بيان
شروع في قصص موسى (عليه السلام)، و قد خص بالذكر منها مجيئه إلى فرعون و دعواه الرسالة إليه لنجاة بني إسرائيل و إتيانه بالآيتين اللتين آتاه الله إياهما ليلة الطور، و هذه القصة هي التي تشتمل عليها هذه الآيات ثم إجمال قصته حين إقامته في مصر بين بني إسرائيل لإنجائهم، و ما نزل على قوم فرعون من آيات الشدة إلى أن أنجى الله بني إسرائيل، ثم تذكر قصة نزول التوراة و عبادة بني إسرائيل العجل، ثم قصصا متفرقة من بني إسرائيل يعتبر بها المعتبر.
قوله تعالى: «ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون و ملإيه» إلى آخر الآية.
في تغيير السياق في أول القصة دلالة على تجدد الاهتمام بأمر موسى (عليه السلام) فإنه من أولي العزم صاحب كتاب و شريعة، و قد ورد الدين ببعثته في مرحلة جديدة من التفصيل بعد المرحلتين اللتين قعطهما ببعثة نوح و إبراهيم (عليه السلام)، و في لفظ الآيات شيء من الإشارة إلى تبدل المراحل فقد قال تعالى أولا: «لقد أرسلنا نوحا إلى قومه» «و إلى عاد أخاهم هودا» «و إلى ثمود أخاهم صالحا» فجرى على سياق واحد لأن هودا و صالحا كانا على شريعة نوح، ثم غير السياق فقال: «و لوطا إذ قال لقومه» لأن لوطا من أهل المرحلة الثانية في الدين و هي مرحلة شريعة إبراهيم، و كان لوط على شريعته ثم عاد إلى السياق السابق في بدء قصة شعيب، ثم غير السياق في بدء قصة موسى بقوله: «ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون و ملإيه» لأنه ثالث أولي العزم صاحب كتاب جديد و شريعة جديدة، و دين الله و شرائعه و إن كان واحدا لا تناقض فيه و لا تنافي غير أنه مختلف بالإجمال و التفصيل و الكمال و زيادته بحسب تقدم البشر تدريجيا من النقص إلى الكمال، و اشتداد استعداده لقبول المعارف الإلهية عصرا بعد عصر إلى أن ينتهي إلى موقف علمي هي أعلى المواقف فيختتم عند ذلك الرسالة و النبوة، و يستقر الكتاب و الشريعة استقرارا لا مطمع بعده في كتاب جديد أو شريعة جديدة و لا يبقى للبشر بعد ذلك إلا التدرج في الكمال من حيث انتشار الدين و انبساطه على المجتمع البشري و استيعابه لهم، و إلا التقدم من جهة التحقق بحقائق المعارف، و الترقي في مراقي العلم و العمل التي يدعو إليها الكتاب، و يحرض عليها الشريعة و الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين.
فقوله تعالى: «ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا» إلى آخر الآية.
إجمال لقصة موسى (عليه السلام) ثم يؤخذ في التفصيل من قوله: «و قال موسى يا فرعون» الآية، و إنا و إن كنا نسمي هذه القصص بقصة موسى و قصة نوح و قصة هود و هكذا فإنها بحسب ما سردت في هذه السورة قصص الأمم و الأقوام الذين أرسل إليهم هؤلاء الرسل الكرام يذكر فيها حالهم فيما واجهوا به رسل الله من الإنكار و الرد، و ما آل إليه أمرهم من نزول العذاب الإلهي الذي أفنى جمعهم، و قطع دابرهم و لذلك ترى أن عامة القصص المذكورة مختومة بذكر نزول العذاب و هلاك القوم.
و لا تنس ما قدمناه في مفتتح الكلام أن الغرض منها بيان حال الناس في قبول العهد الإلهي المأخوذ منهم جميعا ليكون إنذارا للناس عامة و ذكرى للمؤمنين خاصة، و أنه الغرض الجامع بين ما في سور «الم» و ما في سورة «ص» من الغرض و هو الإنذار و الذكرى.
