بيان
تتمة قصة نوح (عليه السلام) و هي تشتمل على فصول كإخباره (عليه السلام) بنزول العذاب على قومه، و أمره بصنع الفلك، و كيفية نزول العذاب و هو الطوفان، و قصة ابنه الغريق، و قصة نجاته و نجاة من معه لكنها جميعا ترجع من وجه إلى فصل واحد و هو فصل القضاء بينه (عليه السلام) و بين قومه.
قوله تعالى: «و أوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون» الابتئاس من البؤس و هو حزن مع استكانة.
و قوله: «لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن» إيئاس و إقناط له (عليه السلام) من إيمان الكفار من قومه بعد ذلك، و لذلك فرع عليه قوله: «فلا تبتئس بما كانوا يفعلون» لأن الداعي إلى أمر إنما يبتئس و يغتم من مخالفة المدعوين و تمردهم ما دام يرجو منهم الإيمان و الاستجابة لدعوته، و أما إذا يئس من إجابتهم فلا يهتم بهم و لا يتعب نفسه في دعوتهم إلى السمع و الطاعة و الإلحاح عليهم بالإقبال إليه و لو دعاهم بعدئذ فإنما يدعوهم لغرض آخر كإتمام الحجة و إبراز المعذرة.
و على هذا ففي قوله: «فلا تبتئس بما كانوا يفعلون» تسلية من الله لنوح (عليه السلام) و تطيب لنفسه الشريفة من جهة ما في الكلام من الإشارة إلى حلول حين فصل القضاء بينه و بين قومه، و صيانة لنفسه من الوجد و الغم لما كان يشاهد من فعلهم به و بالمؤمنين به من قومهم من إيذائهم إياهم في دهر طويل مما يقرب من ألف سنة لبث فيه بينهم.
و يظهر من كلام بعضهم أنه استفاد من قوله: «لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن» أن من كفر منهم فليس يؤمن بعد هذا الحين أبدا كما أن الذين آمنوا به ثابتون على إيمانهم دائمون عليه و فيه أن العناية في الكلام إنما تعلقت ببيان عدم إيمان الكفار بعد ذلك فحسب و أما إيمان المؤمنين فلم يعن به إلا بمجرد التحقق سابقا و لا دلالة في الاستثناء على أزيد من ذلك، و أما ثباتهم و دوامهم على الإيمان فلا دليل عليه.
و يستفاد من الآية أولا: أن الكفار لا يعذبون ما كان الإيمان مرجوا منهم فإذا ثبتت فيهم ملكة الكفر و رجس الشرك حق عليهم كلمة العذاب.
و ثانيا: أن ما حكاه الله سبحانه من دعاء نوح بقوله: «و قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا:» نوح: - 27 كان واقعا بين قوله: «إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن» إلخ، و بين قوله: «و اصنع الفلك - إلى قوله - إنهم مغرقون».
و ذلك لأنه - كما ذكر بعضهم - لا سبيل إلى العلم بعدم إيمان الكفار في المستقبل من طريق العقل و إنما طريقه السمع بالوحي فهو (عليه السلام) علم أولا من وحيه تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن أن أحدا منهم لا يؤمن بعد ذلك و لا في نسلهم من سيؤمن بالله ثم دعا عليهم بالعذاب و ذكر في دعائه ما أوحي إليه فلما استجاب الله دعوته و أراد إهلاكهم أمره (عليه السلام) باتخاذ السفينة و أخبره أنهم مغرقون.
قوله تعالى: «و اصنع الفلك بأعيننا و وحينا و لا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون» الفلك هي السفينة مفردها و جمعها واحد و الأعين جمع قلة للعين و إنما جمع للدلالة على كثرة المراقبة و شدتها فإن الجملة كناية عن المراقبة في الصنع.
و ذكر الأعين قرينة على أن المراد بالوحي ليس هو هذا الوحي أعني قوله: «و اصنع الفلك» إلخ، حتى يكون وحيا للحكم بل وحي في مقام العمل و هو تسديد و هداية عملية بتأييده بروح القدس الذي يشير إليه أن افعل كذا و افعل كذا كما ذكره تعالى في الأئمة من آل إبراهيم ع بقوله: «و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و كانوا لنا عابدين:» الأنبياء: - 73، و قد تقدمت الإشارة إليه في المباحث السابقة و سيجيء إن شاء الله في تفسير الآية.
و قوله: «و لا تخاطبني في الذين ظلموا» أي لا تسألني في أمرهم شيئا تدفع به الشر و العذاب و تشفع لهم لتصرف عنهم السوء لأن القضاء فصل و الحكم حتم و بذلك يظهر أن قوله: «إنهم مغرقون» في محل التعليل لقوله: «و لا تخاطبني» إلخ، أو لمجموع قوله: «و اصنع الفلك بأعيننا و وحينا و لا تخاطبني في الذين ظلموا» و يظهر أيضا أن قوله: «و لا تخاطبني» إلخ، كناية عن الشفاعة.
و المعنى: و اصنع السفينة تحت مراقبتنا الكاملة و تعليمنا إياك و لا تسألني صرف العذاب عن هؤلاء الذين ظلموا فإنهم مقضي عليهم الغرق قضاء حتم لا مرد له.
قوله تعالى: «و يصنع الفلك و كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون» قال في المجمع،: السخرية إظهار خلاف الإبطان على وجه يفهم منه استضعاف العقل، و منه التسخير لتذليل يكون استضعافا بالقهر، و الفرق بين السخرية و اللعب أن في السخرية خديعة و استنقاصا و لا تكون إلا في الحيوان و قد يكون اللعب بجماد، انتهى.
و قال الراغب في المفردات،: سخرت منه و استسخرته للهزء منه قال تعالى: «إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون» «بل عجبت و يسخرون» و قيل: رجل سخر - بالضم فالفتح - لمن سخر و سخرة - بالضم فالسكون - لمن يسخر منه، و السخرية - بالضم - و السخرية - بالكسر - لفعل الساخر، انتهى.
و قوله: «و يصنع الفلك» حكاية الحال الماضية يمثل بها ما يجري على نوح (عليه السلام) من إيذاء قومه و قيام طائفة منهم بعد طائفة على إهانته و الاستهزاء به في عمل السفينة و صبره عليه في جنب الدعوة الإلهية و إقامة الحجة عليهم من غير أن يفشل و ينثني.
