بيان
قوله تعالى: قل إن كانت لكم إلخ، لما كان قولهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة: و قولهم نؤمن بما أنزل علينا في جواب ما قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله يدلان بالالتزام على دعواهم أنهم ناجون في الآخرة دون غيرهم و أن نجاتهم و سعادتهم فيها غير مشوبة بهلاك و شقاء لأنهم ليسوا بزعمهم بمعذبين إلا أياما معدودة و هي أيام عبادتهم للعجل، قابلهم الله تعالى خطابا بما يظهر به كذبهم في دعواهم و أنهم يعلمون ذلك من غير تردد و ارتياب فقال تعالى لنبيه: «قل إن كانت لكم الدار الآخرة» أي سعادة تلك الدار فإن من ملك دارا فإنما يتصرف فيها بما يستحسنه و يحبه و يحل منها بأجمل ما يمكن و أسعده و قوله «عند الله» أي مستقرا عنده تعالى و بحكمه و إذنه، فهو كقوله تعالى: «إن الدين عند الله الإسلام»: آل عمران - 19 و قوله تعالى: «خالصة» أي غير مشوبة بما تكرهونه من عذاب أو هوان لزعمكم أنكم لا تعذبون فيها إلا أياما معدودة، قوله تعالى: «من دون الناس» و ذلك لزعمكم بطلان كل دين إلا دينكم، و قوله تعالى: «فتمنوا الموت إن كنتم صادقين» و هذا كقوله تعالى: «قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين»: الجمعة - 6 و هذه مؤاخذة بلازم فطري بين الأثر في الخارج بحيث لا يقع فيه أدنى الشك و هو أن الإنسان بل كل موجود ذي شعور إذا خير بين الراحة و التعب اختار الراحة من غير تردد و تذبذب و إذا خير بين حياة و عيشة مكدرة مشوبة و أخرى خالصة صافية اختار الخالصة الهنيئة قطعا و لو فرض ابتلاؤه بما كان يميل عنه إلى غيره من حياة شقية ردية أو عيشة منغصة لم يزل يتمنى الأخرى الطيبة الهنيئة فلا ينفك عن التحسر له في قلبه و عن ذكره في لسانه و عن السعي إليه في عمله.
فلو كانوا صادقين في دعواهم أن السعادة الخالصة الأخروية لهم دون غيرهم من الناس وجب أن يتمنوه جنانا و لسانا و أركانا و لن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم من قتل الأنبياء و الكفر بموسى و نقض المواثيق و الله عليم بالظالمين.
قوله تعالى: بما قدمت أيديهم كناية عن العمل فإن معظم العمل عند الحس يقع بواسطة اليد فيقدم بعد ذلك إلى من ينتفع به أو يطلبه ففيه عنايتان نسبة التقديم إلى الأيدي دون أصحاب الأيدي و عد كل فعل عملا للأيدي.
و بالجملة أعمال الإنسان و خاصة ما يستمر صدوره منه أحسن دليل على ما طوى عليه ضميره و ارتكز في باطنه و الأعمال الطالحة و الأفعال الخبيثة لا يكشف إلا عن طوية خبيثة تأبى أن تميل إلى لقاء الله و الحلول في دار أوليائه.
قوله تعالى: و لتجدنهم أحرص الناس على حياة، كالدليل المبين لقوله تعالى: و لن يتمنوه أبدا أي و يشهد على أنهم لن يتمنوا الموت، إنهم أحرص الناس على هذه الحياة الدنيا التي لا حاجب و لا مانع عن تمني الدار الآخرة إلا الحرص عليها و الإخلاد إليها، و التنكير في قوله تعالى: على حيوة للتحقير كما قال تعالى: «و ما هذه الحيوة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون»:. العنكبوت - 64.
قوله تعالى: و من الذين أشركوا الظاهر أنه عطف على الناس و المعنى و لتجدنهم أحرص من الذين أشركوا.
قوله تعالى: و ما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، الظاهر أن ما نافية و ضمير هو إما للشأن و القصة و أن يعمر مبتدأ خبره قوله: بمزحزحه أي بمبعده، و إما راجع إلى ما يدل عليه قوله: يود أحدهم، أي و ما الذي يوده بمزحزحه من العذاب.
و قوله تعالى: أن يعمر بيان له و معنى الآية و لن يتمنوا الموت و أقسم لتجدنهم أحرص الناس على هذه الحياة الحقيرة الردية الصارفة عن تلك الحياة السعيدة الطيبة بل تجدهم أحرص على الحياة من الذين أشركوا الذين لا يرون بعثا و لا نشورا يود أحدهم لو يعمر أطول العمر و ليس أطول العمر بمبعده من العذاب لأن العمر و هو عمر بالأخرة محدود منته إلى أمد و أجل.
قوله تعالى: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، أي أطول العمر و أكثره، فالألف كناية عن الكثرة و هو آخر مراتب العدد بحسب الوضع الإفرادي عند العرب و الزائد عليه يعبر عنه بالتكرير و التركيب كعشرة آلاف و مائة ألف و ألف ألف.
قوله تعالى: و الله بصير بما يعملون، البصير من أسمائه الحسنى و معناه العلم بالمبصرات فهو من شعب اسم العليم.
قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك إلخ.
السياق يدل على أن الآية نزلت جوابا عما قالته اليهود و أنهم تابوا و استنكفوا عن الإيمان بما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و عللوه بأنهم عدو لجبريل النازل بالوحي إليه.
