بيان
لما فصل تعالى فيما قصة لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) قصص الأمم الغابرة و ما أداهم إليه شركهم و فسقهم و جحودهم لآيات الله و استكبارهم عن قبول الحق الذي كان يدعوهم إليه أنبياؤهم و ساقهم إلى الهلاك و عذاب الاستئصال ثم إلى عذاب النار الخالد في يوم مجموع له الناس، ثم لخص القول في أمرهم في الآيات السابقة.
أمر في هذه الآيات نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعتبر هو و من معه بذلك، و يستيقنوا أن الشرك بالله و الفساد في الأرض لا يهدي الإنسان إلا إلى الهلاك و البوار فعليهم أن يلزموا طريق العبودية و يمسكوا بالصبر و الصلاة و لا يركنوا إلى الذين ظلموا فتمسهم النار و ما لهم من دون الله من أولياء ثم لا ينصرون، و يعلموا أن كلمة الله هي العليا، و كلمة الذين كفروا السفلى و إن مهلتهم فيما يمهلهم الله ليس إلا لتحقيق كلمة الحق التي سبقت منه و ستتم بما يجازيهم به يوم القيامة.
قوله تعالى: «فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم» إلخ تفريع لما تقدم من تفصيل قصص الأمم الماضية التي ظلموا أنفسهم باتخاذ الشركاء و الفساد في الأرض فأخذهم الله بالعذاب، و المشار إليهم بقوله: «هؤلاء» هم قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قوله: «ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم» أي إنهم يعبدونها تقليدا كآبائهم فالآخرون يسلكون الطريق الذي سلكه الأولون من غير حجة، و المراد بنصيبهم ما هو حظهم قبال شركهم و فسقهم.
و قوله: «غير منقوص» حال من النصيب و فيه تأكيد لقوله: «لموفوهم» فإن التوفية تأدية حق الغير بالتمام و الكمال، و فيه إيئاس الكافرين من العفو الإلهي.
و معنى الآية: فإذا سمعت قصص الأولين و أنهم كانوا يعبدون آلهة من دون الله و يكذبون بآياته، و علمت سنة الله تعالى فيهم و أنها الهلاك في الدنيا و المصير إلى النار الخالدة في الآخرة لا تكن في شك و مرية من عبادة هؤلاء الذين هم قومك ما يعبدون إلا كعبادة آبائهم على التقليد من غير حجة و لا بينة، و إنا سنعطيهم ما هو نصيبهم من جزاء أعمالهم من غير أن ننقص من ذلك شيئا بشفاعة أو عفو كيفما كان.
و يمكن أن يكون المراد بآبائهم، الأمم الماضية الهالكة دون آباء العرب بعد إسماعيل مثلا و ذلك أن الله سماهم آباء لهم أولين كما في قوله: «أ فلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين»: المؤمنون: 68 و هذا أنسب و أحسن و المعنى - على هذا - فلا تكن في شك من عبادة قومك ما يعبد هؤلاء إلا كمثل عبادة أولئك الأمم الهالكة الذين هم آباؤهم، و لا شك أنا سنعطيهم حظهم من الجزاء كما فعلنا ذلك بآبائهم.
قوله تعالى: «و لقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم و إنهم لفي شك منه مريب» لما كانت هذه الآيات مسوقة للاعتبار بالقصص المذكورة في السورة، و كانت القصص نفسها سردت ليتعظ بها القوم و يقضوا بالحق في اتخاذهم شركاء لله سبحانه، و تكذيبهم بآيات الله و رمي القرآن بأنه افتراء على الله تعالى.
تعرض في هذه الآيات - المسوقة للاعتبار - لأمر اتخاذهم الآلهة و تكذيب القرآن فذكر تعالى أن عبادة القوم للشركاء كعبادة أسلافهم من الأمم الماضية لها و سينالهم العذاب كما نال أسلافهم و إن اختلافهم في كتاب الله كاختلاف أمة موسى (عليه السلام) فيما آتاه الله من الكتاب و أن الله سيقضي بينهم فيما اختلفوا فيه، فقوله: «و لقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه» إشارة إلى اختلاف اليهود في التوراة بعد موسى.
و قوله: «و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم» كرر سبحانه في كتابه ذكر أن اختلاف الناس في أمر الدنيا أمر فطروا عليها لكن اختلافهم في أمر الدين لا منشأ له إلا البغي بعد ما جاءهم العلم، قال تعالى: «و ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا»: يونس: 19 و قال: «و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم»: آل عمران: 19، و قال: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم»: البقرة: 213.
و قد قضى الله سبحانه أن يوفي الناس أجر ما عملوه و جزاء ما اكتسبوه، و كان مقتضاه أن يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه حينما اختلفوا لكنه تعالى قضى قضاء آخر أن يمتعهم في الأرض إلى يوم القيامة ليعمروا به الدنيا، و يكتسبوا في دنياهم لأخراهم كما قال: «و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين»: البقرة: 36، و مقتضى هذين القضاءين أن يؤخر القضاء بين المختلفين في دين الله و كتابه بغيا، إلى يوم القيامة.
فإن قلت: فما بال الأمم الماضية أهلكهم الله لظلمهم فهلا أخرهم إلى يوم القيامة لكلمة سبقت منه.
قلت: ليس منشأ إهلاكهم كفرهم و لا معاصيهم و بالجملة مجرد اختلافهم في أمر الدين حتى يعارضه القضاء الآخر و يؤخره إلى يوم القيامة، بل قضاء آخر ثالث يشير إليه قوله سبحانه: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون»: يونس: 47.
و بالجملة قوله: «و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم» يشير إلى أن اختلاف الناس في الكتاب ملتقى قضاءين من الله سبحانه يقتضي أحدهما الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، و يقتضي الآخر أن يمتعهم الله إلى يوم القيامة فلا يجازيهم بأعمالهم، و مقتضى ذلك كله أن يتأخر عذابهم إلى يوم القيامة.
و قوله: «و إنهم لفي شك منه مريب» الإرابة إلقاء الشك في القلب، فتوصيف الشك بالمريب من قبيل قوله: «ظلا ظليلا» و «حجابا مستورا» و «حجرا محجورا» و غير ذلك، و يفيد تأكدا لمعنى الشك.
و الظاهر أن مرجع الضمير في قوله: «و إنهم» أمة موسى و هم اليهود، و حق لهم أن يشكوا فيه فإن سند التوراة الحاضرة ينتهي إلى ما كتبه لهم رجل من كهنتهم يسمى عزراء عند ما أرادوا أن يرجعوا من بابل بعد انقضاء السبي إلى الأرض المقدسة، و قد أحرقت التوراة قبل ذلك بسنين عند إحراق الهيكل فانتهاء سندها إلى واحد يوجب الريب فيها طبعا و نظيرها الإنجيل من جهة سنده.
على أن التوراة الحاضرة يوجد فيها أشياء لا ترضى الفطرة الإنسانية أن تنسبها إلى كتاب سماوي و مقتضاه الشك فيها.
و أما إرجاع الضمير في قوله: «و إنهم» إلى مشركي العرب، و في قوله: «منه» إلى القرآن كما فعله بعض المفسرين فبعيد من الصواب لأن الله سبحانه قد أتم الحجة عليهم في صدر السورة أنه كتابه المنزل من عنده على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و تحدى بمثل قوله: «قل فأتوا بعشر سور من مثله مفتريات» و لا معنى مع ذلك لإسناد شك إليهم.
قوله تعالى: «و إن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير» لفظة إن هي المشبهة بالفعل و اسمها قوله: «كلا» منونا مقطوعا عن الإضافة و التقدير كلهم أي المختلفين، و خبرها قوله: «ليوفينهم» و اللام و النون لتأكيد الخبر، و قوله: «لما» مؤلف من لام تدل على القسم و ما مشددة تفصل بين اللامين، و تفيد مع ذلك تأكيدا، و جواب القسم محذوف يدل عليه خبر إن.
و المعنى - و الله أعلم - و إن كل هؤلاء المختلفين أقسم ليوفينهم و يعطينهم ربك أعمالهم أي جزاءها أنه بما يعملون من أعمال الخير و الشر خبير.
