بيان
جمل و فصول من أعمال المشركين و أقوالهم في الرد على نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما نزل عليه من الكتاب تذكرها الآيات و تجيب عنها بإلقاء الحجة كاستخفائهم من الله، و قولهم: ما يحبس العذاب عنا، و قولهم: لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، و قولهم: إنه افترى القرآن.
و فيها بعض معارف أخر.
قوله تعالى: «ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه» إلى آخر الآية، ثنى الشيء يثناه ثنيا كفتح يفتح فتحا أي عطفه و طواه و رد بعضه على بعض قال في المجمع،: أصل الثني العطف تقول: ثنيته عن كذا أي عطفته، و منه الاثنان لعطف أحدهما على الآخر في المعنى، و منه الثناء لعطف المناقب في المدح، و منه الاستثناء لأنه عطف عليه بالإخراج منه، انتهى.
و قال أيضا: الاستخفاء طلب خفاء الشيء يقال: استخفى و تخفى بمعنى، و كذلك استغشى و تغشى، انتهى.
فالمراد بقوله: «يثنون صدورهم ليستخفوا منه» أنهم يميلون بصدورهم إلى خلف و يطأطئون رءوسهم ليتخفوا من الكتاب أي من استماعه حين تلاوته و هو كناية عن استخفائهم من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من حضر عنده حين تلاوة القرآن عليهم للتبليغ لئلا يروا هناك فتلزمهم الحجة.
و قوله: «ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم» إلخ، كأنهم كانوا يسترون رءوسهم أيضا بثيابهم عند استخفائهم بثني الصدور فذكر الله سبحانه ذلك و أخبر أنه تعالى يعلم عند ذلك ما يسرون و ما يعلنون فما يغنيهم التخفي عن استماع القرآن و الله يعلم سرهم و علانيتهم.
و قيل: إن المراد باستغشائهم ثيابهم هو الاستغشاء في بيوتهم ليلا عند أخذ المضاجع للنوم، و هو أخفى ما يكون فيه الإنسان و أخلى أحواله، و المعنى: أنهم يثنون صدورهم ليستخفوا من هذا الكتاب عند تلاوته عليهم، و الله يعلم سرهم و علانيتهم في أخفى ما يكونون عليه من الحال و هو حال تغشيهم بثيابهم للنوم، و لا يخلو الوجه من ظهور.
هذا ما يفيده السياق في معنى الآية، و ربما ذكر لها معان أخر بعيدة من السياق منها قولهم: إن الضمير في ليستخفوا منه» راجع إليه تعالى أو إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و منها قول بعضهم: «يثنون صدورهم» أي يطوونها على الكفر، و قول آخرين: أي يطوونها على عداوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غير ذلك من المعاني المذكورة و هي جميعا معان بعيدة.
قوله تعالى: «و ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها» إلى آخر الآية، الدابة على ما في كتب اللغة كل ما يدب و يتحرك، و يكثر استعماله في النوع الخاص منه، و قرينة المقام تقتضي كون المراد منه العموم لظهور أن الكلام مسوق لبيان سعة علمه تعالى، و لذلك عقب به قوله: «ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون و ما يعلنون إنه عليم بذات الصدور».
و هذا المعنى أعني كون ذكر وجوب رزق كل دابة على الله لبيان سعة علمه لكل دابة في جميع أحوالها يستوجب أن يكون قوله: «و يعلم مستقرها و مستودعها» بمنزلة عطف التفسير لقوله: «على الله رزقها» فيعود المعنى إلى أن كل دابة من دواب الأرض على الله أن يرزقها - و لن تبقى بغير رزق - فهو تعالى عليم بها خبير بحالها أينما كانت فإن كانت في مستقر لا تخرج منه كالحوت في الماء و كالصدف فيما وقعت و استقرت فيه من الأرض رزقها هناك و إن كانت خارجة من مستقرها و هي في مستودع ستتركه إلى مستقرها كالطير في الهواء أو كالمسافر الغارب عن وطنه أو كالجنين في الرحم رزقها هناك و بالجملة هو تعالى عالم بحال كل دابة في الأرض و كيف لا و عليه تعالى رزقها و لا يصيب الرزق المرزوق إلا بعلم من الرازق بالمرزوق و خبرة منه بما حل فيه من محل دائم أو معجل و مستقر أو مستودع.
و من هنا يظهر أن المراد بالمستقر و المستودع المحل الذي تستقر فيه الدابة ما دامت دابة تدب في الأرض و تعيش عيشة دنيوية و المحل الذي تحل فيه ثم تودعه و تفارقه، و أما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالمستقر و المستودع أماكنها في الحياة و بعد الممات أو أن المراد بهما الأصلاب و الأرحام أو أن المراد بهما مساكنها من الأرض حين وجدت بالفعل و مودعها من المواد و المقار حين كانت بعد بالقوة فمعان بعيدة عن سياق الآية اللهم إلا أن يجعل قوله: «و يعلم مستقرها و مستودعها» كلاما مستأنفا بحياله غير مفسر لما قبله.
و قد تقدم في قوله تعالى: «و هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر و مستودع:» الأنعام - 98 ما يناسب هذا المقام فليراجع إليه من شاء.
و أما قوله: «على الله رزقها» فهو دال على وجوب الرزق عليه تعالى و قد تكرر في القرآن أن الرزق من أفعاله تعالى المختصة به و أنه حق للخلق عليه تعالى قال تعالى: «أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه:» الملك: - 21، و قال تعالى: «إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين:» الذاريات: - 58 و قال تعالى: «و في السماء رزقكم و ما توعدون فورب السماء و الأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون:» الذاريات: - 23.
و لا ضير في أن يثبت عليه تعالى حق لغيره إذا كان تعالى هو الجاعل الموجب لذلك على نفسه من غير أن يداخل فيه غيره، و لذلك نظائر في كلامه تعالى كما قال: «كتب على نفسه الرحمة:» الأنعام: - 12، و قال: «و كان حقا علينا نصر المؤمنين:» الروم: - 47 إلى غير ذلك من الآيات.
و الاعتبار العقلي يؤيد ذلك فإن الرزق هو ما يديم به المخلوق الحي وجوده و إذ كان وجوده من فيض جوده تعالى فما يتوقف عليه من الرزق من قبله، و إذ لا شريك له تعالى في إيجاده لا شريك له في ما يتوقف عليه وجوده كالرزق.
و قد تقدم بعض الكلام في معنى الكتاب المبين في سورة الأنعام آية: 59 و في سورة يونس آية: 61 فليراجع.
قوله تعالى: «و هو الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام و كان عرشه على الماء» الكلام المستوفى في توصيف خلق السماوات و الأرض على ما يظهر من كلامه تعالى و يفسره ما ورد في ذلك عن أهل العصمة (عليهم السلام) موكول إلى ما سيأتي من تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.
و إجمال القول الذي يظهر به معنى قوله: «ستة أيام» و قوله: «و كان عرشه على الماء» هو أن الظاهر أن ما يذكره تعالى من السماوات - بلفظ الجمع - و يقارنها بالأرض و يصف خلقها في ستة أيام طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا فكل ما علاك و أظلك فهو سماء على ما قيل و العلو و السفل من المعاني الإضافية.
فهي طبقات من الخلق الجسماني المشهود تعلو أرضنا و تحيط بها فإن الأرض كروية الشكل على ما يفيده قوله تعالى: «يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا:» الأعراف - 54.
و السماء الأولى هي التي تزينه مصابيح النجوم و الكواكب فهي الطبقة التي تتضمنها أو هي فوقها و تتزين بها كالسقف يتزين بالقناديل و المشاكي و أما ما فوق السماء الدنيا فلم يرد في كلامه شيء من صفتها غير ما في قوله تعالى سبع سماوات طباقا:» الملك: - 3، و قوله: «أ لم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا و جعل القمر فيهن نورا و جعل الشمس سراجا:» نوح: - 16 حيث يدل على مطابقة بعضها بعضا.
و قد ذكر الله سبحانه في صفة خلقها أنها كانت رتقاء ففتقها و متفرقة متلاشية فجمعها و ركمها و أنها كانت دخانا فصيرها سماوات، قال تعالى: «أ و لم ير الذين كفروا أن السماوات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما و جعلنا من الماء كل شيء حي أ فلا يؤمنون:» الأنبياء: - 30: «و قال ثم استوى إلى السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين و أوحى في كل سماء أمرها:» حم السجدة - 12 فأفاد أن خلق السماوات إنما تم في يومين، و اليوم مقدار معتد به من الزمان و ليس من الواجب أن يطابق اليوم في كل ظرف و وعاء يوم أرضنا الحاصل من دورة واحدة من حركتها الوضعية كما أن اليوم الواحد في القمر الذي لهذه الأرض يعدل تسعة و عشرين يوما و نصفا تقريبا من أيام الأرض و استعمال اليوم في البرهة من الزمان شائع في الكلام.
فقد خلق الله سبحانه السماوات السبع في برهتين من الزمان كما قال في الأرض: «خلق الأرض في يومين - إلى أن قال - و قدر فيها أقواتها في أربعة أيام:» حم السجدة: - 10 فأنبأ عن خلقها في يومين و هما عهدان و طوران و جعل الأقوات في أربعة أيام و هي الفصول الأربعة.
فالمتحصل من الآيات أولا: أن خلق السماوات و الأرض على ما هي عليه اليوم من الصفة و الشكل لم يكن عن عدم بحت بل هي مسبوقة الوجود بمادة متشابهة مركومة مجتمعة ففصل بعض أجزائها عن بعض فجعلت أرضا في برهتين من الزمان و قد كانت السماء دخانا ففصلت و قضيت سبع سماوات في برهتين من الزمان.
و ثانيا: أن ما نراه من الأشياء الحية إنما جعلت من الماء فمادة الماء هي مادة الحياة.
و بما قدمنا يظهر معنى الآية التي نحن فيها فقوله: «هو الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام» المراد بخلقها جمع أجزائها و فصلها و فتقها من سائر ما يختلط بها من المادة المتشابهة المركومة، و قد تم أصل الخلق و الرتق في السماوات في يومين و في الأرض أيضا في يومين و يبقى من الستة الأيام يومان لغير ذلك.
