بيان
السورة - كما يلوح من آياتها - مكية من السور النازلة في أوائل البعثة و قد نزلت دفعة للاتصال الظاهر بين كرائم آياتها، و قد استثنى بعضهم قوله تعالى: «فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك» إلى تمام ثلاث آيات فذكر أنها مدنية، و بعضهم قوله تعالى: «و منهم من يؤمن به و منهم من لا يؤمن به و ربك أعلم بالمفسدين» فذكر أنها نزلت في اليهود بالمدينة، و لا دليل من جهة اللفظ على شيء من القولين.
و غرض السورة و هو الذي أنزلت لأجل بيانه هو تأكيد القول في التوحيد من طريق الإنذار و التبشير كأنها أنزلت عقيب إنكار المشركين الوحي النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تسميتهم القرآن بالسحر فرد الله سبحانه ذلك عليهم ببيان أن القرآن كتاب سماوي نازل بعلمه تعالى، و أن الذي يتضمنه من معارف التوحيد كوحدانيته تعالى و علمه و قدرته و انتهاء الخلقة إليه و عجائب سننه في خلقه و رجوعهم جميعا إليه بأعمالهم التي سيجزون بها خيرا أو شرا كل ذلك مما تدل عليه آيات السماء و الأرض و يهتدي إليه العقل السليم فهي معان حقة و لا يدل على مثلها إلا كلام حكيم لا سحر مزوق باطل.
و الدليل على ما ذكرنا افتتاح السورة بالكلام على تكذيبهم القرآن: «أ كان للناس عجبا أن أوحينا - إلى قوله - قال الكافرون إن هذا لساحر مبين» و اختتامها بمثل قوله: «و اتبع ما يوحى إليك و اصبر» الآية ثم عوده تعالى إلى مسألة الإيحاء بالقرآن و تكذيبهم له في تضاعيف الآيات مرة بعد مرة كقوله: «و إذا تتلى عليهم آياتنا الآية و قوله: «و ما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله» الآية، و قوله: «يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة» الآية، و قوله: «فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك» الآية.
فتكرر هذه الآيات و الافتتاح و الاختتام بها يدل على أن الكلام مبني على تعقيب إنكارهم لكلام الله و تكذيبهم الوحي و لذلك كان من عمدة الكلام في هذه السورة الوعيد على مكذبي آيات الله من هذه الأمة بعذاب يقضي بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بينهم و أن ذلك من سنة الله في خلقه، و على تعقيبه تختتم السورة حتى كاد يكون بيان هذه الحقيقة من مختصات هذه السورة فمن الحري أن تعرف السورة بأنها سورة الإنذار بالقضاء العدل بين النبي و بين أمته و قد اختتمت بقوله: «و اصبر حتى يحكم الله و هو خير الحاكمين».
قوله تعالى: «الر تلك آيات الكتاب الحكيم» الإشارة باللفظ الدال على البعد للدلالة على ارتفاع مكانة القرآن و علو مقامه فإنه كلام الله النازل من عنده و هو العلي الأعلى رفيع الدرجات ذو العرش.
و الآية - و معناها العلامة - و إن كان من الجائز أن يسمى بها ما هو من قبيل المعاني أو الأعيان الخارجية كما في قوله: «أ و لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل:» الشعراء - 197 و في قوله: «و جعلناها و ابنها آية للعالمين»: الأنبياء - 91 و كذا ما هو من قبيل القول كما في قوله ظاهرا: «و إذا بدلنا آية مكان آية»: النحل: - 101 و نحو ذلك لكن المراد بالآيات هاهنا هي أجزاء الكلام الإلهي قطعا فإن الكلام في الوحي النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو كلام متلو مقرو بأي معنى من المعاني صورنا نزول الوحي.
فالمراد بالآيات أجزاء الكتاب الإلهي و تتعين في الجملة من جهة المقاطع التي تفصل الآيات بعضها من بعض مع إعانة ما من ذوق التفاهم و لذلك ربما وقع الخلاف في عدد آيات بعض السور بين علماء الإحصاء كالكوفيين و البصريين و غيرهم.