و قوله: «كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه» حال من فاعل يصنع و الملأ هاهنا الجماعة الذين يعبأ بهم، و في الكلام دلالة على أنهم كانوا يأتونه و هو يصنع الفلك جماعة بعد جماعة بالمرور عليه ساخرين، و أنه (عليه السلام) كان يصنعها في مرأى منهم و ممر عام.
و قوله: «قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون» في موضع الجواب لسؤال مقدر كان قائلا قال: فما ذا قال نوح (عليه السلام)؟ فقيل: «قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم» و لذا فصل الكلام من غير عطف.
و لم يقل (عليه السلام): إن تسخروا مني فإني أسخر منكم ليدفع به عن نفسه و عن عصابة المؤمنين به و كأنه كان يستمد من أهله و اتباعه في ذلك و كانوا يشاركونه في عمل السفينة و كانت السخرية تتناولهم جميعا فظاهر الكلام أن الملأ كانوا يواجهون نوحا و من معه في عمل السفينة بسخرية نوح و رميه (عليه السلام) بالخبل و الجنون فيشمل هزؤهم نوحا و من معه و إن كانوا لم يذكروا في هزئهم إلا نوحا فقط.
على أن الطبع و العادة يقضيان أن يكونوا يسخرون من أتباعه أيضا كما كانوا يسخرون منه فهم أهل مجتمع واحد تربط المعاشرة بعضهم ببعض و إن كانت سخريتهم من أتباعه سخرية منه في الحقيقة لأنه هو الأصل الذي تقوم به الدعوة، و لذا قيل: «سخروا منه» و لم يقل: سخروا منه و من المؤمنين.
و السخرية و إن كانت قبيحة و من الجهل إذا كانت ابتدائية لكنها جائزة إذا كانت مجازاة و بعنوان المقابلة و خاصة إذا كانت تترتب عليها فائدة عقلائية كإنفاذ العزيمة و إتمام الحجة قال تعالى: «فيسخرون منهم سخر الله منهم و لهم عذاب أليم:» التوبة: - 79، و يدل على اعتبار المجازاة و المقابلة بالمثل في الآية قوله: «كما تسخرون».
قوله تعالى: «فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و يحل عليه عذاب مقيم» السياق يقضي أن يكون قوله: «فسوف تعلمون» تفريعا على الجملة الشرطية السابقة «أن تسخروا منا فإنا نسخر منكم» و تكون الجملة المتفرعة هو متن السخرية التي أتى بها نوح (عليه السلام) و يكون قوله: «من يأتيه عذاب يخزيه» إلخ، متعلقا بتعلمون على أنه معلوم العلم.
و المعنى: أن تسخروا منا فإنا نسخر منكم فنقول لكم: سوف تعلمون من يأتيه العذاب؟ نحن أو أنتم؟ و هذه سخرية بقول حق.
و قوله: «من يأتيه عذاب يخزيه» المراد به عذاب الاستئصال في الدنيا و هو الغرق الذي أخزاهم و أذلهم، و المراد بقوله: «و يحل عليه عذاب مقيم» أي ينزل عليه عذاب ثابت لازم لا يفارق، هو عذاب النار في الآخرة، و الدليل على ما ذكرنا من كون العذاب الأول هو الذي في الدنيا و الثاني هو عذاب الآخرة هو المقابلة و تكرر العذاب - منكرا - في اللفظ و توصيف الأول بالإخزاء و الثاني بالإقامة.
و ربما أخذ بعضهم قوله: «فسوف تعلمون» تاما من غير ذكر متعلق العلم و قوله: «من يأتيه عذاب يخزيه» إلخ، ابتداء كلام من نوح و هو بعيد عن السياق.
قوله تعالى: «حتى إذا جاء أمرنا و فار التنور» إلى آخر الآية، يقال: فار القدر يفور فورا و فورانا إذا غلا و اشتد غليانه، و فارت النار إذا اشتعلت و ارتفع لهيبها، و التنور تنور الخبز، و هو مما اتفقت فيه اللغتان: العربية و الفارسية أو الكلمة فارسية في الأصل.
و فوران التنور نبع الماء و ارتفاعه منه، و قد ورد في الروايات: أن أول ما ابتداء الطوفان يومئذ كان ذلك بتفجر الماء من تنور، و على هذا فاللام في التنور للعهد يشار بها إلى تنور معهود في الخطاب، و يحتمل اللفظ أن يكون كناية عن اشتداد غضب الله تعالى فيكون من قبيل قولهم: «حمي الوطيس» إذا اشتد الحرب.
فقوله: «حتى إذا جاء أمرنا و فار التنور»: أي كان الأمر على ذلك حتى إذا جاء أمرنا أي تحقق الأمر الربوبي و تعلق بهم و فار الماء من التنور أو اشتد غضب الرب تعالى قلنا له كذا و كذا.
و في التنور أقوال أخر بعيدة من الفهم كقول من قال إن المراد به طلوع الفجر و كان عند ذلك أول ظهور الطوفان، و قول بعضهم: إن المراد به أعلى الأرض و أشرفها أي انفجر الماء من الأمكنة المرتفعة و نجود الأرض، و قول آخرين: إن التنور وجه الأرض هذا.
و قوله: «قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين» أي أمرنا نوحا (عليه السلام) أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين و هي الذكر و الأنثى.
و قوله: «و أهلك إلا من سبق عليه القول» أي و احمل فيها أهلك و هم المختصون به من زوج و ولد و أزواج الأولاد و أولادهم إلا من سبق عليه قولنا و تقدم عليه عهدنا أنه هالك، و كان هذا المستثنى زوجته الخائنة التي يذكرها الله تعالى في قوله: «ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح و امرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما:» التحريم: - 10.
و ابن نوح الذي يذكره الله تعالى في الآيات التالية و كان نوح (عليه السلام) يرى أن المستثنى هو امرأته فحسب حتى بين الله سبحانه أن ابنه ليس من أهله و أنه عمل غير صالح فعند ذلك علم أنه من الذين ظلموا.
و قوله: «و من آمن و ما آمن معه إلا قليل» أي و احمل فيها من آمن بك من قومك غير أهلك لأن من آمن به من أهله أمر بحمله بقوله: «و أهلك» و لم يؤمن به من القوم إلا قليل.
