بيان
شروع في قصص الأنبياء (عليهم السلام) و قد بدأ بنوح و عقبه بجماعة ممن بعده كهود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و موسى (عليه السلام).
و قد قسم قصة نوح إلى فصول أولها احتجاجه (عليه السلام) على قومه في التوحيد فهو (عليه السلام) أول الأنبياء الناهضين للتوحيد على الوثنية على ما ذكره الله تعالى في كتابه، و أكثر ما قص من احتجاجه (عليه السلام) مع قومه من المجادلة بالتي هي أحسن و بعضه من الموعظة و قليل منه من الحكمة و هو الذي يناسب تفكر البشر الأولي و الإنسان القديم الساذج و خاصة تفكرهم الاجتماعي الذي لا ظهور فيه إلا للمركوم من أفكار الأفراد المتوسطين في الفهم.
قوله تعالى: «و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين» القراءة المعروفة «إني» بكسر الهمزة على تقدير القول و قرىء أني بفتح الهمزة بنزع الخافض و التقدير بأني لكم نذير مبين، و الجملة أعني قوله: «إني لكم نذير مبين» على أي حال بيان إجمالي لما أرسل به فإن جميع ما بلغه قومه عن ربه و أرسل به إليهم إنذار مبين فهو نذير مبين.
فكما أنه لو قال: ما سألقيه إليكم من القول إنذار مبين كان بيانا لجميع ما أرسل به إليهم بأوجز كلمة كذا قوله: إني لكم نذير مبين بيان لذلك بالإجمال غير أنه يزيد على سابقه ببيان سمة نفسه و هي أنه رسول من الله إليهم لينذرهم بعذاب الله، و ليس له من الأمر شيء أزيد من أنه واسطة يحمل الرسالة.
قوله تعالى: «أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم».
بيان ثان لما أرسل به أو بيان لقوله: «إني لكم نذير مبين» و مآل الوجهين واحد، و أن على أي حال مفسرة، و المعنى أن محصل رسالته النهي عن عبادة غير الله تعالى من طريق الإنذار و التخويف.
و ذكر بعض المفسرين أن الجملة أعني قوله: «أن لا تعبدوا» إلخ، بدل من قوله: «إني لكم نذير مبين» أو مفعول لقوله مبين.
و لعل السياق يؤيد ما قدمناه.
و الظاهر أن المراد بعذاب يوم أليم عذاب الاستئصال دون عذاب يوم القيامة أو الأعم من العذابين يدل على ذلك قولهم له فيما سيحكيه الله تعالى عنهم: «يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء» الآية، فإنه ظاهر في عذاب الاستئصال.
فهو (عليه السلام) كان يدعوهم إلى رفض عبادة الأوثان و يخوفهم من يوم ينزل عليهم من الله عذاب أليم أي مؤلم و نسبة الإيلام إلى اليوم دون العذاب في قوله: «عذاب يوم أليم» من قبيل وصف الظرف بصفة المظروف.
و بما تقدم يندفع ما ربما قيل: إن تعذيب المشركين مقطوع لا محتمل فما الوجه في خوفه (عليه السلام) من تعذيبهم المقطوع؟ و الخوف إنما يستقيم في محتمل الوقوع لا مقطوعه.
و بالجملة كان (عليه السلام) يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه بتخويفهم من العذاب، و إنما كان يخوفهم لأنهم كانوا يعبدون الأوثان خوفا من سخطهم فقابلهم نوح (عليه السلام) بأن الله سبحانه هو الذي خلقهم و دبر شئون حياتهم و أمور معاشهم بخلق السماوات و الأرض و إشراق الشمس و القمر و إنزال الأمطار و إنبات الأرض و إنشاء الجنات و شق الأنهار على ما يحكيه تعالى عنه (عليه السلام) في سورة نوح.
و إذ كان كذلك كان الله سبحانه هو ربهم لا رب سواه فليخافوا عذابه و ليعبدوه وحده.
و هذه الحجة في الحقيقة حجة برهانية مبنية على اليقين لكنهم إنما كانوا يتلقونها حجة جدلية مبنية على الظن لأنهم لسذاجة أفهامهم كانوا يتوقعون سخط الرب و عذابه على المخالفة لأنهم يرونه وليا لأمرهم مصلحا لشأنهم فيقيسون أمره بأمر الأولياء من الإنسان الحاكمين في من دونهم من أفراد المجتمع الذين يجب الخضوع لمقامهم و التسليم لإرادتهم و لو استكبر عن الخضوع لهم و التسليم لإرادتهم من دونهم سخطوا عليهم و عاقبوهم بما أجرموا و تمردوا.
و على هذا القياس يجب إرضاء الرب أو الأرباب الذين يرجع إليهم أمر الكون و ولاية النظام الجاري فيه فيجب إرضاؤه و إخماد نار غضبه بالخضوع له و التقرب إليه بتقديم القرابين و التضحية و سائر أنحاء العبادة فهكذا كانوا يعتقدون و هو مبني على الظن.
لكن مسألة نزول العذاب على الاستنكاف عن عبادة الله تعالى و الاستكبار عن التسليم و الخضوع لساحة الربوبية مسألة حقيقية يقينية فإن من النواميس الكلية الجارية في الكون لزوم خضوع الضعيف للقوي و المتأثر المقهور للمؤثر القاهر فما قولك في الله الواحد القهار الذي إليه مصير الأمور.
و قد أبدع الله سبحانه أجزاء الكون و ربط بعضها ببعض ثم أجرى الحوادث على نظام الأسباب و على ذلك يجري كل شيء في نظام وجوده فلو انحرف عما يخطه له سائر الأسباب من الخط أدى ذلك إلى اختلال نظامها و كان ذلك منازعة منه لها و عند ذلك ينتهض سائر الأسباب الكونية من أجزاء الوجود لتعديل أمره و إرجاعه إلى خط يلائمها تدفع بذلك الشر عن نفسها فإن استقام هذا الجزء المنحرف عن خطه المخطوط له فهو و إلا حطمتها حاطمات الأسباب و نازلات النوائب و البلايا، و هذا أيضا من النواميس الكلية.
و الإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون له في حياته خط خطه له الصنع و الإيجاد فإن سلكه هداه إلى سعادته و وافق بذلك سائر أجزاء الكون و فتحت له أبواب السماء ببركاتها و سمحت له الأرض بكنوز خيراتها، و هذا هو الإسلام الذي هو الدين عند الله تعالى المدعو إليه بدعوة نوح و من بعده من الأنبياء و الرسل (عليهم السلام).
و إن تخطاه و انحرف عنه فقد نازع أسباب الكون و أجزاء الوجود في نظامها الجاري و زاحمها في شئون حياتها فليتوقع مر البلاء و لينتظر العذاب و العناء فإن استقام في أمره و خضع لإرادة الله سبحانه و هي ما تحطمه من الأسباب العامة فمن المرجو أن تتجدد له النعمة بعد النقمة و إلا فهو الهلاك و الفناء و إن الله لغني عن العالمين، و قد تقدم هذا البحث في بعض أجزاء الكتاب السابقة.