و أما قوله: «و كان عرشه على الماء» فهو حال و المعنى و كان عرشه يوم خلقهن على الماء و كون العرش على الماء يومئذ كناية عن أن ملكه تعالى كان مستقرا يومئذ على هذا الماء الذي هو مادة الحياة فعرش الملك مظهر ملكه، و استقراره على محل هو استقرار ملكه عليه كما أن استواءه على العرش احتواءه على الملك و أخذه في تدبيره.
و قول بعضهم: إن المراد بالعرش البناء أخذا من قوله تعالى: «مما يعرشون:» النحل: - 68 أي يبنون كلام بعيد عن الفهم.
قوله تعالى: «ليبلوكم أيكم أحسن عملا» اللام للغاية و البلاء الامتحان و الاختبار، و قوله: «أيكم أحسن عملا» بيان للاختبار و الامتحان في صورة الاستفهام و المراد أنه تعالى خلق السماوات و الأرض على ما خلق لغاية امتحانكم و تمييز المحسنين منكم من المسيئين.
و من المعلوم أن البلاء و الامتحان أمر مقصود لغيره و هو تمييز الجيد من الردي و الحسن من السيىء، و كذلك الحسنة و السيئة إنما يراد تمييزهما لأجل ما يترتب عليهما من الجزاء، و كذلك الجزاء إنما يراد لأجل ما فيه من إنجاز الوعد الحق و لذلك نجده تعالى يذكر كل واحد من هذه الأمور المترتبة غاية للخلقة فقال في كون الابتلاء غاية للخلقة: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا:» الكهف: - 7، و قال في معنى التمييز و التمحيص: «ليميز الله الخبيث من الطيب:» الأنفال: - 37، و قال في خصوص الجزاء: «و خلق الله السماوات و الأرض بالحق و لتجزى كل نفس بما كسبت و هم لا يظلمون:» الجاثية: - 22 و قال في كون الإعادة لإنجاز الوعد: «كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين:» الأنبياء: - 104 إلى غير ذلك من الآيات، و قال في كون العبادة غرضا في خلق الثقلين: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون:» الذاريات: - 56.
و عد العمل الصالح أو الإنسان المحسن غاية للخلقة لا ينافي اشتمال الخلقة على غايات أخرى بعد ما كان الإنسان أحد تلك الغايات حقيقة لأن الوحدة و الاتصال الحاكم على العالم يصحح كون كل واحد من أنواع الموجودات غاية للخلقة بما أنه محصول الارتباط و نتيجة الازدواج العام بين أجزائه فمن الجائز أن يخاطب كل نوع من أنواع الخليقة أنه المطلوب المقصود من خلق السماوات و الأرض بما أنها تؤدي إليه.
على أن الإنسان أكمل و أتقن المخلوقات الجسمانية من السماوات و الأرض و ما فيهما صنعا و لئن نمى في جانب العلم و العمل نماء حسنا كان أفضل ذاتا مما سواه و أرفع مقاما و أعلى درجة من غيره و إن كان بعض الخليقة كالسماء أشد منه خلقا كما ذكره الله تعالى و من المعلوم أن كمال الصنع هو المقصود منه إذا اشتمل على ناقص و لذا كنا نعد مراحل وجود الإنسان المختلفة من المنوية و الجنينية و الطفولية و غيرها مقدمة لوجود الإنسان السوي الكامل و هكذا.
و بهذا البيان يظهر أن أفضل أفراد الإنسان - إن كان فيهم من هو أفضل مطلقا - غاية لخلق السماوات و الأرض، و لفظ الآية أيضا لا يخلو عن إشارة أو دلالة على ذلك فإن قوله: «أيكم أحسن عملا» يفيد أن القصد إلى تمييز من هو أحسن عملا من غيره سواء كان ذلك الغير محسنا أو مسيئا فمن كان عمله أحسن من سائر الأفراد سواء كانوا محسنين و أعمالهم دون عمله أو مسيئين كان تمييزه منهم هو الغرض المقصود من الخلقة، و بذلك يستصح ما ورد في الحديث القدسي من خطابه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): «لولاك لما خلقت الأفلاك» فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل الخلق.
و في المجمع،: قال الجبائي: و في الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات و الأرض و الملائكة لأن خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف لمكلف يمكنه الاستدلال به فلا بد حينئذ من حي مكلف، و قال علي بن عيسى: لا يمتنع أن يكون في الإخبار بذلك مصلحة للمكلفين فلا يجب ما قاله الجبائي و هو الذي اختاره المرتضى قدس الله روحه.
انتهى.
أقول: و ما ذكراه مبنى على ما ذهب إليه المعتزلة: أن أفعال الله سبحانه معللة بالأغراض و تابعة للمصالح و جهات الحسن و لو كان ذلك بأن يخلق خلقا ليخبر بذلك المكلفين فيعتبروا به و يؤمنوا له فيتم بذلك مصلحة من مصالحهم، و قد تقدم في أبحاثنا السابقة أن الله سبحانه لا يحكم عليه و لا يؤثر فيه غيره سواء كان ذلك الغير مصلحة أو أي شيء آخر مفروض و أن غيره أي شيء فرض مخلوق له مدبر بأمره إن كان أمرا ذا واقعية و وجود إن الحكم إلا لله و الله خالق كل شيء.
فجهات الحسن و المصلحة و هي التي تحكم علينا و تبعثنا نحو أفعالنا أمور خارجة عن أفعالنا مؤثرة فينا من جهة كوننا فاعلين نروم بها إلى سعادة الحياة، و أما هو سبحانه فإنه أجل من ذلك.
و ذلك أن جهات الحسن و المصلحة هذه إنما هي قوانين عامة مأخوذة من نظام الكون و الروابط الدائرة بين أجزاء الخلقة، و من الضروري أن الكون و ما فيه من النظام الجاري فعله سبحانه، و من الممتنع جدا أن يتقدم المفهوم المنتزع على ما انتزع منه من الفعل ثم يتخطاه و لا يقنع حتى يتقدم على فاعله الموجد له.
و أما ما في الآية من تعليل خلق السماوات و الأرض بقوله: «ليبلوكم أيكم أحسن عملا» و نظائره الكثيرة في القرآن فإنما هو و أمثاله من قبيل التعليل بالفوائد المترتبة و المصالح المتفرعة و قد أخبر تعالى أن فعله لا يخلو من الحسن إذ قال: «الذي أحسن كل شيء خلقه:» الم السجدة: - 7، فهو سبحانه هو الخير لا شر فيه و هو الحسن لا قبح عنده و ما كان كذلك لم يصدر عنه شر و لا قبيح البتة.
و ليس مقتضى ما تقدم أن يكون معنى الحسن هو ما صدر عنه تعالى أو الذي أمر به و إن استقبحه العقل، و معنى القبيح هو ما لا يصدر عنه أو الذي نهى عنه و إن استحسنه العقل و استصوبه فإن ذلك يأباه أمثال قوله تعالى: «قل إن الله لا يأمر بالفحشاء:» الأعراف: - 28.
قوله تعالى: «و لئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين» لما كان قوله: «ليبلوكم» إلخ، يشير إلى المعاد أشار إلى ما كان يواجه به الكفار ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) للمعاد برميه بأنه سحر من القول.
فظاهر الآية أنهم كما كانوا يسمون لفظ القرآن الكريم بما فيه من الفصاحة و بلاغة النظم سحرا، كذلك كانوا يسمون ما يخبر به القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حقائق المعارف التي لا يصدقه أحلامهم كالبعث بعد الموت سحرا، و على هذا فهو من مبالغتهم في الافتراء على كتاب الله و التعنت و العناد مع الحق الصريح حيث تعدوا عن رمي اللفظ لفصاحته و بلاغته بالسحر إلى رمي المعنى لصحته و استقامته بالسحر.
و من الممكن أن يكون المراد بالسحر المغالطة و التمويه بإظهار الباطل في صورة الحق على نحو إطلاق الملزوم و إرادة اللازم لكن لا يلائمه ظاهر قوله تعالى في نظير المورد: «قل من بيده ملكوت كل شيء و هو يجير و لا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون:» المؤمنون: - 89.
قوله تعالى: «و لئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه» إلى آخر الآية.
اللام في صدر الآية للقسم و لذلك أكد الجواب أعني قوله: «ليقولن» باللام و النون و المعنى: و أقسم لئن أخرنا عن هؤلاء الكفار ما يستحقونه من العذاب قالوا مستهزءين: ما الذي يحبس هذا العذاب الموعود عنا و لما ذا لا ينزل علينا و لا يحل بنا.
و في هذا إشارة أو دلالة على أنهم سمعوا من كلامه تعالى أو من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يوعدهم بعذاب لا محيص منه و إن الله أخر ذلك تأخيرا رحمة لهم فاستهزءوا به و سخروا منه بقولهم: «ما يحبسه» و يؤيده قوله تعالى عقيب ذلك: «ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم» إلخ.
و بهذا يتأيد أن السورة - سورة هود - نزلت بعد سورة يونس لمكان قوله تعالى فيها: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط» إلى آخر الآيات.
و قوله: «إلى أمة معدودة» الأمة الحين و الوقت كما في قوله تعالى: «و قال الذي نجا منهما و ادكر بعد أمة:» يوسف: - 45 أي بعد حين و وقت.
و ربما أمكن أن يراد بالأمة الجماعة فقد وعد الله سبحانه أن يؤيد هذا الدين بقوم صالحين لا يؤثرون على دينه شيئا و يمكن عند ذلك للمؤمنين دينهم الذي ارتضى لهم قال: «فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم:» المائدة: - 54، و قال: «وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم - إلى أن قال - يعبدونني لا يشركون بي شيئا:» النور: - 55، و هذا وجه لا بأس به.
و قيل: إن المراد بالأمة الجماعة و هم قوم يأتي الله بهم بعد هؤلاء فيصرون على الكفر فيعذبهم بعذاب الاستئصال كما فعل بقوم نوح، أو هم قوم يأتون بعد هؤلاء فيصرون على معصية الله فتقوم عليهم القيامة.
و الوجهان سخيفان لبنائهما على كون المعذبين غير هؤلاء المستهزءين من الكفار و ظاهر قوله تعالى: «ألا يوم يأتيهم» إلخ، إن المعذبين هم المستهزءون بقولهم: «ما يحبسه».