في قوله: «و ما آمن معه» دون أن يقال: و ما آمن به تلويح إلى أن المعنى: و ما آمن بالله مع نوح إلا قليل، و ذلك أنسب بالمقام و هو مقام ذكر من أنجاه الله من عذاب الغرق، و الملاك فيه هو الإيمان بالله و الخضوع لربوبيته، و كذا في قوله: «إلا قليل» دون أن يقال إلا قليل: منهم بلوغا في استقلالهم إن من آمن كان قليلا في نفسه لا بالقياس إلى القوم فقد كانوا في نهاية القلة.
قوله تعالى: «و قال اركبوا فيها بسم الله مجراها و مرساها إن ربي لغفور رحيم» قرىء مجراها بفتح الميم و هو مجرى السفينة و سيرها، و مجراها بضم الميم و هو إجراء السفينة و سياقها، و مرساها بضم الميم مصدر ميمي مرادف الإرساء، و الإرساء الإثبات و الإيقاف، قال تعالى: «و الجبال أرساها:» النازعات: - 32.
و قوله: «و قال اركبوا فيها» معطوف على قوله في الآية السابقة: «جاء أمرنا» أي حتى إذا قال نوح إلخ، و خطابه لأهله و سائر المؤمنين أو لجميع من في السفينة.
و قوله: «بسم الله مجراها و مرساها» تسمية منه (عليه السلام) يجلب به الخير و البركة لجري السفينة و إرسائها فإن في تعليق فعل من الأفعال أو أمر من الأمور على اسم الله تعالى و ربطه به صيانة له من الهلاك و الفساد و اتقاء من الضلال و الخسران لما أنه تعالى رفيع الدرجات منيع الجانب لا سبيل للدثور و الفناء و العي و العناء إليه فما تعلق به مصون لا محالة من تطرق عارض السوء.
فهو (عليه السلام) يعلق جري السفينة و إرساءها باسم الله و هذان هما السببان الظاهران في نجاة السفينة و من فيها من الغرق، و إنما ينجح هذان السببان لو شملت العناية الإلهية من ركبها، و إنما تشمل العناية بشمول المغفرة الإلهية لخطايا ركابها و الرحمة الإلهية لهم لينجوا من الغرق و يعيشوا على رسلهم في الأرض، و لذلك علل (عليه السلام) تسميته بقوله: «إن ربي لغفور رحيم» أي إنما أذكر اسم الله على مجرى سفينتي و مرساها لأنه ربي الغفور الرحيم، له أن يحفظ مجراها و مرساها من الاختلال و التخبط حتى ننجو بذلك من الغرق بمغفرته و رحمته.
و نوح (عليه السلام) أول إنسان حكى الله سبحانه عنه التسمية باسمه الكريم فيما أوحاه من كتابه فهو (عليه السلام) أول فاتح فتح هذا الباب كما أنه أول من أقام الحجة على التوحيد، و أول من جاء بكتاب و شريعة و أول من انتهض لتعديل الطبقات و رفع التناقض عن المجتمع الإنساني.
و ما قدمناه من معنى قوله: «بسم الله مجراها و مرساها» مبني على ما هو الظاهر من كون الجملة تسمية من نوح (عليه السلام) و المجرى و المرسى مصدرين ميميين و ربما احتمل كونه تسمية ممن مع نوح بأمره أو كون مجراها و مرساها اسمين للزمان أو المكان فيختلف المعنى.
قال في الكشاف، في الآية: يجوز أن يكون كلاما واحدا و كلامين: فالكلام الواحد أن يتصل باسم الله باركبوا حالا من الواو بمعنى اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها و وقت إرسائها إما لأن المجرى و المرسى للوقت و إما لأنهما مصدران كالإجراء و الإرساء حذف منهما الوقت المضاف كقولهم: خفوق النجم و مقدم الحاج، و يجوز أن يراد مكانا الإجراء و الإرساء، و انتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل أو بما فيه من إرادة القول.
و الكلامان أن يكون بسم الله مجراها و مرساها جملة من مبتدإ و خبر مقتضبة 1 أي بسم الله إجراؤها و إرساؤها، يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال: بسم الله فجرت، و إذا أن ترسو قال: بسم الله فرست، و يجوز أن يقحم 1.
الاسم كقوله: ثم اسم السلام عليكما و يراد بالله إجراؤها و إرساءها.
قال: و قرىء مجراها و مرساها بفتح الميم من جرى و رسى إما مصدرين أو وقتين أو مكانين، و قرأ مجاهد: مجريها و مرسيها بلفظ اسم الفاعل مجروري المحل صفتين لله.
قوله تعالى: «و هي تجري بهم في موج كالجبال» الضمير للسفينة، و الموج اسم جنس كتمر أو جمع موجة - على ما قيل - و هي قطعة عظيمة ترتفع عن جملة الماء و في الآية إشعار بأن السفينة كانت تسير على الماء و لم تكن تسبح جوف الماء كالحيتان كما قيل.
قوله تعالى: «و نادى نوح ابنه و كان في معزل يا بني اركب معنا و لا تكن مع الكافرين» المعزل اسم مكان من العزل و قد عزل ابنه نفسه عن أبيه و المؤمنين في مكان لا يقرب منهم، و لذلك قال: «و نادى نوح ابنه» و لم يقل: و قال نوح لابنه.
و المعنى: و نادى نوح ابنه و كان ابنه في مكان منعزل بعيد منهم و قال في ندائه: يا بني - بالتصغير و الإضافة دلالة على الإشفاق و الرحمة - اركب معنا السفينة و لا تكن مع الكافرين فتشاركهم في البلاء كما شاركتهم في الصحبة و عدم ركوب السفينة، و لم يقل (عليه السلام): و لا تكن من الكافرين لأنه لم يكن يعلم نفاقه و أنه غير مؤمن إلا باللفظ، و لذلك دعاه إلى الركوب.
قوله تعالى: «قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله» إلخ، قال الراغب: المأوى مصدر أوى يأوي أويا و مأوى تقول: أوى إلى كذا: انضم إليه يأوي أويا و مأوى و آواه غيره يؤويه إيواء، انتهى.
و المعنى: قال ابن نوح مجيبا لأبيه رادا لأمره: سأنضم إلى جبل يعصمني و يقيني من الماء فلا أغرق، قال نوح: لا عاصم اليوم - و هو يوم اشتد غضب الله و قضى بالغرق لأهل الأرض إلا من التجأ منهم إلى الله - من الله لا جبل و لا غيره، و حال بين نوح و ابنه الموج فكان ابنه من المغرقين و لو لم يحل الموج بينهما و لم ينقطع الكلام بذلك لعرف كفره و تبرأ منه.
