بيان
ظاهر الآيات أنها واقعة موقع التطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تقوية إيمانه بكتاب الله و تأكيد ما عنده من البصيرة في أمره فالكلام جار على ما كان عليه من خطابه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كان وجه الكلام إليه حتى انتهى إلى ما اتهموه به من الافتراء على الله سبحانه فأمره أن يتحدى عليهم بإتيان عشر سور مثله مفتريات ثم أمره أن يطيب نفسا و يثبت على ما عنده من العلم بأنه منزل من عند الله فإنما هو على الحق و ليس بمفتر فلا يستوحش من إعراض الأكثرين و لا يرتاب.
قوله تعالى: «أ فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة» الجملة تفريع على ما مضى من الكلام الذي هو في محل الاحتجاج على كون القرآن كتابا منزلا من عند الله سبحانه، و «من» مبتدأ خبره محذوف و التقدير: كغيره، أو ما يؤدي معناه، و الدليل عليه قوله تلوا: «أولئك يؤمنون به و من يكفر به من الأحزاب فالنار موعده».
و الاستفهام إنكاري و المعنى: ليس من كان كذا و كذا كغيره ممن ليس كذلك و أنت على هذه الصفات فلا تك في مرية من القرآن.
و قوله: «على بينة من ربه» البينة صفة مشبهة معناها الظاهرة الواضحة غير أن الأمور الظاهرة الواضحة ربما أوضحت ما ينضم إليها و يتعلق بها كالنور الذي هو بين ظاهر و يظهر به غيره، و لذلك كثر استعمال البينة فيما يتبين به غيره كالحجة و الآية، و يقال للشاهد على دعوى المدعي بينة.
و قد سمى الله تعالى الحجة بينة كما في قوله: «ليهلك من هلك عن بينة:» الأنفال: - 42 و سمى آيته بينة كما في قوله: «قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية:» الأعراف: - 73 و سمى البصيرة الخاصة الإلهية التي أوتيها الأنبياء بينة كما في قوله حكاية عن نوح (عليه السلام): «يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي و آتاني رحمة من عنده:» هود: - 28 أو مطلق البصيرة الإلهية كما هو ظاهر قوله تعالى: «أ فمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله و اتبعوا أهواءهم:» سورة محمد: - 14 و قد قال تعالى في معناه: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها:» الأنعام: - 122.
و الظاهر أن المراد بالبينة في المقام هو هذا المعنى الأخير العام بقرينة قوله بعد: «أولئك يؤمنون به» و إن كان المراد به بحسب المورد هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الكلام مسوق ليتفرع عليه قوله: «فلا تك في مرية منه».
فالمراد بها البصيرة الإلهية التي أوتيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا نفس القرآن النازل عليه فإنه لا يحسن ظاهرا أن يتفرع عليه قوله: «فلا تك في مرية منه» و هو ظاهر و لا ينافيه كون القرآن في نفسه بينة من الله من جهة كونه آية منه تعالى كما في قوله: «قل إني على بينة من ربي و كذبتم به:» الأنعام: - 57 فإن المقام غير المقام.
و بما مر يظهر أن قول من يقول: إن المراد بمن كان إلخ، النبي خاصة إرادة استعمالية ليس في محله و إنما هو مراد بحسب انطباق المورد.
و كذا قول من قال: إن المراد به المؤمنون من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا دليل على التخصيص.
و يظهر أيضا فساد القول بأن المراد بالبينة هو القرآن، و كذا القول بأنها حجة العقل و أضيفت إلى الرب تعالى لأنه ينصب الأدلة العقلية و النقلية.
و وجه فساده أنه لا دليل على التخصيص و لا تقاس البينة القائمة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ناحيته تعالى بالتعريف الإلهي القائم لنا من ناحية العقول.
و قوله تعالى: «و يتلوه شاهد منه» المراد بالشهادة تأدية الشهادة التي تفيد صحة الأمر المشهود له دون تحملها فإن المقام مقام تثبيت حقية القرآن و هو إنما يناسب الشهادة بمعنى التأدية لا بمعنى التحمل.