و المراد بالكتاب الحكيم هو الكتاب الذي استقرت فيه الحكمة، و ربما قيل: إن الحكيم من الفعيل بمعنى المفعول و المراد به المحكم غير القابل للانثلام و الفساد، و الكتاب الذي هذا شأنه - و قد وصفه تعالى في الآية التالية بأنه من الوحي - هو القرآن المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و ربما قيل: إن الكتاب الحكيم هو اللوح المحفوظ، و كون الآيات آياته هو أنها نزلت منه و هي محفوظة فيه، و هو و إن لم يخل عن وجه بالنظر إلى أمثال قوله تعالى: «بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ:» البروج: - 22 و قوله: «إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون:» الواقعة - 78 لكن الأظهر من الآية التي نحن فيها و سائر ما في سياقها من آيات أوائل هذه السور المفتتحة بالحروف «الر» و سائر الآيات المشابهة لها أو الناظرة إلى وصف القرآن أن المراد بالكتاب و بآياته هو هذا القرآن المتلو المقرو و آياته المتلوة المقروة بما أنه من اللوح المحفوظ من التغيير و البطلان كالكتاب المأخوذ بوجه من الكتاب كما يستفاد من مثل قوله تعالى: «تلك آيات الكتاب و قرآن مبين:» الحجر - 1، و قوله: «كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير:» هود: - 1، و غير ذلك.
قوله تعالى: «أ كان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم» إلى آخر الآية الاستفهام للإنكار فهو إنكار لتعجبهم من إيحاء الله إلى رجل منهم ما اشتملت عليه الدعوة القرآنية.
و قوله: «أن أنذر الناس» إلخ تفسير لما أوحاه إليه، و يتبين به أن الذي ألقاه إليه من الوحي هو بالنسبة إلى عامة الناس إنذار و بالنسبة إلى الذين آمنوا منهم خاصة تبشير فهو لا محالة يضر الناس على بعض التقادير و هو تقدير الكفر و العصيان و ينفعهم على تقدير الإيمان و الطاعة.
و قد فسر البشرى الذي أمره أن يبشر به المؤمنين بقوله: «إن لهم قدم صدق عند ربهم» و المراد بقدم الصدق هو المنزلة الصادقة كما يشير إليه قوله: «في مقعد صدق عند مليك مقتدر: القمر - 55 فإن الإيمان لما استتبع الزلفى و المنزلة عند الله كان الصدق في الإيمان يستتبع الصدق في المنزلة التي يستتبعها فلهم منزلة الصدق كما أن لهم إيمان الصدق.
فإطلاق القدم على المنزلة و المكانة من الكناية و لما كان إشغال المكان عادة إنما هو بالقدم استعملت القدم في المكان إن كان في الماديات، و في المكانة و المنزلة إن كان في المعنويات ثم أضيفت القدم إلى الصدق، و هو صدق صاحب القدم في شأنه أي قدم منسوبة إلى صدق صاحبها أو قدم هي صادقة لصدق صاحبها في شأنه.
و هناك معنى آخر و هو أن يراد بالصدق طبيعته كأن للصدق قدما و للكذب قدما و قدم الصدق هي التي تثبت و لا تزول.
و قوله: «قال الكافرون إن هذا لساحر مبين» أي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قرىء: «إن هذا لسحر مبين» أي القرآن و مآل القراءتين واحد فإنهم إنما كانوا يرمونه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسحر من جهة القرآن الكريم.
و الجملة كالتعليل لقوله: «كان للناس عجبا» يمثل به معنى تعجبهم و هو أنهم لما سمعوا ما تلاه عليهم من القرآن وجدوه كلاما من غير نوع كلامهم خارقا للعادة المألوفة في سنخ الكلام يأخذ بمجامع القلوب و تتوله إليه النفوس فقالوا: إنه لسحر مبين، و إن الجائي به لساحر مبين.
قوله تعالى: «إن ربكم الله الذي خلق السموات و الأرض في ستة أيام» لما ذكر في الآية السابقة عجبهم من نزول الوحي و هو القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تكذيبهم له برميه بالسحر شرع تعالى في بيان ما كذبوا به من الجهتين أعني من جهة أن ما كذبوا به من المعارف المشتمل عليها القرآن حق لا ريب فيه و من جهة أن القرآن الذي رموه بالسحر كتاب إلهي حق و ليس من السحر الباطل في شيء.