فقوله: «ثم بعثنا من بعدهم» أي من بعد من ذكروا من الأنبياء و هم نوح و هود و صالح و لوط و شعيب (عليهما السلام) «موسى بآياتنا إلى فرعون و ملإيه» أي إلى ملك مصر و الأشراف الذين حوله، و «فرعون» لقب كان يطلق على ملوك مصر كالخديو كما كان يلقب بقيصر و كسرى و فغفور ملوك الروم و إيران و الصين، و لم يصرح القرآن الكريم باسم هذا الفرعون الذي أرسل إليه موسى فأغرقه الله بيده.
و قوله: «بآياتنا» الظاهر أن المراد بها ما أتى به في أول الدعوة من إلقاء العصا فإذا هي ثعبان، و إخراج يده من جيبه فإذا هي بيضاء، و الآيات التي أرسلها الله إليهم بعد ذلك من الطوفان و الجراد و القمل و الضفادع و الدم آيات مفصلات، و لم ينقل القرآن الكريم لنبي من الأنبياء من الآيات الكثيرة ما نقله عن موسى (عليه السلام).
و قوله: «فظلموا بها» أي بالآيات التي أرسل بها على ما سيذكره الله سبحانه في خلال القصة، و ظلم كل شيء بحسبه، و ظلم الآيات إنما هو التكذيب بها و الإنكار لها.
و قوله: «فانظر كيف كان عاقبة المفسدين» ذكر عاقبة الإفساد في الاعتبار بأمرهم لأنهم كانوا يفسدون في الأرض و يستضعفون بني إسرائيل، و قد كان في متن دعوة موسى حين ألقاها إلى فرعون: «فأرسل معي بني إسرائيل» و في سورة طه: «فأرسل معنا بني إسرائيل و لا تعذبهم»: طه: 47.
قوله تعالى: «و قال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين» شروع في تفصيل قصة الدعوة كما تقدمت الإشارة إليه، و قد عرف نفسه بالرسالة ليكون تمهيدا لذكر ما أرسل لأجله، و ذكره تعالى باسمه رب العالمين أنسب ما يتصور في مقابلة الوثنيين الذين لا يرون إلا أن لكل قوم أو لكل شأن من شئون العالم و طرف من أطرافه ربا على حدة.
قوله تعالى: «حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق» إلى آخر الآية تأكيد لصدقه في رسالته أي أنا حري بأن أقول قول الحق و لا أنسب إلى الله في رسالتي منه إليك شيئا من الباطل لم يأمرني به الله سبحانه، و قوله: «قد جئتكم ببينة من ربكم» في موضع التعليل بالنسبة إلى جميع ما تقدم أو بالنسبة إلى قوله: «إني رسول من رب العالمين» لأنه هو الأصل الذي يتفرع عليه غيره.
و لعل تعدية «حقيق» بعلى من جهة تضمينه معنى حريص أي حريص على كذا حقيقا به، و المعروف في اللغة تعدية حقيق بمعنى حري بالباء يقال: فلان حقيق بالإكرام أي حري به لائق.
و قرىء: «حقيق علي» بتشديد الياء و الحقيق على هذا مأخوذ من حق عليه كذا أي وجب، و المعنى واجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق فالحقيق خبر و مبتدؤه قوله: أن لا أقول، الآية و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين» الشرط في صدر الآية أعني قوله: «إن كنت جئت بآية» يتضمن صدقه (عليه السلام) فإنه إذا كان جائيا بآية واقعة فقد صدق في إخباره بأنه قد جاء بآية لكن الشرط في ذيل الآية تعريض يومىء به إلى أنه ما يعتقد بصدقه في إخباره بوجود آية معه، فكأنه قال: إن كنت جئت بآية فأت بها و ما أظنك تصدق في قولك، فلا تكرار في الشرط.
قوله تعالى: «فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين» الفاء جوابية كما قيل أي فأجابه بإلقاء عصاه، و هذه هي فاء التفريع و الجواب مستفاد من خصوصية المورد.