قوله تعالى: «فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا» إلى آخر الآية، الفاء في صدر الآية لتفريع جوابهم عن قول نوح (عليه السلام)، و فيه إشارة إلى أنهم بادروه بالرد و الإنكار من دون أن يفكروا في أنفسهم فيختاروا ما هو أصلح لهم.
و المجيبون هم الملأ من قومه و الأشراف و الكبراء الذين كفروا به و لم يتعرضوا في جوابهم لما ألقى إليهم من حجة التوحيد بل إنما اشتغلوا بنفي رسالته و الاستكبار عن طاعته فإن قوله: «إني لكم نذير مبين» إلى آخر الآيتين، كان مشتملا على دعوى الرسالة و ملوحا إلى وجوب الاتباع و قد صرح به فيما حكي عنه في موضع آخر، قال تعالى: «قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله و اتقوه و أطيعون:» نوح: - 3.
و محصل ما نقله الله تعالى من جوابهم هو أنه لا دليل على لزوم اتباعك بل الدليل على خلافه فهو في الحقيقة حجتان منظومتان على طريق الإضراب و الترقي و لذلك أخر قولهم: «بل نظنكم كاذبين».
و الحجة الأولى التي مدلولها عدم الدليل على وجوب اتباعه مبينة بطرق ثلاث هي قوله: «ما نراك إلا بشرا» إلخ، و قوله: «و ما نراك اتبعك» إلخ، و قوله: «و ما نرى لكم علينا».
إلخ.
و الحجة بجميع أجزائها مبنية على إنكار ما وراء الحس كما سنبين و لذلك كرروا فيه قولهم: ما نراك و نرى.
فقوله: «ما نراك إلا بشرا مثلنا» أول جوابهم عما يدعيه نوح (عليه السلام) من الرسالة، و قد تمسكوا فيه بالمماثلة كما هو دأب سائر الأمم مع أنبيائهم على ما حكاه الله تعالى في كتابه و تقريره: أنك مثلنا في البشرية و لو كنت رسولا إلينا من عند الله لم تكن كذلك و لا نشاهد منك إلا أنك بشر مثلنا، و إذ كنت بشرا مثلنا لم يكن هناك موجب لاتباعك.
ففي الكلام تكذيب لرسالته (عليه السلام) بأنه ليس إلا بشرا مثلهم ثم استنتاج من ذلك أنه لا دليل على لزوم اتباعه، و الدليل على ما ذكرنا قول نوح (عليه السلام) فيما سيحكيه الله تعالى من كلامه: «يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي» إلخ.
و قد اشتبه الأمر على بعض المفسرين فقرر قولهم: «ما نراك إلا بشرا مثلنا» بأنهم ساووه بأنفسهم في الزنة الاجتماعية و استنتجوا منها أنه لا وجه لاتباعهم له، قال في تفسير الآية: أجابوه بأربع حجج داحضة.
إحداها: أنه بشر مثلهم فساووه بأنفسهم في الجملة، و هذا يدل على أنه (عليه السلام) كان من طبقتهم أو ما يقرب منها في بيته و في شخصه و هكذا كان كل رسول من وسط قومه، و وجه الجواب أن المساواة تنافي دعوى تفوق أحد المتساويين على الآخر بجعل أحدهما تابعا طائعا و الآخر متبوعا مطاعا لأنه ترجيح بغير مرجح.
انتهى.
و لو كان المعنى ما ذكره لكان من حق الكلام أن يقال: أنت مثلنا أو نراك مثلنا دون أن يقال: ما نراك إلا بشرا مثلنا فيذكر أنه بشر و لا حاجة إلى الإشارة إلى بشريته، و لكان معنى الكلام عائدا إلى المراد من قولهم بعد: و ما نرى لكم علينا من فضل، و كان فضلا من الكلام.
و من العجب استفادته من الكلام مساواته (عليه السلام) لهم في البيت و الشخصية ثم قوله: «و هكذا كان كل رسول من وسط قومه» و في الرسل مثل إبراهيم و سليمان و أيوب (عليهما السلام).
و قوله: «و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي» قال في المفردات،: الرذل - بفتح الراء - و الرذال - بكسرها - المرغوب عنه لرداءته قال تعالى: «و منكم من يرد إلى أرذل العمر» و قال: «إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي» و قال: «قالوا أ نؤمن لك و اتبعك الأرذلون» جمع الأرذل.
و قال في المجمع،: الرذل الخسيس الحقير من كل شيء و الجمع أرذل ثم يجمع على أراذل كقولك: كلب و أكلب و أكالب، و يجوز أن يكون جمع الأرذل فيكون مثل أكابر جمع أكبر.
و قال: و الرأي الرؤية من قوله: «يرونهم مثليهم رأي العين» أي رؤية العين و الرأي أيضا ما يراه الإنسان في الأمر و جمعه آراء.
انتهى.
و قال في المفردات،: و قوله: «بادىء الرأي» أي ما يبدأ من الرأي و هو الرأي الفطير، و قرىء: بادي بغير همزة أي الذي يظهر من الرأي و لم يترو فيه.
انتهى.
و قوله: «بادىء الرأي» يحتمل أن يكون قيدا لقوله: «هم أراذلنا» أي كونهم أراذل و سفلة فينا معلوم في ظاهر الرأي و النظر أو في أول نظرة.
و يحتمل كونه قيدا لقوله: «اتبعك أي اتبعوك في ظاهر الرأي أو في أوله من غير تعمق و تفكر و لو تفكروا قليلا و قلبوا أمرك ظهرا لبطن ما اتبعوك، و هذا الاحتمال لا يستغني عن تكرار الفعل ثانيا و التقدير: اتبعوك بادي الأمر و إلا اختل المعنى لو لم يتكرر و قيل: ما نراك اتبعك في بادي الرأي إلا الذين هم أراذلنا.
و بالجملة معنى الآية: أنا نشاهد أن متبعيك هم الأراذل و الأخساء من القوم و لو اتبعناك ساويناهم و دخلنا في زمرتهم و هذا ينافي شرافتنا و يحط قدرنا في المجتمع، و في الكلام إيماء إلى بطلان رسالته (عليه السلام) بدلالة الالتزام فإن من معتقدات العامة أن القول لو كان حقا نافعا لتبعه الشرفاء و العظماء و أولوا القوة و الطول فلو استنكفوا عنه أو اتبعه الأخساء و الضعفاء كالعبيد و المساكين و الفقراء ممن لا حظ له من مال أو جاه و لا مكانة له عند العامة فلا خير فيه.