فقوله: «إن ربكم الله» إلخ، شروع في بيان الجهة الأولى و هي أن ما يدعوكم إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يعلمكم القرآن حق لا ريب فيه و يجب عليكم أن تتبعوه.
و المعنى: أن ربكم معاشر الناس هو الله الذي خلق هذا العالم المشهود كله سماواته و أرضه في ستة أيام ثم استوى على عرش قدرته و قام مقام التدبير الذي إليه ينتهي كل تدبير و إدارة فشرع يدبر أمر العالم، و إذا انتهى إليه كل تدبير من دون الاستعانة بمعين أو الاعتضاد بأعضاد لم يكن لشيء من الأشياء أن يتوسط في تدبير أمر من الأمور - و هو الشفاعة - إلا من بعد إذنه تعالى فهو سبحانه هو السبب الأصلي الذي لا سبب بالأصالة دونه، و من دونه من الأسباب أسباب بتسبيبه و شفعاء من بعد إذنه.
و إذا كان كذلك كان الله تعالى هو ربكم الذي يدبر أمركم لا غيره مما اتخذتموها أربابا من دون الله و شفعاء عنده و هو المراد بقوله: «ذلكم الله ربكم فاعبدوه أ فلا تذكرون» أي هلا انتقلتم انتقالا فكريا إلى ما يستنير به أن الله هو ربكم لا رب غيره بالتأمل في معنى الألوهية و الخلقة و التدبير.
و قد تقدم الكلام في معنى العرش و الشفاعة و الإذن و غير ذلك في ذيل قوله: «إن ربكم الله:» الأعراف: - 54 في الجزء الثامن من الكتاب.
قوله تعالى: «إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا» تذكير بالمعاد بعد التذكير بالمبدإ، و قوله: «وعد الله حقا» من قيام المفعول المطلق مقام فعله و المعنى: وعده الله وعدا حقا.
و الحق هو الخبر الذي له أصل في الواقع يطابق الخبر فكون وعده تعالى بالمعاد حقا معناه كون الخلقة الإلهية بنحو لا تتم خلقة إلا برجوع الأشياء - و من جملتها الإنسان - إليه تعالى و ذلك كالحجر الهابط من السماء فإنه يعد بحركته السقوط على الأرض فإن حركته سنخ أمر لا يتم إلا بالاقتراب التدريجي من الأرض و السقوط و الاستقرار عليها، و الأشياء على حال كدح إلى ربها حتى تلاقيه، قال تعالى: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه:» الانشقاق: - 6 فافهم ذلك.
قوله تعالى: «إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات بالقسط» إلخ تأكيد لقوله: «إليه مرجعكم جميعا» و تفصيل لإجمال ما يتضمنه من معنى الرجوع و المعاد.
و يمكن أن يكون في مقام التعليل لما تقدمه من قوله: «إليه مرجعكم إلخ أشير به إلى حجتين من الحجج المستعملة في القرآن لإثبات المعاد: أما قوله: «إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده» فلأن الجاري من سنة الله سبحانه أنه يفيض الوجود على ما يخلقه من شيء و يمده من رحمته بما تتم له به الخلقة فيوجد و يعيش و يتنعم برحمة منه تعالى ما دام موجودا حتى ينتهي إلى أجل معدود.
و ليس انتهاؤه إلى أجله المعدود المضروب له فناء منه و بطلانا للرحمة الإلهية التي كان بها وجوده و بقاؤه و سائر ما يلحق بذلك من حياة و قدرة و علم و نحو ذلك بل بقبضه تعالى ما بسطه عليه من الرحمة فإن ما أفاضه الله عليه من عنده هو وجهه تعالى و لن يهلك وجهه.
فنفاد وجود الأشياء و انتهائها إلى أجلها ليس فناء منها و بطلانا لها على ما نتوهمه بل رجوعا و عودا منها إلى عنده و قد كانت نزلت من عنده، و ما عند الله باق فلم يكن إلا بسطا ثم قبضا فالله سبحانه يبدأ الأشياء ببسط الرحمة و يعيدها إليه بقبضها و هو المعاد الموعود.
و أما قوله: «ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات بالقسط» إلخ فإن الحجة فيه أن العدل و القسط الإلهي - و هو من صفات فعله - يأبى أن يستوي عنده من خضع له بالإيمان به و عمل صالحا و من استكبر عليه و كفر به و بآياته، و الطائفتان لا يحس بينهما بفرق في الدنيا فإنما السيطرة فيها للأسباب الكونية بحسب ما تنفع و تضر بإذن الله.
