بيان
لما ذكر سبحانه الأصلين من أصول الدعوة الحقة و هما التوحيد و المعاد و احتج عليهما من طريق العقل الفطري ثم أخبر عن عاقبة الإيمان و الكفر بهما بحث عن سبب إمهال الناس و عدم تعجيل نزول العذاب بساحتهم مع تماديهم في غيهم و ضلالتهم و عمههم في طغيانهم و ما هو السبب الذي يوجب لهم ذلك فبين أن الأمر بين لا ستر عليه، و قد بينه لهم رسل الله بالبينات لكن الشيطان زين لهؤلاء المسرفين أعمالهم فأغفلهم عن ذكر المعاد فذهلوا و نسوا بعد ما ذكروا ثم لم يعجل الله لهم العذاب بل أمهلهم في الدنيا إلى حين ليبتليهم و يمتحنهم فإنما الدار دار ابتلاء و امتحان.
قوله تعالى: «و لو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير» إلخ، تعجيل الشيء الإتيان به بسرعة و عجلة و الاستعجال بالشيء طلب حصوله بسرعة و عجلة، و العمه شدة الحيرة.
و معنى الآية: و لو يعجل الله للناس الشر و هو العذاب كما يستعجلون بالخير كالنعمة لأنزل عليهم العذاب بقضاء أجلهم لكنه تعالى لا يعجل لهم الشر فيذر هؤلاء المنكرين للمعاد المارقين عن ربقة الدين يتحيرون في طغيانهم أشد التحير.
و توضيحه أن الإنسان عجول بحسب طبعه يستعجل بما فيه خيره و نفعه أي أنه يطلب من الأسباب أن تسرع في إنتاج ما يبتغيه و يريده فهو في الحقيقة يطلب الإسراع المذكور من الله سبحانه لأنه السبب في ذلك بالحقيقة فهذه سنة الإنسان و هي مبنية على الأهواء النفسانية فإن الأسباب الواقعة ليست في نظامها تابعة لهوى الإنسان بل العالم الإنساني هو التابع الجاري على ما يجريه عليه نظام الأسباب اضطرارا أحب ذلك أو كرهه.
و لو أن السنة الإلهية في خلق الأشياء و الإتيان بالمسببات عقيب أسبابها اتبعت أو شابهت هذه السنة الإنسانية المبنية على الجهل فعجلت المسببات و الآثار عقيب أسبابها لأسرع الشر و هو الهلاك بالعذاب إلى الإنسان فإن سببه قائم معه، و هو الكفر بعدم رجاء لقاء الله و الطغيان في الحياة الدنيا لكنه تعالى لا يعجل الشر لهم كاستعجالهم بالخير لأن سنته مبنية على الحكمة بخلاف سنتهم المبنية على الجهالة فيذرهم في طغيانهم يعمهون.
و قد بان بذلك أولا: أن في قوله «لقضي إليهم أجلهم» نوعا من التضمين فقد ضمن فيه «قضي» معنى مثل الإنزال أو الإبلاغ و لذا عدي بإلى.
و المعنى قضي منزلا أو مبلغا إليهم أجلهم أو أنزل أو أبلغ إليهم أجلهم مقضيا و هو كناية عن نزول العذاب فالكلمة من الكناية المركبة.
و ثانيا: أن في قوله: «فنذر الذين» التفاتا من الغيبة إلى التكلم مع الغير، و لعل النكتة فيه الإشارة إلى توسيط الأسباب في ذلك فإن المذكور من أفعاله تعالى في الآية و ما بعدها كتركهم في عمههم و كشف الضر و التزيين و الإهلاك أمور يتوسل إليها بتوسيط الأسباب، و العظماء إذا أرادوا أن يشيروا إلى دخل أعوانهم و خدمهم في بعض أمورهم أتوا بصيغة المتكلم مع الغير.
قوله تعالى: «و إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما» إلى آخر الآية.
الضر بالضم ما يمس الإنسان من الضرر في نفسه، و قوله: «دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما» أي دعانا منبطحا لجنبه إلخ، و الظاهر أن الترديد للتعميم أي دعانا على أي حال من أحواله فرض من انبطاح أو قعود أو قيام مصرا على دعائه لا ينسانا في حال و يمكن أن يكون «لجنبه» إلخ، أحوالا ثلاثة من الإنسان لا من فاعل دعانا و العامل فيه «مس» و المعنى إذا مس الإنسان الضر و هو منبطح أو قاعد أو قائم دعانا في تلك الحال و هذا معنى ما ورد في بعض المرسلات: «دعانا لجنبه» العليل الذي لا يقدر أن يجلس «أو قاعدا» الذي لا يقدر أن يقوم «أو قائما» الصحيح.
و قوله: «مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه» كناية عن النسيان و الغفلة عما كان لا يكاد ينساه.
و المعنى: و إذا مس الإنسان الضر لم يزل يدعونا لكشف ضره و أصر على الدعاء فإذا كشفنا عنه ضره الذي مسه نسينا و ترك ذكرنا و انجذبت نفسه إلى ما كان يتمتع به من أعماله كذلك زين للمسرفين المفرطين في التمتع بالزخارف الدنيوية أعمالهم فأورثهم نسيان جانب الربوبية و الإعراض عن ذكر الله تعالى.
و في الآية بيان السبب في تمادي منكري المعاد في غيهم و ضلالتهم و خصوصية سببه و هو أن هؤلاء مثلهم كمثل الإنسان يمسه الضر فيذكر ربه و يلح عليه بالدعاء لكشف ضره حتى إذا كشف عنه الضر - و لذلك كان يدعوه - مر لوجهه متوغلا في شهواته و قد نسي ما كان يدعوه و يذكره فلم يكن تركه لدعاء ربه بعد ذكره إلا معلولا لما زين له من عمله فأورثه النسيان بعد الذكر.
فكذلك هؤلاء المسرفون زين لهم أعمالهم فجذبتهم إلى نفسها فنسوا ربهم بعد ذكره، و قد ذكرهم الله مقامه بإرسال الرسل إلى من قبلهم بالبينات و ما كانوا ليؤمنوا و إهلاك القرون من قبلهم بظلمهم و هذه هي السنة الإلهية يجزي القوم المجرمين.
و من هنا يظهر أن الآية التالية: «و لقد أهلكنا القرون من قبلكم» إلخ، متمم للبيان في هذه الآية: «و إذا مس الإنسان الضر دعانا إلى آخر الآية.
قوله تعالى: «و لقد أهلكنا القرون من قبلكم» إلى آخر الآية، قد ظهر معناه مما تقدم، و في الآية التفات في قوله: «من قبلكم» من الغيبة إلى الخطاب، و كان النكتة فيه التشديد في الإنذار لأن الإنذار و التخويف بالمشافهة أوقع أثرا و أبلغ من غيره.
ثم في قوله: «كذلك نجزي القوم المجرمين التفات آخر بتوجيه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و النكتة فيه أنه إخبار عن السنة الإلهية في أخذ المجرمين، و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الأهل لفهمه و الإذعان بصدقه دونهم و لو أذعنوا بصدقة لآمنوا به و لم يكفروا، و هذا بخلاف قوله: «و لقد أهلكنا القرون من قبلكم... و جاءتهم رسلهم» فإنه خبر تاريخي لا ضير في تصديقهم به.
قوله تعالى: «ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون» معناه ظاهر، و فيه بيان أن سنة الامتحان و الابتلاء عامة جارية.
|