و الظاهر أن المراد بهذا الشاهد بعض ما أيقن بحقية القرآن و كان على بصيرة إلهية من أمره فآمن به عن بصيرته و شهد بأنه حق منزل من عند الله تعالى كما يشهد بالتوحيد و الرسالة فإن شهادة الموقن البصير على أمر تدفع عن الإنسان مرية الاستيحاش و ريب التفرد فإن الإنسان إذا أذعن بأمر و تفرد فيه ربما أوحشه التفرد فيه إذا لم يؤيده أحد في القول به أما إذا قال به غيره من الناس و أيد نظره في ذلك زالت عنه الوحشة و قوي قلبه و ارتبط جأشه و قد احتج تعالى بما يماثل هذا المعنى في قوله: «قل أ رأيتم إن كان من عند الله و كفرتم به و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن و استكبرتم:» الأحقاف: - 10.
و على هذا فقوله: «يتلوه» من التلو لا من التلاوة، و الضمير فيه راجع إلى «من» أو إلى «بينة» باعتبار أنه نور أو دليل، و مآل الوجهين واحد فإن الشاهد الذي يلي صاحب البينة يلي بينته كما يلي نفسه و الضمير في قوله: «منه» راجع إلى «من» دون قوله: «ربه» و عدم رجوعه إلى البينة ظاهر و محصل المعنى: من كان على بصيرة إلهية من أمر و لحق به من هو من نفسه فشهد على صحة أمره و استقامته.
و على هذا الوجه ينطبق ما ورد في روايات الفريقين أن المراد بالشاهد علي (عليه السلام) إن أريد به أنه المراد بحسب انطباق المورد لا بمعنى الإرادة الاستعمالية.
و للقوم في معنى الجملة أقوال شتى فقيل: إن «يتلو» من التلاوة كما قيل: إنه من التلو، و قيل: إن الضمير في «يتلوه» راجع إلى «بينة» كما قيل: إنه راجع إلى «من».
و قيل: المراد بالشاهد القرآن: و قيل: جبرائيل يتلو القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لعله مأخوذ من قوله تعالى: «لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون:» النساء: - 166، و قيل: الشاهد ملك يسدد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يحفظه القرآن، و لعله لنوع من الاستناد إلى الآية المذكورة.
و قيل: الشاهد هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد قال تعالى: «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا:» الأحزاب: 45، و قيل: شاهد منه لسانه أي يتلو القرآن بلسانه.
و قيل: الشاهد علي بن أبي طالب (عليه السلام)، و قد وردت به عدة روايات من طرق الشيعة و أهل السنة.
و التأمل في سياق الآية و ظاهر جملها يكفي مئونة إبطال هذه الوجوه غير ما قدمناه من معنى الآية فلا نطيل الكلام بالبحث عنها و المناقشة فيها.
و قوله تعالى: «و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة» الضمير راجع إلى الموصول أو إلى البينة على حد ما ذكرناه في ضمير «يتلوه» و الجملة حال بعد حال أي أ فمن كان على بصيرة إلهية ينكشف له بها أن القرآن حق منزل من عند الله و الحال أن معه شاهدا منه يشهد بذلك عن بصيرة و الحال أن هذا الذي هو على بينة سبقه كتاب موسى إماما و رحمة أو قبل بينته التي منها القرآن أو هي القرآن المشتمل على المعارف و الشرائع الهادية إلى الحق كتاب موسى إماما فليس هو أو ما عنده من البينة ببدع من الأمر غير مسبوق بمثل و نظير بل هناك طريق مسلوك من قبل يهدي إليه كتاب موسى.
و من هنا يظهر وجه توصيف كتاب موسى و هو التوراة بالإمام و الرحمة فإنه مشتمل على معارف حقة و شريعة إلهية يؤتم به في ذلك و يتنعم بنعمته، و قد ذكره الله بهذا الوصف في موضع آخر من كلامه فقال: «قل أ رأيتم إن كان من عند الله و كفرتم به و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن و استكبرتم - إلى أن قال - و قال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه و إذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة و هذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا و بشرى للمحسنين:» الأحقاف: - 12.