و نقل في روح المعاني، عن أبي حيان عن ابن الحاجب أن «لما» في الآية هي لما الجازمة و حذف مدخولها شائع في الاستعمال يقال: خرجت و لما، و سافرت و لما.
ثم قال: و الأولى على هذا أن يقدر: لما يوفوها أي و إن كلا منها لما يوفوا أعمالهم ليوفينهم ربك إياها.
و هذا وجه وجيه.
و لأهل التفسير في مفردات الآية و نظمها أبحاث أدبية طويلة لا يهمنا منها أزيد مما أوردناه، و من شاء الوقوف عليها فليراجع مطولات التفاسير.
قوله تعالى: «فاستقم كما أمرت و من تاب معك و لا تطغوا إنه بما تعملون بصير» يقال: قام كذا و ثبت و ركز بمعنى واحد كما ذكره الراغب و غيره، و الظاهر أن الأصل المأخوذ به في ذلك قيام الإنسان و ذلك أن الإنسان في سائر حالاته و أوضاعه غير القيام كالقعود و الانبطاح و الجثو و الاستلقاء و الانكباب لا يقوى على جميع ما يرومه من الأعمال كالقبض و البسط و الأخذ و الرد و سائر ما الإنسان مهيمن عليه بالطبع لكنه إذا قام على ساقه قياما كان على أعدل حالاته الذي يسلطه على عامة أعماله من ثبات و حركة و أخذ و رد و إعطاء و منع و جلب و دفع، و ثبت مهيمنا على ما عنده من القوى و أفعالها، فقيام الإنسان يمثل شخصيته الإنسانية بما له من الشئون.
ثم استعير في كل شيء لأعدل حالاته الذي يسلط معه على آثاره و أعماله فقيام العمود أن يثبت على طوله و قيام الشجر أن يركز على ساقه متعرقا بأصله في الأرض، و قيام الإناء المحتوي على مائع أن يقف على قاعدته فلا يهراق ما فيه و قيام العدل أن ينبسط على الأرض، و قيام السنة و القانون أن تجري في البلاد.
و الإقامة جعل الشيء قائما أي جعله بحال يترتب عليه جميع آثاره بحيث لا يفقد شيئا منها كإقامة العدل و إقامة السنة و إقامة الصلاة و إقامة الشهادة، و إقامة الحدود، و إقامة الدين و نحو ذلك.
و الاستقامة طلب القيام من الشيء و استدعاء ظهور عامة آثاره و منافعه فاستقامة الطريق اتصافه بما يقصد من الطريق كالاستواء و الوضوح و عدم إضلاله من ركبه، و استقامة الإنسان في أمر أن يطلب من نفسه القيام به و إصلاحه بحيث لا يتطرق إليه فساد و لا نقص، و يأتي تاما كاملا، قال تعالى: «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه»: حم السجدة: 6 أي قوموا بحق توحيده في ألوهيته، و قال: «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا»: حم السجدة: 30 أي ثبتوا على ما قالوا في جميع شئون حياتهم لا يركنون في عقائدهم و أخلاقهم و أعمالهم إلا إلى ما يوافق التوحيد و يلائمه أي يراعونه و يحفظونه في عامة ما يواجههم في باطنهم و ظاهرهم.
و قال: «فأقم وجهك للدين حنيفا»: الروم: 30 فإن المراد بإقامة الوجه إقامة النفس من حيث تستقبل العمل و تواجهه، و إقامة الإنسان نفسه في أمر هي استقامته فيه فافهم.
فقوله: «فاستقم كما أمرت» أي كن ثابتا على الدين موفيا حقه طبق ما أمرت بالاستقامة، و قد أمر به في قوله: «و أن أقم وجهك للدين حنيفا و لا تكونن من المشركين»: يونس: 105، و قوله: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون»: الروم: 30.
قال في روح المعاني،: أمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاستقامة مثل الاستقامة التي أمر بها و هذا يقتضي أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بوحي آخر و لو غير متلو كما قاله غير واحد، و الظاهر أن هذا أمر بالدوام على الاستقامة، و هي لزوم المنهج المستقيم و هو المتوسط بين الإفراط و التفريط، و هي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم و العمل و سائر الأخلاق.
انتهى.
أما احتماله أن يكون هناك وحي آخر غير متلو يشير إليه قوله تعالى: «كما أمرت» أي استقم كما أمرت سابقا بالاستقامة فبعيد عن سنة القرآن و حاشا أن يعتمد بالبيان القرآني على أمر مجهول أو أصل مستور غير مذكور، و قد عرفت أن الإشارة بذلك على ما أمره الله به من إقامة وجهه للدين حنيفا، و إقامة الوجه للدين هو الاستقامة في الدين، و قد ورد قوله: «أقم وجهك للدين» - كما عرفت - في سورتين كلتاهما مكيتان، و سورة يونس التي هي إحداهما نازلة قبل هذه السورة قطعا و إن لم يسلم ذلك في السورة الأخرى التي هي سورة الروم.
و أما قوله: «إن المراد بقوله: «استقم» الدوام على الاستقامة و هي لزوم المنهج المستقيم المتوسط بين الإفراط و التفريط فقد عرفت أن معنى استقامة الإنسان في أمر ثبوته على حفظه و توفية حقه بتمامه و كماله، و استقامة الإنسان مطلقا ركوزه و ثبوته لما يرد عليه من الوظائف بتمام قواه و أركانه بحيث لا يترك شيئا من قدرته و استطاعته لغى لا أثر له.
و لو كان المراد بالأمر بالاستقامة هو الأمر بلزوم الاعتدال بين الإفراط و التفريط لكان الأنسب أن يردف هذا الأمر بالنهي عن الإفراط و التفريط معا مع أنه تعالى عقبه بقوله: «و لا تطغوا» فنهى عن الإفراط فقط، و هو بمنزلة عطف التفسير لقوله: «فاستقم كما أمرت و من تاب معك» و هذا أحسن شاهد على أن المراد بقوله: «فاستقم» إلخ الأمر بإظهار الثبات على العبودية و لزوم القيام بحقها، ثم نهى عن تعدي هذا الطور و الاستكبار عن الخضوع لله و الخروج بذلك عن زي العبودية فقيل: «و لا تطغوا» كما فعل ذلك الأمم الماضية، و لم يكونوا مبتلين إلا بالإفراط دون التفريط و الاستكبار دون التذلل.
و قوله: «و من تاب معك» عطف على الضمير المستكن في «استقم» أي استقم أنت و من تاب معك أي استقيموا جميعا و إنما أخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بينهم و أفرده بالذكر معهم تشريفا لمقام النبوة، و على ذلك تجري سنته تعالى في كلامه كقوله تعالى: «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون»: البقرة: 285 و قوله: «يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه»: التحريم: 8.
على أن الأمر الذي تقيد به قوله: «فاستقم» أعني قوله: «كما أمرت» يختص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا يشاركه فيه غيره فإن ما ذكر من مثل قوله: «فأقم وجهك للدين» «إلخ» خاص به فلو قيل: فاستقيموا لم يصح تقييده بالأمر السابق.
و المراد بمن تاب مع النبي المؤمنون الذين رجعوا إلى الله بالإيمان و إطلاق التوبة على أصل الإيمان - و هو رجوع من الشرك - كثير الورود في القرآن كقوله تعالى: «و يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة و علما فاغفر للذين تابوا و اتبعوا سبيلك»: المؤمن: 7 إلى غير ذلك.
و قوله: «و لا تطغوا» أي لا تتجاوزوا حدكم الذي خطته لكم الفطرة و الخلقة و هو العبودية لله وحده كما تجاوزه الذين قبلكم فأفضاهم إلى الشرك و ساقهم إلى الهلكة، و الظاهر أن الطغيان بهذا المعنى مأخوذ من طغى الماء إذا جاوز حده، ثم استعير لهذا الأمر المعنوي الذي هو طغيان الإنسان في حياته لتشابه الأثر و هو الفساد.