و الشاهد على ذلك أن الله سبحانه يجيبهم في القرآن و في جبريل معا في الآيتين و ما ورد من شأن النزول يؤيد ذلك فأجاب عن قولهم: إنا لا نؤمن بالقرآن لعداوتنا لجبريل النازل به أولا: أن جبريل إنما نزل به على قلبك بإذن الله لا من عند نفسه فعداوتهم لجبريل لا ينبغي أن يوجب إعراضهم عن كلام نازل بإذن الله، و ثانيا: أن القرآن مصدق لما في أيديهم من الكتاب الحق و لا معنى للإيمان بأمر و الكفر بما يصدقه.
و ثالثا.
أن القرآن هدى للمؤمنين به، و رابعا أنه بشرى و كيف يصح لعاقل أن ينحرف عن الهداية و يغمض عن البشرى و لو كان الآتي بذلك عدوا له.
و أجاب عن قولهم: إنا عدو جبريل أن جبريل ملك من الملائكة لا شأن له إلا امتثال ما أمره به الله سبحانه كميكال و سائر الملائكة و هم عباد مكرمون لا يعصون الله فيما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون، و كذلك رسل الله لا شأن لهم إلا بالله و من الله سبحانه فبغضهم و استعدائهم بغض و استعداء لله و من كان عدوا لله و ملائكته و رسله و جبريل و ميكال فإن الله عدو لهم، و إلى هذين الجوابين تشير الآيتان.
قوله تعالى: فإنه نزله على قلبك، فيه التفات من التكلم إلى الخطاب و كان الظاهر أن يقال على قلبي، لكن بدل من الخطاب للدلالة على أن القرآن كما لا شأن في إنزاله لجبريل و إنما هو مأمور مطيع كذلك لا شأن في تلقيه و تبليغه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن قلبه وعاء للوحي لا يملك منه شيئا و هو مأمور بالتبليغ.
و اعلم أن هذه الآيات في أواخرها، أنواع الالتفات و إن كان الأساس فيها الخطاب لبني إسرائيل، غير أن الخطاب إذا كان خطاب لوم و توبيخ و طال الكلام صار المقام مقام استملال للحديث مع المخاطب و استحقار لشأنه فكان من الحري للمتكلم البليغ الإعراض عن المخاطبة تارة بعد أخرى بالالتفات بعد الالتفات للدلالة على أنه لا يرضى بخطابهم لردائة سمعهم و خسة نفوسهم و لا يرضى بترك خطابهم إظهارا لحق القضاء عليهم.
قوله تعالى: عدو للكافرين، فيه وضع الظاهر موضع المضمر و النكتة فيه الدلالة على علة الحكم كأنه قيل: فإن الله عدو لهم لأنهم كافرون و الله عدو للكافرين.
قوله تعالى: و ما يكفر بها إلا الفاسقون، فيه دلالة على علة الكفر و أنه الفسق فهم لكفرهم فاسقون و لا يبعد أن يكون اللام في قوله: الفاسقون للعهد الذكري و يكون ذلك إشارة إلى ما مر في أوائل السورة من قوله تعالى: و ما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه الآية.
و أما الكلام في جبريل و كيفية تنزيله القرآن على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كذا الكلام في ميكال و الملائكة فسيأتي فيما يناسبه من المحل إن شاء الله.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: قل من كان عدوا لجبريل الآيتان، قال ابن عباس كان سبب نزول الآية ما روي أن ابن صوريا و جماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة سألوه فقالوا: يا محمد كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان. فقال تنام عيناي و قلبي يقظان. قالوا: صدقت يا محمد فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة؟ فقال أما العظام و العصب و العروق فمن الرجل و أما اللحم و الدم و الظفر و الشعر فمن المرأة. قالوا: صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه و ليس له من شبه أخواله شيء؟ أو يشبه أخواله و ليس فيه من شبه أعمامه شيء؟ فقال أيهما علا ماؤه كان الشبه له قالوا صدقت يا محمد فأخبرنا عن ربك ما هو؟ فأنزل الله سبحانه: قل هو الله أحد إلى آخر السورة. فقال له ابن صوريا خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك و اتبعتك. أي ملك يأتيك بما ينزل الله عليك؟ قال: فقال جبرئيل. قال: ذاك عدونا ينزل بالقتال و الشدة و الحرب و ميكائيل ينزل باليسر و الرخاء فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك.
أقول: قوله تنام عيناي و قلبي يقظان، قد استفاض الحديث من العامة و الخاصة أنه كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنام عينه و لا ينام قلبه و معناه أنه كان لا يغفل بالنوم عن نفسه فكان و هو في النوم يعلم أنه نائم و أن ما يراه رؤيا يراها ليس باليقظة، و هذا أمر بما يتفق للصالحين أحيانا عند طهارة نفوسهم و اشتغالها بذكر مقام ربهم و ذلك أن إشراف النفس على مقام ربها لا يدعها غافلة عما لها من طور الحياة الدنيوية و نحو تعلقها بربها.
و هذا نحو مشاهدة يبين للإنسان أنه في عالم الحياة الدنيا على حال النوم سواء معه النوم الذي يراه الناس نوما فقط و كذا اليقظة التي يراها الناس يقظة و أن الناس و هم معتكفون على باب الحس مخلدون إلى أرض الطبيعة، رقود و إن عدوا أنفسهم أيقاظا.
فعن علي (عليه السلام): الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا الحديث.
و سيأتي زيادة استيفاء لهذا البحث و كذا الكلام في سائر فقرات هذا الحديث في مواضع مناسبة من هذا الكتاب إن شاء الله.
|