فلا يبقى إلا أن يفرق الله بينهما بعدله بعد إرجاعهما إليه فيجزي المؤمنين المحسنين جزاء حسنا و الكفار المسيئين جزاء سيئا من جهة ما يتلذذون به أو يتألمون.
فالحجة معتمدة على تمايز الفريقين بالإيمان و العمل الصالح و بالكفر و على قوله: «بالقسط هذا، و قوله: «ليجزي» متعلق بقوله: «إليه مرجعكم جميعا» على ظاهر التقرير.
و يمكن أن يكون قوله: «ليجزي» إلخ متعلقا بقوله: «ثم يعيده» و يكون الكلام مسوقا للتعليل و إشارة إلى حجة واحدة و هي الحجة الثانية المذكورة، و الأقرب من جهة اللفظ هو الأخير.
قوله تعالى: «هو الذي جعل الشمس ضياء و القمر نورا» إلى آخر الآية، الضياء - على ما قيل - مصدر ضاء يضوء ضوء و ضياء كعاذ يعوذ عوذا و عواذا، و ربما كان جمع ضوء كسياط جمع سوط، و اللفظ - على ما قيل - على تقدير مضاف و الأصل جعل الشمس ذات ضياء و القمر ذا نور.
و كذلك قوله: «و قدره منازل» أي و قدر القمر ذا منازل في مسيره ينزل كل ليلة منزلا من تلك المنازل غير ما نزله في الليلة السابقة فلا يزال يتباعد من الشمس حتى يوافيها من الجانب الآخر، و ذلك في شهر قمري كامل فترتسم بذلك الشهور و ترتسم بالشهور السنون، و لذلك قال: «لتعلموا عدد السنين و الحساب».
و الآية تنبىء عن حجة من الحجج الدالة على توحده تعالى في ربوبيته للناس و تنزهه عن الشركاء، و المعنى أنه هو الذي جعل الشمس ضياء تستفيدون منه في جميع شئون حياتكم كما يستفيد منه ما في عالمكم الأرضي من موجود مخلوق، و كذا جعل القمر نورا يستفاد منه، و قدره ذا منازل يؤدي اختلاف منازله إلى تكون الشهور و السنين فتستفيدون من ذلك في العلم بعدد السنين و الحساب و لم يخلق ما خلق من ذلك بما يترتب عليه من الغايات و الفوائد إلا بالحق فإنها غايات حقيقية منتظمة تترتب على خلقة ما خلق فليست بلغو باطل و لا صدفة اتفاقية.
فهو تعالى إنما خلق ذلك و رتبه على هذا الترتيب لتدبير شئون حياتكم و إصلاح أمور معاشكم و معادكم فهو ربكم الذي يملك أمركم و يدبر شأنكم لا رب سواه.
و قوله: «يفصل الآيات لقوم يعلمون» من المحتمل أن يراد به التفصيل بحسب التكوين الخارجي أو بحسب البيان اللفظي، و لعل الأول أقرب إلى سياق الآية.
قوله تعالى: «إن في اختلاف الليل و النهار و ما خلق الله في السماوات و الأرض لآيات لقوم يتقون» قال في المجمع، الاختلاف ذهاب كل واحد من الشيئين في جهة غير جهة الآخر فاختلاف الليل و النهار ذهاب أحدهما في جهة الضياء و الآخر في جهة الظلام، انتهى.
و الظاهر أنه مأخوذ من الخلف، و الأصل في معناه أخذ أحد الشيئين الآخر في جهة خلفه ثم اتسع فاستعمل في كل تغاير كائن بين شيئين.
يقال اختلفه أي جعله خلفه، و اختلف الناس في كذا ضد اتفقوا فيه، و اختلف الناس إليه أي ترددوا بالدخول عليه و الخروج من عنده فجعل بعضهم بعضا خلفه.
و المراد باختلاف الليل و النهار إما ورود كل منهما على الأرض خلف الآخر و هو توالي الليل و النهار الراسم للأسابيع و الشهور و السنين، و إما اختلاف كل من الليل و النهار في أغلب بقاع الأرض المسكونة فالليل و النهار يتساويان في الاعتدال الربيعي ثم يأخذ النهار في الزيادة في المناطق الشمالية فيزيد النهار كل يوم على النهار السابق عليه حتى يبلغ أول الصيف فيأخذ في النقيصة حتى يبلغ الاعتدال الخريفي و هو أول الخريف فيتساويان.
