بيان
تتضمن السورة امتنانا على قريش بإيلافهم الرحلتين و تعقبه بدعوتهم إلى التوحيد و عبادة رب البيت، و السورة مكية.
و لمضمون السورة نوع تعلق بمضمون سورة الفيل و لذا ذهب قوم من أهل السنة إلى كون الفيل و لإيلاف سورة واحدة كما قيل بمثله في الضحى و أ لم نشرح لما بينهما من الارتباط كما نسب ذلك إلى المشهور بين الشيعة و الحق أن شيئا مما استندوا إليه لا يفيد ذلك.
أما القائلون بذلك من أهل السنة فإنهم استندوا فيه إلى ما روي أن أبي بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة، و بما روي عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: صليت المغرب خلف عمر بن الخطاب فقرأ في الركعة الأولى و التين و في الثانية أ لم تر و لإيلاف قريش من غير أن يفصل بالبسملة.
و أجيب عن الرواية الأولى بمعارضتها بما روي أنه أثبت البسملة بينهما في مصحفه، و عن الثانية بأن من المحتمل على تقدير صحتها أن يكون الراوي لم يسمع قراءتها أو يكون قرأها سرا.
على أنها معارض بما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الله فضل قريشا بسبع خصال و فيها «و نزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم: لإيلاف قريش».
الحديث على أن الفصل متواتر.
و أما القائلون بذلك من الشيعة فاستندوا فيه إلى ما في المجمع، عن أبي العباس عن أحدهما (عليهما السلام) قال: أ لم تر كيف فعل ربك و لإيلاف قريش سورة واحدة، و ما في التهذيب، بإسناده عن العلاء عن زيد الشحام قال: صلى بنا أبو عبد الله (عليه السلام) الفجر فقرأ الضحى و أ لم نشرح في ركعة، و ما في المجمع، عن العياشي عن المفضل بن صالح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلا الضحى و أ لم نشرح و أ لم تر كيف و لإيلاف قريش: و رواه المحقق في المعتبر، نقلا من كتاب الجامع لأحمد بن محمد بن أبي نصر عن المفضل: مثله.
أما رواية أبي العباس فضعيف لما فيها من الرفع.
و أما رواية الشحام فقد رويت عنه بطريقين آخرين: أحدهما ما في التهذيب، بإسناده عن ابن مسكان عن زيد الشحام قال: صلى بنا أبو عبد الله (عليه السلام) فقرأ بنا بالضحى و أ لم نشرح، و ثانيهما عنه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زيد الشحام قال: صلى بنا أبو عبد الله (عليه السلام) فقرأ في الأولى الضحى و في الثانية أ لم نشرح لك صدرك.
و هذه أعني صحيحة ابن أبي عمير صريحة في قراءة السورتين في ركعتين و لا يبقى معها لرواية العلاء ظهور في الجمع بينهما، و أما رواية ابن مسكان فلا ظهور لها في الجمع و لا صراحة، و أما حمل ابن أبي عمير على النافلة فيدفعه قوله فيها: «صلى بنا» فإنه صريح في الجماعة و لا جماعة في نفل.
و أما رواية المفضل فهي أدل على كونهما سورتين منها على كونهما سورة واحدة حيث قيل: لا تجمع بين سورتين ثم استثنى من السورتين الضحى و أ لم نشرح و كذا الفيل و لإيلاف.
فالحق أن الروايات إن دلت فإنما تدل على جواز القرآن بين سورتي الضحى و أ لم نشرح و سورتي الفيل و لإيلاف في ركعة واحدة من الفرائض و هو ممنوع في غيرها، و يؤيده رواية الراوندي في الخرائج، عن داود الرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: فلما طلع الفجر قام فأذن و أقام و أقامني عن يمينه و قرأ في أول ركعة الحمد و الضحى و في الثانية بالحمد و قل هو الله أحد ثم قنت ثم سلم ثم جلس.
قوله تعالى: «لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء و الصيف» الألف بكسر الهمزة اجتماع مع التئام كما قاله الراغب و منه الألفة، و قال في الصحاح،: و فلان قد ألف هذا الموضع بالكسر يألفه ألفا و آلفه إياه غيره، و يقال أيضا: آلفت الموضع أولفه إيلافا، انتهى.