و قوله: «ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون» بمنزلة الجواب عن قولهم: «ما يحبسه» الواقع موقع الاستهزاء فإنه في معنى الرد على ما أوعدوا به من العذاب، و محصله أن هذا العذاب الذي يهددنا لو كان حقا لم يكن لحبسه سبب فإنا كافرون غير عادلين عن الكفر و لا تاركين له فتأخر نزول العذاب من غير موجب لتأخره بل مع الموجب لتعجيله كاشف عن كونه من قبيل الوعد الكاذب.
فأجاب الله عن ذلك بأنه سيأتيهم و لا يصرفه يومئذ عنهم صارف و يحيق بهم هذا العذاب الذي كانوا به يستهزءون.
و بما تقدم يظهر أن هذا العذاب الذي يهددون به عذاب دنيوي سيحيق بهم و ينزل عليهم دون عذاب الآخرة، و على هذا فهذه الآية و التي قبلها يذكر كل منهما شيئا من ما تهوس به الكفار بجهالتهم فالآية السابقة تذكر أنهم إذا ذكر لهم البعث و أنذروا بعذاب يوم القيامة قالوا: إن هذا إلا سحر مبين، و هذه الآية تذكر أن الله إذا أخر عنهم العذاب إلى أمة و أخبروا بذلك قالوا مستهزءين: ما يحبسه.
قوله تعالى: «و لئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور» قال في المجمع،: الذوق تناول الشيء بالفم لإدراك الطعم، و سمى الله سبحانه إحلال اللذات بالإنسان إذاقة لسرعة زوالها تشبيها بما يذاق ثم يزول كما قيل: أحلام نوم أو كظل زائل و النزع قلع الشيء عن مكانه، و اليئوس فعول من يئس - صيغة مبالغة - و اليأس القطع بأن الشيء المتوقع لا يكون و نقيضه الرجاء.
انتهى.
و قد وضعت الرحمة في الآية مكان النعمة للإشعار بأن النعم التي يؤتيها الله الإنسان عنوانها الرحمة و هي رفع حاجة الإنسان فيما يحتاج إليه من غير استحقاق و إيجاب و المعنى: أنا إن آتينا الإنسان شيئا من النعم التي يتنعم بها ثم نزعناها يئس منها و اشتد يأسه حتى كأنه لا يرى عودها إليه ثانيا ممكنا و كفر بنعمتنا كأنه يرى تلك النعمة من حقه الثابت علينا و يرانا غير مالكين لها فالإنسان مطبوع على اليأس عما أخذ منه و الكفران، و قد أخذ في الآية لفظ الإنسان - و هو لفظ دال على نوعه - للدلالة على أن الذي يذكر من صفته من طبع نوعه.
قوله تعالى: «و لئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور» قال في المجمع،: النعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه و الضراء مضرة يظهر الحال بها لأنهما أخرجتا مخرج الأحوال الظاهرة مثل حمراء و عيناء مع ما فيهما من المبالغة، و الفرح و السرور من النظائر و هو انفتاح القلب بما يلتذ به و ضده الغم - إلى أن قال: - و الفخور الذي يكثر فخره و هو التطاول بتعديد المناقب و هي صفة ذم إذا أطلقت لما فيها من التكبر على من لا يجوز أن يتكبر عليه.
انتهى.
و المراد بالسيئات بقرينة المقام المصائب و البلايا التي يسوء الإنسان نزولها عليه، و المعنى: و لئن أصبناه بالنعمة بعد الضراء ليقولن ذهب الشدائد عني، و هو كناية عن الاعتقاد بأن هاتيك الشدائد و النوازل لا تعود بعد زوالها و لا تنزل بعد ارتفاعها ثانيا.
و قوله: «إنه لفرح فخور» بمنزلة التعليل لقوله: «ذهب السيئات عني» فإنه يفرح و لا يزال على ذلك لما ذاقه من النعماء بعد الضراء، و لو كان يرى أن ما عنده من النعماء جائز الزوال لا وثوق على بقائه و لا اعتماد على دوامه، و أن الأمر ليس إليه بل إلى غيره و من الجائز أن يعود إليه ما تركه من السيئات لم يكن فرحا بذلك فإنه لا فرح في أمر مستعار غير ذي قرار.
و إنه ليفخر بما أوتي من النعماء على غيره، و لا فخر إلا بكرامة أو منقبة يملكها الإنسان فهو يرى ما عنده من النعمة أمرا بيده زمامه ليس لغيره أن يسلبه و ينزعه منه و يعيد إليه ما ذهب عنه من السيئات و لذلك يفخر و يكثر من الفخر.
قوله تعالى: «إلا الذين صبروا و عملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة و أجر كبير» ذكر سبحانه ما الإنسان مطبوع عليه عند الشدة و البلاء من اليأس و الكفر و عند الرخاء و النعماء من الفرح و الفخر، و مغزى الكلام أنه مخلوق كليل البصر قصير النظر إنما يرى ما يجده في حاله الحاضرة، و يذهل عما دون ذلك فإن زالت عنه نعمة لم ير لها عودة و أنها كانت من عند الله سبحانه، و له تعالى أن يعيدها إليه إن شاء حتى يصبر على بلائه و يتعلق قلبه به بالرجاء و المسألة، و إن عادت إليه نعمة بعد زوالها رأى أنه يملكها ففرح و فخر و لم ير لله تعالى صنعا في ذلك حتى يشكره عليها و يكف عن الفرح و عن التطاول على غيره بالفخر.
استثنى سبحانه طائفة من الإنسان و وصفهم بقوله: «الذين صبروا و عملوا الصالحات» ثم وعدهم وعدا حسنا بقوله: «أولئك لهم مغفرة و أجر كبير» و ذلك أن التخلص من هذا الطبع المذموم إنما يتمشى من الصابرين الذين يصبرون عند الضراء فلا يحملهم الجزع على اليأس و الكفر، و يعملون الصالحات من الشكر بثنائه تعالى على ما كشف الضراء و أعقب بالنعماء و صرف نعمه في ما يرضيه و يريح خلقه فلا يحملهم الاستغناء على الفرح و الفخر.
و هؤلاء هم المتخلصون الناجون يغفر لهم ربهم بإمحاء آثار ذلك الطبع المذموم و وضع الخصال المحمودة موضعه و لهم عند ربهم مغفرة و أجر كبير.
و في الآية دلالة على أن الصبر مع العمل الصالح لا ينفك عن الإيمان فإنها تعد هؤلاء الصابرين مغفرة و أجرا كبيرا، و المغفرة لا تنال المشركين، قال تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به:» النساء: - 116.
و قد ورد الوعد بعين ما ذكر في هذه الآية أعني المغفرة و الأجر الكبير للمؤمنين في قوله تعالى: «و الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم مغفرة و أجر كبير:» فاطر: - 7، و قوله تعالى: «إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة و أجر كبير:» الملك: - 12.
و اتصال الآيات الثلاث بما قبلها ظاهر فإن الكلام كان في الآيات السابقة مسوقا في كفر الكافرين و رميهم الوعد بالبعث بالسحر و مقابلتهم الإيعاد بنزول العذاب بالاستهزاء، فذكر سبحانه أنهم على حالهم الطبعي لا يرون لما عندهم من نعمة الله زوالا بنزول العذاب و لا لما بهم من رث الحال تبدلا إلى العيش الهنيء و المتاع الحسن الذي وعدهم الله به في صدر السورة.
قوله تعالى: «فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك و ضائق به صدرك» إلى آخر الآية، لما كانت رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أيدت به من القرآن الكريم و الآيات البينات و الحجج و البراهين مما لا يسع لذي عقل إنكارها و لا لإنسان صحيح المشاعر ردها و الكفر بها كان ما حكى من كفر الكافرين و إنكار المشركين أمرا مستبعدا بحسب الطبع، و إذا كان وقوع أمر على صفة من الصفات مستبعدا أخذ الإنسان في تقرير ذلك الأمر من غير مجرى الاستبعاد طلبا للمخرج من نسبة الوقوع إلى ما يستبعده الطبع.
و لما كان المقام في الآية الكريمة هذا المقام و كان ما حكاه الله سبحانه من كفر المنكرين و إنكار المشركين لما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم من الحق الصريح و ما أنزل إليه من كلام الله تعالى مع ما يتلوه من البينات و الحجج مما لا ينبغي أن يذعن به لبعده طبعا بين تعالى لذلك وجها بعد وجه على سبيل الترجي فقال: «و لعلك تارك بعض ما يوحى إليك» إلخ، «أم يقولون افتراه» إلخ.
فكأنه قيل: من المستبعد أن تهديهم إلى الحق الواضح و يسمعوا منك كلامي ثم لا يستجيبوا دعوتك و يكفروا بالحق بعد وضوحه فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك و غير داعيهم إليه و لذلك جبهوك بالإنكار أم يقولون إن القرآن ليس من كلام الله بل هو افتراء افتريته على الله و لذلك لم يؤمنوا به.
فإن كنت تركت بعض الوحي خوفا من اقتراحهم عليك الآيات فإنما أنت نذير و ليس لك إلا ما شاء الله، و أن يقولوا افتراه فقل لهم يأتوا بعشر سور مثله مفتريات «إلخ».
و مما تقدم يظهر أن إيراد الكلام مورد الترجي و الاحتمال لرعاية ما يقتضيه المقام من طبع الاستبعاد فالمقام مقام الاستبعاد و مقتضاه ذكر كل سبب محتمل التأثير في الحادثة المستبعدة، اعتبر ذلك في ملك ينتهي إليه تمرد بعض ضعفاء رعيته فيبعث بعض عماله إلى دعوتهم إلى السمع و الطاعة و يكتب في ذلك كتابا يأمره أن يقرأه عليهم و يلومهم على تمردهم و استكبارهم على ما بهم من الضعف و الذلة و لمولاهم من القوة و السطوة و العزة ثم يبلغ الملك أنهم ردوا على رسوله ما بلغهم من قبله، و يكتب إليه كتابا ثانيا يأمره بقراءته عليهم و إذا فيه: لعلك لم تقرأ كتابي عليهم مخافة أن يقترحوا عليك بما لا تقدر عليه أو أنهم زعموا أن الكتاب ليس من قبلي و إنما افتريته علي افتراء فإن كان الأول فإنك رسول ليس عليك إلا البلاغ و إن كان الثاني فإن الكتاب بخطي كتبته بيدي و ختمت عليه بخاتمي و لا يقدر أحد غيري أن يقلدني في ذلك.