و الآيات - كما ترى - أقرب الآيات مضمونا من الآية المبحوث عنها تذكر أولا: أن القرآن بينة إلهية أو أمر قامت عليه بينة إلهية ثم تذكر شهادة الشاهد من بني إسرائيل عليه و تأيده بها ثم تذكر أنه مسبوق فيما يتضمنه من المعارف و الشرائع بكتاب موسى الذي كان إماما و رحمة يأتم به الناس و يهتدون، و طريقا مسلوكا مجربا، و القرآن كتاب مثله مصدق له منزل من عند الله لإنذار الظالمين و تبشير المحسنين.
و من هنا يظهر أيضا: أن قوله: «إماما و رحمة» حال من كتاب موسى لا من قوله: «شاهد منه» على ما ذكره بعضهم.
قوله تعالى: «أولئك يؤمنون به و من يكفر به من الأحزاب فالنار موعده» المشار إليهم بقوله: «أولئك» بناء على ما تقدم من معنى صدر الآية هم الذين كانوا على بينة من ربهم المدلول عليهم بقوله: «أ فمن كان» إلخ، و أما إرجاع الإشارة إلى المؤمنين لدلالة السياق عليهم فبعيد عن الفهم.
و كذا الضمير في قوله: «به» راجع إلى القرآن من جهة أنه بينة منه تعالى أو أمر قامت عليه البينة، و أما إرجاعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يلائم ما قررناه من معنى الآية فإن في صدر الآية بيان حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنحو العموم حتى يتفرع عليه قوله: «فلا تك في مرية منه» كأنه قيل: إنك على بينة كذا و معك شاهد و قبلك كتاب موسى، و من كان على هذه الصفة يؤمن بما أوتي من كتاب الله، و لا يصح أن يقال: و من كان على هذه الصفة يؤمن بك، و الكلام في الضمير في «و من يكفر به» كالكلام في ضمير «يؤمنون به».
و أمر الآية فيما يحتمله مفردات ألفاظها و ضمائرها عجيب فضرب بعضها في بعض يرقى إلى ألوف من المحتملات بعضها صحيح و بعضها خلافه.
قوله تعالى: «فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك و لكن أكثر الناس لا يؤمنون» المرية كجلسة النوع من الشك، و الجملة تفريع على صدر الآية، و المعنى أن من كان على بينة من ربه في أمر و قد شهد عليه شاهد منه و قبله إمام و رحمة ككتاب موسى ليس كغيره من الناس الغافلين المغفلين فهو يؤمن بما عنده من أمر الله و لا يوحشه إعراض أكثر الناس عما عنده، و أنت كذلك فإنك على بينة من ربك و يتلوك شاهد و من قبلك كتاب موسى إماما و رحمة و إذا كان كذلك فلا تك في مرية من أمر ما أنزل إليك من القرآن إنه محض الحق من جانب الله و لكن أكثر الناس لا يؤمنون.
و قوله: «إنه الحق من ربك» تعليل للنهي و قد أكد بإن و لام الجنس للدلالة على توافر الأسباب النافية للمرية و هي قيام البينة و شهادة الشاهد و تقدم كتاب موسى إماما و رحمة.
قوله تعالى: «و من أظلم ممن افترى على الله كذبا» إلى آخر الآية، من الممكن أن يكون ذيلا للسياق السابق من حيث كان تطييبا لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيئول المعنى إلى أنك إذ كنت على بينة من ربك لست بظالم فحاشاك أن تكون مفتريا على الله الكذب لأن المفتري على الله كذبا من أظلم الظالمين، و لهم من وبال كذبهم كذا و كذا.
و كيف كان فالمراد بافتراء الكذب على الله سبحانه توصيفه تعالى بما ليس فيه أو نسبة شيء إليه بغير الحق أو بغير علم، و الافتراء من أظهر أفراد الظلم و الإثم، و يعظم الظلم بعظم متعلقه حتى إذا انتهى إلى ساحة العظمة و الكبرياء كان من أعظم الظلم.