و في الكلام إشارة إلى أن أرضهم كانت أرضا جبلية لا مئونة زائدة في صعود الإنسان إلى بعض جبال كانت هناك.
قوله تعالى: «و قيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي و غيض الماء و قضي الأمر و استوت على الجودي و قيل بعدا للقوم الظالمين» البلع إجراء الشيء في الحلق إلى الجوف، و الإقلاع الإمساك و ترك الشيء من أصله، و الغيض جذب الأرض المائع الرطب من ظاهرها إلى باطنها و هو كالنشف يقال: غاضت الأرض الماء أي نقصته.
و الجودي مطلق الجبل و الأرض الصلبة، و قيل: هو جبل بأرض موصل في سلسلة جبال تنتهي إلى أرمينية و هي المسماة «آرارات».
و قوله: «و قيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي» نداء صادر من ساحة العظمة و الكبرياء لم يصرح باسم قائله و هو الله عز اسمه للتعظيم، و الأمر تكويني تحمله كلمة «كن» الصادرة من ذي العرش تعالى يترتب عليه من غير فصل أن تبتلع الأرض ما على وجهها من الماء المتفجر من عيونها، و أن تكف السماء عن أمطارها.
و فيه دلالة على أن الأرض و السماء كانتا مشتركتين في إطغاء الماء بأمر الله كما يبينه قوله تعالى: «ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر و فجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر:» القمر: - 12.
و قوله: «و غيض الماء» أي نقص الماء و نشف عن ظاهر الأرض و انكشف البسيط، و ذلك إنما يكون بالطبع باجتماع ما يمكن اجتماعه منه في الغدران و تشكيل البحار و البحيرات، و انتشاف ما على سائر البسيطة.
و قوله: «و قضي الأمر» أي أنجز ما وعد لنوح (عليه السلام) من عذاب القوم و أنفذ الأمر الإلهي بغرقهم و تطهر الأرض منهم أي كان ما قيل له كن كما قيل فقضاء الأمر كما يقال على جعل الحكم و إصداره كذلك يقال على إمضائه و إنفاذه و تحقيقه في الخارج، غير أن القضاء الإلهي و الحكم الربوبي الذي هو عين الوجود الخارجي جعله و إنفاذه واحد، و إنما الاختلاف بحسب التعبير.
و قوله: «و استوت على الجودي» أي استقرت السفينة على الجبل أو على جبل الجودي المعهود، و هو إخبار عن اختتام ما كان يلقاه نوح و من معه من أمر الطوفان.
و قوله: «و قيل بعدا للقوم الظالمين» أي قال الله عز اسمه: بعدا للقوم الظالمين أي ليبعدوا بعدا فأبعدهم بذلك من رحمته و طردهم عن دار كرامته، و الكلام في ترك ذكر فاعل «قيل» هاهنا كالكلام فيه في «قيل» السابق.
و الأمر أيضا في قوله: «بعدا للقوم الظالمين» كالأمرين السابقين: «يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي» تكويني فهو عين ما أنفذه الله فيهم من الغرق المؤدي إلى خزيهم في الدنيا و خسرانهم في الآخرة، و إن كان من وجه آخر من جنس الأمر التشريعي لتفرعه على مخالفتهم الأمر الإلهي بالإيمان و العمل، و كونه جزاء لهم على استكبارهم و استعلائهم على الله عز و جل.
و للصفح عن ذكر الفواعل في قوله: «و قيل يا أرض» إلخ، و قوله: «و قضي الأمر» و قوله: «و قيل بعدا» إلخ، في الآية وجه آخر مشترك و هو أن هذه الأمور العظيمة الهائلة المدهشة لن يقدر عليها إلا الواحد القاهر الذي لا شريك له في أمره فلا يذهب الوهم إلى غيره لو لم يذكر على فعله فما هو إلا فعله ذكر أم لم يذكر.
و لمثل هذه النكتة حذف فاعل «غيض الماء» و هو الأرض، و فاعل «استوت على الجودي» و هو السفينة، و لم يعين القوم الظالمون بأنهم قوم نوح، و لا الناجون بأنهم نوح (عليه السلام) و من معه في السفينة فإن الآية بلغت في بلاغتها العجيبة من حيث سياق القصة مبلغا ليس فيه إلا سماء تنزل أمطارها، و أرض انفجرت بعيونها و انغمرت بالماء و سفينة تجري في أمواجه، و أمر مقضي، و قوم ظالمون هم قوم نوح و أمر إلهي بوعد القوم بالهلاك فلو غيض الماء فإنما تغيضه الأرض، و لو استقر شيء و استوى فإنما هي السفينة تستقر على الأرض كما أنه لو قيل: يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي و قيل: بعدا للقوم الظالمين فإنما القائل هو الله عز اسمه و القوم الظالمون هم المقضي عليهم بالعذاب، و لو قيل: قضي الأمر فإنما القاضي هو الله سبحانه، و الأمر هو ما وعده نوحا و نهاه أن يراجعه في ذلك و هو أنهم مغرقون، و لو قيل للسماء: أقلعي بعد ما قيل للأرض: ابلعي ماءك فإنما يراد إقلاعها و إمساكها ماءها.
ففي الآية الكريمة اجتماع عجيب من أسباب الإيجاز و توافق لطيف فيما بينها كما أن الآية واقفة على موقف عجيب من بلاغة القرآن المعجزة يبهر العقول و يدهش الألباب و إن كانت الآيات القرآنية كلها معجزة في بلاغتها.
و قد اهتم بأمرها رجال البلاغة و علماء البيان فغاصوا لجي بحرها و أخرجوا ما استطاعوا نيله من لئاليها، و ما هو - و قد اعترفوا بذلك - إلا كغرفة من بحر أو حصاة من بر.
قوله تعالى: «و نادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي و إن وعدك الحق و أنت أحكم الحاكمين» دعاء نوح (عليه السلام) لابنه الذي تخلف عن ركوب السفينة و قد كان آخر عهده به يوم ركب السفينة فوجده في معزل فناداه و أمره بركوب السفينة فلم يأتمر ثم حال بينهما الموج فوجد نوح (عليه السلام) و هو يرى أنه مؤمن بالله من أهله و قد وعده الله بإنجاء أهله.
و لما به من الوجد و الحزن رفع صوته بالدعاء كما يدل عليه قوله تعالى: «و نادى نوح ربه» و لم يقل: سأل أو قال أو دعا، و رفع الصوت بالاستغاثة من المضطر الذي اشتد به الضر و هاج به الوجد أمر طبعي.