ثم يأخذ الليل في الزيادة على النهار إلى أول الشتاء و هو منتهى طول الليالي ثم يعود راجعا إلى التساوي حتى ينتهي إلى الاعتدال الربيعي و هو أول الربيع هذا في المناطق الشمالية و الأمر في المناطق الجنوبية بالخلاف منه فكلما زاد النهار طولا في أحد الجانبين زاد الليل طولا في الجانب الآخر بنفس النسبة.
و الاختلاف الأول بالليل و النهار هو الذي يدبر أمر أهل الأرض بتسليط حرارة الأشعة ثم بسط برد الظلمة و نشر الرياح و بعث الناس للحركة المعاشية ثم جمعهم للسكن و الراحة، قال تعالى: «و جعلنا نومكم سباتا و جعلنا الليل لباسا و جعلنا النهار معاشا:» النبأ: - 11.
و الاختلاف الثاني هو الذي يرسم الفصول الأربعة السنوية التي يدبر بها أمر الأقوات و الأرزاق كما قال تعالى: «و قدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين»: حم السجدة: - 10.
و النهار و اليوم مترادفان إلا أن في النهار - على ما قيل - فائدة اتساع الضياء و لعله لذلك لا يستعمل النهار إلا بعناية مقابلته الليل بخلاف اليوم فإنه يستعمل فيما لا عناية فيه بذلك كما في مورد الإحصاء يقال: عشرة أيام و عشرين يوما و هكذا، و لا يقال: عشرة نهارات و عشرين نهارا و هكذا.
و الآية تشتمل على حجة تامة على توحده تعالى في ربوبيته فإن اختلاف الليل و النهار و ما خلق الله في السماوات و الأرض يحمل نظاما واحدا عاما متقنا يدبر به أمر الموجودات الأرضية و السماوية و خاصة العالم الإنساني تدبيرا واحدا يتصل بعض أجزائه ببعض على أحسن ما يتصور.
و هو يكشف عن ربوبية واحدة ترب كل شيء و منه الإنسان فلا رب إلا الله سبحانه لا شريك له في ربوبيته.
و من المحتمل أن يكون قوله: «إن في اختلاف الليل و النهار» إلخ، في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة: «يفصل الآيات لقوم يعلمون» لمكان إن، و الأنسب على هذا أن يكون المراد باختلاف الليل و النهار تواليهما على الأرض دون الاختلاف بالمعنى الآخر فإن هذا المعنى من الاختلاف هو الذي يسبق إلى الذهن من قوله في الآية السابقة: «جعل الشمس ضياء و القمر نورا و قدره منازل» و هو ظاهر.
قوله تعالى: «إن الذين لا يرجون لقاءنا و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها» إلى آخر الآيتين.
شروع في بيان ما يتفرع على الدعوة السابقة المذكورة بقوله: «ذلكم الله ربكم فاعبدوه» من حيث عاقبة الأمر في استجابته و رده و طاعته و معصيته.
فبدأ سبحانه بالكافرين بهذا الأمر فقال: «إن الذين لا يرجون لقاءنا و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها و الذين هم عن آياتنا غافلون» فوصفهم أولا بعدم رجائهم لقاءه و هو الرجوع إلى الله بالبعث يوم القيامة و قد تقدم الكلام في وجه تسميته بلقاء الله في مواضع من هذا الكتاب و منها ما في تفسير آية الرؤية من سورة الأعراف فهؤلاء هم المنكرون ليوم الجزاء و بإنكاره يسقط الحساب و الجزاء فالوعد و الوعيد و الأمر و النهي، و بسقوطها يبطل الوحي و النبوة و ما يتفرع عليه من الدين السماوي.
و بإنكار البعث و المعاد ينعطف هم الإنسان على الحياة الدنيا فإن الإنسان و كذا كل موجود ذي حياة له هم فطري ضروري في بقائه و طلب لسعادة تلك الحياة فإن كان مؤمنا بحياة دائمة تسع الحياة الدنيوية و الأخروية معا فهو، و إن لم يذعن إلا بهذه الحياة المحدودة الدنيوية علقت همته الفطرية بها، و رضي بها و سكن بسببها عن طلب الآخرة، و هو المراد بقوله: «و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها».