و قوله: «إنه بما تعملون بصير» تعليل لمضمون ما تقدمه، و معنى الآية اثبت على دين التوحيد و الزم طريق العبودية من غير تزلزل و تذبذب، و ليثبت الذين آمنوا معك، و لا تتعدوا الحد الذي حد لكم لأن الله بصير بما تعملون فيؤاخذكم لو خالفتم أمره.
و في الآية الكريمة من لحن التشديد ما لا يخفى فلا يحس فيها بشيء من آثار الرحمة و أمارات الملاطفة و قد تقدمها من الآيات ما يتضمن من حديث مؤاخذة الأمم الماضية و القرون الخالية بأعمالهم و استغناء الله سبحانه عنهم ما تصعق له النفوس و تطير القلوب.
غير ما في قوله: «فاستقم كما أمرت» من أفراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالذكر و إخراجه من بين المؤمنين تشريفا لمقامه لكن ذلك يفيد بلوغ التشديد في حقه فإن تخصيصه قبلا بالذكر يوجب توجه هول الخطاب و روع التكليم من مقام العزة و الكبرياء إليه وحده عدل ما يتوجه إلى جميع الأمة إلى يوم القيامة كما وقع نظير التشديد في قوله تعالى: «و لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة و ضعف المماة»: إسراء: 75.
و لذلك ذكر أكثر المفسرين أن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «شيبتني سورة هود» ناظر إلى هذه الآية، و سيوافيك الكلام فيه في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار و ما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون» قال في الصحاح،: ركن إليه كنصر، ركونا: مال و سكن، و الركن بالضم الجانب الأقوى.
و الأمر العظيم و العز و المنعة انتهى و عن لسان العرب، مثله، و عن المصباح، أن الركون هو الاعتماد على الشيء.
و قال الراغب:، ركن الشيء جانبه الذي يسكن إليه، و يستعار للقوة، قال تعالى: «لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد» و ركنت إلى فلان أركن بالفتح و الصحيح أن يقال: ركن يركن - كنصر - و ركن يركن كعلم - قال تعالى: «و لا تركنوا إلى الذين ظلموا» و ناقة مركنة الضرع له أركان تعظمه و المركن الإجابة، و أركان العبادات جوانبها التي عليها مبناها، و بتركها بطلانها.
انتهى و هذا قريب مما ذكره في المصباح،.
و الحق أنه الاعتماد على الشيء عن ميل إليه لا مجرد الاعتماد فحسب و لذلك عدي بإلى لا بعلى و ما ذكره أهل اللغة تفسير له بالأعم من معناه على ما هو دأبهم.
فالركون إلى الذين ظلموا هو نوع اعتماد عليهم عن ميل إليهم إما في نفس الدين كأن يذكر بعض حقائقه بحيث ينتفعون به أو يغمض عن بعض حقائقه التي يضرهم إفشاؤها و إما في حياة دينية كان يسمح لهم بنوع من المداخلة في إدارة أمور المجتمع الديني بولاية الأمور العامة أو المودة التي تقضي إلى المخالطة و التأثير في شئون المجتمع أو الفرد الحيوية.
و بالجملة الاقتراب في أمر الدين أو الحياة الدينية من الذين ظلموا بنوع من الاعتماد و الاتكاء يخرج الدين أو الحياة الدينية عن الاستقلال في التأثير و يغيرهما عن الوجهة الخالصة، و لازم ذلك السلوك إلى الحق من طريق الباطل أو إحياء حق بإحياء باطل و بالآخرة إماتة الحق لإحيائه.
و الدليل على هذا الذي ذكرنا أنه تعالى جمع في خطابه في هذه الآية الذي هو من تتمة الخطاب في الآية السابقة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين المؤمنين من أمته، و الشئون التي له و لأمته هي المعارف الدينية و الأخلاق و السنن الإسلامية في تبليغها و حفظها و إجرائها و الحياة الاجتماعية بما يطابقها، و ولاية أمور المجتمع الإسلامي، و انتحال الفرد بالدين و استنانه بسنة الحياة الدينية فليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا لأمته أن يركنوا في شيء من ذلك إلى الذين ظلموا.
على أن من المعلوم أن هاتين الآيتين كالنتيجة المأخوذة من قصص القرى الظالمة التي أخذهم الله بظلمهم و هما متفرعتان عليها ناظرتان إليها، و لم يكن ظلم هؤلاء الأمم الهالكة في شركهم بالله تعالى و عبادة الأصنام فحسب بل كان مما ذمه الله من فعالهم اتباع الظالمين و الفساد في الأرض بعد إصلاحها و هو الاستنان بالسنن الظالمة التي يقيمها الولاة الجائرون، و يستن بها الناس و هم بذلك ظالمون.
و من المعلوم أيضا من السياق أن الآيتين مترتبتان في غرضهما فالأولى تنهى عن أن يكونوا من أولئك الذين ظلموا، و الثانية تنهى أن يقتربوا منهم و يميلوا إليهم و يعتمدوا في حقهم على باطلهم فقوله: «لا تركنوا إلى الذين ظلموا» نهي عن الميل إليهم و الاعتماد عليهم و البناء على باطلهم في أمر أصل الدين و الحياة الدينية جميعا.
و وقوع الآيتين موقع النتيجة المتفرعة على ما تقدم من القصص المذكورة يفيد أن المراد بالذين ظلموا في الآية ليس من تحقق منه الظلم تحققا ما و إلا لعم جميع الناس إلا أهل العصمة و لم يبق للنهي حينئذ معنى، و ليس المراد بالذين ظلموا الظالمين أي المتلبسين بهذا الوصف المستمرين في ظلمهم فإن لإفادة الفعل الدال على مجرد التحقق معنى الصفة الدالة على التلبس و الاستمرار أسبابا لا يوجد في المقام منها شيء و لا دلالة لشيء على شيء جزافا.
بل المراد بالذين ظلموا أناس حالهم في الظلم حال أولئك الذين قصهم الله في الآيات السابقة من الأمم الهالكة، و كان الشأن في قصتهم أنه تعالى أخذ الناس جملة واحدة في قبال الدعوة الإلهية المتوجهة إليهم ثم قسمهم إلى من قبلها منهم و إلى من ردها ثم عبر عمن قبلها بالذين آمنوا في بضعة مواضع من القصص المذكورة و عمن ردها بالذين ظلموا و ما يقرب منه في أكثر من عشر مواضع كقوله: «و لا تخاطبني في الذين ظلموا» و قوله: «و أخذت الذين ظلموا الصيحة» و قوله: «و تلك عاد جحدوا بآيات ربهم و عصوا رسله و اتبعوا أمر كل جبار عنيد» و قوله: «ألا إن ثمود كفروا ربهم» و قوله: «ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود» إلى غير ذلك.
فقد عبر سبحانه عن ردهم و قبولهم قبال الدعوة الإلهية و بالقياس إليها بالفعل الماضي الدال على مجرد التحقق و الوقوع، و أما في الخارج من مقام القياس و النسبة فإن التعبير بالصفة كقوله: «و قيل بعدا للقوم الظالمين» و قوله: «و ما هي من الظالمين» و قوله: «و لا تتولوا مجرمين» إلى غير ذلك و هو كثير.
و مقتضى مقام القياس و النسبة إلى الدعوة قبولا و ردا أن يكتفي بمجرد الوقوع و التحقق، و يبين أنهم وسموا بإحدى السمتين: الإيمان أو الظلم، و لا حاجة إلى ذكر الاتصاف و الاستمرار بالتلبس فمفاد قوله: ظلموا و عصوا و اتبعوا أمر فرعون أنهم وسموا بسمة الظلم و العصيان و اتباع أمر فرعون، و معنى نجينا الذين آمنوا نجينا الذين اتسموا بسمة الإيمان و تعلموا بعلامته.
فكان التعبير بالماضي كافيا في إفادة أصل الاتسام المذكور و إن كان مما يلزمه الاتصاف، و بعبارة أخرى الذين ظلموا من قوم نوح صاروا بذلك ظالمين لكن العناية إنما تعلقت بحسب المقام بتحقق الظلم منهم لا بصيرورته وصفا لهم لا يفارقهم بعد ذلك، و لذا ترى أنه كلما خرج الكلام عن مقام القياس و النسبة بوجه عاد إلى التعبير بالصفة كقوله: «بعدا للقوم الظالمين» و قوله: «و لا تكن مع الكافرين» فافهم ذلك.