و الدعاء أعني نداء نوح (عليه السلام) ربه في ابنه و إن ذكر في القصة بعد ذكر إنجاز غرق القوم و ظاهره كون النداء بعد تمام الأمر و استواء الفلك لكن مقتضى ظاهر الحال أن يكون النداء بعد حيلولة الموج بينهما و على هذا فذكره بعد ذكر انقضاء الطوفان إنما هو لمكان العناية ببيان جميع ما في القصة من الهيئة الهائلة في محل واحد لتكميل تمثيل الواقعة ثم الأخذ ببيان بعض جهاته الباقية.
و قد كان (عليه السلام) رسولا أحد الأنبياء أولي العزم عالما بالله عارفا بمقام ربه بصيرا بموقف نفسه في العبودية، و الظرف ظهرت فيه آية الربوبية و القهر الإلهي أكمل ظهورها فأغرقت الدنيا و أهلها، و نودي من ساحة العظمة و الكبرياء على الظالمين بالبعد، فأخذ نوح (عليه السلام) يدعو لابنه و الظرف هذا الظرف لم يجترىء (عليه السلام) - على ما يقتضيه أدب النبوة - على أن يسأل ما يريده من نجاة ابنه بالتصريح، بل أورد القول كالمستفسر عن حقيقة الأمر، و ابتدر بذكر ما وعده الله من نجاة أهله حين أمره أن يجمع الناجين معه في السفينة فقال له: «احمل فيها من كل زوجين اثنين و أهلك».
و كان أهله - غير امرأته - حتى ابنه هذا مؤمنين به ظاهرا و لو لم يكن ابنه هذا على ما كان يراه نوح (عليه السلام) مؤمنا لم يدعه البتة إلى ركوب السفينة فهو (عليه السلام) الداعي على الكافرين السائل هلاكهم بقوله: «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا» فقد كان يرى ابنه هذا مؤمنا و لم يكن مخالفته لأمر أبيه إذ أمره بركوب السفينة كفرا أو مؤديا إلى الكفر و إنما هي معصية دون الكفر.
و لذلك كله قال (عليه السلام): «رب إن ابني من أهلي و إن وعدك الحق» فذكر وعد ربه و ضم إليه أن ابنه من أهله - على ما في الكلام من دلالة «رب» على الاسترحام، و دلالة الإضافة في «ابني» على الحجة في قوله: «من أهلي» و دلالة التأكيد بإن و لام الجنس في قوله: «و إن وعدك الحق» على أداء حق الإيمان.
و كانت الجملتان: «إن ابني من أهلي» «و إن وعدك الحق» ينتجان بانضمام بعضهما إلى بعض الحكم بلزوم نجاة ابنه لكنه (عليه السلام) لم يأخذ بما ينتجه كلامه من الحكم أدبا في مقام العبودية فلا حكم إلا لله بل سلم الحكم الحق و القضاء الفصل إلى الله سبحانه فقال: «و أنت أحكم الحاكمين».
فالمعنى: رب إن ابني من أهلي، و إن وعدك حق كل الحق، و إن ذلك يدل على أن لا تأخذه بعذاب القوم بالغرق و مع ذلك فالحكم الحق إليك فأنت أحكم الحاكمين كأنه (عليه السلام) يستوضح ما هو حقيقة الأمر و لم يذكر نجاة ابنه و لا زاد على هذا الذي حكاه الله عنه شيئا و سيوافيك بيان ذلك.
قوله تعالى: «قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم» إلخ.
بين سبحانه لنوح (عليه السلام) وجه الصواب فيما ذكره بقوله: «إن ابني من أهلي و إن وعدك» إلخ، و هو يستوجب به نجاة ابنه فقال تعالى: «إنه ليس من أهلك» فارتفع بذلك أثر حجته.
و المراد بكونه ليس من أهله - و الله أعلم - أنه ليس من أهله الذين وعده الله بنجاتهم لأن المراد بالأهل في قوله: «و أهلك إلا من سبق عليه القول» الأهل الصالحون، و هو ليس بصالح و إن كان ابنه و من أهله بمعنى الاختصاص، و لذلك علل قوله: «إنه ليس من أهلك» بقوله: «إنه عمل غير صالح».
فإن قلت: لازم ذلك أن يكون امرأته الكافرة من أهله لأنها إنما خرجت من الحكم بالاستثناء و هي داخلة موضوعا في قوله: «و أهلك» و يكون ابنه ليس من أهله و خارجا موضوعا لا بالاستثناء و هو بعيد.
قلت: المراد بالأهل في قوله: «و أهلك إلا من سبق عليه القول» هم الأهل بمعنى الاختصاص و بالمستثنى - من سبق عليه القول - غير الصالحين و مصداقه امرأته و ابنه هذا، و أما الأهل الواقع في قوله هذا: «إنه ليس من أهلك» فهم الصالحون من المختصين به (عليه السلام) طبقا لما وقع في قوله: «رب إن ابني من أهلي» فإنه (عليه السلام) لا يريد بالأهل في قوله هذا غير الصالحين من أولي الاختصاص و إلا شمل امرأته و بطلت حجته فافهم ذلك.
فهذا هو الظاهر من معنى الآية، و يؤيده بعض ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مما سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
و ذكروا في تفسير الآية معان أخر: منها: أن المراد أنه ليس على دينك فكأن كفره أخرجه عن أن يكون له أحكام أهله.
و نسب إلى جماعة من المفسرين.
و فيه أنه في نفسه معنى لا بأس به إلا أنه غير مستفاد من سياق الآية لأن الله سبحانه ينفي عنه الأهلية بالمعنى الذي كان يثبتها له به نوح (عليه السلام) و لم يكن نوح يريد بأهليته أنه مؤمن غير كافر بل إنما كان يريد أنه أهله بمعنى الاختصاص و الصلاح و إن كان لازمه الإيمان.
اللهم إلا أن يرجع إلى المعنى المتقدم.
و منها: أنه لم يكن ابنه على الحقيقة و إنما ولد على فراشه فقال نوح (عليه السلام): إنه ابني على ظاهر الأمر فأعلمه الله أن الأمر على خلاف ذلك، و نبهه على خيانة امرأته.
و ينسب إلى الحسن و مجاهد.