و قوله: «و ما نرى لكم علينا من فضل» المراد نفي مطلق الفضل من متاع دنيوي يختصون بالتنعم به أو شيء من الأمور الغيبية كعلم الغيب أو التأيد بقوة ملكوتية و ذلك لكون النكرة - فضل - واقعة في سياق النفي فتفيد العموم.
و قد أشركوا أتباع نوح (عليه السلام) و المؤمنين به منهم في دعوته إذ قالوا: «و ما نرى لكم علينا» و لم يقولوا: «و لا نرى لك» لأنهم كانوا يحثونهم و يرغبونهم في اتباع ما اتبعوه من الطريقة.
و المعنى أن دعوتكم إيانا - و عندنا ما نتمتع به من مزايا الحياة الدنيا كالمال و البنين و العلم و القوة - إنما يستقيم و يؤثر أثره لو كان لكم شيء من الفضل تفضلون به علينا من زينة الحياة الدنيا أو علم من الغيب أو قوة من الملكوت حتى يوجب ذلك خضوعا منا لكم و لا نرى شيئا من ذلك عندكم فأي موجب يوجب علينا اتباعكم؟.
و إنما عممنا الفضل في كلامه للفضل من حيث الجهات المادية و غيره كعلم الغيب و القوة الملكوتية خلافا لأكثر المفسرين حيث فسروا الفضل بالفضل المادي كالمال و الكثرة و غيرهما، لما يستفاد من كلامهم من العموم لوقوع النكرة في سياق النفي.
مضافا إلى أن ما يحاذي قولهم هذا من جواب نوح (عليه السلام) يدل على ذلك و هو قوله: «و لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول إني ملك» إلخ على ما سيأتي.
و قوله تعالى: «بل نظنكم كاذبين» إضراب في الاحتجاج كما تقدمت الإشارة إليه فمحصله أنا لا نرى معكم أمرا يوجب اتباعنا لكم بل هناك أمر يوجب عدم الاتباع و هو أنا نظنكم كاذبين.
و معناه على ما يعطيه السياق - و الله أعلم - أنه لما لم يكن عندكم ما يشاهد معه صحة دعوتكم و أنكم تلحون علينا بالسمع و الطاعة و أنتم صفر الأيدي من مزايا الحياة من مال و جاه و هذه الحال تستدعي الظن بأنكم كاذبون في دعواكم تريدون بها نيل ما بأيدينا من أماني الحياة بهذه الوسيلة و بالجملة هذه أمارة توجب عادة الظن بأنها أكذوبة يتوسل بها إلى اقتناء الأموال و القبض على ثروة الناس و الاستعلاء عليهم بالحكم و الرئاسة، و هذا كما حكى الله سبحانه عنهم في مثل القصة إذ قال: «فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم:» المؤمنون: - 24.
و بهذا يظهر وجه تعليقهم الكذب بالظن دون الجزم، و أن المراد بالكذب الكذب المخبري دون الخبري.
قوله تعالى: «قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي» إلى آخر الآية بيان لما أجاب به نوح (عليه السلام) عن حجتهم إلى تمام أربع آيات، و التعمية الإخفاء فمعنى عميت عليكم بالبناء للمفعول أخفيت عليكم من ناحية جهلكم و كراهتكم للحق.
و قرىء عميت بالتخفيف و البناء للفاعل أي خفيت عليكم تلك الرحمة.
لما كانت حجتهم مبنية على الحس و نفي ما وراءه و قد استنتجوا منها أولا عدم الدليل على وجوب طاعته و اتباعه ثم أضربوا عنه بالترقي إلى استنتاج الدليل على عدم الوجوب بل على وجوب العدم أجابهم (عليهم السلام) بإثبات ما حاولوا نفيه من رسالته و ما يتبعه، و نفي ما حاولوا إثباته باتهامه و اتهام أتباعه بالكذب غير أنه استعطفهم بخطاب يا قوم - بالإضافة إلى ضمير التكلم - مرة بعد مرة ليجلبهم إليه فيقع نصحه موقع القبول منهم.
و قد أبدع الآيات الكريمة في تقرير حجته (عليه السلام) في جوابهم فقطعت حجتهم فصلا فصلا و أجابت عن كل فصل بوجهيه أعني من جهة إنتاجه أن لا دليل على اتباعه (عليه السلام) و أن الدليل على خلافه و ذلك قوله: «يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة» إلخ، و قوله: «و ما أنا بطارد الذين آمنوا» إلخ، و قوله: «و لا أقول لكم عندي خزائن الله» إلخ، ثم أخذت من كل حجة سابقة شيئا يجري مجرى التلخيص فإضافته إلى الحجة اللاحقة بادئة به فامتزجت الحجة بالحجة على ما لكل منها من الاستقلال و التمام.
فتمت الحجج ثلاثا كل واحدة منها مبدوءة بالخطاب و هي قوله: «يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة» إلخ، و قوله: «و يا قوم لا أسألكم عليه مالا» إلخ، و قوله: «و يا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم» إلخ، فتدبر فيها.
فقوله: «قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي» جواب عن قولهم: «ما نراك إلا بشرا مثلنا» يريدون به أنه ليس معه إلا البشرية التي يماثلهم فيها و يماثلونه فبأي شيء يدعي وجوب اتباعهم له؟ بل هو كاذب يريد بما يدعيه من الرسالة أن يصطادهم فيقتنص بذلك أموالهم و يترأس عليهم.
و إذ كان هذا القول منهم متضمنا لنفي رسالته و سندهم في ذلك أنه بشر لا أثر ظاهر معه يدل على الرسالة و الاتصال بالغيب كان من الواجب تنبيههم على ما يظهر به صدقه في دعوى الرسالة و هو الآية المعجزة الدالة على صدق الرسول في دعوى الرسالة فإن الرسالة نوع من الاتصال بالغيب خارق للعادة الجارية لا طريق إلى العلم بتحققه إلا بوقوع أمر غيبي آخر خارق للعادة يوقن به كون الرسول صادقا في دعواه الرسالة، و لذلك أشار (عليه السلام) بقوله: «يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي» إلى أن معه بينة من الله و آية معجزة تدل على صدقه في دعواه.
و من هنا يظهر أن المراد بالبينة الآية المعجزة التي تدل على ثبوت الرسالة لأن ذلك هو الذي يعطيه السياق فلا يعبأ بما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالبينة في الآية العلم الضروري الذي يعلم به النبي أنه نبي و ذلك لكونه معنى أجنبيا عن السياق.
و قوله: «و آتاني رحمة من عنده فعميت عليكم» الظاهر أنه (عليه السلام) يشير به إلى ما آتاه الله تعالى من الكتاب و العلم، و قد تكرر في القرآن الكريم تسمية الكتاب و كذا تسمية العلم بالله و آياته رحمة قال تعالى: «و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة:» هود: - 17، و قال: «و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء و هدى و رحمة:» النحل: - 89، و قال: «فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا:» الكهف: - 65، و قال: «ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة:» آل عمران: - 8.