و من هنا يظهر ما في تفسير القوم قوله: «الذين ظلموا» حيث أخذه بعضهم دالا على مجرد تحقق ظلم ما، و آخرون بمعنى الوصف أي لا تركنوا إلى الظالمين، قال صاحب المنار في تفسيره،: فسر الزمخشري «الذين ظلموا» بقوله: أي إلى الذين وجد منهم الظلم و لم يقل: إلى الظالمين، و حكى أن الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له، فقال؟ هذا فيمن ركن إلى ظلم فكيف بالظالم انتهى.
و معنى هذا أن الوعيد في الآية يشمل من مال ميلا يسيرا إلى من وقع منه ظلم قليل أي ظلم كان، و هذا غلط أيضا و إنما المراد بالذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم و يفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه فهم كالذين كفروا في الآيات الكثيرة التي يراد بها فريق الكافرين لا كل فرد من الناس وقع منه كفر في الماضي و حسبك منه قوله تعالى: «إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون»: البقرة: 6، و المخاطبون بالنهي هم المخاطبون في الآية السابقة بقوله: «فاستقم كما أمرت و من تاب معك».
و قد عبر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالذين ظلموا كما عبر عن أقوام الرسل الأولين في قصصهم من هذه السورة به في الآيات 37، 67، 94، و عبر عنهم فيها بالظالمين أيضا كقوله: «و قيل بعدا للقوم الظالمين» فلا فرق في هذه الآيات بين التعبير بالوصف و التعبير بالذي و صلته فإنهما في الكلام عن الأقوام بمعنى واحد - انتهى.
أما قول صاحب الكشاف: «إن المراد بالذين ظلموا» الذين وجد منهم الظلم و لم يقل: «إلى الظالمين» فهو كذلك لكنه لا ينفعه فإن التعبير بالفعل في ما قررناه من المقام و إن كان لا يفيد أزيد من تحقق المعنى الحدثي و وقوعه لكنه ينطبق على معنى الوصف كما في قوله تعالى: «فأما من طغى و آثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى و أما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى»: النازعات: 41 حيث عبر بالفعل و هو منطبق على معنى الصفة.
و أما قول صاحب المنار: «إنما المراد بالذين ظلموا في الآية فريق الظالمين من أعداء المؤمنين الذين يؤذونهم و يفتنونهم عن دينهم من المشركين ليردوهم عنه» فتحكم محض، و أي دليل يدل على قصور الآية عن الشمول للظالمين من أهل الكتاب و قد ذكرهم الله أخيرا في زمرة الظالمين باختلافهم في كتاب الله بغيا، و قد نهى الله عن ولايتهم و شدد فيه حتى قال: «و من يتولهم منكم فإنه منهم»: المائدة: 51، و قال في ولاية مطلق الكافرين، «و من يفعل ذلك فليس من الله في شيء»: آل عمران: 28.
و أي مانع يمنع الآية أن تشمل الظالمين من هذه الأمة و فيهم من هو أشقى من جبابرة عاد و ثمود و أطغى من فرعون و هامان و قارون.
و مجرد كون الإسلام عند نزول السورة مبتلى بقريش و مشركي مكة و حواليها لا يوجب تخصيصا في اللفظ فإن خصوص المورد لا يخصص عموم اللفظ فالآية تنهى عن الركون إلى كل من اتسم بسمة الظلم، أي من كان مشركا أو موحدا مسلما أو من أهل الكتاب.
و أما قوله: إن المراد بقوله: «إن الذين كفروا سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون» المعنى الوصفي و إن كان فعلا أي الكافرون لا كل فرد من الناس وقع من كفر في الماضي.
ففيه أنا بينا في الكلام على تلك الآية و في مواضع أخرى تقدمت في الكتاب أن الآية خاصة بالكفار من صناديد قريش الذين شاقوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بادىء أمره حتى كفاه الله إياهم و أفناهم ببدر و غيره، و أنهم المسمون بالذين كفروا.
و ليست الآية عامة، و لو كانت الآية عامة و كان المراد بالذين كفروا هم الكافرين كما قاله لم تصدق الآية فيما تخبر به فما أكثر من آمن من الكافرين حتى من كفار مكة بعد نزول هذه الآية.
و لو قيل: إن المراد بهم الذين لم يؤمنوا إلى آخر عمرهم لم تفد الآية شيئا إذ لا معنى لقولنا: إن الكافرين الذين لا يؤمنون إلى آخر عمرهم لا يؤمنون فلا مناص من أخذها آية خاصة غير عامة، و كون المراد بالذين كفروا طائفة خاصة بأعيانهم.
و قد ذكرنا فيما تقدم أن «الذين آمنوا» أيضا فيما لا دليل في المورد يدل على خلافه اسم تشريفي لمن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول دعوته الحقة، و بهم تختص خطابات «يا أيها الذين آمنوا» في القرآن و إن شاركهم غيرهم في الأحكام.
و أما قوله في آخر كلامه: و قد عبر عن هؤلاء الأعداء المشركين بالذين ظلموا كما عبر عن أقوام الرسل الأولين في قصصهم من هذه السورة به و عبر عنهم فيها بالظالمين أيضا فلا فرق بين التعبيرين «إلخ» و محصله أن التعبير عنهم تارة بالذين ظلموا و تارة بالظالمين دليل على أن المراد بالكلمتين واحد.
ففيه أنه خفي عليه وجه العناية الكلامية الذي تقدمت الإشارة إليه و اتحاد مصداق اللفظتين لا يوجب وحدة العناية المتعلقة بهما.
فالمحصل من مضمون الآية نهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمته عن الركون إلى من اتسم بسمة الظلم بأن يميلوا إليهم و يعتمدوا على ظلمهم في أمر دينهم أو حياتهم الدينية فهذا هو المراد بقوله: «و لا تركنوا إلى الذين ظلموا».
و قوله: «فتمسكم النار» تفريع على الركون أي عاقبة الركون هو مس النار، و قد جعلت عاقبة الركون إلى ظلم أهل الظلم مس النار و عاقبة نفس الظلم النار، و هذا هو الفرق بين الاقتراب من الظلم و التلبس بالظلم نفسه.
و قوله: «و ما لكم من دون الله من أولياء» في موضع الحال من مفعول «فتمسكم» أي تمسكم النار في حال ليس لكم فيها من دون الله من أولياء و هو يوم القيامة الذي يفقد فيه الإنسان جميع أوليائه من دون الله.
أو حال الركون إن كان المراد بالنار العذاب، و المراد بقوله: «ثم لا تنصرون» نفي الشفاعة على الأول و الخذلان الإلهي على الثاني.
و التعبير بثم في قوله: «ثم لا تنصرون» للدلالة على اختتام الأمر على ذلك بالخيبة و الخذلان كأنه قيل: تمسكم النار و ليس لكم إلا الله فتدعونه فلا يجيبكم و تستنصرونه فلا ينصركم فيئول أمركم إلى الخسران و الخيبة و الخذلان.
و قد تحصل مما تقدم من الأبحاث في الآية أمور: الأول: أن المنهي عنه في الآية إنما هو الركون إلى أهل الظلم في أمر الدين أو الحياة الدينية كالسكوت في بيان حقائق الدين عن أمور يضرهم أو ترك فعل ما لا يرتضونه أو توليتهم المجتمع و تقليدهم الأمور العامة أو إجراء الأمور الدينية بأيدهم و قوتهم و أشباه ذلك.
و أما الركون و الاعتماد عليهم في عشرة أو معاملة من بيع و شرى و الثقة بهم و ائتمانهم في بعض الأمور فإن ذلك كله غير مشمول للنهي الذي في الآية لأنها ليست بركون في دين أو حياة دينية، و قد وثق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند ما خرج من مكة ليلا إلى الغار برجل مشرك استأجر منه راحلة للطريق و ائتمنه ليوافيه بها في الغار بعد ثلاثة أيام و كان يعامل هو و كذا المسلمون بمرأى و مسمع منه الكفار و المشركين.