و فيه: أنه على ما فيه من نسبة العار و الشين إلى ساحة الأنبياء (عليهم السلام)، و الذوق المكتسب من كلامه تعالى يدفع ذلك عن ساحتهم و ينزه جانبهم عن أمثال هذه الأباطيل، أنه ليس مما يدل عليه اللفظ بصراحة و لا ظهور فليس في القصة إلا قوله: «إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح» و ليس بظاهر فيما تجرءوا عليه و قوله في امرأة نوح: «امرأة نوح و امرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما:» التحريم: - 10 و ليس إلا ظاهرا في أنهما كانتا كافرتين تواليان أعداء زوجيهما و تسران إليهم بأسرارهما و تستنجدانهم عليهما.
و منها: أنه كان ابن امرأته (عليه السلام) و كان ربيبه لا ابنه من صلبه.
و فيه أنه مما لا دليل عليه من جهة اللفظ.
على أنه لا يلائم قوله في تعليل أنه ليس من أهله: «إنه عمل غير صالح» و لو كان كذلك كان من حق الكلام أن يقال: إنه ابن المرأة.
على أن من المستبعد جدا أن لا يكون نوح (عليه السلام) عالما بأنه ربيبه و ليس بابنه حتى يخاطب ربه بقوله: «إن ابني من أهلي» أو يكون عالما بذلك و يتكلم بالمجاز و يحتج على ربه العليم الخبير بذلك فينبه أنه ليس ابنه و إنما هو ربيب.
و قوله: «إنه عمل غير صالح» ظاهر السياق أن الضمير لابن نوح (عليه السلام) فيكون هو العمل غير الصالح، و عده عملا غير صالح نوع من المبالغة نحو زيد عدل أي ذو عدل، و قولها: فإنما هي إقبال و إدبار، أي ذات إقبال و إدبار.
فالمعنى: إن ابنك هذا ذو عمل غير صالح فليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم.
و يؤيد هذا المعنى قراءة من قرأ: «إنه عمل غير صالح» بالفعل الماضي أي عمل عملا غير صالح.
و ذكر بعضهم: أن الضمير راجع إلى سؤال نوح (عليه السلام) المفهوم من قوله: «رب إن ابني من أهلي» أي إن سؤالك نجاة ابنك عمل غير صالح لأنه سؤال لما ليس لك به علم و لا ينبغي لنبي أن يخاطب ربه بمثل ذلك و هو من أسخف التفسير فإنه معنى لا يلائم شيئا من الجملتين المكتنفتين به لا قوله: «إنه ليس من أهلك» و لا قوله: «فلا تسئلن ما ليس لك به علم» و هو ظاهر، و لو كان كذلك كان من حق الكلام أن يتقدم على قوله: «إنه ليس من أهلك» و يتصل بقول نوح (عليه السلام).
على أنك عرفت أن قول نوح (عليه السلام): «رب إن ابني من أهلي» إلخ، لا يتضمن سؤالا و إنما كان يسوقه - لو جرى في كلامه - إلى السؤال لكن العناية الإلهية حالت بينه و بين السؤال.
و قوله: «فلا تسئلن ما ليس لك به علم» كان قول نوح (عليه السلام): «رب إن ابني من أهلي و إن وعدك الحق» في مظنة أن يسوقه إلى سؤال نجاة ابنه و هو لا يعلم أنه ليس من أهله فأخذته العناية الإلهية، و حال التسديد الغيبي بينه و بين السؤال فأدركه النهي بقوله: «لا تسئلن ما ليس لك به علم» بتفريع النهي على ما تقدم أي فإذ ليس من أهلك لكونه عملا غير صالح و أنت لا سبيل لك إلى العلم بذلك فإياك أن تبادر إلى سؤال نجاته لأنه سؤال ما ليس لك به علم.
و النهي عن السؤال بغير علم لا يستلزم تحقق سؤال ذلك منه (عليه السلام) لا مستقلا و لا في ضمن قوله: «رب إن ابني من أهلي» لأن النهي عن الشيء لا يستلزم الارتكاب قبلا، و قد قال تعالى: «لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم:» الحجر: - 88 فنهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حب الدنيا و الافتتان بزينتها و حاشاه عن ذلك.
و إنما يفتقر النهي في صحة تعلقه بفعل ما أن يكون فعلا اختياريا يمكن أن يبتلي به المكلف، و ما نهي عنه الأنبياء (عليهم السلام) على هذه الصفة و إن كانوا ذوي عصمة إلهية و تسديد غيبي، فإن من العصمة و التسديد أن يراقبهم الله سبحانه في أعمالهم و كلما اقتربوا مما من شأنه أن يزل فيه الإنسان نبههم على وجه الصواب و يدعوهم إلى السداد و التزام طريق العبودية، قال تعالى: «و لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا:» إسراء: - 75 فأنبأ تعالى أنه هو الذي ثبته و لم يدعه يقترب من الركون إليهم فضلا عن نفس الركون.
و قال تعالى و لو لا فضل الله عليك و رحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك و ما يضلون إلا أنفسهم و ما يضرونك من شيء و أنزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علمك ما لم تكن تعلم و كان فضل الله عليك عظيما:» النساء: - 113.
و من الدليل على أن النهي - «فلا تسئلن» إلخ - نهي عما لم يقع بعد قول نوح (عليه السلام) بعد استماع هذا النهي: «رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم» و لو كان سأل شيئا لقيل: أعوذ بك من سؤالي ذلك ليفيد المصدر المضاف إلى المعمول التحقق و الارتكاب.
و من الدليل أيضا على أنه (عليه السلام) لم يسأل ذلك تعقيب قوله: «فلا تسئلن ما ليس لك به علم» بقوله: «إني أعظك أن تكون من الجاهلين» فإن معناه: أني أنصح لك في القول أن لا تكون بسؤالك ذلك من الجاهلين، و لو كان نوح سأل ذلك لكان من الجاهلين لأنه سأل ما ليس له به علم.
فإن قلت: إنه تعالى قال: «أن تكون من الجاهلين» أي ممن استقرت فيه صفة الجهل، و استقرارها إنما يكون بالتكرار لا بالمرة و الدفعة، و بذلك يعلم أنه سأل ما سأل و تحقق منه الجهل مرة و إنما وعظه الله تعالى بما وعظ لئلا يعود إلى مثله فيتكرر منه ذلك فيدخل في زمرة الجاهلين.
قلت: زنة الفاعل كجاهل لا تدل على الاستقرار و التكرر و إنما تفيده الصفة المشبهة كجهول على ما ذكروه، و يشهد لذلك قوله تعالى في قصة البقرة: «قالوا أ تتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين:» البقرة: - 67، و قوله في قصة يوسف: «و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين:» يوسف: - 33 و قوله خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): «و لو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين:» الأنعام: - 35.