و أما قوله: «فعميت عليكم فالظاهر أن ضميره راجع إلى الرحمة، و المراد أن ما عندي من العلم و المعرفة أخفاها عليكم جهلكم و كراهتكم للحق بعد ما ذكرتكم به و بثثته فيكم.
و قوله: «أ نلزمكموها و أنتم لها كارهون» الإلزام جعل الشيء مع الشيء بحيث لا يفارقه و لا ينفك منه، و المراد بإلزامهم الرحمة و هم لها كارهون إجبارهم على الإيمان بالله و آياته و التلبس بما يستدعيه المعارف الإلهية من النور و البصيرة.
و معنى الآية - و الله أعلم - أخبروني إن كانت عندي آية معجزة تصدق رسالتي مع كوني بشرا مثلكم و كانت عندي ما تحتاج إليه الرسالة من كتاب و علم يهديكم الحق لكن لم يلبث دون أن أخفاه عليكم عنادكم و استكباركم أ يجب علينا عندئذ أن نجبركم عليها؟ أي عندي جميع ما يحتاج إليه رسول من الله في رسالته و قد أوقفتكم عليه لكنكم لا تؤمنون به طغيانا و استكبارا و ليس علي أن أجبركم عليها، إذ لا إجبار في دين الله سبحانه.
ففي الكلام تعريض لهم أنه قد تمت عليهم الحجة و بانت لهم الحقيقة فلم يؤمنوا لكنهم مع ذلك يريدون أمرا يؤمنون لأجله و ليس إلا الإجبار و الإلزام على كراهية، فهم في قولهم: لا نراك إلا بشرا مثلنا، لا يريدون إلا الإجبار، و لا إجبار في دين الله.
و الآية، من جملة الآيات النافية للإكراه في الدين تدل على أن ذلك من الأحكام الدينية المشرعة في أقدم الشرائع و هي شريعة نوح (عليه السلام) و هو باق على اعتباره حتى اليوم من غير نسخ.
و قد ظهر مما تقدم أن الآية، أعني قوله: «يا قوم أ رأيتم إن كنت» إلخ، جواب عن قولهم: «ما نراك إلا بشرا مثلنا» و يظهر بذلك فساد قول بعضهم: إنه جواب عن قولهم: «بل نظنكم كاذبين» و قول آخرين: إنه جواب عن قولهم: «ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادىء الرأي» و قول طائفة أخرى أنه جواب عن قولهم: «و ما نرى لكم علينا من فضل» و لا نطيل الكلام بالتعرض لتوضيحها و ردها.
قوله تعالى: «و يا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله» يريد به الجواب عما اتهموه به من الكذب و لازمه أن تكون دعوته طريقا إلى جلب أموالهم و أخذ ما في أيديهم طمعا فيه فإنه إذا لم يسألهم شيئا من أموالهم لم يكن لهم أن يتهموه بذلك.
قوله تعالى: «و ما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم و لكني أراكم قوما تجهلون» جواب عن قولهم: «و ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادىء الرأي» و قد بدل لفظة الأراذل - و هي لفظة إرزاء و تحقير - من قوله: الذين آمنوا تعظيما لأمر إيمانهم و إشارة إلى ارتباطهم بربهم.
نفى في جوابه أن يكون يطردهم و علل ذلك بقوله: «إنهم ملاقوا ربهم» إيذانا بأن لهم يوما يرجعون فيه إلى الله فيحاسبهم على أعمالهم فيجازيهم على ما عملوه من خير أو شر فحسابهم على ربهم و ليس لغيره من الأمر شيء، فليس على نوح (عليه السلام) أن يحاسبهم فيجازيهم بشيء لكن القوم لجهالتهم يتوقعون على الفقراء و المساكين و الضعفاء أن يطردوا من مجتمع الخير و يسلبوا النعمة و الشرافة و الكرامة.
فظهر أن المراد بقوله: «إنهم ملاقوا ربهم» الإيمان إلى محاسبة الله سبحانه إياهم يوم يرجعون فيه إليه فيلاقونه كما وقع في نظير هذا المعنى في قوله تعالى: «و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء و ما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين:» الأنعام: - 57.
و أما قول من قال: إن معنى قوله: «إنهم ملاقوا ربهم» إنه لا يطردهم لأنهم ملاقوا ربهم فيجازي من ظلمهم و طردهم، أو أنهم ملاقوا ثواب ربهم فكيف يكونون أراذل و كيف يجوز طردهم و هم لا يستحقون ذلك، فبعيد عن الفهم.
على أن أول المعنيين يجعل الآية التالية أعني قوله: «و يا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم» الآية زائدة مستغنى عنها كما هو ظاهر.
و ظهر أيضا أن المراد بقوله: «و لكني أراكم قوما تجهلون» جهلهم بأمر المعاد و أن الحساب و الجزاء إلى الله لا إلى غيره، و أما ما ذكره بعضهم أن المراد به الجهالة المضادة للعقل و الحلم أي تسفهون عليهم أو المراد أنكم تجهلون أن حقيقة الامتياز بين إنسان و إنسان باتباع الحق و عمل البر و التحلي بالفضائل لا بالمال و الجاه كما تظنون فهو معنى بعيد عن السياق.
قوله تعالى: «و يا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أ فلا تذكرون» النصر مضمن معنى المنع أو الإنجاء و نحوهما و المعنى من يمنعني أو من ينجيني من عذاب الله إن طردتهم أ فلا تتذكرون أنه ظلم، و الله سبحانه ينتصر للمظلوم من الظالم و ينتقم منه، و العقل جازم بأن الله سبحانه لا يساوي بين الظالم و المظلوم، و لا يدع الظالم يظلم دون أن يجازيه على ظلمه بما يسوؤه و يشفي به غليل صدر المظلوم و الله عزيز ذو انتقام.
قوله تعالى: «و لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول إني ملك» جواب عن قولهم: «و ما نرى لكم علينا من فضل» يرد عليهم قولهم بأني لست أدعي شيئا من الفضل الذي تتوقعون مني أن أدعيه بما أني أدعي الرسالة فإنكم تزعمون أن على الرسول أن يملك خزائن الرحمة الإلهية فيستقل بإغناء الفقير و شفاء العليل و إحياء الموتى و التصرف في السماء و الأرض و سائر أجزاء الكون بما شاء و كيف شاء.
و أن يملك علم الغيب فيحصل على كل خير محجوب عن العيون مستور عن الأبصار فيجلبه إلى نفسه، و يدفع كل شر مستقبل كامن عن نفسه و بالجملة يستكثر من الخيرات و يصان من المكاره.
و أن يرتفع عن درجة البشرية إلى مقام الملكية أي يكون ملكا منزها من ألواث الطبيعة و مبرى من حوائج البشرية و نقائصها فلا يأكل و لا يشرب و لا ينكح و لا يقع في تعب اكتساب الرزق و اقتناء لوازم الحياة و أمتعتها.