و الكلام واقع موقع قلب الدعوى عليهم إذ كانوا يقولون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه افترى على الله كذبا بنسبة القرآن إليه فقلب القول عليهم أنهم هم الذين افتروا على الله كذبا إذا أثبتوا له شركاء بغير علم و هو الله لا إله إلا هو، و إذ صدوا عن سبيل الله و معناه نفي كونه سبيلا لله و هو افتراء، و إذ طلبوا سبيلا أخرى فاستنوا بها في حياتهم و كان ذلك تغييرا لسبيل الله التي تهدي إليها الفطرة و النبوة، و إذ كفروا بالآخرة فنفوها و ذلك إثبات مبدإ من غير معاد و نسبة اللغو و فعل الباطل إليه تعالى و هو افتراء عليه.
و بالجملة انتحالهم بغير دين الله و نحلته، و أخذهم بالعقائد الباطلة في المبدإ و المعاد و استنانهم بغير سنة الله في حياتهم الدنيوية الاجتماعية - و الذي من الله إنما هو الحق و لا سنة عند الله إلا دين الحق - افتراء على الله، و سيشهد عليهم الأشهاد بذلك يوم يعرضون على ربهم.
و قوله تعالى: «أولئك يعرضون على ربهم» العرض إظهار الشيء ليرى و يوقف عليه، و لما كان ارتفاع الحجب بينهم و بين ربهم يوم القيامة بظهور آياته و وضوح الحق الصريح من غير شاغل يشغل عنه حضورا اضطراريا منهم لفصل القضاء سماه عرضا لهم على ربهم كما سمي بوجه آخر بروزا منهم لله فقال: «يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء:» المؤمن: - 16، و قال: «و برزوا لله الواحد القهار:» إبراهيم: - 48 فقال: «أولئك يعرضون على ربهم» أي يأتي بهم الملائكة الموكلون بهم فيوقفونهم موقفا ليس بينهم و بين ربهم حاجب حائل لفصل القضاء.
و قوله: «و يقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم» الأشهاد جمع شهيد كأشراف جمع شريف و قيل: جمع شاهد كأصحاب جمع صاحب، و يؤيد الأول قوله تعالى: «فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد:» النساء: - 41 و قوله: «و جاءت كل نفس معها سائق و شهيد:» ق: - 21.
و قول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم شهادة منهم عليهم بالافتراء على الله أي سجل عليهم بأنهم المفترون من جهة شهادة الأشهاد عليهم بذلك في موقف لا يذكر فيه إلا الحق و لا مناص فيه عن الاعتراف و القبول كما قال تعالى: «لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا:» النبأ: - 38 و قال تعالى: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا:» آل عمران: - 30.
قوله تعالى: «ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله» إلخ، تتمة قول الأشهاد، و الدليل عليه قوله تعالى: «فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون:» الأعراف: - 45.
و هذا القول منهم المحكي في كلامه تعالى تثبيت منهم للبعد و اللعن على الظالمين و تسجيل للعذاب، و ليس اللعن و الرحمة يوم القيامة كاللعن و الرحمة في الدنيا كما في قوله تعالى: «أولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون:» البقرة: - 159 و ذلك أن الدنيا دار عمل و يوم القيامة يوم جزاء فما فيه من لعنة أو رحمة هو إيصال ما ادخر لهم إليهم فلعن اللاعن أحدا يوم القيامة طرده من رحمة الله الخاصة بالمؤمنين و تسجيل عذاب البعد عليه.
ثم فسر سبحانه الظالمين بقوله حكاية عنهم: «الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة هم كافرون» فهم الذين لا يذعنون بيوم الحساب حتى يعملوا له و إنما يعملون للدنيا و يسلكون من طريق الحياة ما يتمتعون به للدنيا المادية فحسب، و هو السنة الاجتماعية غير المعتنية بما يريده الله من عباده من دين الحق و ملة الفطرة فهؤلاء سواء اعتقدوا بصانع و عملوا بسنة محرفة منحرفة عن دين الفطرة و هو الإسلام أم لم يعتقدوا به ممن يقول: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلا الدهر، ظالمون مفترون على الله الكذب، و قد تقدم بعض الكلام المتعلق بهذه المعاني في سورة الأعراف آية 44 - 45.