و التأمل في هذا المثال يعطي أن المقام فيما يتضمنه الكتاب الثاني من الخطاب مقام الاستبعاد و أن القصد من ذكر الاحتمالين ترك الإبلاغ و زعم الافتراء ليس هو توبيخ الرسول جدا أو احتمال زعمهم الكذب و الفرية جدا، و إنما ذكر الوجهان لداعي أن يكونا كالمقدمة لذكر ما يزول به الشبهتان و هو أن الرسول ليس له من الأمر شيء حتى يقترح، عليه بما يقترح و أن الكتاب للملك ليس فيه ريب و لا شك.
و من هنا يظهر أن قوله تعالى: «فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك و ضائق به صدرك» إلخ، ليس يفيد الترجي الجدي و لا مسوقا لتوبيخ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا مرادا به تسليته و تطييب نفسه إثر ما كان يناله من الحزن و الأسى بكفرهم و جحودهم لما أتى به من الحق الصريح بل الكلام مسوق ليتوصل به إلى ذكر قوله: «إنما أنت نذير و الله على كل شيء وكيل».
فما ذكره بعض المفسرين أن الكلام مسرود لنهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحزن و ضيق الصدر بما كانوا يواجهونه به من الكفر و الجحود، و النهي نهي تسلية و تطييب للنفس نظير ما في قوله: «و لا تحزن عليهم و لا تك في ضيق مما يمكرون:» النحل: - 127، و قوله: «لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين:» الشعراء: - 4 كلام ليس في محله.
و يظهر أيضا أن قوله: «فلعلك تارك» إلخ، و قوله: «أم يقولون افتراه» إلخ، كشقي الترديد و يتصلان معا بما قبلهما من وجه واحد كما ذكرناه.
و قوله: «تارك بعض ما يوحى إليك» إنما ذكر البعض لأن الآيات السابقة متضمنة لتبليغ الوحي في الجملة أي لعلك تركت بعض ما أوحينا إليك من القرآن فما تلوته عليهم فلم ينكشف لهم الحق كل الانكشاف حتى لا يجبهوك بما جبهوك به من الرد و الجحود، و ذلك أن القرآن بعضه يوضح بعضا و شطر منه يقرب شطرا منه من القبول كآيات الاحتجاج توضح الآيات المشتملة على الدعاوي، و آيات الثواب و العقاب تقرب الحق من القبول بالتطميع و التخويف، و آيات القصص و العبر تستميل النفوس و تلين القلوب.
و قوله: «و ضائق به صدرك أن يقولوا» إلخ، قال في المجمع، ضائق و ضيق بمعنى واحد إلا أن ضائق هاهنا أحسن لوجهين: أحدهما: أنه عارض و الآخر أنه أشكل بقوله تارك انتهى.
و الظاهر أن ضمير «به» راجع إلى قوله: «بعض ما يوحى» و إن ذكر بعضهم أن الضمير راجع إلى قولهم: «لو لا أنزل عليه كنز» إلخ، أو إلى اقتراحهم و هذا أوفق بكون قوله «أن يقولوا» إلخ، بدلا من الضمير في «به» و ما ذكرناه أوفق بكونه مفعولا له لقوله: «تارك» و التقدير: لعلك تارك ذلك مخافة أن يقولوا: لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك.
و قوله: «إنما أنت نذير» جواب عن اقتراحهم بقولهم: لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، و قد تكرر في مواضع من كلامه تعالى ذكر ما اقترحوه اقتصر في بعضها على ذكر مجيء الملك و زيد في بعضها عليه غيره كاقتراح الإتيان بالله سبحانه ليشهد على الرسالة و أن يكون له جنة يأكل منها و أن ينزل من السماء كتابا يقرءونه.
و قد أجاب الله سبحانه عنها جميعا بمثل ما أجاب به هاهنا و هو أن رسوله ليس له إلا الرسالة فليس بيده و هو بشر رسول أن يجيبهم إلى ما اقترحوا به عليه إلا أن يشاء الله في ذلك شيئا و يأذن في إتيان آية كما قال: «و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله:» المؤمن: - 78.
ثم عقب قوله: «إنما أنت نذير» بقوله: «و الله على كل شيء وكيل» لتتميم الجواب عن اقتراحهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمعجزات و محصله: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشر مثلهم و لم يؤمر إلا بالإنذار و هو الرسالة بإعلام الخطر، و القيام بالأمور كلها و تدبيرها سواء كانت جارية على العادة أو خارقة لها إنما هو إلى الله سبحانه فلا وجه لتعلقهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما ليس إليه.
و ذلك أن الله سبحانه هو الموجد للأشياء كلها و فاطرها و هو القائم على كل شيء فيما يجري عليه من النظام فما من شيء إلا و هو تعالى المبدأ في أمره و شأنه و المنتهى سواء الأمور الجارية على العادة و الخارقة لها فهو تعالى الذي يسلم إليه أمره و يدبر شأنه فهو تعالى الوكيل عليه فإن الوكيل هو الذي يسلم إليه الأمر و ينفذ فيه منه الحكم فهو تعالى على كل شيء وكيل.
و بذلك يظهر أن قوله: «و الله على كل شيء وكيل» بمعونة من قوله: «إنما أنت نذير» يفيد قصر القلب فإنهم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرا ليس إليه و إنما هو إلى الله تعالى.
قوله تعالى: «أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور» قد تقدم من الكلام ما يصح به أخذ «أم» متصلة لكون قوله: «فلعلك تارك» إلخ، في معنى الاستفهام، و التقدير: أ فأنت تارك بعض ما يوحى إليك خوفا من اقتراحهم المعجزة أم يقولون إنك افتريته علينا فإن من المستبعد أن يقرأ عليهم كلامي ثم لا يؤمنوا به و قيل: إن أم مقطعة و المعنى: بل يقولون افتراه.
و قوله: «قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات» في الكلام تحد ظاهر و الضمير راجع إلى القرآن أو إلى السورة بما أنها قرآن و الفاء في «فأتوا» تفيد تفريع الأمر على قوله: «افتراه» و في الكلام حذف و إيصال رعاية للإيجاز، و التقدير: قل لهم: إن كان هذا القرآن مما افتريته على الله كان من عندي و كان من الجائز أن يأتي بمثله غيري فإن كنتم صادقين في دعواكم و مجدين غير هازلين فأتوا بعشر سور مثله مفتريات و استعينوا في ذلك بدعوة كل من تستطيعون من دون الله من أوثانكم الذين تزعمون أنهم آلهة تتسرعون إليهم في الحاجات و غيرهم من سائر الخلق حتى يتم لكم جميع الأسباب و الوسائل و لا يبقى أحد ممن يطمع في تأثير إعانته و يرجى نفعه في ذلك فلو كان من عندي لا من عند الله جاز أن تأتوا حينئذ بمثله.
و قد بان بهذا البيان أن التحدي بالقرآن في الآية الكريمة ليس من حيث نظمه و بلاغته فحسب فإنه تعالى يأمرهم بالاستمداد من كل من استطاعوا دعوته من دون الله سواء في ذلك آلهتهم و غير آلهتهم و فيهم من لا يعرف الكلام العربي أو جزالة نظمه و صفة بلاغته فالتحدي عام لكل ما يتضمنه القرآن الكريم من معارف حقيقية و الحجج و البراهين الساطعة و المواعظ الحسنة و الأخلاق الكريمة و الشرائع الإلهية و الأخبار الغيبية و الفصاحة و البلاغة نظير ما في قوله تعالى: «قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا:» إسراء: - 88، و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على إعجاز القرآن في الجزء الأول من الكتاب.
و بذلك يظهر فساد ما قيل إن جهة إعجاز القرآن إنما هي البلاغة و الفصاحة في هذا النظم المخصوص لأنه لو كان جهة الإعجاز غير ذلك لما قنع في المعارضة بالافتراء و الاختلاق لأن البلاغة ثلاث طبقات فأعلى طبقاتها معجز و أدناها و أوسطها ممكن فالتحدي في الآية إنما وقع في الطبقة العليا منها، و لو كان وجه الإعجاز الصرفة لكان الركيك من الكلام أبلغ في باب الإعجاز.
و المثل المذكور في الآية لا يجوز أن يكون المراد به مثله في الجنس لأن مثله في الجنس يكون حكايته فلا يقع بها التحدي، و إنما يرجع في ذلك إلى ما هو متعارف بين العرب في تحدي بعضهم بعضا كما اشتهر من مناقضات امرىء القيس و علقمة و عمر بن كلثوم و الحارث بن حلزة و جرير و الفرزدق و غيرهم.
انتهى.
فإن فيه أولا: أن لو كانت جهة الإعجاز في القرآن هي بلاغته فحسب و هي أمر لا يعرفه غير العرب لم يكن لتشريك غيرهم في التحدي معنى، و لم يرجع قوله: «و ادعوا من استطعتم من دون الله» على ما فيه من العموم و كذا قوله: «لئن اجتمعت الإنس و الجن» الآية إلى معنى محصل و لكان من الواجب أن يقال: لئن اجتمعت العرب» و ادعوا من استطعتم من آلهتكم و من أهل لغتكم.
و ثانيا: أنه لو كانت جهة الإعجاز هي البلاغة فقط لم يصح الاحتجاج بمثل قوله: «و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا:» النساء: - 82، الظاهر في نفي مطلق الاختلاف فإن أكثر الاختلافات و هي التي يرجع إلى المعاني لا تضر بلاغة اللفظ.
و ثالثا: أنه تعالى يتحدى بمثل قوله: «فليأتوا بحديث مثله:» الطور: - 34، و بقوله في سورة يونس: «فأتوا بسورة مثله و ادعوا من استطعتم من دون الله:» آية - 38، و قد استفدنا فيما تقدم أن سورة يونس قبل سورة هود في ترتيب النزول و يؤيده الأثر، ثم بقوله في هذه السورة: «فأتوا بعشر سور مثله مفتريات و ادعوا من استطعتم من دون الله» و لو كان جهة الإعجاز هي البلاغة خاصة لكانت هذه التحديات خارجة عن النظم الطبيعي إذ لا يصح أن يكلف البلغاء من العرب المنكرين لكون القرآن من عند الله بإتيان مثل سورة منه ثم بعده بإتيان عشر سور مفتريات بل مقتضى الطبع أن يتحدى بتكليفهم بإتيان مثل القرآن أجمع فإن عجزوا فبإتيان عشر سور مثله مفتريات فإن عجزوا فبإتيان سورة مثله.