فهذه هي جهات الفضل التي تزعمون أن الرسول يجب أن يؤتاها و يمتلكها فيستقل بها، و قد أخطأتم فليس للرسول إلا الرسالة و إني لست أدعي شيئا من ذلك فلا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول إني ملك، و بالجملة لست أدعي شيئا من الفضل الذي تتوقعونه حتى تكذبوني بفقده، و إنما أقول إني على بينة من ربي تصدق رسالتي و آتاني رحمة من عنده.
و المراد بقوله: «خزائن الله» جميع الذخائر و الكنوز الغيبية التي ترزق المخلوقات منها ما يحتاجون إليه في وجودهم و بقائهم و يستعينون به على تتميم نقائصهم و تكميلها.
فهاتيك هي التي تزعم العامة أن الأنبياء و الأولياء يؤتون مفاتيحها و يمتلكون بها من القدرة ما يفعلون بها ما يشاءون و يحكمون ما يريدون كما اقترح على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد حكاه الله تعالى إذ يقول: «و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل و عنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله و الملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا:» إسراء: - 93.
و إنما قال: «و لا أعلم الغيب» و لم يقل: و لا أقول إني أعلم الغيب لأن هذا النوع من العلم لما كان مما يضن به و لا يسمح بإظهاره لم يكن قول القائل: لا أقول إني أعلم الغيب نافيا لوجوده عند القائل بل يحتاج إلى أن يقال: لا أعلم الغيب ليفيد النفي بخلاف قوله: «لا أقول لكم عندي خزائن الله» و قوله: «و لا أقول إني ملك»، و لم يكرر قوله: «لكم» لحصول الكفاية بالواحدة.
و قد أمر الله سبحانه نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب قومه بما خاطب به نوح (عليه السلام) قومه ثم ذيله بما يظهر به المراد إذ قال: «قل لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى و البصير أ فلا تتفكرون:» الأنعام: - 50.
انظر إلى قوله: «لا أقول لكم» إلخ، ثم إلى قوله: «إن أتبع إلا ما يوحى إلي» ثم إلى قوله: «قل هل يستوي الأعمى و البصير» إلخ، فهو ينفي أولا الفضل الذي يتوقعه عامة الناس من نبيهم ثم يثبت للرسول الرسالة فحسب ثم يبادر إلى إثبات الفضل من جهة أخرى غير الجهة التي يتوقعها الناس و هو أنه بصير بإبصار الله تعالى و أن غيره بالنسبة إليه كالأعمى بالنسبة إلى البصير و هذا هو الموجب لاتباعهم له كما يتبع الأعمى البصير، و هو المجوز له أن يدعوهم إلى اتباعه.
كلام في قدرة الأنبياء و الأولياء فلسفي قرآني
الناس في جهل بمقام ربهم و غفلة عن معنى إحاطته و هيمنته فهم مع ما تهديهم الفطرة الإنسانية إلى وجوده و أحديته يسوقهم الابتلاء بعالم المادة و الطبيعة و التوغل في الأحكام و القوانين الطبيعية ثم السنن و النواميس الاجتماعية و الأنس بالكثرة و البينونة إلى قياس العالم الربوبي بما ألفوا من عالم المادة فالله سبحانه عندهم مع خلقه كجبار من جبابرة البشر مع عبيده و رعيته.
فهناك فرد من الإنسان نسميه مثلا ملكا أو جبارا دونه وزراء و أمراء و الجنديون و الجلاوزة يجرون ما يأمر به أو ينهى أنه و له عطايا و مواهب لمن شاء و إرادة و كراهة و أخذ و رد و قبض و إطلاق و رحمة و سخط و قضاء و نسخ إلى غير ذلك.
و كل من الملك و خدمه و أياديه العمالة و رعاياه و ما يدور بأيديهم من النعم و أمتعة الحياة أمر موجود محدود مستقل الوجود منفصلة عن غيره إنما يرتبط بعضهم ببعض بأحكام و قوانين و سنن اصطلاحية لا موطن لها سوى ذهن الذاهن و اعتقاد المعتقد.
و قد طبقوا العالم الربوبي أعني ما يخبر به النبوة من مقام الرب تعالى و صفاته و أفعاله و ملائكته و كتبه و رسله على هذا النظام فهو تعالى يريد و يكره و يعطي و يمنع و يدبر نظام الخلقة كما يفعل ذلك الواحد منا المسمى ملكا، و هو محدود الوجود منعزل الكون و كل من ملائكته و سائر خليقته مستقل الوجود يملك ما عنده من الوجود و النعم الموهوبة دون الله سبحانه، و قد كان تعالى في أزل الزمان وحده لا شيء معه من خلقه ثم أبدع في جانب الأبد الخلق فكانوا معه.
فقد أثبتوا - كما ترى - موجودا محدودا منطبق الوجود على الزمان غير أن وجوده الزماني دائمي، و له قدرة على كل شيء، و علم بكل شيء، و إرادة لا تنكسر و قضاء لا ترد، يستقل بما عنده من الصفات و الأعمال كما يستقل الواحد منا فيملك ما عنده من الحياة و العلم و القدرة و غير ذلك فحياته حياة له و ليست لله، و علمه علمه لا علم الله، و قدرته قدرته لا قدرة الله و هكذا، و إنما يقال لوجودنا أو حياتنا أو علمنا أو قدرتنا أنها لله كما يقال لما عند الرعية من النعمة أنها للملك بمعنى أنها كانت عنده فأخرجها من عنده و وضعها عندنا نتصرف فيها فجميع ذلك - كما ترى - يقوم على أساس المحدودية و الانعزال.
لكن البراهين اليقينية تقضي بفساد ذلك كله فإنها تحكم بسريان الفقر و الحاجة إلى الموجودات الممكنة في ذواتها و آثار ذواتها و إذا كانت الحاجة إليه تعالى في مقام الذات استحال الاستقلال عنه و الانعزال منه على الإطلاق إذ لو فرض استقلال لشيء منه تعالى في وجوده أو شيء من آثار وجوده - بأي وجه فرض في حدوث أو بقاء - استغنى عنه من تلك الجهة و هو محال.
فكل ممكن غير مستقل في شيء من ذاته و آثار ذاته، و الله سبحانه هو الذي يستقل في ذاته و هو الغني الذي لا يفتقر في شيء و لا يفقد شيئا من الوجود و كمال الوجود كالحياة و القدرة و العلم فلا حد له يتحدد به.
و قد تقدم بعض التوضيح لهذه المسألة في ذيل تفسير قوله تعالى: «لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة:» المائدة: - 73.