و من هنا يظهر أن الوصف الثاني أعني قوله: «و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها» من لوازم الوصف الأول أعني قوله: «لا يرجون لقاءنا» و هو بمنزلة المفسر بالنسبة إليه، و أن الباء في قوله: «اطمأنوا بها» للسببية أي سكنوا بسببها عن طلب اللقاء و هو الآخرة.
و قوله: «و الذين هم عن آياتنا غافلون» في محل التفسير لما تقدمه من الوصف لمكان ما بينهما من التلازم فإن نسيان الآخرة و ذكر الدنيا لا ينفك عن الغفلة عن آيات الله.
و الآية قريبة المضمون من قوله تعالى: «فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله الآية: النجم - 30 حيث دل على أن الإعراض عن ذكر الله و هو الغفلة عن آياته يوجب قصر علم الإنسان في الحياة الدنيا و شئونها فلا يريد إلا الحياة الدنيا و هو الضلال عن سبيل الله، و قد عرف هذا الضلال بنسيان يوم الحساب في قوله: «إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب:» ص - 26.
فقد تبين أن إنكار اللقاء و نسيان يوم الحساب يوجب رضى الإنسان بالحياة الدنيا و الاطمئنان إليها من الآخرة و قصر العلم عليه و انحصار الطلب فيه، و إذ كان المدار على حقيقة الذكر و الطلب لم يكن فرق بين إنكاره و الرضى بالحياة الدنيا قولا و فعلا أو فعلا مع القول الخالي به.
و تبين أيضا أن الاعتقاد بالمعاد أحد الأصول التي يتقوم بها الدين إذ بسقوطه يسقط الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و النبوة و الوحي و هو بطلان الدين الإلهي من رأس.
و قوله: «أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون» بيان لجزائهم بالنار الخالدة قبال أعمالهم التي كسبوها.
قوله تعالى: «إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم» إلى آخر الآية، هذا بيان لعاقبة أمر المؤمنين و ما يثيبهم الله على استجابتهم لدعوته و طاعتهم لأمره.
ذكر سبحانه أنه يهديهم بإيمانهم، و إنما يهديهم إلى ربهم لأن الكلام في عاقبة أمر من يرجو لقاء الله، و قد قال تعالى: «و يهدي إليه من أناب:» الرعد: - 27.
فإنما يهدي الإيمان بإذن الله إلى الله سبحانه و كلما اهتدى المؤمنون إلى الحق أو إلى الصراط المستقيم أو غير ذلك مما يشتمل عليه كلامه فإنما هي وسائل و مدارج تنتهي بالآخرة إليه تعالى قال تعالى: «و إن إلى ربك المنتهى:» النجم: - 42.
و قد وصف المؤمنين بالإيمان و الأعمال الصالحة ثم نسب هدايتهم إليه إلى الإيمان وحده فإن الإيمان هو الذي يصعد بالعبد إلى مقام القرب، و ليس للعمل الصالح إلا إعانة الإيمان و إسعاده في عمله كما قال تعالى: «يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات:» المجادلة: - 11 حيث ذكر للرفع الإيمان و العلم و سكت عن العمل الصالح، و أوضحه منه في الدلالة قوله تعالى: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه:» فاطر: - 10.
هذا في الهداية التي هي شأن الإيمان، و أما نعم الجنة فإن للعمل الصالح دخلا فيها كما أن للعمل الطالح دخلا في أنواع العذاب و قد ذكر تعالى في المؤمنين قوله: «تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم» كما ذكر في الكافرين قوله: «أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون».
و ليتنبه الباحث المتدبر أنه تعالى ذكر لهؤلاء المهتدين بإيمانهم من مسكن القرب جنات النعيم، و من نعيمها الأنهار التي تجري من تحتهم فيها، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «صراط الذين أنعمت عليهم:» الحمد: - 7 و قوله: «فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم» الآية: النساء: - 69 أن النعيم بحقيقة معناه في القرآن الكريم هو الولاية الإلهية، و قد خص الله أولياءه المقربين بنوع من شراب الجنة اعتنى به في حقهم كما قال: «إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا:» الإنسان - 6، و قال أيضا «إن الأبرار لفي نعيم - إلى أن قال - يسقون من رحيق مختوم - إلى أن قال - عينا يشرب بها المقربون:» المطففين: - 28، و عليك بالتدبر في الآيات و تطبيق بعضها على بعض حتى ينجلي لك بعض ما أودعه الله سبحانه في كلامه من الأسرار اللطيفة.