و الثعبان الحية العظيمة و لا تنافي بين وصفه هاهنا بالثعبان المبين و بين ما في موضع آخر من قوله تعالى: «فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا و لم يعقب»: القصص: 31، و الجان هي الحية الصغيرة لاختلاف القصتين كما قيل فإن ذكر الجان إنما جاء في قصة ليلة الطور و قد قال تعالى فيها في موضع آخر: «فألقاها فإذا هي حية تسعى»: طه: 20، و أما ذكر الثعبان فقد جاء في قصة إتيانه لفرعون بالآيات حين سأله ذلك.
قوله تعالى: «و نزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين» أي نزع يده من جيبه على ما يدل عليه قوله تعالى: «و اضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء»: طه: 22، و قوله: «اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء»: القصص: 32.
و الأخبار و إن وردت فيها أن يده (عليه السلام) كانت تضيء كالشمس الطالعة عند إرادة الإعجاز بها لكن الآيات لا تقص أزيد من أنها كانت تخرج بيضاء للناظرين إلا أن كونها آية معجزة تدل على أنها كانت تبيض ابيضاضا لا يشك الناظرون في أنها حالة خارقة للعادة.
قوله تعالى: «قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم» لم يذكر تعالى ما قاله فرعون عند ذلك، و إنما الذي ذكر محاورة الملإ بعضهم بعضا كأنهم في مجلس مشاورة يذاكر بعضهم بعضا و يشير بعضهم إلى ما يراه و يصوبه آخرون فيقدمون ما صوبوه من رأي إلى فرعون ليعمل به فهم لما تشاوروا في أمر موسى و ما شاهدوه من آياته المعجزة قالوا: إن هذا لساحر عليم، و إذا كان ساحرا غير صادق فيما يذكره من رسالة الله سبحانه فإنما يتوسل بهذه الوسيلة إلى نجاة بني إسرائيل و استقلالهم في أمرهم ليتأيد بهم ثم يخرجكم من أرضكم و يذهب بطريقتكم المثلى فما ذا تأمرون به في إبطال كيده، و إخماد ناره التي أوقدها؟ أ من الواجب مثلا أن يقتل أو يصلب أو يسجن أو يعارض بساحر مثله؟.
فاستصوبوا آخر الآراء، و قدموه إلى فرعون أن أرجه و أخاه و ابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم.
و من ذلك يظهر أن قوله تعالى: «فما ذا تأمرون» حكاية ما قاله بعض الملإ لبعض و قوله: «قالوا أرجه» إلخ، حكاية ما قدموه من رأي الجميع إلى فرعون و قد اتفقوا عليه، و قد حكى الله سبحانه في موضع آخر من كلامه هذا القول بعينه من فرعون يخاطب به ملأه قال تعالى: «قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فما ذا تأمرون قالوا أرجه و أخاه و ابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم»: الشعراء: 37.
و يظهر مما في الموضعين أنهم إنما شاوروا حول ما قاله فرعون ثم صوبوه و رأوا أن يجيبه بسحر مثل سحره، و قد حكى الله أيضا هذا القول عن فرعون يخاطب به موسى حتى بالذي أشار إليه الملأ من معارضة سحره بسحر آخر مثله إذ قال: «قال أ جئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله»: طه: 58، و لعل ذلك محصل ما خرج من مشاورتهم حول ما قاله فرعون بعد ما قدم إلى فرعون مخاطب به موسى من قبل نفسه.
و للملإ جلسة مشاورة أخرى أيضا بعد قدوم السحرة إلى فرعون ناجى فيها بعضهم بعضا بمثل ما في هذه الآيات قال تعالى: «فتنازعوا أمرهم بينهم و أسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما و يذهبا بطريقتكم المثلى»: طه: 63.
فتبين أن أصل الكلام لفرعون ألقاه إليهم ليتشاوروا فيه و يروا رأيهم فيما يفعل به فرعون فتشاوروا و صدقوا قوله و أشاروا بالإرجاء و جمع السحرة للمعارضة فقبله ثم ذكره لموسى ثم اجتمعوا للمشاورة و المناجاة ثانيا بعد مجيء السحرة و اتفقوا أن يجتمعوا عليه و يعارضوه بكل ما يقدرون عليه من السحر صفا واحدا.