و على ما تقدم كان ما للممكن من الوجود أو الحياة أو القدرة أو العلم متعلق الوجود به تعالى غير مستقل منه بوجه، و لا فرق في ذلك بين القليل و الكثير ما كانت خصيصة عدم الاستقلال محفوظة فيه فلا مانع من فرض ممكن له علم بكل شيء أو قدرة على كل شيء أو حياة دائمة ما دام غير مستقل الوجود عن الله سبحانه و لا منعزل الكون منه كما لا مانع من تحقق الممكن مع وجود موقت ذي أمد أو علم أو قدرة متعلقين ببعض الأشياء دون بعض.
نعم فرض الاستقلال يبطل الحاجة الإمكانية و لا فرق فيه بين الكثير و القليل كما عرفت، هذا من جهة العقل.
و أما من جهة النقل فالكتاب الإلهي و إن كان ناطقا باختصاص بعض الصفات و الأفعال به تعالى كالعلم بالمغيبات و الإحياء و الإماتة و الخلق كما في قوله: «و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو:» الأنعام: - 59، و قوله: «و أنه هو أمات و أحيا:» النجم: - 44: «و قوله الله يتوفى الأنفس حين موتها:» الزمر: - 42، و قوله: «الله خالق كل شيء:» الزمر: - 62، إلى غير ذلك من الآيات لكنها جميعا مفسرة بآيات أخر كقوله: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول:» الجن: - 27، و قوله: «قل يتوفاكم ملك الموت:» الم السجدة: - 11، و قوله عن عيسى (عليه السلام): «و أحيا الموتى بإذن الله:» آل عمران: - 49، و قوله: «و إذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني:» المائدة: - 110 إلى غير ذلك من الآيات.
و انضمام الآيات إلى الآيات لا يدع شكا في أن المراد بالآيات النافية اختصاص هذه الأمور به تعالى بنحو الأصالة و الاستقلال و المراد بالآيات المثبتة إمكان تحققها في غيره تعالى بنحو التبعية و عدم الاستقلال.
فمن أثبت شيئا من العلم المكنون أو القدرة الغيبية أعني العلم من غير طريق الفكر و القدرة من غير مجراها العادي الطبيعي لغيره تعالى من أنبيائه و أوليائه كما وقع كثيرا في الأخبار و الآثار و نفى معه الأصالة و الاستقلال بأن يكون العلم و القدرة مثلا له تعالى و إنما ظهر ما ظهر منه بالتوسيط و وقع ما وقع منه بإفاضته وجوده فلا حجر عليه.
و من أثبت شيئا من ذلك على نحو الأصالة و الاستقلال طبق ما يثبته الفهم العامي و إن أسنده إلى الله سبحانه و فيض رحمته لم يخل من غلو و كان مشمولا لمثل قوله: «لا تغلوا في دينكم و لا تقولوا على الله إلا الحق:» النساء: - 171.
قوله تعالى: «و لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين» قال في المفردات،: زريت عليه عبته و أزريت به قصدت به و كذلك ازدريت به و أصله افتعلت قال: تزدري أعينكم أي تستقلهم تقديره تزدريهم أعينهم أي تستقلهم و تستهين بهم.
انتهى.
و هذا الفصل من كلامه (عليه السلام) إشارة إلى ما كان يعتقده الملأ الذين كفروا من قومه و بنوا عليه سنة الأشرافية و طريقة السيادة، و هو أن أفراد الإنسان تنقسم إلى قسمين الأقوياء و الضعفاء، أما الأقوياء فهم أولوا الطول و أرباب القدرة المعتضدون بالمال و العدة، و أما الضعفاء فهم الباقون.
و الأقوياء هم السادة في المجتمع الإنساني لهم النعمة و الكرامة، و لأجلهم انعقاد المجتمع، و غيرهم من الضعفاء مخلوقون لأجلهم مقصودون لهم أضاحي منافعهم كالرعية بالنسبة إلى كرسي الحكومة المستبدة، و العبيدة بالنسبة إلى الموالي، و الخدم و العملة بالنسبة إلى المخدومين و النساء بالنسبة إلى الرجال، و بالأخرة كل ضعيف بالنسبة إلى القوي المستعلي عليه.
و بالجملة كان معتقدهم أن الضعيف في المجتمع إنسان منحط أو حيوان في صورة إنسان إنما يرد داخل المجتمع و يشاركهم في الحياة ليستفيد الشريف من عمله و ينتفع من كد يمينه لحياته من غير عكس بل هو محروم من الكرامة مطرود عن حظيرة الشرافة آيس من الرحمة و العناية.
فهذا هو الذي كانوا يرونه و كان هو المعتمد عليه في مجتمعهم، و قد رد نوح (عليه السلام) ذلك إليهم بقوله: «و لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا».
ثم بين خطأهم في معتقدهم بقوله: «الله أعلم بما في نفوسهم» أي إن أعينكم إنما تزدريهم و تستحقرهم و تستهين أمرهم لما تحس ظاهر ضعفهم و هوانهم، و ليس هو الملاك في إحراز الخير و نيل الكرامة بل الملاك في ذلك و خاصة الكرامات و المثوبات الإلهية أمر النفس و تحليها بحلي الفضيلة و المنقبة المعنوية، و لا طريق لي و لا لكم إلى العلم ببواطن النفوس و خبايا القلوب إلا لله سبحانه فليس لي و لا لكم أن نحكم بحرمانهم من الخير و السعادة.
ثم بين بقوله: «إني إذا لمن الظالمين» السبب في تحاشيه عن هذا القول و معناه أنه قول بغير علم، و تحريم الخير على من يمكن أن يستحقه جزافا من غير دليل ظلم لا ينبغي أن يرومه الإنسان فيدخل بذلك في زمرة الظالمين.
و هذا المعنى هو الذي يشير تعالى إليه فيما يحكيه من كلام أهل الأعراف يوم القيامة خطابا لهؤلاء الطاغين إذ يقول: «و نادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم و ما كنتم تستكبرون أ هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة:» الأعراف: - 49.
و في الكلام أعني قول نوح (عليه السلام): «و لا أقول للذين تزدري أعينكم» إلخ، تعريض لهم أنهم كما كانوا يحرمون على ضعفاء المجتمع المزايا الحيوية الاجتماعية كذلك كانوا يحرمون عليهم الكرامة الدينية و يقولون: إنهم لا يسعدون بدين و إنما يسعد به أشراف المجتمع و أقوياؤهم، و فيه أيضا تعريض بأنهم ظالمون.
و إنما عقب نوح (عليه السلام) قوله: «و لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول إني ملك» و هو ينفي فيه جهات الامتياز التي كانوا يتوقعونها في الرسول عن نفسه، بقوله: «و لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا» إلخ، مع أنه راجع إلى الضعفاء الذين آمنوا به من قومه لأن الملأ ألحقوهم به في قولهم: «و ما نرى لكم علينا من فضل».