و قد بان مما تقدم من البحث في الآيتين أولا: أن الدين في عرف القرآن هو السنة الاجتماعية الدائرة في المجتمع.
و ثانيا: أن السنن الاجتماعية إما دين حق فطري و هو الإسلام أو دين محرف عن الدين الحق و سبيل الله عوجا.
قوله تعالى: «أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض و ما كان لهم من دون الله من أولياء» إلى آخر الآية.
الإشارة إلى المفترين على الله الموصوفين بما مر في الآيتين السابقتين.
و المقام يدل على أن المراد من كونهم غير معجزين في الأرض أنهم لم يكونوا معجزين لله سبحانه في حياتهم الأرضية حيث خرجوا عن زي العبودية فأخذوا يفترون على الله الكذب و يصدون عن سبيله و يبغونها عوجا فكل ذلك لا لأن قدرتهم المستعارة فاقت قدرة الله سبحانه و مشيتهم سبقت مشيته، و لا لأنهم خرجوا من ولاية الله فدخلوا في ولاية غيره و هم الذين اتخذوهم أولياء من أصنامهم و كذا سائر الأسباب التي ركنوا إليها، و ذلك قوله: «و ما كان لهم من دون الله من أولياء».
و بالجملة لا قدرتهم غلبت قدرة الله سبحانه و لا شركاؤهم الذين يسمونهم أولياء لأنفسهم أولياء لهم بالحقيقة يدبرون أمرهم و يحملونهم على ما يأتون به من البغي و الظلم بل الله سبحانه هو وليهم و هو المدبر لأمرهم يجازيهم على سوء نياتهم و أعمالهم بما يجرهم إلى سوء العذاب و يستدرجهم من حيث لا يشعرون كما قال تعالى: «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم:» الصف: - 5، و قال: «يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين:» البقرة: - 26.
و قوله: «يضاعف لهم العذاب» ذلك لأنهم فسقوا ثم لجوا عليه أو لأنهم عصوا الله بأنفسهم و حملوا غيرهم على معصية الله فيضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا المعصية قال تعالى: «ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة و من أوزار الذين يضلونهم بغير علم:» النحل: - 25 و قال: «و نكتب ما قدموا و آثارهم:» يس: - 12.
و قوله: «ما كانوا يستطيعون السمع و ما كانوا يبصرون» في مقام التعليل و لذا جيء بالفصل يقول تعالى إنهم لم يكفروا و لم يعصوا لظهور إرادتهم على إرادة الله و لا لأن لهم أولياء من دون الله يستظهرون بهم على الله بل لأنهم ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا ما يأتيهم من الإنذار و التبشير من ناحيته أو يذكر لهم من البعث و الزجر من قبله و ما كانوا يبصرون آياته حتى يؤمنوا بها كما وصفهم في قوله: «لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل:» الأعراف: - 179، و في قوله: «و نقلب أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة:» الأنعام: - 110، و قوله: «ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة:» البقرة: - 7، و آيات أخرى كثيرة تدل على أنه تعالى سلبهم عقولهم و أعينهم و آذانهم غير أنه تعالى يحكي عنهم مثل قولهم: «و قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم:»، الملك: - 11، و اعترافهم بأن عدم سمعهم و عقلهم كان ذنبا منهم مع أن ذلك مستند إلى سلبه تعالى منهم ذلك يدل على أنهم أنفسهم توسلوا إلى سلب هذه النعم بالذنوب كما يدل عليه ما تقدم من قوله تعالى: «و ما يضل به إلا الفاسقين:» البقرة: - 26 و غيره.