و قد ذكر بعضهم في التفصي عن هذا الإشكال أن الترتيب بين السور و نزول بعضها قبل بعض لا يستلزم الترتيب بين آيات السور فكم من آية مكية موضوعة في سورة مدنية و بالعكس فمن الجائز حينئذ أن تكون آيات التحدي بتمام القرآن نازلة قبل غيرها مطلقا ثم تكون آية التحدي بعشر سور مفتريات نازلة بعدها، و آية التحدي بسورة واحدة نازلة بعد الجميع.
و فيه: أنه إنما ينفع لو صح نزول الآيات على ما صوره و إلا فالإشكال على حاله و الحق أن القرآن معجز في جميع صفاته المختصة به من بلاغة و فصاحة و ما فيه من المعارف الحقيقية و الأخلاق الكريمة و الشرائع الإلهية و القصص و العبر و الإخبار بالمغيبات و ما له من السلطان على القلوب و الجمال الحاكم في النفوس.
و أما الوجه في التحدي بعشر سور مع ما في سورة يونس من التحدي بواحدة فقد قال في المجمع،: فإن قيل: لم ذكر التحدي مرة بعشر سور و مرة بسورة و مرة بحديث مثله؟ فالجواب: أن التحدي إنما يقع بما يظهر فيه الإعجاز من منظوم الكلام فيجوز أن يتحدى مرة بالأقل و مرة بالأكثر.
انتهى.
أقول: و هو يصلح وجها لأصل التحدي بالواحد و الكثير و أما التحدي بالعشر بعد الواحدة و لا سيما على ما يراه من كون إعجازه بالبلاغة فحسب فلا.
و ذكر بعضهم في توجيه ذلك أن القرآن الكريم معجز في جميع ما يتضمنه من المعارف و الأخلاق و الأحكام و القصص و غيرها و ينعت به من الفصاحة و البلاغة و انتفاء الاختلاف، و إنما يظهر صحة المعارضة و الإتيان بالمثل عند إتيان عدة من السور يظهر به ارتفاع الاختلاف و خاصة من بين القصص المودعة فيها مع سائر الجهات كالفصاحة و البلاغة و المعارف و غيرها.
و إنما يتم ذلك بإتيان أمثال السور الطويلة التي تشتمل على جميع الشئون المذكورة و تتضمن المعرفة و القصة و الحجة و غير ذلك كسورتي الأعراف و الأنعام.
و التي نزلت من السور الطويلة القرآنية مما يشتمل على جميع الفنون المذكورة قبل سورة هود على ما ورد في الرواية هي سورة الأعراف و سورة يونس و سورة مريم و سورة طه و سورة الشعراء و سورة النمل و سورة القصص و سورة القمر و سورة ص فهذه تسع من السور عاشرتها سورة هود، و هذا الوجه هو في التحدي بأمرهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، انتهى بتلخيص منا و قد أطنب في كلامه.
أقول: فيه أولا: أن لا تعويل على الأثر الذي عول عليه في ترتيب نزول السور فإنما هو من الآحاد التي لا تخلو عن ضعف و لا ينبغي بناء البحث التفسيري على أمثالها.
و ثانيا: أن ظاهر قوله: «أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات» أن رميهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالافتراء على الله سبحانه قول تقولوه بالنسبة إلى جميع السور القرآنية طويلتها و قصيرتها من غير أن يخصوا به سورة دون سورة فمن الواجب أن يجابوا بما يحسم مادة الشبهة بالنسبة إلى كل سورة قرآنية، و التحدي بما يفي بذلك، و عجزهم عن إتيان عشر سور مفتريات طويلة تجمع الفنون القرآنية لا يثبت به كون الجميع حتى السور القصار كسورتي الكوثر و العصر من عند الله اللهم إلا ببيان آخر يضم إليه و اللفظ خال من ذلك.
و ثالثا: أن قوله: «بعشر سور مثله» إن كان ما فيه من الضمير راجعا إلى القرآن كما هو ظاهر كلام هذا القائل أفاد التحدي بإتيان عشر سور مفتريات مثله مطلقا سواء في ذلك الطوال و القصار فتخصيص التحدي بعشر سور طويلة جامعة تقييد للفظ الآية من غير مقيد و هو تحكم و أشد منه تحكما القول بأن المراد بالمثل مثل السور العشر التي عدها.
و إن كان الضمير راجعا إلى سورة هود كان مستبشعا من القول و كيف يستقيم أن يقال لمن يقول: إن سورة الكوثر و المعوذتين من الافتراء على الله: ائت بعشر سور مفتريات مثل سورة هود و يقتصر على ذلك؟ اللهم إلا أن يهذروا بأن سورة هود وحدها من الافتراء على الله تعالى فيتحدى عندئذ بأن يأتوا بمثلها، و لم نسمع أحدا منهم تفوه بذلك.
و يمكن أن يقال في وجه الاختلاف الذي يلوح من آيات التحدي كقوله: «فأتوا بسورة مثله:» يونس: - 38 الظاهر في التحدي بسورة واحدة و قوله: «فأتوا بعشر سور مثله مفتريات» الظاهر في التحدي بعدد خاص فوق الواحد و قوله: «فليأتوا بحديث مثله:» الطور: - 34 الظاهر في التحدي بحديث يماثل القرآن و إن كان دون السورة أن كل واحدة من الآيات تؤم غرضا خاصا في التحدي.
بيان ذلك: أن جهات القرآن و شئونه التي تتقوم به حقيقته و هو كتاب إلهي مضافا إلى ما في لفظه من الفصاحة و في نظمه من البلاغة إنما ترجع إلى معانيه و مقاصده لست أعني من المعنى ما يقصده علماء البلاغة في قولهم: إن البلاغة من صفات المعنى و الألفاظ مطروحة في الطريق يعنون به المفاهيم من جهة ترتبها الطبعي في الذهن فإن الذي يعنون به من المعنى موجود في الكذب الصريح من الكلام و في الهزل و في الفحش و الهجو و الفرية إذا جرت على أسلوب البلاغة و توجد في الكلام الموروث من البلغاء نظما و نثرا شيء كثير من هذه الأمور.
بل المراد من معنى القرآن و مقصده ما يصفه تعالى بأنه كتاب حكيم، و نور مبين، و قرآن عظيم، و فرقان، و هاد يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم، و قول فصل و ليس بالهزل، و كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و ذكر و أنه يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، و أنه شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا، و أنه تبيان لكل شيء و لا يمسه إلا المطهرون.
فمن البين أن هذه كلها صفات لمعنى القرآن.
و ليست صفات لما يقصده علماء البلاغة بالمعنى البليغ الذي ربما يشتمل عليه الباطل من الكلام الذي يسميه القرآن الكريم لغوا من القول و إثما و ينهى الإنسان عن تعاطيه و التفوه به و إن كان بليغا بل المعنى المتصف بهذه الصفات هو شيء من المقاصد الإلهية التي تجري على الحق الذي لا يخالطه باطل، و تقع في صراط الهداية، و يكون الكلام المشتمل على معنى هذا نعته و غرض هذا شأنه هو الذي تتعلق العناية الإلهية بتنزيله و جعله رحمة للمؤمنين و ذكرا للعالمين.
و هذا هو الذي يصح أن يتحدى به بمثل قوله: «فليأتوا بحديث مثله» فإنا لا نسمي الكلام حديثا إلا إذا اشتمل على غرض هام يتحدث به فينقل من ضمير إلى ضمير، و كذا قوله: «فأتوا بسورة مثله» فإن الله لا يسمي جماعة من آيات كتابه و إن كانت ذات عدد سورة إلا إذا اشتملت على غرض إلهي تتميز بها من غيرها.
و لو لا ذلك لم يتم التحدي بالآيات القرآنية و كان للخصم أن يختار من مفردات الآيات عددا ذا كثرة كقوله تعالى: «و الضحى» «و العصر» «و الطور» «في كتاب مكنون» «مدهامتان» «الحاقة» «ما الحاقة و ما أدراك ما الحاقة» «الرحمن» «ملك الناس» «إله الناس» «و خسف القمر» «كلا و القمر» «سندع الزبانية» إلى غير ذلك من مفردات الآيات ثم يقابل كلا منها بما يناظرها من الكلام العربي من غير أن يضمن ارتباط بعضها ببعض و اشتمالها على غرض يجمعها و يخرجها في صورة الوحدة.
فالذي كلف به الخصم في هذه التحديات هو أن يأتي بكلام يماثل القرآن مضافا إلى بلاغة لفظه في بيان بعض المقاصد الإلهية المشتملة على أغراض منعوته بالنعوت التي ذكرها الله سبحانه.
و الكلام الإلهي مع ما تحدى به في آيات التحدي يختلف بحسب ما يظهر من خاصته فمجموع القرآن الكريم يختص بأنه كتاب فيه ما يحتاج إليه نوع الإنسان إلى يوم القيامة من معارف أصلية و أخلاق كريمة و أحكام فرعية، و السورة من القرآن تختص ببيان جامع لغرض من الأغراض الإلهية المتعلقة بالهدى و دين الحق على بلاغتها الخارقة و هذه خاصة غير الخاصة التي يختص بها مجموع القرآن الكريم، و العدة من السور كالعشر و العشرين منها تختص بخاصة أخرى و هي بيان فنون من المقاصد و الأغراض و التنوع فيها فإنها أبعد من احتمال الاتفاق فإن الخصم إذا عجز عن الإتيان بسورة واحدة كان من الممكن أن يختلج في باله أن عجزه عن الإتيان بها إنما يدل على عجز الناس عن الإتيان بمثلها لا على كونها نازلة من عند الله موحاة بعلمه فمن الجائز أن يكون كسائر الصفات و الأعمال الإنسانية التي من الممكن في كل منها أن يتفرد به فرد من بين أفراد النوع اتفاقا لتصادق أسباب موجبة لذلك كفرد من الإنسان موصوف بأنه أطول الأفراد أو أكبرهم جثة أو أشجعهم أو أسخاهم أو أجبنهم أو أبخلهم.