و أيضا لو كان المراد من النهي عن السؤال أن لا يتكرر منه ذلك بعد ما وقع مرة لكان الأنسب أن يصرح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهي عن أصله كما وقع في نظير المورد من قوله تعالى: «إذ تلقونه بألسنتكم و تقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم - إلى أن قال - يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا:» النور: - 17.
قوله تعالى: «قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين» لما تبين لنوح (عليه السلام) أنه لو ساقه طبع الخطاب الذي خاطب به ربه إلى السؤال كان سائلا ما ليس له به علم و كان من الجاهلين و إن عناية الله حالت بينه و بين الهلكة، شكر ربه فاستعاذ بمغفرته و رحمته عن ذلك السؤال المخسر فقال: «رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم».
و الكلام في الاستعاذة مما لم يقع بعد من الأمور المهلكة و المعاصي الموبقة كالنهي عما لم يقع من الذنوب و الآثام و قد تقدم الكلام فيه و قد أمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاستعاذة من الشيطان و هو معصوم لا سبيل للشيطان إليه، قال تعالى: «قل أعوذ برب الناس - إلى أن قال - من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس:» الناس: - 5 و قال: «و أعوذ بك رب أن يحضرون:» المؤمنون: - 98 و الوحي مصون عن مس الشياطين كما قال تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم:» الجن: - 28.
و قوله: «و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين كلام صورته صورة التوبة و حقيقته الشكر على ما أنعم الله عليه من التعليم و التأديب.
أما صورة توبته فإن في ذلك رجوعا إلى ربه تعالى بالاستعاذة و لازمها طلب مغفرة الله و رحمته أي ستره على الإنسان ما فيه زلته و هلاكته و شمول عنايته لحاله و قد تقدم في أواخر الجزء السادس من الكتاب بيان أن الذنب أعم من مخالفة الأمر التشريعي بل كل وبال و أثر سيىء الإنسان بوجه، و أن المغفرة أعم من الستر على المعصية المعروفة عند المتشرعة بل كل ستر إلهي يسعد الإنسان و يجمع شمله.
و أما حقيقة الشكر فإن العناية الإلهية التي حالت بينه و بين السؤال الذي كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين و عصمته ببيان وجه الصواب كانت سترا إلهيا على زلة في طريقه و رحمة و نعمة أنعم الله سبحانه بها عليه فقوله (عليه السلام): «و إلا تغفر لي و ترحمني أكن من الخاسرين» أي إن لم تعذني من الزلات لخسرت، ثناء و شكر لصنعه الجميل.
قوله تعالى: «قيل يا نوح اهبط بسلام منا و بركات عليك و على أمم ممن معك» إلخ، السلام هو السلامة أو التحية غير أن ذكر مس العذاب في آخر الآية يؤيد كون المراد به في صدرها السلامة من العذاب و كذا تبديل البركة في آخر الآية إلى التمتع يدل على أن المراد بالبركات ليس مطلق النعم و أمتعة الحياة بل النعم من حيث تسوق الإنسان إلى الخير و السعادة و العاقبة المحمودة.
فقوله: «قيل - و لم يذكر القائل و هو الله سبحانه للتعظيم - يا نوح اهبط بسلام منا و بركات عليك» معناه - و الله أعلم - يا نوح انزل مع سلامة من العذاب - الطوفان - و نعم ذوات بركات و خيرات نازلة منا عليك أو أنزل بتحية و بركات نازلة منا عليك.
و قوله: «و على أمم ممن معك» معطوف على قوله: «عليك» و تنكير أمم يدل على تبعيضهم لأن من الأمم من يذكره تعالى بعد في قوله: «و أمم سنمتعهم».
و الخطاب أعني قوله تعالى: «يا نوح اهبط بسلام منا و بركات عليك» إلى آخر الآية بالنظر إلى ظرف صدوره و ليس وقتئذ متنفس على وجه الأرض من إنسان أو حيوان و قد أغرقوا جميعا و لم يبق منهم إلا جماعة قليلة في السفينة و قد رست و استوت على الجودي، و قد قضي أن ينزلوا إلى الأرض فيعمروها و يعيشوا فيها إلى حين.
خطاب عام شامل للبشر من لدن خروجهم منها إلى يوم القيامة نظير ما صدر من الخطاب الإلهي يوم أهبط آدم (عليه السلام) من الجنة إلى الأرض و قد حكاه الله تعالى في موضع بقوله: «و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين - إلى أن قال - قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون:» البقرة: - 39 و في موضع آخر بقوله: «قال فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون:» الأعراف: - 25.
و هذا الخطاب خطاب ثان مشابه لذاك الخطاب الأول موجه إلى نوح (عليه السلام) و من معه من المؤمنين - و إليهم ينتهي نسل البشر اليوم - متعلق بهم و بمن يلحق بهم من ذراريهم إلى يوم القيامة، و هو يتضمن تقدير حياتهم الأرضية و الإذن في نزولهم إليها و استقرارهم فيها و إيوائهم إياها.
و قد قسم الله هؤلاء المأذون لهم قسمين فعبر عن إذنه لطائفة منهم بالسلام و البركات و هم نوح (عليه السلام) و أمم ممن معه، و لطائفة أخرى بالتمتيع، و عقب التمتيع بمس العذاب لهم كما كلمتي السلام و البركات لا تخلوان من بشرى الخير و السعادة بالنسبة إلى من تعلقتا به.
فقد بان من ذلك أن الخطاب بالهبوط في هذه الآية مع ما يرتبط به من سلام و بركات و تمتيع موجه إلى عامة البشر من حين هبوط أصحاب السفينة إلى يوم القيامة، و وزانه وزان خطاب الهبوط الموجه إلى آدم و زوجته (عليه السلام)، و في هذا الخطاب إذن في الحياة الأرضية و وعد لمن أطاع الله سبحانه و وعيد لمن عصاه كما أن في ذلك الخطاب ذلك طابق النعل بالنعل.
و ظهر بذلك أن المراد بقوله: «و على أمم ممن معك» الأمم الصالحون من أصحاب السفينة و من سيظهر من نسلهم من الصالحين، و الظاهر على هذا أن يكون «من» في قوله «ممن معك» ابتدائية لا بيانية، و المعنى و على أمم يبتدي تكونهم ممن معك، و هم أصحاب السفينة و الصالحون من نسلهم.