و ذكروا في معنى قوله: «ما كانوا يستطيعون السمع و ما كانوا يبصرون» وجوها أخرى: منها: أن قوله: ما كانوا «إلخ»، في محل النصب بنزع الخافض و هو متعلق بقوله: يضاعف «إلخ»، و الأصل: بما كانوا يستطيعون السمع و بما كانوا يبصرون، و المعنى يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون و بما كانوا يستطيعون الإبصار فلا يبصرون.
و منها: أنه عنى بقوله: «ما كانوا يستطيعون» إلخ، نفي السمع و البصر عن آلهتهم و أوثانهم، و تقدير الكلام أولئك الكفار و آلهتهم لم يكونوا معجزين في الأرض، و قال مخبرا عن الآلهة: ما كانوا يستطيعون السمع و ما كانوا يبصرون.
و منها: أن لفظة ما في «ما كانوا» ليست للنفي بل تجري مجرى قولهم: لأواصلنك ما لاح نجم، و المعنى أنهم معذبون ما داموا أحياء.
و منها: أن نفي السمع و البصر بمعنى نفي الفائدة فإنهم لاستثقالهم استماع آيات الله و النظر فيها و كراهيتهم لذلك أجروا مجرى من لا يستطيع السمع و لا يبصر فالكلام على الكناية.
و أعدل الوجوه آخرها و هي جميعا سخيفة ظاهرة السخافة و الوجه ما قدمناه.
قوله تعالى: «أولئك الذين خسروا أنفسهم و ضل عنهم ما كانوا يفترون» أما خسرانهم فإن الإنسان لا يملك بالحقيقة - و ذلك بتمليك من الله تعالى - إلا نفسه و إذا اشترى لنفسه ما فيه هلاكها و ضيعتها بالكفر و المعصية فقد خسر في هذه المعاملة التي أقدم عليها نفسه فخسران النفس كناية عن الهلاك، و أما ضلال ما كانوا يفترون فإنه كان كذبا و افتراء ليس له وجود في الخارج من أوهامهم و مزاعمهم التي زينتها لهم الأهواء و الهوسات الدنيوية و بانطواء بساط الحياة الدنيا يزول و ينمحي تلك الأوهام و يضل ما لاح و استقر فيها من الكذب و الافتراء و يومئذ يعلمون أن الله هو الحق المبين، و يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.
قوله تعالى: «لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون» عن الفراء: أن «لا جرم» في الأصل بمعنى لا بد و لا محالة ثم كثرت فحولت إلى معنى القسم و صارت بمعنى «حقا» و لهذا تجاب باللام نحو لا جرم لأفعلن كذا.
انتهى، و قد ذكروا أن «جرم» بفتحتين بمعنى القطع فلعلها كانت في الأصل تستعمل في نتائج الكلام كلفظة «لا محالة» و تفيد أنه لا يقطع هذا القول قاطع أن كذا كذا كما يتصور نظير المعنى في «لا محالة» فمعنى الآية على هذا: حقا إنهم في الآخرة هم الأخسرون.
و وجه كونهم في الآخرة هم الأخسرين أن فرض أنهم أخسر بالنسبة إلى غيرهم من أهل المعاصي هو أنهم خسروا أنفسهم بإهلاكها و إضاعتها بالكفر و العناد فلا مطمع في نجاتهم من النار في الآخرة كما لا مطمع في أن يفوزوا في الدنيا و يسعدوا بالإيمان ما داموا على العناد، قال تعالى: «الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون:» الأنعام: - 12.
و قال تعالى في هؤلاء المختوم على سمعهم و أبصارهم و قلوبهم: «و جعلنا من بين أيديهم سدا و من خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون و سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون:» يس: - 10.
و قال أيضا في سبب عدم إمكان إيمانهم: «أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم و ختم على سمعه و قلبه و جعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله:» الجاثية: - 23.
و إن فرض أنهم أخسر بالنسبة إلى الدنيا فذلك لكونهم بكفرهم و صدهم عن سبيل الله حرموا سعادة الحياة التي يمهدها لهم الدين الحق فخسروا في الدنيا كما خسروا في الآخرة لكنهم في الآخرة أخسر لكونها دائمة مخلدة و أما الدنيا فليست إلا قليلا، قال تعالى: «كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار:» الأحقاف: - 35.