و توضيحه أن معنى قولهم هذا أن اتباعنا لك و لمن آمن بك من هؤلاء الأراذل إنما يستقيم لفضل يتم لكم علينا و لا نرى لكم علينا من فضل أما أنت فليس معك ما يختص به الرسول من قدرة ملكوتية أو علم بالغيب أو أن تكون ملكا منزها من ألواث المادة و الطبيعة، و أما المؤمنون بك فإنما هم أراذلنا الآيسون من كرامة الإنسانية المحرومون من الرحمة و العناية.
فأجاب عنهم نوح بما معناه: أما أنا فلا أدعي شيئا مما تتوقعون من رسالتي فليست للرسول إلا الرسالة و أما هؤلاء الضعفاء الذين لهم هوان عندكم فمن الجائز أن يعلم الله من نفوسهم خيرا فيؤتيهم خيرا و فضلا فهو أعلم بأنفسهم، و ملاك الكرامة الدينية و الرحمة الإلهية زكاء النفس و سلامة القلب دون الظاهر الذي تزدريه أعينكم فلست أقول: لن يؤتيهم الله خيرا، فإنه ظلم يدخلني في زمرة الظالمين.
قوله تعالى: «قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين» كلام ألقوه إلى نوح (عليه السلام) بعد ما عجزوا عن دحض حجته و إبطال ما دعا إليه من الحق، و هو مسوق سوق التعجيز و المراد بقولهم: «ما تعدنا» ما أنذرهم به في أول دعوته من عذاب يوم أليم.
و قد أورد الله سبحانه قولهم هذا فصلا من غير تفريع لأنهم إنما قالوه بعد ما لبث فيهم أمدا بعيدا يدعوهم إلى التوحيد و يخاصمهم و يحاجهم بفنون الخصام و الحجاج حتى قطع جميع معاذيرهم و أنار الحق لهم كما يدل عليه قوله تعالى فيما يحكي عنه (عليه السلام) في دعائه: «قال رب إني دعوت قومي ليلا و نهارا - إلى أن قال - ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم و أسررت لهم إسرارا:» نوح: - 9 و في سورة العنكبوت: «فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما:» العنكبوت: - 14.
فهذا الذي أورده الله من حجاجه قومه و جوابهم في شكل محاورة واحدة إنما وقع في مآت من السنين، و هو كثير النظير في القرآن الكريم و لا بدع فيه فإن الذي يقتص ذلك هو الله سبحانه المحيط بالدهر و بكل ما فيه و الذي يسمعها بالوحي هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد أوتي من سعة النظر ما يجتمع عنده أشتات الأمم و أطراف الزمان.
و المعنى - و الله أعلم - يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا حتى سئمنا و مللنا و ما نحن لك بمؤمنين فأتنا بما تعدنا من العذاب، و هم لا يعترفون بالعجز عن خصامه و جداله بل يؤيسونه من أنفسهم في الحجاج و يطلبون منه أن يشتغل بما يشتغل الداعي الآيس من السمع و الطاعة و هو الشر الذي يهددهم به و يذكره وراء نصحه.
قوله تعالى: «قال إنما يأتيكم به الله إن شاء و ما أنتم بمعجزين» لما كان قولهم: «فأتنا بما تعدنا» إلخ، طلبا منه أن يأتيهم بالعذاب و ليس ذلك إليه فإنما هو رسول، أجاب عن اقتراحهم هذا أيضا - في سياق قصر القلب - أن الإتيان بالعذاب ليس إلي بل إنما هو إلى الله فهو الذي يملك أمركم فيأتيكم بالعذاب الذي وعدتكموه بأمره فهو ربكم و إليه مرجع أمركم كله، و لا يرجع إلي من أمر التدبير شيء حتى أن وعدي إياكم بالعذاب و اقتراحكم علي بطلبه لا يؤثر في ساحة كبريائه شيئا فإن يشأ يأتكم به و أن لم يشأ فلا.
و من هنا يظهر أن قوله (عليه السلام): «إن شاء» من ألطف القيود في هذا المقام أفيد به حق التنزيه و هو أن الله سبحانه لا يحكم فيه شيء و لا يقهره قاهر يفعل ما يشاء و لا يفعل ما يشاء غيره نظير ما سيأتي في آخر السورة من الاستثناء في قوله: «خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ:» هود: - 108.
و قوله: «و ما أنتم بمعجزين» تنزيه آخر لله سبحانه و هو مع ذلك جواب عن الأمر التعجيزي الذي ألقوه إليه (عليه السلام) فإن ظاهره أنهم لا يعبئون بما هددهم به من العذاب كأنهم معجزون لا يقدر عليهم.
قوله تعالى: «و لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم» إلخ، قال في المفردات،: النصح تجري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه - قال - و هو من قولهم نصحت له الود أي أخلصته و ناصح العسل خالصه أو من قولهم: نصحت الجلد خطته و الناصح الخياط و النصاح الخيط.
و قال أيضا: الغي جهل من اعتقاد فاسد، و ذلك أن الجهل قد يكون من الإنسان غير معتقد اعتقادا لا صالحا و لا فاسدا، و قد يكون من اعتقاد شيء فاسد، و هذا النحو الثاني يقال له غي قال تعالى: ما ضل صاحبكم و ما غوى، و قال: و إخوانهم يمدونهم في الغي.
انتهى.
و على هذا فالفرق بين الإغواء و الإضلال أن الإضلال إخراج من الطريق مع بقاء المقصد في ذكر الضال، و الإغواء إخراجه منه مع زواله عن ذكره لاشتغاله بغيره جهلا.
و الإرادة و المشية كالمترادفتين، و هي من الله سبحانه تسبيب الأسباب المؤدية لوجود شيء بالضرورة فكون الشيء مرادا له تعالى أنه تمم أسباب وجوده و أكملها فهو كائن لا محالة، و أما أصل السببية الجارية فهي مرادة بنفسها و لذا قيل: خلق الله الأشياء بالمشية و المشية بنفسها.
و بالجملة قوله: «و لا ينفعكم نصحي» إلخ، كأحد شقي الترديد و الشق الآخر قوله: «و ما أنتم بمعجزين» كأنه (عليه السلام) يقول: أمركم إلى الله إن شاء أن يعذبكم أتاكم بالعذاب و لا يدفع عذابه و لا يقهر مشيته شيء فلا أنتم معجزوه، و لا نصحي ينفعكم إن أردت أن أنصح لكم بعد ما أراد الله أن يغويكم لتكفروا به فيحق عليكم كلمة العذاب، و قيد نصحه بالشرط لأنهم لم يكونوا يسلمون له أنه ينصحهم.
و الإغواء كالإضلال و إن لم يجز نسبته إليه تعالى إذا كان إغواء ابتدائيا لكنه جائز إذا كان بعنوان المجازاة كان يعصي الإنسان و يستوجب به الغواية فيمنعه الله أسباب التوفيق و يخليه و نفسه فيغوي و يضل عن سبيل الحق قال تعالى: «يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين:» البقرة: - 26.