و قريش عشيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم ولد النضر بن كنانة المسمى قريشا، و الرحلة حال السير على الراحلة و هي الناقة القوية على السير كما في المجمع، و المراد بالرحلة خروج قريش من مكة للتجارة و ذلك أن الحرم واد جديب لا زرع فيه و لا ضرع فكانت قريش تعيش فيه بالتجارة، و كانت لهم في كل سنة رحلتان للتجارة رحلة في الشتاء إلى اليمن و رحلة بالصيف إلى الشام، و كانوا يعيشون بذلك و كان الناس يحترمونهم لمكان البيت الحرام فلا يتعرضون لهم بقطع طريقهم أو الإغارة على بلدهم الأمن.
و قوله: «لإيلاف قريش» اللام فيه للتعليل، و فاعل الإيلاف هو الله سبحانه و قريش مفعوله الأول و مفعوله الثاني محذوف يدل عليه ما بعده، و قوله: «إيلافهم رحلة الشتاء و الصيف» بدل من إيلاف قريش، و فاعل إيلافهم هو الله و مفعوله الأول ضمير الجمع و مفعوله الثاني رحلة إلخ، و التقدير لإيلاف الله قريشا رحلة الشتاء و الصيف.
قوله تعالى: «فليعبدوا رب هذا البيت» الفاء في «فليعبدوا» لتوهم معنى الشرط أي أي شيء كان فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافه أيام الرحلتين أو لتوهم التفصيل أي مهما يكن من شيء فليعبدوا رب هذا البيت إلخ، فهو كقوله تعالى: «و لربك فاصبر»: المدثر: 7.
و محصل معنى الآيات الثلاث ليعبد قريش رب هذا البيت لأجل إيلافه إياهم رحلة الشتاء و الصيف و هم عائشون بذلك في أمن.
هذا بالنظر إلى كون السورة منفصلة عما قبلها ذات سياق مستقل في نفسها، و أما على تقدير كونها جزء من سورة الفيل متممة لها فذكروا أن اللام في «لإيلاف» تعليلية متعلقة بمقدر يدل عليه المقام و المعنى فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش مضافة إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء و الصيف فكأنه قال: نعمة إلى نعمة و لذا قيل: إن اللام مؤدية معنى إلى و هو قول الفراء.
و قيل: المعنى فعلنا ذلك بأصحاب الفيل لتألف قريش بمكة و يمكنهم المقام بها أو لنؤلف قريشا فإنهم هابوا من أبرهة لما قصدها و هربوا منه فأهلكناهم لترجع قريش إلى مكة و يألفوا بها و يولد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيبعث إلى الناس بشيرا و نذيرا هذا، و الكلام في استفادة هذه المعاني من السياق.
قوله تعالى: «الذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف» إشارة إلى ما في إيلافهم الرحلتين من منه الواضح و نعمته الظاهرة عليهم و هو الإطعام و الأمن فيعيشون في أرض لا خصب فيها و لا أمن لغيرهم فليعبدوا ربا يدبر أمرهم أحسن التدبير و هو رب البيت.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «لإيلاف قريش إيلافهم» قال: نزلت في قريش لأنه كان معاشهم من الرحلتين رحلة في الشتاء إلى اليمن، و رحلة في الصيف إلى الشام، و كانوا يحملون من مكة الأدم و اللب و ما يقع من ناحية البحر من الفلفل و غيره فيشترون بالشام الثياب و الدرمك و الحبوب، و كانوا يتألفون في طريقهم و يثبتون في الخروج في كل خرجة رئيسا من رؤساء قريش و كان معاشهم من ذلك. فلما بعث الله نبيه استغنوا عن ذلك لأن الناس وفدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و حجوا إلى البيت فقال الله: «فليعبدوا رب هذا البيت - الذي أطعمهم من جوع» لا يحتاجون أن يذهبوا إلى الشام «و آمنهم من خوف» يعني خوف الطريق.
أقول: قوله: فلما بعث الله إلخ خفي الانطباق على سياق آيات السورة، و لعله من كلام القمي أخذه من بعض ما روي عن ابن عباس.
|