على أن الأعمال تشتد و تتضاعف في الآخرة بنتائجها كما قال تعالى: «و من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و أضل سبيلا:» إسراء: - 72، و أحسن الوجهين أولهما لأن ظاهر الآية حصر الأخسرين فيهم دون إثبات أخسريتهم في الآخرة قبال الدنيا.
قوله تعالى: «إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات و أخبتوا إلى ربهم» إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات،: الخبت المطمئن من الأرض و أخبت الرجل قصد الخبت أو نزله نحو أسهل و أنجد ثم استعمل الإخبات في استعمال اللين و التواضع قال الله تعالى: و أخبتوا إلى ربهم، و قال: و بشر المخبتين أي المتواضعين نحو لا يستكبرون عن عبادته، و قوله: فتخبت له قلوبهم أي تلين و تخشع.
انتهى.
فالمراد بإخباتهم إلى الله اطمئنانهم إليه بحيث لا يتزلزل ما في قلوبهم من الإيمان به فلا يزيغون و لا يرتابون كالأرض المطمئنة التي تحفظ ما استقر فيها فلا وجه لما قيل إن الأصل، أخبتوا لربهم فإن ما في معنى الاطمئنان يتعدى بإلى دون اللام.
و تقييده تعالى الإيمان و العمل الصالح بالإخبات إليه يدل على أن المراد بهم طائفة خاصة من المؤمنين و هم المطمئنون منهم إلى الله ممن هم على بصيرة من ربهم، و هو الذي أشرنا إليه في صدر الآيات عند قوله: «أ فمن كان على بينة من ربه» إلخ أن الآيات تقيس ما بين فريقين خاصين من الناس و هم أهل البصيرة الإلهية و من عميت عين بصيرته.
و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن هذه الآيات السبع يعني قوله: «أ فمن كان على بينة من ربه - إلى قوله - أ فلا تذكرون» بيان لحال الفريقين و هم الذين يكفرون بالقرآن و الذين يؤمنون به.
قوله تعالى: «مثل الفريقين كالأعمى و الأصم و البصير و السميع هل يستويان مثلا أ فلا تذكرون المثل هو الوصف، و غلب في المثل السائر و هو بيان معنى من المعاني الخفية على المستمع بأمر محسوس أو كالمحسوس يأنس به ذهنه و يتلقاه فهمه لينتقل به إلى المعنى المعقول المقصود بيانه، و المراد بالفريقين من بين حالهما في الآيات السابقة، و الباقي واضح.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن أحمد بن عمر الخلال قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «أ فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه» فقال: أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الشاهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و رسول الله على بينة من ربه.
و في أمالي الشيخ، بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين عن الحسن (عليهم السلام): في خطبة طويلة خطبها بمحضر معاوية منها فأدت الأمور و أفضت الدهور إلى أن بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) للنبوة و اختاره للرسالة، و أنزل عليه كتابه ثم أمره بالدعاء إلى الله عز و جل فكان أبي أول من استجاب لله عز و جل و لرسله و أول من آمن و صدق الله و رسوله، و قد قال الله عز و جل في كتابه المنزل على نبيه المرسل: «أ فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه» فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي على بينة من ربه، و أبي الذي يتلوه و هو شاهد منه.
الخطبة.
أقول: و كلامه (عليه السلام) أحسن شاهد على ما قدمناه في معنى الآية أن إرادته (عليه السلام) بالشاهد من باب الانطباق.
