتعذر العود بعد جوابه أولا بتعسره، و هو ما ذكرناه من الإضراب و الترقي.
و لما كان قوله: «و ما يكون لنا أن نعود فيها» في معنى أن يقال: «لن نعود إليها أبدا» و القطع في مثل هذه العزمات مما هو بعيد عن أدب النبوة فإنه في معنى: لن نعود على أي تقدير فرض حتى لو شاء الله، و هو من الجهل بمقامه تعالى، استثنى مشية الله سبحانه فقال: «إلا أن يشاء الله ربنا» فإن الإنسان كيفما كان جائز الخطإ فمن الجائز أن يخطىء بذنب فيعاقبه الله بسلب عنايته به فيطرده من دينه فيهلك على الضلال.
و في الجمع بين الاسمين في قوله: «الله ربنا» إشارة إلى أن الله الذي يحكم ما يشاء هو الذي يدبر أمرنا و هو إله و رب، على ما يقتضيه دين التوحيد لا كما يعلمه دين الوثنية فإنه يسلم الألوهية لله ثم يفرز الربوبية بمختلف شئونها بين الأوثان و يسميها رب البحر و رب البر و هكذا.
و قوله: «وسع ربنا كل شيء علما» كالتعليل لتعقيب الكلام بالاستثناء كأنه قيل لما استثنيت بعد ما أطلقت الكلام و قطعت في العزم؟ فقال: لأنه وسع ربي كل شيء علما و لا أحيط من علمه إلا بما شاء فمن الجائز أن يتعلق مشيته بشيء غائب عن علمي ساءني أو سرني كان يتعلق علمه بأنا سنخالفه في بعض أوامره فيشاء عودنا إلى ملتكم، و إن كنا اليوم كارهين له، و لعل هذا المعنى هو السبب في تعقيب هذا القول بمثل قوله: «على الله توكلنا» فإن من يتوكل على الله كان حسبه و صانه من شر ما يخاف.
و لما بلغ الكلام هذا البلغ و قد أخبروهم بعزمهم على أحد الأمرين: الإخراج أو العود، و أخبرهم شعيب (عليه السلام) بالعزم القاطع على عدم العود إلى ملتهم البتة التجأ (عليه السلام) إلى ربه و استفتح بقوله عن نفسه و عن المؤمنين: «ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين» يسأل ربه أن يفتح بينهم أي بين شعيب و المؤمنين به، و بين المشركين من قومه، و هو الحكم الفصل فإن الفتح بين شيئين يستلزم إبعاد كل منهما عن صاحبه حتى لا يماس هذا ذاك و لا ذاك هذا دعا (عليه السلام) بالفتح و كنى به عن الحكم الفصل و هو الهلاك أو هو بمنزلته و أبهم الخاسر من الرابح و الهالك من الناجي و هو يعلم أن الله سينصره و أن الخزي اليوم و السوء على الكافرين لكنه (عليه السلام) أخذ بالنصفة للحق و تأدب بإرجاع الأمر في ذلك إلى الله كما أتى بنظير ذلك في قوله السابق: «فاصبروا حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين».
و خير الحاكمين و خير الفاتحين اسمان من أسماء الله الحسنى، و قد تقدم البحث عن معنى الحكم فيما مر، و عن معنى الفتح آنفا، و سيجيء الكلام المستوفى في الأسماء الحسنى في تفسير قوله تعالى: «و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها»: الآية 180 من السورة إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «و قال الملأ الذين كفروا من قومه» إلى آخر الآية.
هذا تهديد منهم لمن آمن بشعيب أو أراد أن يؤمن به و يكون من جملة الإيعاد و الصد اللذين كان شعيب ينهى عنهما بقوله: «و لا تقعدوا بكل صراط توعدون و تصدون عن سبيل الله» و يكون إفراد هذا بالذكر هاهنا من بين سائر أقوالهم ليكون كالتوطئة و التمهيد لما سيأتي من قولهم بعد ذكر هلاكهم: «الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين».
و يحتمل أن يكون الاتباع بمعناه الظاهر العرفي و هو اقتفاء أثر الماشي على الطريق و السالك السبيل بأن يكون الملأ المستكبرون لما اضطروه و من معه إلى أحد الأمرين: الخروج من أرضهم أو العود في ملتهم ثم سمعوه يرد عليهم العود إلى ملتهم ردا قاطعا ثم يدعو بمثل قوله: «ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين» لم يشكوا أنه سيتركهم و يهاجر إلى أرض غير أرضهم، و يتبعه في هذه المهاجرة المؤمنون به من القوم خاطبوا عند ذلك طائفة المؤمنين بقولهم: «لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون» فهددوهم و خوفوهم بالخسران إن تبعوه في الخروج من أرضهم ليخرج شعيب وحده فإنهم إنما كانوا يعادونه إياه بالأصالة، و أما المؤمنون فإنما كانوا يبغضون من جهته و لأجله.
و على أي الوجهين كان فالآية كالتوطئة و التمهيد للآية الآتية: «الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين» كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى: «فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين» أصبحوا أي صاروا أو دخلوا في الصباح، و قد تقدم معنى الآية في نظيرتها من قصة صالح.
قوله تعالى: «الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها - إلى قوله - الخاسرين» قال الراغب في المفردات،: و غني في مكان كذا إذا طال مقامه فيه مستغنيا به عن غيره بغنى قال: كأن لم يغنوا فيها انتهى.
و «كأن» مخفف كأن خفف لدخوله الجملة الفعلية.
فقوله: «الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها» فيه تشبيه حال المكذبين من قومه بمن لم يطيلوا الإقامة في أرضهم فإن أمثال هؤلاء يسهل زوالهم لعدم تعلقهم بها في عشيرة أو أهل أو دار أو ضياع و عقار، و أما من تمكن في أرض و استوطنها و أطال المقام بها و تعلق بها بكل ما يقع به التعلق في الحياة المادية فإن تركها له متعسر كالمتعذر و خاصة ترك الأمة القاطنة في أرض أرضها و ما اقتنته فيها طول مقامها.
و قد ترك هؤلاء و هم أمة عريقة في الأرض دارهم و ما فيها، في أيسر زمان أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
و قد كانوا يزعمون أن شعيبا و من تبعه منهم سيحشرون فخاب ظنهم و انقلبت الدائرة عليهم فكانوا هم الخاسرين فمكروا و مكر الله و الله خير الماكرين.
و إلى هذا يشير تعالى حيث ذكر أولا قولهم: إن متبعي شعيب خاسرون، ثم ذكر نزول العذاب و أبهم الذين أخذتهم الرجفة فقال: «فأخذتهم الرجفة» و لم يقل: فأخذت الذين كفروا الرجفة، ثم صرح في قوله: «الذين كذبوا شعيبا» الآية أن الحكم الإلهي و الهلاك و الخسران كان لشعيب و من تبعه على الذين كذبوه من قومه فكانوا هم الخاسرين الممكور بهم، و هم يزعمون خلافه.
قوله تعالى: «فتولى عنهم» إلى آخر الآية.
ظاهر السياق أنه إنما تولى بعد نزول العذاب عليهم و هلاكهم، و أن الخطاب خطاب اعتبار، و قوله: «فكيف آسى» إلخ هو من الأسى أي كيف أحزن، و الباقي ظاهر.
|