الثاني: أن الركون المنهي عنه في الآية أخص من الولاية المنهي عنها في آيات أخرى كثيرة فإن الولاية هي الاقتراب منهم بحيث يجعل المسلمين في معرض التأثر من دينهم أو أخلاقهم أو السنن الظالمة الجارية في مجتمعاتهم و هم أعداء الدين، و أما الركون إليهم فهو بناء الدين أو الحياة الدينية على ظلمهم فهو أخص من الولاية موردا أي أن كل مورد فيه ركون ففيه ولاية من غير عكس كلي، و بروز الأثر في الركون بالفعل و في الولاية أعم مما يكون بالفعل.
و يظهر من جمع من المفسرين أن الركون المنهي عنه في الآية هو الولاية المنهي عنها في آيات أخر.
قال صاحب المنار في تفسيره، بعد ما نقل عن الزمخشري قوله: إن النهي في الآية متناول للانحطاط في هواهم و الانقطاع إليهم و مصاحبتهم و مجالستهم و زيارتهم و مداهنتهم و الرضا بأعمالهم، و التشبه بهم و التزيي بزيهم، و مد العين إلى زهرتهم، و ذكرهم بما فيه تعظيم لهم، و تأمل قوله: «و لا تركنوا» فإن الركون هو الميل اليسير، و قوله: «إلى الذين ظلموا» أي إلى الذين وجد منهم الظلم، و لم يقل: إلى الظالمين.
انتهى.
أقول: كل ما أدغمه في النهي عن الركون إلى الذين ظلموا قبيح في نفسه لا ينبغي للمؤمن اجتراحه، و قد يكون من لوازم الركون الحقيرة و لكن لا يصح أن يجعل شيء منه تفسيرا للآية مرادا منها، و المخاطب الأول بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و السابقون الأولون إلى التوبة من الشرك و الإيمان معه، و لم يكن أحد منهم مظنة للانقطاع بظلمة المشركين، و الانحطاط في هواهم، و الرضا بأعمالهم.
إلى آخر ما أطنب فيه.
و قد ناقض فيه نفسه أولا حيث اعترف بكون بعض الأمور المذكورة من لوازم الركون لكنه استحقرها و نفى شمول الآية لها، و المعصية كلها عظيمة لا يستهان بها غير أن أكثر المفسرين هذا دأبهم لا ينقبضون عن نسبة بعض المساهلات إلى بيانه تعالى.
و أفسد من ذلك قوله: إن المخاطب الأول بهذا النهي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و السابقون الأولون و لم يكونوا مظنة للانقطاع إلى ظلمة المشركين و الانحطاط في هواهم و الرضا بأعمالهم إلخ فإن فيه أولا: أن الخطاب خطاب واحد موجه إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) و إلى أمته، و لا أول فيه و لا ثاني، و تقدم بعض المخاطبين على بعض زمانا لا يوجب قصور الخطاب عن شمول بعض ما في اللاحقين مما ليس في السابقين إذا شمله اللفظ.
و ثانيا: أن عدم كون المخاطب مظنة للمعصية لا يمنع من توجيه النهي إليه و خاصة النواهي الصادرة عن مقام التشريع و إنما يمنع عن تأكيده و الإلحاح عليه و قد نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عما هو أعظم من الركون إلى الذين ظلموا كالشرك بالله و عن ترك تبليغ بعض أوامره و نواهيه، قال تعالى: «و لقد أوحي إليك و إلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين»: الزمر: 65، و قال: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته»: المائدة: 67، و قال: «يا أيها النبي اتق الله و لا تطع الكافرين و المنافقين إن الله كان عليما حكيما و اتبع ما يوحى إليك من ربك»: الأحزاب: 2 و لا يظن به (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشرك بربه البتة، و لا أن لا يبلغ ما أنزل إليه من ربه أو يطيع الكافرين و المنافقين أو لا يتبع ما يوحى إليه من ربه إلى غير ذلك من النواهي.
و كذا السابقون الأولون نهوا عن أمور هي أعظم من الركون المذكور أو مثله كقوله: «و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة» نزلت في أهل بدر و فيهم السابقون الأولون و قد وصف بعضهم بقوله: «الذين ظلموا» و هو أشد لحنا من قوله: «و لا تركنوا إلى الذين ظلموا»، و كعدة من النواهي الواردة في كلامه في قصص بدر و أحد و حنين، و النواهي الموجهة إلى نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكل ذلك مما لم يكن يظن بالسابقين الأولين أن يبتلوا به على أن بعضهم ابتلي ببعضها بعد.
الثالث: أن الآية بما لها من السياق المؤيد بإشعار المقام إنما تنهى عن الركون إلى الذين ظلموا فيما هم فيه ظالمون أي بناء المسلمين دينهم الحق أو حياتهم الدينية على شيء من ظلمهم و هو أن يراعوا في قولهم الحق و عملهم الحق جانب ظلمهم و باطلهم حتى يكون في ذلك إحياء للحق بسبب إحياء الباطل، و مآله إلى إحياء حق بإماتة حق آخر كما تقدمت الإشارة إليه.
و أما الميل إلى شيء من ظلمهم و إدخاله في الدين أو إجراؤه في المجتمع الإسلامي أو في ظرف الحياة الشخصية فليس من الركون إلى الظالمين بل هو دخول في زمرة الظالمين.
و قد اختلط هذا الأمر على كثير من المفسرين فأوردوا في المقام أبحاثا لا تمس الآية أدنى مس، و قد أغمضنا عن إيرادها و البحث في صحتها و سقمها إيثارا للاختصار و من أراد الوقوف عليها فليراجع تفاسيرهم.
قوله تعالى: «و أقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات» إلخ، طرفا النهار هو الصباح و المساء و الزلف جمع زلفى كقرب جمع قربى لفظا و معنى على ما قيل، و هو وصف ساد مسد موصوفه كالساعات و نحوها، و التقدير و ساعات من الليل أقرب من النهار.
و المعنى أقم الصلاة في الصباح و المساء و في ساعات من الليل هي أقرب من النهار، و ينطبق من الصلوات الخمس اليومية على صلاة الصبح و العصر و هي صلاة المساء و المغرب و العشاء الآخرة، وقتهما زلف من الليل كما قاله بعضهم، أو على الصبح و المغرب و وقتهما طرفا النهار و العشاء الآخرة و وقتها زلف من الليل كما قاله آخرون، و قيل غير ذلك.
لكن البحث لما كان فقهيا كان المتبع فيه ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل بيته (عليهم السلام) من البيان، و سيجيء في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
و قوله: «إن الحسنات يذهبن السيئات» تعليل لقوله: «و أقم الصلاة» و بيان أن الصلوات حسنات واردة على نفوس المؤمنين تذهب بآثار المعاصي و هي ما تعتريها من السيئات، و قد تقدم كلام في هذا الباب في مسألة الحبط في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
و قوله: «ذلك ذكرى للذاكرين» أي هذا الذي ذكر و هو أن الحسنات يذهبن السيئات على رفعة قدرة تذكار للمتلبسين بذكر الله تعالى من عباده.
قوله تعالى: «و اصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين» ثم أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر بعد ما أمره بالصلاة كما جمع بينهما في قوله: «و استعينوا بالصبر و الصلاة»: البقرة: 45 و ذلك أن كلا منهما في بابه من أعظم الأركان أعني الصلاة في العبادات، و الصبر في الأخلاق و قد قال تعالى في الصلاة: «و لذكر الله أكبر»: العنكبوت: 45 و قال في الصبر: «إن ذلك لمن عزم الأمور»: الشورى: 43.
و اجتماعهما أحسن وسيلة يستعان بها على النوائب و المكاره فالصبر يحفظ النفس عن القلق و الجزع و الانهزام، و الصلاة توجهها إلى ناحية الرب تعالى فتنسى ما تلقاه من المكاره، و قد تقدم بيان في ذلك في تفسير الآية 45 من سورة البقرة في الجزء الأول من الكتاب.