و في بصائر الدرجات، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لو كسرت لي الوسادة فقعدت عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم و أهل الإنجيل بإنجيلهم و أهل الفرقان بفرقانهم بقضاء يصعد إلى الله يزهر، و الله ما نزلت آية في كتاب الله في ليل أو نهار إلا و قد علمت فيمن أنزلت، و لا أحد ممن مر على رأسه المواسي إلا و قد أنزلت آية فيه من كتاب الله تسوقه إلى الجنة أو النار. فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما الآية التي نزلت فيك؟ قال: أ ما سمعت الله يقول: «أ فمن كان على بينة من ربه - و يتلوه شاهد منه» فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بينة من ربه و أنا الشاهد له و منه: أقول: و روى هذا المعنى المفيد في الأمالي، مسندا و في كشف الغمة، مرسلا عن عباد بن عبد الله الأسدي عنه (عليه السلام)، و العياشي في تفسيره مرسلا عن جابر عن عبد الله بن يحيى عنه (عليه السلام) و كذا ابن شهرآشوب عن الطبري بإسناده عن جابر بن عبد الله عنه (عليه السلام) و كذا عن الأصبغ و عن زين العابدين و الباقر و الصادق (عليهما السلام) عنه (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أ ما تقرأ سورة هود «أ فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه» رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بينة من ربه، و أنا شاهد منه: أقول: و في تفسير البرهان، عن تفسير الثعلبي بإسناده عن الشعبي يرفعه إلى علي (عليه السلام) مثله و فيه عن ابن المغازلي يرفعه إلى عباد بن عبد الله عن علي (عليه السلام) مثله. و كذا عن كنوز الرموز للرسعني مثله.
و فيه، أخرج ابن مردويه من وجه آخر عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أ فمن كان على بينة من ربه» أنا «و يتلوه شاهد منه قال: علي: أقول: و في تفسير البرهان، عن ابن المغازلي في تفسير الآية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله.
و في تفسير البرهان، عن ابن المغازلي بإسناده عن علي بن حابس قال: دخلت أنا و أبو مريم على عبد الله بن عطاء قال أبو مريم: حدث علينا الحديث الذي حدثتني به عن أبي جعفر قال: كنت عند أبي جعفر جالسا إذ مر علينا ابن عبد الله بن سلام قلت: جعلت فداك هذا ابن الذي عنده علم الكتاب، قال: لا و لكنه صاحبكم علي بن أبي طالب الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله تعالى: «من عنده علم الكتاب» «أ فمن كان على بينة من ربه - و يتلوه شاهد منه» «إنما وليكم الله - و رسوله و الذين آمنوا».
و فيه، عن ابن شهرآشوب عن الحافظ أبي نعيم بثلاثة طرق عن ابن عباس قال: قال سمعت عليا يقول: قول الله تعالى: «أ فمن كان على بينة من ربه - و يتلوه شاهد منه» رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على بينة و أنا الشاهد.
و فيه، أيضا عن موفق بن أحمد قال: قوله تعالى: «أ فمن كان على بينة من ربه - و يتلوه شاهد منه» قال ابن عباس: هو علي يشهد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو منه.
أقول: و رواه عن الثعلبي في تفسيره يرفعه إلى ابن عباس: «أ فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه» علي خاصة.
أقول: قال صاحب المنار، في تفسير الآية عند ذكر معاني الشاهد: و منها: أنه علي رضي الله عنه ترويه الشيعة و يفسرونه بالإمامة، و روي: أنه كرم الله وجهه سئل عنه فأنكره و فسره بأنه لسانه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قابلهم خصومهم بمثلها فقالوا: أنه أبو بكر، و هما من التفسير بالهوى.
انتهى أما قوله: «إن الشيعة ترويه» فقد عرفت أن رواته من أهل السنة أكثر من الشيعة، و أما قوله: «إنه مثل تفسيره بأبي بكر من التفسير بالهوى» فيكفيك في ذلك ما تقدم في معنى الآية فراجع.
و في الكافي، بإسناده عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إن عندنا رجلا يقال له: كليب فلا يجيء عنكم شيء إلا قال: أنا أسلم فسميناه كليب تسليم قال: فترحم عليه ثم قال: أ تدرون ما التسليم؟ فسكتنا فقال: هو و الله الإخبات قول الله عز و جل: «الذين آمنوا و عملوا الصالحات - و أخبتوا إلى ربهم:» أقول: و روى مثله العياشي في تفسيره و الكشي و كذا صاحب البصائر عن أبي أسامة زيد الشحام عنه (عليه السلام).
|