قوله تعالى: «يريد أن يخرجكم من أرضكم فما ذا تأمرون» أي يريد أن يتأيد ببني إسرائيل فيتملك مصر، و يبطل استقلالكم و يخرجكم من أرضكم، و كثيرا ما كان يتفق في الأعصار السابقة أن يهجم قوم على قوم فيتغلبوا عليهم فيشغلوا أرضهم و يتملكوا ديارهم فيخرجوهم منها و يشردوهم في الأرض.
قوله تعالى: «قالوا أرجه و أخاه و أرسل في المدائن حاشرين» إلى آخر الآية التالية.
أرجه بسكون الهاء أمر من الإرجاء بمعنى التأخير و الهاء للسكت أي أخره و أخاه و لا تعجل لهما بشر كالقتل و نحوه حتى ترمي بظلم أو قسوة و نحوهما بل ابعث في المدائن من جنودك حاشرين يجمعون السحرة فيأتوك بهم ثم عارض سحر موسى بسحر السحرة.
و قرىء: أرجه بكسر الجيم و الهاء و أصله أرجئه قلبت الهمزة ياء ثم حذفت، و الهاء ضمير راجع إلى موسى، و أخوه هو هارون (عليه السلام).
قوله تعالى: «و جاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا» إلى آخر الآية التالية أي فأرسل حاشرين فحشروهم و جاء السحرة كل ذلك محذوف للإيجاز.
و قولهم: «إن لنا لأجرا» سؤال للأجر جيء به في صورة الخبر للتأكيد، و إفادة الطلب الإنشائي في صورة الإخبار شائع، و يمكن أن يكون استفهاما بحذف أداته، و يؤيده قراءة ابن عامر: «أ إن لنا لأجرا» و قوله: «قال نعم و إنكم لمن المقربين» إجابة لمسئولهم مع زيادة وعدهم بالتقريب.
قوله تعالى: «قالوا يا موسى إما أن تلقي و إما أن نكون نحن الملقين» خيروه بين أن يكون هو الملقي بعصاه، و بين أن يكونوا هم الملقين لما أعدوه من الحبال و العصي و هذا التخيير في مقام استعدوا لمقابلته، و لا محالة يفيد التخيير في الابتداء بالإلقاء فمعناه إن شئت ألق عصاك أولا و إن شئت ألقينا حبالنا و عصينا أولا.
و فيه نوع من التجلد لدلالته على أنهم لا يبالون بأمره سواء ألقى قبلهم أو بعدهم فلا يهابونه على أي حال لوثوقهم بأنهم هم الغالبون، و لا يخلو التخيير مع ذلك عن نوع من التأدب.
قوله تعالى: «قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس» إلى آخر الآية، السحر هاهنا نوع تصرف في حاسة الإنسان بإدراك أشياء لا حقيقة لها في الخارج، و قد تقدم الكلام فيه في تفسير قوله: و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان: البقرة: 102 في الجزء الأول من الكتاب، و الاسترهاب الإخافة، و معنى الآية ظاهر، و قد عد الله فيها سحرهم عظيما.
قوله تعالى: و أوحينا إلى موسى أن ألق إلى آخر الآيتين، أن تفسيرية و اللقف و اللقفان تناول الشيء بسرعة، و الإفك هو صرف الشيء عن وجهه و لذا يطلق على الكذب، و في الآية وجوه من الإيجاز ظاهرة، و التقدير: و أوحينا إلى موسى بعد ما ألقوا أن ألق عصاك فألقاها فإذا هي حية و إذا هي تلقف ما يأفكون.
و قوله: «فوقع الحق» فيه استعارة بالكناية بتشبيه الحق بشيء كأنه معلق لا يعلم عاقبة حاله أ يستقر في الأرض بالوقوع عليها و التمكن فيها أم لا؟ فوقع و استقر «و بطل ما كانوا يعملون» من السحر.
قوله تعالى: «فغلبوا هنالك و انقلبوا صاغرين» أي غلب فرعون و أصحابه «هنالك» أي في ذلك المجمع العظيم الذي تهاجم عليهم فيه الناس من كل جانب ففي لفظ «هنالك» إشارة إلى ذلك و هو للبعيد، «و انقلبوا صاغرين» أي عادوا و صاروا أذلاء مهانين.