و إطلاق الأمر بالصبر يعطي أن المراد به الأعم من الصبر على العبادة و الصبر عن المعصية و الصبر عند النائبة، و على هذا يكون أمرا بالصبر على جميع ما تقدم من الأوامر و النواهي أعني قوله: «فاستقم» «و لا تطغوا» «و لا تركنوا» «و أقم الصلاة».
لكن أفراد الأمر و تخصيصه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يفيد أنه صبر في أمر يختص به و إلا قيل: و «اصبروا» جريا على السياق، و هذا يؤيد قول من قال: إن المراد اصبر على أذى قومك في طريق دعوتك إلى الله سبحانه و ظلم الظالمين منهم، و أما قوله: «و أقم الصلاة» فإنه ليس أمرا بما يخصه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصلاة بل أمر بإقامته الصلاة بمن تبعه من المؤمنين جماعة فهو أمر لهم جميعا بالصلاة فافهم ذلك.
و قوله: «فإن الله لا يضيع أجر المحسنين» تعليل للأمر بالصبر.
قوله تعالى: «فلو لا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض» إلخ لو لا بمعنى هلا و إلا يفيد التعجيب و التوبيخ، و المعنى هلا كان من القرون التي كانت من قبلكم و قد أفنيناها بالعذاب و الهلاك أولوا بقية أي قوم باقون ينهون عن الفساد في الأرض ليصلحوا بذلك فيها و يحفظوا أمتهم من الاستئصال.
و قوله: «إلا قليلا ممن أنجينا منهم» استثناء من معنى النفي في الجملة السابقة فإن المعنى: من العجب أنه لم يكن من القرون الماضية مع ما رأوا من آيات الله و شاهدوا من عذابه بقايا ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا من العذاب و الهلاك منهم فإنهم كانوا ينهون عن الفساد.
و قوله: «و اتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه و كانوا مجرمين» بيان حال الباقي منهم بعد الاستثناء و هم أكثرهم و عرفهم بأنهم الذين ظلموا و بين أنهم اتبعوا لذائذ الدنيا التي أترفوا فيها و كانوا مجرمين.
و قد تحصل بهذا الاستثناء و هذا الباقي الذي ذكر حالهم تقسيم الناس إلى صنفين مختلفين: الناجون بإنجاء الله و المجرمون و لذلك عقبه بقوله: «و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك».
قوله تعالى: «و ما كان ربك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون» أي لم يكن من سنته تعالى إهلاك القرى التي أهلها مصلحون لأن ذلك ظلم و لا يظلم ربك أحدا فقوله: «بظلم» قيد توضيحي لا احترازي، و يفيد أن سنته تعالى عدم إهلاك القرى المصلحة لكونه من الظلم «و ما ربك بظلام للعبيد».
قوله تعالى: «و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك - إلى قوله - أجمعين» الخلف خلاف القدام و هو الأصل فيما اشتق من هذه المادة من المشتقات يقال: خلف أباه أي سد مسده لوقوعه بعده، و أخلف وعده أي لم يف به كأنه جعله خلفه، و مات و خلف ابنا أي تركه خلفه، و استخلف فلانا أي طلب منه أن ينوب عنه بعد غيبته أو موته أو بنوع من العناية كاستخلاف الله تعالى آدم و ذريته في الأرض، و خالف فلان فلانا و تخالفا إذا تفرقا في رأي أو عمل كأن كلا منهما يجعل الآخر خلفه، و تخلف عن أمره إذا أدبر و لم يأتمر به، و اختلف القوم في كذا إذا خالف بعضهم بعضا فيه فجعله خلفه، و اختلف القوم إلى فلان إذا دخلوا عليه واحدا بعد واحد، و اختلف فلان إلى فلان إذا دخل عليه مرات كل واحدة بعد أخرى.
ثم الاختلاف و يقابله الاتفاق من الأمور التي لا يرتضيها الطبع السليم لما فيه من تشتيت القوى و تضعيفها و آثار أخرى غير محمودة من نزاع و مشاجرة و جدال و قتال و شقاق كل ذلك يذهب بالأمن و السلام غير أن نوعا منه لا مناص منه في العالم الإنساني و هو الاختلاف من حيث الطبائع المنتهية إلى اختلاف البنى فإن التركيبات البدنية مختلفة في الأفراد و هو يؤدي إلى اختلاف الاستعدادات البدنية و الروحية و بانضمام اختلاف الأجواء و الظروف إلى ذلك يظهر اختلاف السلائق و السنن و الآداب و المقاصد و الأعمال النوعية و الشخصية في المجتمعات الإنسانية، و قد أوضحت الأبحاث الاجتماعية أن لو لا ذلك لم يعش المجتمع الإنساني و لا طرفة عين.
و قد ذكره الله تعالى في كتابه و نسبه إلى نفسه حيث قال: «نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا»: الزخرف: 32.
و لم يذمه تعالى في شيء من كلامه إلا إذا صحب هوى النفس و خالف هدى العقل.
و ليس منه الاختلاف في الدين فإن الله سبحانه يذكر أنه فطر الناس على معرفته و توحيده و سوى نفس الإنسان فألهمها فجورها و تقواها، و أن الدين الحنيف هو من الفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، و لذلك نسب الاختلاف في الدين في مواضع من كلامه إلى بغي المختلفين فيه و ظلمهم «فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم».
و قد جمع الله الاختلافين في قوله: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه - و هذا هو الاختلاف الأول في الحياة و المعيشة - و ما اختلف فيه - و هذا هو الاختلاف الثاني في الدين - إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه»: البقرة: 213 فهذا ما يعطيه كلامه تعالى في معنى الاختلاف.
و الذي ذكره بقوله: «و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة» يريد به رفع الاختلاف من بينهم و توحيدهم على كلمة واحدة يتفقون فيه، و من المعلوم أنه ناظر إلى ما ذكره تعالى في الآيات السابقة على هذه الآية من اختلافهم في أمر الدين و انقسامهم إلى طائفة أنجاهم الله و هم قليل و طائفة أخرى و هم الذين ظلموا.
فالمعنى أنهم و إن اختلفوا في الدين فإنهم لم يعجزوا الله بذلك و لو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة لا يختلفون في الدين فهو نظير قوله: «و على الله قصد السبيل و منها جائر و لو شاء لهداكم أجمعين»: النحل: 9 و قوله: «أ فلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا»: الرعد: 31.
و على هذا فقوله: «و لا يزالون مختلفين» إنما يعني به الاختلاف في الدين فحسب فإن ذلك هو الذي يذكر لنا أن لو شاء لرفعه من بينهم، و الكلام في تقدير: لو شاء الله لرفع الاختلاف من بينهم لكنه لم يشأ ذلك فهم مختلفون دائما.
على أن قوله: «إلا من رحم ربك» يصرح أنه رفعه عن طائفة رحمهم، و الاختلاف في غير الدين لم يرفعه الله تعالى حتى عن الطائفة المرحومة، و إنما رفع عنهم الاختلاف الديني الذي يذمه و ينسبه إلى البغي بعد العلم بالحق.
و قوله: «إلا من رحم ربك» استثناء من قوله: «و لا يزالون مختلفين» أي الناس يخالف بعضهم بعضا في الحق أبدا إلا الذين رحمهم الله فإنهم لا يختلفون في الحق و لا يتفرقون عنه، و الرحمة هي الهداية الإلهية كما يفيده قوله: «فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه»: البقرة: 213.
فإن قلت: معنى اختلاف الناس أن يقابل بعضهم بعضا بالنفي و الإثبات فيصير معنى قوله: «و لا يزالون مختلفين» أنهم منقسمون دائما إلى محق و مبطل، و لا يصح حينئذ ورود الاستثناء عليه إلا بحسب الأزمان دون الأفراد و ذلك أن انضمام قوله: «إلا من رحم ربك» إليه يئول المعنى إلى مثل قولنا: إنهم منقسمون دائما إلى مبطلين و محقين إلا من رحم ربك منهم فإنهم لا ينقسمون إلى قسمين، بل يكونون محقين فقط، و من المعلوم أن المستثنين منهم هم المحقون فيرجع معنى الكلام إلى مثل قولنا: إن منهم مبطلين و محقين و المحقون محقون لا مبطل فيهم، و هذا كلام لا فائدة فيه.