قوله تعالى: «دعواهم فيها سبحانك اللهم و تحيتهم فيها سلام و ءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين» أول ما يكرم به الله سبحانه أولياءه - و هم الذين ليس في قلوبهم إلا الله و لا مدبر لأمرهم غيره - أنه يطهر قلوبهم عن محبة غيره فلا يحبون إلا الله فلا يتعلقون بشيء إلا الله و في الله سبحانه فهم ينزهونه عن كل شريك يجذب قلوبهم إلى نفسه عن ذكر الله سبحانه و عن أي شاغل يشغلهم عن ربهم.
و هذا تنزيه منهم لربهم عن كل ما لا يليق بساحة قدسه من شريك في الاسم أو في المعنى أو نقص أو عدم، و تسبيح منهم له لا في القول و اللفظ فقط بل قولا و فعلا و لسانا و جنانا، و ما دون ذلك فإن له شوبا من الشرك، و قد قال تعالى: «و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون:» يوسف - 106.
و هؤلاء الذين طهر الله قلوبهم عن قذارة حب غيره الشاغلة عن ذكره و ملأها بحبه فلا يريدون إلا إياه و هو سبحانه الخير الذي لا شر معه قال: «و الله خير:» طه: - 73.
فلا يواجهون بقلوبهم التي هي ملأى بالخير و السلام أحدا إلا بخير و سلام اللهم إلا أن يكون الذي واجهوه بقلوبهم هو الذي يبدل الخير و السلام شرا و ضرا كما أن القرآن شفاء لمن استشفى به لكنه لا يزيد الظالمين إلا خسارا.
ثم إن هذه القلوب الطاهرة لا تواجه شيئا من الأشياء إلا و هي تجده و تشاهده نعمة لله سبحانه حاكية لصفات جماله و معاني كماله واصفة لعظمته و جلاله فكلما وصفوا شيئا من الأشياء و هم يرونه نعمة من نعم الله و يشاهدون فيه جماله تعالى في أسمائه و صفاته و لا يغفلون و لا يسهون عن ربهم في شيء كان وصفهم لذلك الشيء وصفا منهم لربهم بالجميل من أفعاله و صفاته فيكون ثناء منهم عليه و حمدا منهم له فليس الحمد إلا الثناء على الجميل من الفعل الاختياري.
فهذا شأن أوليائه تعالى و هم قاطنون في دار العمل يجتهدون في يومهم لغد فإذا لقوا ربهم فوفى لهم بوعده و أدخلهم في رحمته و أسكنهم دار كرامته أتم لهم نورهم الذي كان خصهم به في الدنيا كما قال تعالى: «نورهم يسعى بين أيديهم و بأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا:» التحريم - 8.
فسقاهم شرابا طهورا يطهر به سرائرهم من كل شرك جلي و خفي، و غشيهم بنور العلم و اليقين، و أجرى من قلوبهم على ألسنتهم عيون التوحيد فنزهوا الله و سبحوه أولا و سلموا على رفقائهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين ثم حمدوا الله سبحانه و أثنوا عليه بأبلغ الحمد و أحسن الثناء.
و هذا هو الذي يقبل الانطباق عليه - و الله أعلم - قوله في الآيتين: «تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم» و فيه ذكر جنة الولاية و تطهير قلوبهم: «دعواهم فيها سبحانك اللهم» و فيه تنزيهه تعالى و تسبيحه عن كل نقص و حاجة و شريك تنزيها على وجه الحضور لأنهم غير محجوبين عن ربهم «و تحيتهم فيها سلام» و هو توسيم اللقاء بالأمن المطلق، و لا يوجد في غيرها من الأمن إلا اليسير النسبي «و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين» و فيه ذكر ثنائهم على الله بالجميل بعد تسبيحهم له و تنزيههم، و هذا آخر ما ينتهي إليه أهل الجنة في كمال العلم.