و هذا الاحتمال و إن كان مدفوعا عن السورة الواحدة من القرآن أيضا التي يقصدها الخصم بالمعارضة فإنها كلام بليغ مشتمل على معان حقة ذات صفات كريمة خالية عن مادة الكذب، و ما هذا شأنه لا يقع عن مجرد الاتفاق و الصدفة من غير أن يكون مقصودا في نفسه ذا غرض يتعلق به الإرادة.
إلا أنه أعني ما مر من احتمال الاتفاق و الصدفة عن السور المتعددة أبعد لأن إتيان السورة بعد السورة و بيان الغرض بعد الغرض و الكشف عن خبيىء بعد خبيىء لا يدع مجالا لاحتمال الاتفاق و الصدفة و هو ظاهر.
إذا تبين ما ذكرناه ظهر أن من الجائز أن يكون التحدي بمثل قوله: «قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا:» إسراء: - 88 واردا مورد التحدي بجميع القرآن لما جمع فيه من الأغراض الإلهية و يختص بأنه جامع لعامة ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة، و قوله: «قل فأتوا بسورة مثله» لما فيها من الخاصة الظاهرة و هي أن فيها بيان غرض تام جامع من أغراض الهدى الإلهي بيانا فصلا من غير هزل، و قوله: «قل فأتوا بعشر سور» تحديا بعشر من السور القرآنية لما في ذلك من التفنن في البيان و التنوع في الأغراض من جهة الكثرة، و العشرة من ألفاظ الكثرة كالمائة و الألف قال تعالى: «يود أحدهم لو يعمر ألف سنة:» البقرة: - 96.
فالمراد بعشر سور - و الله أعلم - السور الكثيرة الحائزة لبعض مراتب الكثرة المعروفة بين الناس فكأنه قيل: فأتوا بعده من سورها و لتكن عشرا ليظهر به أن تنوع الأغراض القرآنية في بيانه المعجز ليس إلا من قبل الله.
و أما قوله: «فليأتوا بحديث مثله» فكأنه تحد بما يعم التحديات الثلاثة السابقة فإن الحديث يعم السورة و العشر سور و القرآن كله فهو تحد بمطلق الخاصة القرآنية و هو ظاهر.
بقي هنا أمران أحدهما أنه: لم يقع في شيء من آيات التحدي المذكورة توصيف ما يأتي به الخصم بالافتراء إلا في هذه الآية إذ قيل فيها: «فأتوا بعشر سور مثله مفتريات» بخلاف قوله: «فأتوا بسورة مثله» فلم يقل فيه: «فأتوا بسورة مثله مفتراة» و كذا في سائر آيات التحدي.
و لعل الوجه في ذلك أن نوع العناية في الآية المبحوث عنها غير نوع العناية في سائر آيات التحدي فإن العناية في سائر الآيات متعلقة بأنهم لا يقدرون على الإتيان بمثل القرآن أو بمثل السورة لما أنه قرآن مشتمل على جهات لا تتعلق بها قدرة الإنسان و لا يظهر عليها غيره تعالى و قد أطلق القول فيها إطلاقا.
و أما هذه الآية فلما عقبت بقوله: «فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله» دل ذلك على أن التحدي فيها إنما هو بكون القرآن متضمنا لما يختص علمه بالله تعالى و لا سبيل لغيره إليه، و هذا أمر لا يقبل الافتراء بذاته فكأنه قيل: إن هذا القرآن لا يقبل بذاته افتراء فإنه متضمن لأمور من العلم الإلهي الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه، و إن ارتبتم في ذلك فأتوا بعشر سور مثله مفتريات تدعون أنها افتراء، و استعينوا بمن استطعتم من دون الله فإن لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من العلم المخصوص به تعالى.
فافهم ذلك.
و ثانيهما: معنى التحدي بالمثل حيث قيل: «بمثل هذا القرآن» «بحديث مثله» «بسورة مثله» «بعشر سور مثله» و الوجه الظاهر فيه أن الكلام لما كان آية معجزة فلو أتى إنسان بما يماثله لكفى في إبطال كونه آية معجزة و لم يحتج إلى الإتيان بما يترجح عليه في صفاته و يفضل عليه في خواصه.
و ربما يورد عليه أن عدم قدرة غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك لا يدل على كونه معجزة غير مستندة إليه لأن صفات الكمال التي توجد في النوع الإنساني كالبلاغة و الكتابة و الشجاعة و السخاء و غيرها لها مراتب متفاوتة مختلفة يفضل بعضها على بعض، و إذا كان كذلك كان من المراتب ما هو فوق الجميع و هو غاية ما يمكن أن ترتقي إليه النفس الإنسانية البتة.
فكل صفة من صفات الكمال يوجد بين الأفراد الموصوفين بها من هو حامل للدرجة العليا و الغاية القصوى منها بحيث لا يعدله غيره و لا يعارضه أحد ممن سواه فبالضرورة بين أفراد الإنسان عامة من هو أبلغهم أو أكتبهم أو أشجعهم أو أسخاهم كما أن بينهم من هو أطولهم قامة و أكبرهم جثة، و لم لا يجوز أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أفصح الناس جميعا و أبلغهم و القرآن من كلامه الذي لا يسع لأحد أن يعارضه فيه لوقوفه موقفا ليس لغيره فيه موضع قدم فلا؟ يكون عندئذ عجز غيره عن الإتيان دليلا على كونه كلاما إلهيا غير بشري لجواز كونه كلاما بشريا مختصا به (صلى الله عليه وآله وسلم) مضنونا عن غيره.
هذا.
و يدفعه أن الصفات الإنسانية التي يقع فيها التفاضل و إن كانت على ما ذكر لكنها أياما كانت فهي مما تسمح بها الطبيعة الإنسانية بما أودع الله فيها من الاستعداد من غير أن تنشأ عن اتفاق و من غير سبب يمكن الفرد الموصوف من الاتصاف بها.
و إذا كان كذلك و فرض فرد من الإنسان اختص بصفة فاضلة لا يعدله غيره و لا يفوقه سواه كان لغيره أن يسلك ما مهده من السبيل و يتعود بالتمرن و التدرب و الارتياض بما يأتيه من الأعمال التي تصدر عما عنده من صفة الكمال فيأتي بما يماثل بعض ما يختص به من الكمال و يقلده في نبذة من أعماله و إن لم يقدر على أن يزاحمه في الجميع و يماثله في الكل، و يبقى للفرد النابغ المذكور مقام الأصالة و السبقة و التقدم في ذلك فالحاتم مثلا و إن كان هو المتفرد غير المعارض في سخائه و جوده من غير أن يسع غيره أن يتقدم عليه و يسبقه لكن من الممكن أن يرتاض مرتاض في سبيله فيتمرن و يتدرب فيه فيأتي بشيء من نوع سخائه و جوده و إن لم يقدر على مزاحمته في الجميع و في أصل مقامه، و الكمالات الإنسانية التي هي منابع للأعمال سبيلها جميعا هذا السبيل، و يتمكن الإنسان بالتمرن و التدرب على سلوك سبيل السابقين المبدعين فيها و الإتيان بشيء من أعمالهم و إن لم يسع مزاحمتهم في أصل موقفهم.
فلو كان القرآن من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على فرض أنه أبلغ إنسان و أفصحه كان من الجائز أن يهتم غيره فيتمرن على سلوك ما أبدعه في كلامه من النظم البديع فيقدر على تقليده في شيء من الكلام و إتيان شيء من القول بسورة مثله و إن لم يقدر على تقليد القرآن كله و الإتيان بجميعه.
و لم يقل فيما تحدى به: فليأتوا بحديث أبلغ منه أو أحسن أو بسورة هي أبلغ أو أحسن حتى يقال: إن القرآن أبلغ كلام بشري أو أحسنه ليس هناك ما هو أبلغ أو أحسن منه حتى يأتي به آت فلا يدل عدم القدرة على الإتيان بذلك على كونه كلاما لغير البشر، بل إنما قال: «فليأتوا بحديث مثله» «قل فأتوا بسورة مثله» و هكذا و في وسع البشر الإتيان بمثل كلام غيره من البشر و إن فرض كون ذلك الغير ذا موقف من الكلام لا يعارضه غيره على ما بيناه فالشبهة مندفعة بقوله تعالى «مثله».
قوله تعالى: «فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله و أن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون» إجابة الدعوة و استجابتها بمعنى.
و الظاهر من السياق أن الخطاب في الآية للمشركين، و أنه من تمام كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أمر بقوله تعالى: «قل» إن يلقيه إليهم، و على هذا فضمير الجمع في قوله: «لم يستجيبوا» راجع إلى الآلهة و كل من استعانوا به المدلول عليهم بقوله: «و ادعوا من استطعتم من دون الله».
و المعنى: فإن لم يستجب لكم معاشر المشركين هؤلاء الذين دعوتموهم من آلهتكم و من بلغاء أهل لسانكم العارفين بأساليب الكلام و علماء أهل الكتاب الذين عندهم الكتب السماوية و أخبار الأنبياء و الأمم و الكهنة المستمدين من إلقاء شياطين الجن، و جهابذة العلم و الفهم من سائر الناس المتعمقين في المعارف الإنسانية بأطرافها فاعلموا أنما أنزل هذا القرآن بعلم الله و لم يختلق عن علمي أنا و لا غيري ممن تزعمون أنه يعلمني و يملي علي، و اعلموا أيضا أن ما أدعوكم إليه من التوحيد حق فإنه لو كان هناك إله من دون الله لنصركم على ما دعوتموه إليه فهل أنتم أيها المشركون مسلمون لله تعالى منقادون لأمره؟.
فقوله تعالى: «فإن لم يستجيبوا لكم» في معنى قولنا: فإن لم تقدروا على المعارضة بعد الاستعانة و الاستمداد بمن استطعتم أن تدعوهم من دون الله، و ذلك أن الأسباب التي توجب قدرتهم على المعارضة هي ما عندهم من قدرة البيان و قريحة البلاغة و هم يرون أن ذلك من مواهب آلهتهم من دون الله و كذا ما عند آلهتهم مما لم يهبوهم بعد، و لهم أن يؤيدوهم به إن شاءوا على زعمهم، و أيضا ما عند غير آلهتهم من المدد، و إذا لم يستجبهم الذين يدعونهم في معارضة القرآن فقد ارتفع جميع الأسباب الموجبة لقدرتهم و ارتفعت بذلك قدرتهم فعدم إجابته الشركاء على معارضة القرآن ملازم لعدم قدرتهم عليها حتى بما عند أنفسهم من القدرة ففي الكلام كناية.