على أنه لا معنى لاستثناء المحقين من حكم الاختلاف أصلا و هم من الناس المختلفين، و الاختلاف قائم بهم و بالمبطلين معا.
قلت: الاختلاف المذكور في هذه الآية و سائر الآيات المتعرضة له الذامة لأهله إنما هو الاختلاف في الحق و مخالفة البعض للبعض في الحق و إن كانت توجب كون بعض منهم على الحق و على بصيرة من الأمر لكنه إذا نسب إلى المجموع و هو المجتمع كان لازمه ارتياب المجتمع و تفرقهم عن الحق و عدم اجتماعهم عليه و تركهم إياه بحياله، و مقتضاه اختفاء الحق عنهم و ارتيابهم فيه.
و الله سبحانه إنما يذم الاختلاف من جهة لازمة هذا و هو التفرق و الإعراض عن الحق و الآيات تشهد بذلك فإنه تعالى يذم فيها جميع المختلفين باختلافهم لا المبطلين من بينهم فلو لا أن المراد بالمختلفين أهل الآراء أو الأعمال المختلفة التي تفرقهم عن الحق لم يصح ذلك.
و من أحسن ما يؤيده قوله تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه»: الشورى: 13 حيث عبر عن الاختلاف بالتفرق، و كذا قوله: «و إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله»: الأنعام: 153 و هذا أوضح دلالة من سابقه فإنه يجعل أهل الحق الملازمين لسبيله خارجا من أهل التفرق و الاختلاف.
و لذلك ترى أنه سبحانه في غالب ما يذكر اختلافهم في الكتاب يردفه بارتيابهم فيه كقوله فيما مرت من الآيات: «و لقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم و إنهم لفي شك منه مريب»: آية - 110 من السورة و قد كرر هذا المعنى في مواضع من كلامه.
و قال تعالى: «عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون»: النبأ: 3 أي يأتي فيه كل بقول يبعدهم من الحق فيتفرقون و قال: «إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك قتل الخراصون»: الذاريات: 10 أي قول لا يقف على وجه و لا يبتني على علم بل الخرص و الظن هو الذي أوجده فيكم.
و في هذا المعنى قوله تعالى: «يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل و تكتمون الحق و أنتم تعلمون»: آل عمران: 71 فإن هذا اللبس المذموم منهم إنما كان بإظهار قول يشبه الحق و ليس به و هو إلقاء التفرق الذي يختفي به الحق.
فالمراد باختلافهم إيجادهم أقوالا و آراء يتفرقون بها عن الحق و يظهر بها الريب فهم لاتباعهم أهواءهم المخالفة للحق يظهرون آراءهم الباطلة في صور متفرقة تضاهي صورة الحق ليحجبوه عن أفهام الناس بغيا و عدوانا بعد علمهم بالحق فهو اختلافهم في الحق بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.
و يتبين بما تقدم على طوله أن الإشارة بقوله: «و لذلك خلقهم» إلى الرحمة المدلول عليه بقوله: «إلا من رحم ربك» و التأنيث اللفظي في لفظ الرحمة لا ينافي تذكير اسم الإشارة لأن المصدر جائز الوجهين، قال تعالى: «إن رحمة الله قريب من المحسنين»: الأعراف: 56 و ذلك لأنك عرفت أن هذا الاختلاف بغي منهم يفرقهم عن الحق و يستره و يظهر الباطل و لا يجوز كون الباطل غاية حقيقية للحق تعالى في خلقه، و لا معنى لأن يوجد الله سبحانه العالم الإنساني ليبغوا و يميتوا الحق و يحيوا الباطل فيهلكهم ثم يعذبهم بنار خالدة، فالقرآن الكريم يدفع هذا بجميع بياناته.
على أن سياق الآيات - مع الغض عما ذكر - يدفع ذلك فإنها في مقام بيان أن الله تعالى يدعو الناس برأفته و رحمته إلى ما فيه خيرهم و سعادتهم من غير أن يريد بهم ظلما و لا شرا، و لكنهم بظلمهم و اختلافهم في الحق يستنكفون عن دعوته، و يكذبون بآياته، و يعبدون غيره، و يفسدون في الأرض فيستحقون العذاب، و ما كان ربك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون، و لا أن يخلقهم ليبغوا و يفسدوا فيهلكهم فالذي منه هو الرحمة و الهداية، و الذي من بغيهم و اختلافهم و ظلمهم يرجع إليهم أنفسهم، و هذا هو الذي يعطيه سياق الآيات.
و كون الرحمة أعني الهداية غاية مقصودة في الخلقة إنما هو لاتصالها بما هو الغاية الأخيرة و هو السعادة كما في قوله حكاية عن أهل الجنة: «و قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا»: الأعراف: 43 و هذا نظير عد العبادة غاية لها لاتصالها بالسعادة في قوله: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون»: الذاريات: 56.
و قوله: «و تمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين» أي حقت كلمته تعالى و أخذت مصداقها منهم بما ظلموا و اختلفوا في الحق من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، و الكلمة هي قوله: «لأملأن جهنم» إلخ.
و الآية نظيره قوله: «و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها و لكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين»: الم السجدة: 13 و الأصل في هذه الكلمة ما ألقاه الله تعالى إلى إبليس لعنه الله إذ قال: «فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق و الحق أقول لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين»: ص: 85 و الآيات متحدة المضمون يفسر بعضها بعضا.
هذه جملة ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين و قد تلخص بذلك: أولا أن المراد بقوله: «و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة» توحيدهم برفع التفرق و الخلاف من بينهم و قيل: إن المراد هو الإلجاء إلى الإسلام و رفع الاختيار لكنه ينافي التكليف و لذلك لم يفعل و نسب إلى قتادة، و قيل: المعنى لو شاء لجمعكم في الجنة لكنه أراد بكم أعلى الدرجتين لتدخلوه بالاكتساب ثوابا لأعمالكم، و نسب إلى أبي مسلم.
و أنت خبير بأن سياق الآيات لا يساعد على شيء من المعنيين.
و ثانيا: أن المراد بقوله: «و لا يزالون مختلفين» دوامهم على الاختلاف في الدين و معناه التفرق عن الحق و ستره بتصويره في صور متفرقة باطلة تشبه الحق.
و قال بعضهم: هو الاختلاف في الأرزاق و الأحوال و بالجملة الاختلاف غير الديني و نسب إلى الحسن.
و قد عرفت أنه أجنبي من سياق الآيات السابقة.
و قال آخرون: إن معنى «مختلفين» يخلف بعضهم بعضا في تقليد أسلافهم و تعاطي باطلهم، و هو كسابقه أجنبي من مساق الآيات و فيها قوله: «و لقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه» الآية.
و ثالثا: أن المراد بقوله: «إلا من رحم» إلا من هداه الله من المؤمنين.
و رابعا: أن الإشارة بقوله: «و لذلك خلقهم» إلى الرحمة و هي الغاية التي أرادها الله من خلقه ليسعدوا بذلك سعادتهم.
و ذكر بعضهم.
أن المعنى خلقهم للاختلاف و نسب إلى الحسن و عطاء.
و قد عرفت أنه سخيف ردي جدا نعم لو جاز عود ضمير «خلقهم» إلى الباقي من الناس بعد الاستثناء جاز عد الاختلاف غاية لخلقهم و كانت الآية قريبة المضمون من قوله: «و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس»: الآية الأعراف: 179.
و ذكر آخرون: أن الإشارة إلى مجموع ما يدل عليه الكلام من مشيته تعالى في خلقهم مستعدين للاختلاف و التفرق في علومهم و معارفهم و آرائهم و شعورهم و ما يتبع ذلك من إرادتهم و اختيارهم في أعمالهم و من ذلك الدين و الإيمان و الطاعة و العصيان، و بالجملة الغاية هو مطلق الاختلاف أعم مما في الدين أو في غيره.