و قد قدمنا في تفسير قوله تعالى: «الحمد لله رب العالمين:» الحمد: - 2 أن الحمد توصيف، و لا يسع وصفه تعالى لأحد من خلقه إلا للمخلصين من عباده الذين أخلصهم لنفسه و خصهم بكرامة من القرب لا واسطة فيها بينهم و بينه قال تعالى: «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين:» الصافات: - 160.
و لذلك لم يحك في كلامه حمده إلا عن آحاد من كرام أنبيائه كنوح و إبراهيم و محمد و داود و سليمان (عليهما السلام) كقوله فيما أمر به نوحا: «فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين:» المؤمنون: - 28، و قوله حكاية عن إبراهيم: «الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق:» إبراهيم - 39، و قوله فيما أمر به محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) في عدة مواضع: «قل الحمد لله:» النمل - 93، و قوله حكاية عن داود و سليمان: «و قالا الحمد لله:» النمل: - 15.
و قد حكى سبحانه حمده عن أهل الجنة في عدة مواضع من كلامه كقوله: «و قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا:» الأعراف - 43، و قوله أيضا: «و قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن:» فاطر: - 34، و قوله أيضا: «و قالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده:» الزمر: - 74، و قوله في هذه الآية: «و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين».
و الآية تدل على أن الله سبحانه يلحق أهل الجنة من المؤمنين بالآخرة بعباده المخلصين ففيها وعد جميل و بشارة عظيمة للمؤمنين.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن يونس بن عبد الرحمن عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: «و بشر الذين آمنوا - أن لهم قدم صدق عند ربهم» الآية قال الولاية و في الكافي، بإسناده عن إبراهيم بن عمر اليماني عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: «و بشر الذين آمنوا - أن لهم قدم صدق عند ربهم» قال: هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أقول: و رواه القمي في تفسيره، مسندا و العياشي، في تفسيره مرسلا عن إبراهيم بن عمر عمن ذكره عنه (عليه السلام).
و الظاهر أن المراد به شفاعته (صلى الله عليه وآله وسلم).
و يدل على ذلك ما رواه الطبرسي في المجمع، حيث قال: قيل: قدم صدق شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): قال: و هو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و ما رواه في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن علي بن أبي طالب: في قوله: «قدم صدق عند ربهم» قال: محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) شفيع لهم يوم القيامة.
و في تفسير العياشي، عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن التسبيح قال: هو اسم من أسماء الله و دعوى أهل الجنة.
أقول: و مراده بالتسبيح قولنا سبحان الله و معنى اسميته دلالته على تنزيهه تعالى.
و في الإختصاص، بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في حديث طويل مع يهودي و قد سأله عن مسائل: قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا قال العبد: سبحان الله سبح كل شيء معه ما دون العرش فيعطى قائلها عشر أمثالها، و إذا قال: الحمد لله أنعم الله عليه بنعيم الدنيا حتى يلقاه بنعيم الآخرة، و هي الكلمة التي يقولها أهل الجنة إذا دخلوها، و الكلام ينقطع في الدنيا ما خلا الحمد لله، و ذلك قوله تحيتهم يوم يلقونه سلام.
أقول: و قوله: «و الكلام ينقطع في الدنيا ما خلا الحمد لله» أي جميع الكلام المستعمل في الدنيا لمقاصد تعود إلى مستعمله كالكلام المستعمل لمقاصد المعاش كجميع المحاورات الإنسانية و الكلام المستعمل في العبادات لغرض الثواب و نحو ذلك ينقطع بانقطاع الدنيا إذ لا خبر بعد ذلك عن هذه المقاصد الدنيوية، و لا يبقى بعدئذ إلا الحمد لله و الثناء عليه بالجميل و هو كلام أهل الجنة فيها.
و قوله: و ذلك قوله: «تحيتهم يوم يلقونه سلام» معناه أن كون التحية يومئذ هو السلام المطلق يدل على أن ليس هناك إلا موافقة كل شيء و ملائمته لما يريده الإنسان فكل ما يريده فهو له فلا يستعمل هناك كلام لتحصيل غاية من الغايات على حد الكلام الدنيوي إلا الثناء على جميل ما يشاهد منه تعالى فافهم ذلك.
|