قوله تعالى: «و ألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى و هارون» أبهم فاعل الإلقاء في قوله: «و ألقي السحرة ساجدين» و هو معلوم فإن السحرة هم الذين ألقوا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين، و ذلك للإشارة إلى كمال تأثير آية موسى فيهم و إدهاشها إياهم فلم يشعروا بأنفسهم حين ما شاهدوا عظمة الآية و ظهورها عليهم إلا و هم ملقون ساجدون فلم يدروا من الذي أوقع بهم ذلك.
فاضطرتهم الآية إلى الخرور على الأرض ساجدين، و الإيمان برب العالمين الذي اتخذه موسى و هارون، و في ذكر موسى و هارون دلالة على الإيمان بهما مع الإيمان برب العالمين.
و ربما قيل: إن بيانهم رب العالمين برب موسى و هارون لدفع توهم أن يكون إيمانهم لفرعون فإنه كان يدعي أنه رب العالمين فلما بينوه بقولهم «رب موسى و هارون» و لم يأخذا فرعون ربا اندفع ذلك التوهم، و لا يخلو عن خفاء فإن الوثنية ما كانت تقول برب العالمين بحقيقة معناه بمعنى من يملك العالمين و يدبر أمر جميع أجزائها بالاستقامة بل قسموا أجزاء العالم و شئونها بين أرباب شتى، و إنما أعطوا الله سبحانه مقام إله الآلهة و رب الأرباب لا رب الأرباب و مربوبيها.
و الذي ادعاه فرعون لنفسه على ما حكاه الله من قوله: «أنا ربكم الأعلى»: النازعات: 24، إنما هو العلو من جهة القيام بحاجة الناس - و هم أهل مصر خاصة - عن قرب و اتصال لا من جهة القيام بربوبية جميع العالمين، و مع ذلك كله قد أحاطت الخرافات على الوثنية بحيث لا يستبعد أن يتفوهوا بكون فرعون رب العالمين و إن خالف أصول مذاهبهم قطعا.
قوله تعالى: «قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم» إلى آخر الآيتين خاطبهم فرعون بقوله: «آمنتم به قبل أن آذن لكم» تأنفا و استكبارا، و هو إخبار يفيد بحسب المقام و الإنكار و التوبيخ، و من الجائز أن يكون استفهاما إنكاريا أو توبيخيا محذوف الأداة.
و قوله: «إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة» الآية يتهمهم بالمواطاة و المواضعة في المدينة يريد أنهم لما اجتمعوا في مدينته بعد ما حشرهم الحاشرون من مدائن مختلفة شتى فجاءوا بهم إليه و لقوا موسى أجمعوا على أن يمكروا بفرعون و أصحابه فيتسلطوا على المدينة فيخرجوا منها أهلها، و ذلك لأنهم لم يشاهدوا موسى قبل ذلك فلو كانوا تواطئوا على شيء فقد كان ذلك بعد اجتماعهم في مدينته.
أنكر عليهم إيمانهم بقوله: «آمنتم به قبل أن آذن لكم» ثم اتهمهم بأنهم تواطئوا جميعا على المكر ليخرجوا أهل المدينة منها بقوله: «إن هذا لمكر» إلخ ليثبت لهم جرم الإفساد في الأرض المبيح له سياستهم و تنكيلهم بأشد العقوبات.
ثم هددهم بقوله: «فسوف تعلمون» ثم بينه و فصله بقوله: «لأقطعن أيديكم و أرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين» فهددهم تهديدا أكيدا أولا بقطع الأيدي و الأرجل من خلاف و هو أن يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو اليد اليسرى مع الرجل اليمنى و بالجملة قطع كل من اليد و الرجل من خلاف الجهة التي قطعت منها الأخرى.
و ثانيا بالصلب و هو شد المجرم بعد تعذيبه على خشبة و رفع الخشبة بإثبات جانبه على الأرض ليشاهده الناس فيكون لهم عبرة، و قد تقدم تفصيل بيانه في قصص المسيح (عليه السلام) في تفسير سورة آل عمران.