و قوله: «فاعلموا أنما أنزل بعلم الله» الظاهر أن المراد بعلم الله هو العلم المختص به و هو الغيب الذي لا سبيل لغيره تعالى إليه إلا بإذنه كما قال تعالى: «لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه:» النساء: - 166، و قال: «ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك:» يوسف: - 102، و قال: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول:» الجن: - 27، و قال: «إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين:» الواقعة: - 80.
فالمعنى: فإن لم تقدروا على معارضته بأي سبب ممد تعلقتم به من دون الله فتيقنوا أنه لم ينزل إلا عن سبب غيبي و أنه من أنباء الغيب الذي يختص به تعالى فهو الذي أنزله علي و كلمني به و أراد تفهيمي و تفهيمكم بما فيه من المعارف الحقة و ذخائر الهداية.
و ذكر بعضهم أن المراد به أنه إنما أنزل على علم من الله بنزوله و شهادة منه له، و ذكر آخرون أن المراد أنه إنما أنزل بعلم من الله أنه لا يقبل المعارضة أو بعلم من الله بنظمه و ترتيبه و لا يعلم غيره ذلك و هذه معان واهية بعيدة عن الفهم.
و الجملة أعني قوله: «إنما أنزل بعلم الله» إحدى النتيجتين المأخوذتين من عدم استجابة شركائهم لهم.
و النتيجة الأخرى قوله: «و أن لا إله إلا هو» و لزوم هذه النتيجة من وجهين: أحدهما: أنهم إذا دعوا آلهتهم لما يهمهم من الأمور فلم يجيبوهم كشف ذلك عن أنهم ليسوا بآلهة فليس الإله إلا من يجيب المضطر إذا دعاه و خاصة إذا دعاه لما فيه نفع الإله المدعو فإن القرآن الذي أتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقطع دابرهم و يميت ذكرهم و يصرف الناس عن التوجه إليهم فإذا لم يجيبوا أولياءهم إذا دعوهم لمعارضة كتاب هذا شأنه كان ذلك من أوضح الدليل على نفي ألوهيتهم.
و ثانيهما: أنه إذا صح أن القرآن حق نازل من عند الله صادق فيما يخبر به، و مما يخبر به أنه ليس مع الله إله آخر علم بذلك أنه لا إله إلا الله سبحانه.
و قوله: «فهل أنتم مسلمون» أي لما علمتم و اتضح لكم من جهة عدم استجابة شركائكم من دون الله و عجزكم عن المعارضة فهل أنتم مسلمون لما وقع عليه علمكم هذا من توحيد الله سبحانه و كون هذا القرآن كتابا نازلا بعلمه؟ و هو أمر بالإسلام في صورة الاستفهام هذا كله ما يقتضيه ظاهر الآية.
و قيل: إن الخطاب في قوله: «فإن لم يستجيبوا لكم» إلخ، للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خوطب بلفظ الجمع تعظيما له و تفخيما لشأنه و ضمير الجمع الغائب راجع إلى المشركين أي فإن لم يستجب المشركون لما دعوتهم أيها النبي إليه من المعارضة فاعلم أنه منزل بعلم الله و أن الله واحد فهل أنت مسلم لأمره.
و فيه أنه قد صح أن التعظيم بلفظ الجمع و الكثرة يختص في الكلام العربي بالمتكلم و أما الخطاب و الغيبة فلا تعظيم فيها بلفظ الجمع.
مضافا إلى أن استناد الوحي الإلهي و التكليم الرباني إليه تعالى استناد ضروري لا يقبل الشك حتى يستعان عليه بالدليل فما يتلقاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دلالته على كونه كلاما من الله دلالة ضرورية غير محتاجة إلى حجة حتى يحتج عليه بعدم إجابة المشركين إلى معارضة القرآن و عجزهم عنها بخلاف كلام المخلوقين من الإنسان و الجن و الملك و أي هاتف آخر فإنه يحتاج في حصول العلم باستناده إلى متكلمه إلى دليل خارجي من حسن أو عقل، و قد تقدمت إشارة إلى ذلك في قصة زكريا من سورة آل عمران، و سيجيء البحث المستوفى عن ذلك فيما يناسبه من المورد إن شاء الله تعالى.
على أن خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمثل قوله: «و أن لا إله إلا هو»، و قوله: «فهل أنتم مسلمون» لا يخلو عن بشاعة.
على أن نفس الاستدلال أيضا غير تام كما سنبين.
و قيل: إن الخطاب في الآية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين جميعا أو للمؤمنين خاصة لأن المؤمنين يشاركونه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدعوة الدينية و التحدي بالقرآن الذي هو كتاب ربهم المنزل عليهم و المعنى: فإن لم يستجب المشركون لكم في المعارضة فاعلموا أن القرآن منزل بعلم الله و أن لا إله إلا هو فهل تسلمون أنتم لله؟.
و لما تفطن بعضهم أن لا معنى لدعوة المؤمنين و هم مؤمنون بالله وحده و بكتابه إلى العلم بأنه كتاب نازل من عند الله و بأنه تعالى واحد لا شريك له أصلحه بأن المراد فاثبتوا على علمكم أنه إنما أنزل بعلم الله و ازدادوا به إيمانا و يقينا و أنه لا إله إلا هو و لا يستحق العبادة سواه فهل أنتم ثابتون على إسلامكم و الإخلاص فيه؟.
و فيه أنه تقييد للآية من غير مقيد و الحجة غير تامة و ذلك أن المشركين لو كانوا وقفوا موقف المعارضة بما عندهم من البضاعة و استعانوا عليها بدعوة آلهتهم و سائر من يطمعون فيه من الجن و الإنس ثم عجزوا كان ذلك دليلا واضحا يدلهم على أن القرآن فوق كلام البشر و تمت بذلك الحجة عليهم، و أما عدم استجابة الكفار للمعارضة فليس يدل على كونه من عند الله لأنهم لم يأتمروا بما أمروا به بقوله: «فأتوا بعشر سور مثله مفتريات» إما لعلمهم بأنه كلام الله الحق و إنما كان قولهم: «افتراه» قولا ناشئا عن العناد و اللجاج لا عن إذعان به أو شك فيه، أو لأنهم كانوا آيسين من استجابة شركائهم للدعوة على المعارضة، أو لأنهم كانوا هازلين في قولهم ذلك يهذرون هذرا.
و بالجملة عدم استجابة المشركين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو للمؤمنين أو لهم جميعا لا يدل بنفسه على كون القرآن نازلا من عند الله إلا إذا كان عدم الاستجابة المذكورة بعد تحقق دعوتهم شركاءهم إلى المعارضة و عدم استجابتهم لهم، و لم يتحقق من المشركين دعوة على هذه الصفة، و مجرد عدم استجابة المشركين أنفسهم لا ينفع شيئا، و لا يبقى إلا أن يقال: إن معنى الآية: فإن دعا المشركون من استطاعوا من دون الله فلم يستجيبوا لهم و لم يستجب المشركون لكم أيها النبي و معاشر المؤمنين فاعلموا أنما أنزل بعلم الله إلخ، و هذا هو الذي أومأنا إليه آنفا أنه تقييد للآية من غير مقيد.
على أن فيه أمرا للمؤمنين أن يهتدوا في إيمانهم و يقينهم بأمر فرضي غير واقع و كلامه تعالى يجل عن ذلك، و لو أريدت الدلالة على أنهم غير قادرين على ذلك و إن دعوا شركاءهم إلى المعارضة كان من حق الكلام أن يقال: فإن لم يستجيبوا لكم و لن يستجيبوا فاعلموا إلخ، كما قيل كذلك في نظيره قال تعالى: «و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله و ادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا و لن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة أعدت للكافرين:» البقرة: - 24.
قوله تعالى: «من كان يريد الحيوة الدنيا و زينتها نوف إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون» التوفية إيصال الحق إلى صاحبه و إعطاؤه له بكماله، و البخس نقص الأجر.
و في الآية تهديد لهؤلاء الذين لا يخضعون للحق لما جاءهم و لا يسلمون له إيثارا للحياة الدنيا و نسيانا للآخرة، و بيان لشيء من سنة الأسباب القاضية عليهم باليأس من نعيم الحياة الآخرة.
و ذلك أن العمل كيفما كان فإنما يسمح للإنسان بالغاية التي أرادها به و عمله لأجلها، - فإن كانت غاية دنيوية تصلح شئون الحياة الدنيا من مال و جمال و حسن حال ساقه العمل - إن أعانته سائر الأسباب العاملة - إلى ما يرجوه بالعمل و أما الغايات الأخروية فلا خبر عنها لأنها لم تقصد حتى تقع، و مجرد صلاحية العمل لأن يقع في طريق الآخرة و ينفع في الفوز بنعيمها كالبر و الإحسان و حسن الخلق لا يوجب الثواب و ارتفاع الدرجات ما لم يقصد به وجه الله و دار ثوابه.
و لذلك عقبه بقوله تعالى: «أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار و حبط ما صنعوا فيها و باطل ما كانوا يعملون» فأخبر أنهم إذا وردوا الحياة الآخرة وقعوا في دار حقيقتها أنها نار تأكل جميع أعمالهم في الحياة كما تأكل النار الحطب و تبير و تهلك كل ما تطيب به نفوسهم من محاسن الوجود، و تحبط جميع ما صنعوا فيها و تبطل ما أسلفوا من الأعمال في الدنيا، و لذلك سماها سبحانه في موضع آخر بدار البوار أي الهلاك فقال تعالى: «أ لم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها:» إبراهيم: - 29، و بذلك يظهر أن كلا من قوله: «و حبط ما صنعوا فيها» و قوله: «و باطل ما كانوا يعملون» يفسر قوله: «أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار» نوعا ما من التفسير.