و نسب إلى ابن عباس بناء على ما روي عنه أنه قال: خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف، و فريقا لا يرحم فيختلف، و إلى مالك بن أنس إذ قال في معنى الآية: خلقهم ليكون فريق في الجنة و فريق في السعير، و قد عرفت ما فيه من وجوه السخافة فلا نطيل بالإعادة.
و خامسا: أن المراد بتمام الكلمة هو تحققها و أخذها مصداقها.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و إن كلا لما ليوفينهم ربك» الآية قال: قال (عليه السلام): في القيامة.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية: «فاستقم كما أمرت و من تاب معك» قال: شمروا شمروا فما رؤي ضاحكا.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «فاستقم كما أمرت» الآية قال ابن عباس: ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية كانت أشد عليه و لا أشق من هذه الآية، و لذلك قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إليك الشيب يا رسول الله. شيبتني هود و الواقعة.
أقول: و الحديث مشهور في بعض الألفاظ شيبتني هود و أخواتها، و عدم اشتمال الواقعة على ما يناظر قوله: «فاستقم كما أمرت» الآية يبعد أن تكون إليه الإشارة في الحديث، و المشترك فيه بين السورتين حديث القيامة و الله أعلم.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و لا تركنوا» الآية قال: قال (عليه السلام): ركون مودة و نصيحة و طاعة:. أقول: و رواه أيضا في المجمع، مرسلا عنهم (عليهم السلام).
و في تفسير العياشي، عن عثمان بن عيسى عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): «و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار» قال: أما إنه لم يجعلها خلودا و لكن «تمسكم النار» فلا تركنوا إليهم.
أقول: أي و لكن قال: تمسكم النار فجعله مسا.
و فيه، عن جرير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أقم الصلاة طرفي النهار» و طرفاه المغرب و الغداة «و زلفا من الليل» و هي صلاة العشاء الآخرة.
و في التهذيب، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث في الصلوات الخمس اليومية: و قال تعالى في ذلك «أقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل» و هي صلاة العشاء الآخرة.
أقول: الحديث لا يخلو من ظهور في تفسير طرفي النهار بما قبل الظهر و ما بعدها ليشمل أوقات الخمس.
و في المعاني، بإسناده عن إبراهيم بن عمر عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «إن الحسنات يذهبن السيئات» قال: صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب النهار:. أقول: و الحديث مروي في الكافي، و تفسير العياشي، و أمالي المفيد، و أمالي الشيخ،: و في المجمع، عن الواحدي بإسناده عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا منها فهزه حتى تحات ورقه ثم قال: يا أبا عثمان أ لا تسألني لم أفعل هذا؟ قلت: و لم تفعله قال هكذا فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنا معه تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا فهزه حتى تحات ورقه، ثم قال: أ لا تسألني يا سلمان لم أفعل هذا؟ قلت: و لم فعلته؟ قال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما تحات هذا الورق. ثم قرأ هذه الآية: و أقم الصلاة إلى آخرها:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن الطيالسي و أحمد و الدارمي و ابن جرير و الطبراني و البغوي في معجمه، و ابن مردويه غير مسلسل:.
و فيه، عنه بإسناده عن الحارث عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المسجد ننتظر الصلاة فقام رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت ذنبا، فأعرض عنه فلما قضى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الصلاة قام الرجل فأعاد القول فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أ ليس قد صليت معنا هذه الصلاة و أحسنت لها الطهور؟ قال: بلى. قال: فإنها كفارة ذنبك:. أقول: و الرواية مروية بطرق كثيرة عن ابن مسعود و أبي أمامة و معاذ بن جبل و ابن عباس و بريدة و واثلة بن الأسقع و أنس و غيرهم و في سرد القصة اختلاف ما في ألفاظهم، و رواه الترمذي و غيره عن أبي اليسر و هو صاحب القصة:.
و في تفسير العياشي، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أحدهما (عليهما السلام) يقول: إن عليا (عليه السلام) أقبل على الناس فقال: أي آية في كتاب الله أرجى عندكم؟ فقال بعضهم: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء» قال: حسنة و ليست إياها. فقال بعضهم: «يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم - لا تقنطوا من رحمة الله» قال: حسنة و ليست إياها. و قال بعضهم: «و الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم - ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم» قال: حسنة و ليست إياها. قال: ثم أحجم الناس فقال: ما لكم يا معشر المسلمين؟ قالوا: لا و الله ما عندنا شيء. قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أرجى آية في كتاب الله: «و أقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل» و قرأ الآية كلها، و قال: يا علي و الذي بعثني بالحق بشيرا و نذيرا إن أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط من جوارحه الذنوب فإذا استقبل بوجهه و قلبه لم ينفتل عن صلاته و عليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه فإذا أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس. ثم قال: يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم فما ظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم؟ أ كان يبقى في جسده درن؟ فكذلك و الله الصلوات الخمس لأمتي:. أقول: و قد روي المثل المذكور في آخر الحديث من طرق أهل السنة عن عدة من الصحابة كأبي هريرة و أنس و جابر و أبي سعيد الخدري عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، عن إبراهيم الكرخي قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل عليه رجل من أهل المدينة فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): يا فلان من أين جئت؟ قال: و لم يقل في جوابه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): جئت من هنا و هاهنا. انظر بما تقطع به يومك فإن معك ملكا موكلا يحفظ و يكتب ما تعمل فلا تحتقر سيئة و إن كانت صغيرة فإنها ستسوؤك يوما، و لا تحتقر حسنة فإنه ليس شيء أشد طلبا من الحسنة أنها تدرك الذنب العظيم القديم فتحذفه و تسقطه و تذهب به بعدك، و ذلك قول الله «إن الحسنات يذهبن السيئات - ذلك ذكرى للذاكرين» و فيه، عن سماعة بن مهران قال: سأل أبا عبد الله (عليه السلام) رجل من أهل الجبال عن رجل أصاب مالا من أعمال السلطان فهو يتصدق منه و يصل قرابته و يحج ليغفر له ما اكتسب، و هو يقول: إن الحسنات يذهبن السيئات. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الخطيئة لا تكفر الخطيئة و لكن الحسنة تكفر الخطيئة. ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن خلط الحلال حراما فاختلطا جميعا فلم يعرف الحلال من الحرام فلا بأس.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيقوم فيتوضأ فيحسن الوضوء و يصلي فيحسن الصلاة إلا غفرت له ما بينها و بين الصلاة التي كانت قبلها من ذنوبه.
أقول: و الروايات في هذا الباب كثيرة من أراد استقصاءها فليراجع جوامع الحديث.
و فيه، أخرج الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه و الديلمي عن جرير قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل عن تفسير هذه الآية: «و ما كان ربك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون» فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و أهلها ينصف بعضهم بعضا.
و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: «و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة و لا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك» فقال: كانوا أمة واحدة فبعث الله النبيين ليتخذ علهيم الحجة:. أقول: و رواه الصدوق في المعاني، عنه (عليه السلام) مثله.
و في المعاني، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون» قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة، قال: و سألته عن قوله عز و جل: «و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم» قال: خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم.
و في تفسير القمي، عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك» يعني آل محمد و أتباعهم يقول الله: «و لذلك خلقهم» يعني أهل الرحمة لا يختلفون في الدين.
و في تفسير العياشي، عن يعقوب بن سعيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون» قال: خلقهم للعبادة. قال: قلت: قوله: «و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم» قال: نزلت هذه بعد تلك.
أقول: يشير إلى كون الآية الثانية أعني قوله: «إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم» لكونها خاصة ناسخة للآية الأولى العامة، و قد تقدم في الكلام على النسخ أنه في عرفهم (عليهم السلام) أعم مما اصطلح عليه علماء الأصول، و الآيات الخاصة التكوينية ظاهرة في حكمها على الآيات العامة فإن العوامل و الأسباب الخاصة أنفذ حكما من العامة فافهمه.
|