قوله تعالى: «قالوا إنا إلى ربنا منقلبون» إلى آخر الآيات.
جواب السحرة و هم القائلون هذا المقال و قد قابلوه بما يبطل به كيده، و تنقطع به حجته، و هو أنك تهددنا بالعذاب قبال ما تنقم منا من الإيمان بربنا ظنا منك أن ذلك شر لنا من جهة انقطاع حياتنا به و ما نقاسيه من ألم العذاب، و ليس ذلك شرا فإنا نرجع إلى ربنا، و نحيا عنده بحياة القرب السعيدة، و لم نجترم إلا ما تعده أنت لنا جرما و هو إيماننا بربنا فما دوننا إلا الخير.
و هذا معنى قوله: «قالوا إنا إلى ربنا منقلبون» و هو إيمان منهم بالمعاد «و ما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا» و عدوا أمر العصا - على الظاهر آيات كثيرة لاشتماله على جهات كل منها آية كصيرورتها ثعبانا، و لقفها حبالهم و عصيهم واحدا بعد واحد، و رجوعها إلى حالتها الأولى.
و النقم هو الكراهة و البغض يقال: نقم منه كذا ينقم من باب ضرب و علم: إذا كره و أبغض.
ثم أخذتهم الجذبة الإلهية من غير أن يذعروا مما هددهم به، و استغاثوا بربهم على ما عزم به من تعذيبهم و قتلهم فسألوه تعالى قائلين: «ربنا أفرغ علينا صبرا - على ما يريد أن يوقع بنا من العذاب الشديد - و توفنا مسلمين» إن قتلنا.
و في إطلاق الإفراغ على إعطاء الصبر استعارة بالكناية فشبهوا نفوسهم بالآنية، و الصبر بالماء، و إعطاءه بإفراغ الإناء بالماء و هو صبه فيه حتى يغمره، و إنما سألوا ذلك ليفيض الله عليهم من الصبر ما لا يجزعون به عند نزول أي عذاب و ألم ينزل بهم.
و قد جاءوا بالعجب العجاب في مشافهتهم هذه مع فرعون و هو الجبار العنيد الذي ينادي «أنا ربكم الأعلى» و يعبده ملك مصر فلم يذعرهم ما شاهدوا من قدرته و سطوته فأعربوا عن حجتهم بقلوب مطمئنة، و نفوس كريمة، و عزم راسخ، و إيمان ثابت، و علم عزيز، و قول بليغ، و إن تدبرت ما حكاه الله سبحانه من مشافهتهم و محاورتهم فرعون في موقفهم هذا في هذه السورة و في سورتي طه و الشعراء أرشدك ما في خلال كلامهم من الحجج البالغة إلى علوم جمة، و حالات روحية شريفة، و أخلاق كريمة، و لو لا محذور الخروج عن طور هذا الكتاب لأوردنا شذرة منها في هذا المقام فلينتظر إلى حين.
بحث روائي
ما قصة الله في كتابه من قصة مجيء موسى بما آتاه الله من الرسالة، و أيده به من آية العصا و اليد البيضاء، و معه أخوه هارون إلى فرعون و إتيانه بالآيتين ثم جمع فرعون السحرة و معارضته بسحرهم، و إظهار الله آية موسى على سحرهم، و إيمان السحرة لا يجاوز ما ذكر في هذه الآيات إجمالا.