و في الكلام إشارة إلى أن نزول عذاب الاستئصال عليهم مسبوق بالإغواء الإلهي كما يلوح إليه قوله تعالى: «و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا:» إسراء: - 16، و قال: «و قيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم و ما خلفهم و حق عليهم القول:» حم السجدة: - 25.
و قوله: «هو ربكم و إليه ترجعون» تعليل لقوله: «و لا ينفعكم نصحي» إلخ، أو لقوله: «إنما يأتيكم به الله إن شاء - إلى قوله - يريد أن يغويكم» جميعا و محصله أن أمر تدبير العباد إلى الرب الذي إليه يرجع الأمور، و الله سبحانه هو ربكم و إليه ترجعون فليس لي أن آتيكم بعذاب موعود، و ليس لكم أن تعجزوه إن شاء أن يأتيكم بالعذاب فأتاكم به لاستئصالكم و ليس لنصحي أن ينفعكم إن أراد هو أن يغويكم ليعذبكم.
و قد ذكروا في قوله: «إن كان الله يريد أن يغويكم» وجوها من التأويل: منها: أن المعنى يعاقبكم على كفركم، و قد سمى الله تعالى العذاب غيا في قوله: «فسوف يلقون غيا:» مريم: - 59.
و منها: أن المراد إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق و إضلالكم إياهم و من عادة العرب أن يسمي العقوبة باسم الشيء المعاقب عليه، و من هذا الباب قوله: «الله يستهزىء بهم» أي يعاقبهم على استهزائهم و قوله: «و مكروا و مكر الله:» آل عمران: - 54 أي عذبهم على مكرهم إلى غير ذلك.
و منها: أن الإغواء بمعنى الإهلاك فالمعنى يريد أن يهلككم فهو من قولهم: غوي الفصيل إذا فسد من كثرة شرب اللبن.
و منها: أن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى يضل عباده عن الدين، و أن ما هم عليه بإرادة الله، و لو لا ذلك لغيره و أجبرهم على خلافه فقال لهم نوح على وجه التعجب لقولهم و الإنكار لذلك أن نصحي لا ينفعكم إن كان القول كما تقولون.
و أنت بالتأمل فيما قدمناه تعرف أن الكلام في غنى من هذه التأويلات.
قوله تعالى: «أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي و أنا بريء مما تجرمون» أصل الجرم - على ما ذكره الراغب في مفرداته - قطع الثمرة من الشجرة و أجرم أي صار ذا جرم، و استعير لكل اكتساب مكروه فالجرم بضم الجيم و فتحها بمعنى الاكتساب المكروه و هو المعصية.
و الآية، واقعة موقع الاعتراض، و النكتة فيه أن دعوة نوح و احتجاجاته على وثنية قومه و خاصة ما أورده الله تعالى في هذه السورة من احتجاجه أشبه شيء بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و احتجاجه على وثنية أمته.
و إن شئت زيادة تصديق في ذلك فارجع إلى سورة الأنعام - و هي في الحقيقة سورة الاحتجاج - و قابل ما حكاه الله تعالى عن نوح في هذه السورة ما أمر الله به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك السورة بقوله: «قل لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول لكم إني ملك - إلى أن قال - و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي - إلى أن قال - قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا و ما أنا من المهتدين قل إني على بينة من ربي و كذبتم به».
و لك أن تطبق سائر ما ذكر من حججه ع في سورة نوح و الأعراف على ما ذكر من الحجج في سورة الأنعام و في هذه السورة فتشاهد صدق ما ادعيناه.
و لهذه المشابهة و المناسبة ناسب أن يعطف بعد ذكر حجج نوح (عليه السلام) في إنذاره قومه بأمر من الله سبحانه على ما اتهموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رموه بالافتراء على الله، و هو لا ينذرهم و لا يلقي إليهم من الحجج إلا كما أنذر به نوح (عليه السلام) و ألقاه من الحجج إلى قومه، و هذا كما ينذر رسول الملك قومه و المتمردين المستنكفين عن الطاعة و يلقي إليهم النصح و يتم عليهم الحجة فيرمونه بأنه مفتر على الملك و لا طاعة و لا وظيفة فيرجع إليهم بالنصح ثانيا، و يذكر لهم قصة رسول ناصح آخر من الملك إلى قوم آخرين نصح لهم بمثل ما نصح هو لهم فلم يتبصروا به فهلكوا فحيثما يذكر لهم حججه و مواعظه يبعثه الوجد و الأسف إلى أن يتذكر رميهم إياه بالافتراء فيأسف لذلك قائلا: إنكم ترمونني بالافتراء و لم أذكر لكم إلا ما بثه هذا الرسول في قومه من كلمة الحكمة و النصيحة لا جرم إن افتريته فعلي إجرامي و لا تقبلوا قولي غير أني بريء من عملكم.
و قد عاد سبحانه إلى الأمر بمثل هذه المباراة ثانيا في آخر السورة بعد إيراد قصص عدة من الرسل حيث قال: «و كلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك - إلى أن قال - و قل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون و انتظروا إنا منتظرون:» هود: - 122.
و ذكر بعض المفسرين أن الآية، من تمام القصة و الخطاب فيها لنوح، و المعنى أم يقول قوم نوح افتراه نوح قل يا نوح إن افتريته فعلي إجرامي و أنا بريء مما تجرمون، و على هذا فالكلام مشتمل على نوع التفات من الغيبة إلى الخطاب و هذا بعيد عن سياق الكلام غايته.
و في قوله: «و أنا بريء مما تجرمون» إثبات إجرام مستمر لهم و قد أرسل إرسال المسلمات كما في قوله: «فعلي إجرامي» من إثبات الجرم و ذلك أن الذي ذكر من حجج نوح إن كان من الافتراء كان كذبا من حيث إن نوحا (عليه السلام) لم يحتج بهذه الحجج و هي حقة، لكنها من حيث إنها حجج عقلية قاطعة لا تقبل الكذب و هي تثبت لهؤلاء الكفار إجراما مستمرا في رفض ما يهديهم إليه من الإيمان و العمل الصالح فهم في خروجهم عن مقتضى هذه الحجج مجرمون قطعا، و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مجرم لا قطعا بل على تقدير أن يكون مفتريا و ليس بمفتر.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن ابن أبي نصر البزنطي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قال الله في نوح (عليه السلام) و لا ينفعكم نصحي - إن أردت أن أنصح لكم - إن كان الله يريد أن يغويكم» قال: الأمر إلى الله يهدي و يضل.
أقول: قد مر بيانه و في تفسير البرهان،: في قوله تعالى: «أم يقولون افتراه» الآية:، الشيباني في نهج البيان عن مقاتل قال: إن كفار مكة قالوا: إن محمدا افترى القرآن. قال: و روي مثل ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
|