و بما تقدم يظهر أولا: أن المراد من توفية أعمالهم إليهم توفية نتائجها و إيصال الآثار التي لها بحسب نظام الأسباب و المسببات لا ما يقصده الفاعل بفعله و يرجوه بمسعاه فإن الذي يناله الفاعل في هذه النشأة بفعله هو نتيجة الفعل التي يعينه سائر الأسباب العاملة عليها لا ما يؤمه الفاعل كيفما كان فما كل ما يتمنى المرء يدركه.
و قد عبر تعالى عن هذه الحقيقة في موضع آخر بقوله: «و من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها و ما له في الآخرة من نصيب:» الشورى: - 20، فقال تعالى: «نؤته منها» و لم يقل: نؤته إياها، و قال في موضع آخر: «من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا:» إسراء: - 18 فذكر ما يريده الإنسان من الدنيا و يناله منها و زاد بيانا أنه ليس كل من يريد أمرا يناله و لا كل ما يراد ينال بل الأمر إلى الله سبحانه يعطي ما يشاء و يمنع ما يشاء و يقدم من يريد و يؤخر من يريد على ما تجري عليه سنة الأسباب.
و ثانيا: أن الآيتين أعني قوله: «من كان يريد الحيوة الدنيا و زينتها نوف إليهم أعمالهم» إلى آخر الآيتين تبينان حقيقة من الحقائق الإلهية.
بحث روائي
في الكافي،: في قوله تعالى: «ألا إنهم يثنون صدورهم» الآية: بإسناده عن ابن محبوب عن جميل بن صالح عن سدير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أخبرني جابر بن عبد الله أن المشركين كانوا إذا مروا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حول البيت طأطأ أحدهم رأسه و ظهره هكذا و غطى رأسه بثوب لا يراه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: «ألا إنهم يثنون» الآية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي رزين قال: كان أحدهم يحني ظهره و يستغشي بثوبه.
و في المجمع، روي عن علي بن الحسين و أبي جعفر و جعفر بن محمد (عليهما السلام): يثنوني على يعفوعل.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن الفضيل عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل من أهل البادية فقال: يا رسول الله إن لي بنين و بنات و إخوة و أخوات و بني بنين و بني بنات و بني إخوة و بني أخوات و المعيشة علينا خفيفة فإن رأيت يا رسول الله أن تدعو الله أن يوسع علينا. قال: و بكى فرق له المسلمون فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما من دابة في الأرض - إلا على الله رزقها و يعلم مستقرها و مستودعها - كل في كتاب مبين» من كفل بهذه الأفواه المضمونة على الله رزقها صب الله عليه الرزق صبا كالماء المنهمر إن قليل فقليلا و إن كثير فكثيرا. قال: ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمن له المسلمون. قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): فحدثني من رأى الرجل في زمن عمر فسأله عن حاله فقال: من أحسن من خوله حلالا و أكثرهم مالا.
و في الدر المنثور، أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا كان أجل أحدكم بأرض أتيحت له إليها حاجة حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض فتقول الأرض يوم القيامة: هذا ما استودعتني.
أقول: و الرواية غير ظاهرة في تفسير الآية.
و في الكافي، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع: ألا إن الروح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب، و لا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بشيء من معصية الله فإن الله تعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا و لم يقسمها حراما فمن اتقى الله و صبر أتاه رزقه من حله، و من هتك حجاب ستر الله عز و جل و أخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال و حوسب عليه.
أقول: الرواية من المشهورات رواها العامة و الخاصة بطرق كثيرة.
و في تفسير العياشي، عن أبي الهذيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله قسم الأرزاق بين عباده و أفضل فضلا كبيرا لم يقسمه بين أحد قال الله: «و اسألوا الله من فضله»: أقول: و الرواية مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد تقدمت بعض ما في هذا المعنى من الأخبار في ذيل قوله تعالى: «و ترزق من تشاء بغير حساب:» سورة آل عمران آية - 27، و قوله تعالى: «و اسألوا الله من فضله:» سورة النساء: آية - 32.
و في الكافي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) كثيرا ما يقول: اعلموا علما يقينا أن الله جل و عز لم يجعل للعبد و إن اشتد جهده، و عظمت حيلته و كثرت مكايده أن يسبق ما سمي له في الذكر الحكيم. أيها الناس إنه لن يزداد امرؤ نقيرا بحذقه، و لن ينقص امرؤ نقيرا لحمقه فالعالم بهذا العامل به أعظم الناس راحة في منفعته و العالم بهذا التارك له أعظم الناس شغلا في مضرته، و رب منعم عليه مستدرج بالإحسان إليه و رب مغرور في الناس مصنوع له. فاتق الله أيها الساعي عن سعيك، و قصر من عجلتك، و انتبه من سنة غفلتك و تفكر فيما جاء عن الله عز و جل على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).
الحديث.
و في الكافي، بإسناده عن ابن أبي عمير عن عبد الله بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن محمد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أظن أن علي بن الحسين يدع خلقا أفضل منه حتى رأيت ابنه محمد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني فقال له أصحابه: بأي شيء وعظك؟ فقال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيني أبو جعفر محمد بن علي و كان رجلا بادنا ثقيلا و هو متكىء على غلامين أسودين أو موليين فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحالة في طلب الدنيا أما إني لأعظنه. فدنوت منه و سلمت عليه فرد علي بنهر و هو ينصاب عرقا فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحالة في طلب الدنيا أ رأيت لو جاء أجلك و أنت على هذه الحال؟ فقال: لو جاءني الموت و أنا على هذه الحال جاءني و أنا في طاعة من طاعة الله عز و جل أكف بها نفسي و عيالي عنك و عن الناس، و إنما كنت أخاف أن جاءني الموت و أنا على معصية من معاصي الله. فقلت: صدقت يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني.
و فيه، بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: استقبلت أبا عبد الله في بعض طرق المدينة في يوم صائف شديد الحر فقلت: جعلت فداك حالك عند الله عز و جل و قرابتك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنت تجهد نفسك في مثل هذا اليوم؟ فقال: يا عبد الأعلى خرجت في طلب الرزق لأستغني به عن مثلك.
أقول: و لا منافاة بين القضاء بالرزق و بين الأمر بطلبه.
و هو ظاهر.
و في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و أحمد و الترمذي و حسنه و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و أبو الشيخ في العظمة و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء و ما فوقه هواء، و خلق عرشه على الماء.
أقول: العماء الغيم الذي يمنع نفوذ البصر فيه، و «ما» في قوله: «ما تحته هواء و ما فوقه هواء» موصولة و المراد بالهواء هو الخالي من كل شيء كما في قوله تعالى: «و أفئدتهم هواء» أو أنها نافية و المراد بالهواء معناه المعروف، و المراد به أنه كان عماء لا يحيط به الهواء على خلاف سائر العماءات.
و الرواية من أخبار التجسم و لذا وجه بأن قوله: في عماء إلخ كناية عن غيب الذات الذي تكل عنه الأبصار و تتحير فيه الألباب.
و فيه، أخرج أحمد و البخاري و الترمذي و النسائي و أبو الشيخ في العظمة و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن عمران بن حصين قال: قال أهل اليمن: يا رسول الله أخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: كان الله قبل كل شيء، و كان عرشه على الماء، و كتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء، و خلق السماوات و الأرض. فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا بن الحصين فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب فوالله لوددت أني تركتها.
أقول: و روى عدة من رجال الحديث هذه الرواية عن بريدة: و قال بريدة في آخرها: «ثم أتاني آت فقال: هذه ناقتك قد ذهبت فخرجت و السراب ينقطع دونها فلوددت أني كنت تركتها» و هذا مما يوهن الحديثين.
و فيه،: في قوله تعالى: «ليبلوكم أيكم أحسن عملا»: أخرج داود بن المحبر في كتاب العقل و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم في التاريخ و ابن مردويه عن ابن عمر قال: تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية: «ليبلوكم أيكم أحسن عملا» فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلا. ثم قال: و أحسنكم عقلا أورعكم عن محارم الله و أعلمكم 1 بطاعة الله.
و في الكافي، مسندا عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «ليبلوكم أيكم أحسن عملا» قال: قال: ليس يعني أكثركم عملا و لكن أصوبكم عملا، و إنما الإصابة خشية الله و النية الصادقة. ثم قال: الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، و العمل الخالص: الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز و جل و النية أفضل من العمل ألا إن النية هي العمل ثم تلا قوله عز و جل: «قل كل يعمل على شاكلته» يعني على نيته.
أقول: قوله ألا إن النية هي العمل يعني ليس للعمل أثر إلا لما معه من النية.
و في تفسير النعماني، بإسناده عن إسحاق بن عبد العزيز عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: «لئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة» قال: العذاب خروج القائم (عليه السلام) و الأمة المعدودة أهل بدر و أصحابه: أقول: و روى هذا المعنى الكليني في الكافي، و القمي و العياشي في تفسيريهما عن علي و الباقر و الصادق (عليهما السلام).
و في المجمع، قيل: إن الأمة المعدودة هم أصحاب المهدي ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا كعدة أهل بدر يجتمعون في ساعة واحدة كما يجتمع قزع الخريف قال: و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
و في تفسير القمي،: في قوله: «إلا الذين صبروا و عملوا الصالحات» قال: قال: صبروا في الشدة و عملوا الصالحات في الرخاء.
و في الدر المنثور،: في قوله: «من كان يريد الحيوة الدنيا»: أخرج البيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا كان يوم القيامة صارت أمتي ثلاث فرق: فرقة يعبدون الله خالصا، و فرقة يعبدون الله رياء، و فرقة يعبدون الله يصيبون به دنيا فيقول للذي كان يعبد الله للدنيا: بعزتي و جلالي ما أردت بعبادتي؟ فيقول: الدنيا فيقول: لا جرم لا ينفعك ما جمعت و لا ترجع إليه انطلقوا به إلى النار، و يقول للذي يعبد الله رياء: بعزتي و جلالي ما أردت بعبادتي؟ قال: الرياء فيقول: إنما كانت عبادتك التي كنت ترائي بها لا يصعد إلي منها شيء و لا ينفعك اليوم انطلقوا به إلى النار. و يقول للذي كان يعبد الله خالصا: بعزتي و جلالي ما أردت بعبادتي؟ فيقول: بعزتك و جلالك لأنت أعلم به مني كنت أعبدك لوجهك و لدارك قال: صدق عبدي انطلقوا به إلى الجنة.
|