و قد اشتملت الروايات الواردة من طرق الشيعة أو طرق أهل السنة على هذه المعاني غير أنها تشتمل مع ذلك من تفاصيل القصة على أمور عجيبة لم يتعرض لها كتاب الله كما ورد: أن عصا موسى كان من آس الجنة، و أنها كانت عصا آدم وصلت إلى شعيب ثم أعطاها موسى، و في بعض الروايات أنها كانت عصا آدم أعطاها ملك لموسى حين توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل، و يضرب بها الأرض في النهار فيخرج له رزقه و في بعضها: أنها كانت تنطق إذا استنطقت، و كانت إذا صارت ثعبانا عند فرعون بعد ما بين لحييه اثنا عشر ذراعا، و روي أربعون ذراعا و في بعضها ثمانون ذراعا و أنها ارتفعت في السماء ميلا، و في بعضها أنها وضعت أحد مشفريها على الأرض و الآخر على سور قصر فرعون، و في بعضها أنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها، و حملت على الناس فانهزموا مزدحمين فمات منهم خمسة و عشرون ألفا، و في بعضها: أنها كانت ثمانون ذراعا، و في بعضها: أنها كانت في العظم كالمدينة، و في الرواية: أن فرعون أحدث في ثيابه من هول ما رأى، و في بعضها: أنه أحدث في ذلك اليوم أربع مائة مرة و في بعضها: أنه استمر معه داء البطن حتى غرق، و في الروايات أنه (عليه السلام) كان إذا أخرج يده من جيبه كان يغلب نورها نور الشمس.
و في الرواية: أن السحرة كانوا سبعين رجلا، و في بعضها: ستمائة إلى تسع مائة و في بعضها: اثني عشر ألفا، و في بعضها خمسة عشر ألفا، و في بعضها: سبعة عشر ألفا، و في بعضها: تسعة عشر ألفا، و في بعضها بضعة و ثلاثين ألفا، و في بعضها سبعين ألفا، و في بعضها: ثمانين ألفا.
و في الرواية أنهم كانوا أخذوا السحر من رجلين مجوسيين من أهل «نينوى» و فيها: أنه كان اسم رئيسهم شمعون، و في بعضها: يوحنا، و في بعضها أنه كان لهم رؤساء أربعة أسماؤهم: سابور، و عازور، و حطحط، و مصفى.
و كذا ورد في نفس فرعون: أن اسمه الوليد بن المصعب بن الريان، و أنه كان من أهل اصطخر فارس، و في بعضها: أنه من أبناء مصر، و في بعضها: أن فرعون هذا هو فرعون يوسف عاش أربعمائة سنة و لم يشب و لا ابيض منه شعر.
و في بعضها: أنه بنى مدائن يتحصن فيها من موسى، و جعل فيما بينها آجام و غياض، و جعل فيها الأسد ليتحصن بها من موسى فلما بعث الله موسى إلى فرعون دخل المدينة فلما رآه الأسد تبصبصت و ولت مدبرة، ثم لم يأت مدينة إلا انفتح له بابها حتى انتهى إلى قصر فرعون الذي هو فيه.
قال: فقعد على بابه، و عليه مدرعة من صوف و معه عصاه فلما خرج الآذن قال استأذن لي على فرعون فلم يلتفت إليه قال: فقال له موسى: أنا رسول رب العالمين فلم يلتفت إليه قال: فمكث بذلك ما شاء الله يسأله أن يستأذن له قال: فلما أكثر عليه قال: أ ما وجد رب العالمين من يرسله غيرك؟.
قال: فغضب موسى فضرب الباب بعصاه فلم يبق بينه و بين فرعون باب إلا انفتح حتى نظر إليه فرعون و هو في مجلسه فقال: أدخلوه قال: فدخل عليه و هو في قبة له مرتفعة كثيرة الارتفاع ثمانون ذراعا فقال: أنا رسول رب العالمين إليك.
قال: فقال: فأت بآية إن كنت من الصادقين، قال: فألقى عصاه و كان له شعبتان.
قال: فإذا هي حية قد وقع إحدى الشعبتين على الأرض و الشعبة الأخرى في أعلى القبة.
قال: فنظر فرعون جوفها و هي تلهب نيرانا.
قال: و أهوى إليه فأحدث و صاح يا موسى خذها.
إلى غير ذلك مما يشتمل عليه الروايات من العجائب في هذه القصة و أغلبها أمور سكت عنها القرآن لا سبيل إلى رد أغلبها إلا الاستبعاد، و لا إلى قبولها إلا حسن الظن بكل رواية مروية، و هي ليست بمتواترة و لا محفوفة بقرائن قطعية بل جلها مراسيل أو موقوفة أو ضعيفة من سائر جهات الضعف على ما بينها من التعارض فالغض عنها أولى
|