و ظاهر هذا المعنى أن يكون أصحاب السفينة كلهم سعداء ناجين، و الاعتبار يساعد ذلك فإنهم قد محصوا بالبلاء تمحيصا و آثروا ما عند الله من زلفى و قد صدق الله سبحانه إيمانهم مرتين في أثناء القصة حيث قال عز من قائل: «إلا من قد آمن:» آية - 36 من السورة، و قال: «و من آمن و ما آمن معه إلا قليل:» آية - 40 من السورة.
و قوله: «و أمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم» كأنه مبتدأ لخبر محذوف و التقدير: و ممن معك أمم أو و هناك أمم سنمتعهم إلخ، و قد أخرجهم الله سبحانه من زمرة المخاطبين بخطاب الإذن فلم يقل: و متاع لأمم آخرين سيعذبون طردا لهم من موقف الكرامة، فأخبر أن هناك أمما آخرين سنمتعهم ثم نعذبهم و هم غير مأذون لهم في التصرف في أمتعة الحياة إذن كرامة و زلفى.
و في الآية جهات من تعظيم القائل لا تخفى كالبناء للمفعول في «قيل» و تخصيص نوح (عليه السلام) بخطاب الهبوط و التكلم مع الغير في قوله: «منا في موضعين و «سنمتعهم» و غير ذلك.
و ظهر أيضا: أن ما فسروا به قوله: «على أمم ممن معك» أن معناه: على أمم من ذرية من معك ليس على ما ينبغي مع ما فيه من خروج من معه من الخطاب و كذا قول من قال: يعني بالأمم سائر الحيوان الذين كانوا معه لأن الله جعل فيهم البركة.
و فساده أظهر.
قوله تعالى: «تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك» أي هذه القصص أو هذه القصة من أنباء الغيب نوحيها إليك.
و قوله: «ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا» أي كانت و هي على محوضة الصدق و الصحة مجهولة لك و لقومك من قبل هذا، و الذي عند أهل الكتاب منها محرف مقلوب عن وجه الصواب كما سيوافيك ما في التوراة الحاضرة من قصته (عليه السلام).
و قوله: «فاصبر إن العاقبة للمتقين» أمر منتزع عن تفصيل القصة أي إذا علمت ما آل إليه أمر نوح (عليه السلام) و قومه من هلاك قومه و نجاته و نجاة من معه من المؤمنين و قد ورثهم الله الأرض على ما صبروا، و نصر نوحا على أعدائه على ما صبر فاصبر على الحق فإن العاقبة للمتقين، و هم الصابرون في جنب الله سبحانه.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج إسحاق بن بشر و ابن عساكر عن ابن عباس قال: إن نوحا (عليه السلام) كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ثم يخرج فيدعوهم حتى إذا أيس من إيمان قومه جاءه رجل و معه ابنه و هو يتوكأ على عصا فقال: يا بني انظر هذا الشيخ لا يغرنك قال: يا أبت أمكني من العصا ثم أخذ العصا ثم قال: ضعني في الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه و سالت الدماء. قال نوح (عليه السلام): رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يكن لك في عبادك حاجة فاهدهم، و إن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم و أنت خير الحاكمين فأوحى الله إليه و آيسه من إيمان قومه و أخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال و لا في أرحام النساء مؤمن قال: يا نوح إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون يعني لا تحزن عليهم و اصنع الفلك. قال: يا رب و ما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء فأغرق أهل معصيتي و أطهر أرضي منهم. قال: يا رب و أين الماء؟ قال: إني على ما أشاء قدير.
و في الكافي، بإسناده عن المفضل قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) بالكوفة أيام قدم على أبي العباس فلما انتهينا إلى الكناسة قال: هاهنا صلب عمي زيد رحمه الله ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين و هو آخر السراجين فنزل و قال: انزل فإن هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول الذي كان خطه آدم و أنا أكره أن أدخله راكبا. قلت: فمن غيره عن خطته؟ قال، أما أول ذلك فالطوفان في زمن نوح ثم غيره أصحاب كسرى و النعمان ثم غيره بعد زياد بن أبي سفيان فقلت: و كانت الكوفة و مسجدها في زمن نوح؟ فقال لي: نعم يا مفضل و كان منزل نوح و قومه في قرية على منزل من الفرات مما يلي غربي الكوفة. قال: و كان نوح رجلا نجارا فجعله الله عز و جل نبيا و انتجبه، و نوح أول من عمل سفينة تجري على ظهر الماء. قال: و لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عز و جل فيهزءون به و يسخرون منه فلما رأى ذلك منهم دعا عليهم فقال: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا - إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا - إلا فاجرا كفارا، فأوحى الله عز و جل إلى نوح أن اصنع سفينة و أوسعها و عجل عملها فعمل نوح سفينة في مسجد الكوفة بيده، فأتى بالخشب من بعد حتى فرغ منها. قال المفضل: ثم انقطع حديث أبي عبد الله (عليه السلام) عند زوال الشمس فقام أبو عبد الله (عليه السلام) فصلى الظهر و العصر ثم انصرف من المسجد فالتفت عن يساره و أشار بيده إلى موضع دار الدارين و هي موضع دار ابن حكيم و ذلك فرات اليوم فقال: يا مفضل و هاهنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث و يعوق و نسر. ثم مضى حتى ركب دابته. فقلت: جعلت فداك في كم عمل نوح سفينته؟ قال في: دورين. قلت: و كم الدوران؟ قال: ثمانين 1 سنة. قلت: فإن العامة يقولون عملها في خمس مائة سنة؟ فقال: كلا. كيف؟ و الله يقول: «و وحينا» قال: قلت: فأخبرني عن قول الله عز و جل: «حتى إذا جاء أمرنا و فار التنور» فأين كان موضعه؟ و كيف كان؟ فقال: كان التنور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبله ميمنة المسجد. قلت له: فأين ذلك؟ قال: موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثم قلت له: و كان بدء خروج الماء من ذلك التنور؟ فقال نعم: إن الله عز و جل أحب أن يرى قوم نوح آية ثم إن الله تبارك و تعالى أرسل عليهم المطر يفيض فيضا و العيون كلهن فيضا فغرقهم الله و أنجى نوحا و من معه في السفينة - الحديث.
أقول: و الرواية على طولها غير متعلقة بالتفسير غير أنا أوردناها لتكون كالأنموذجة من روايات كثيرة وردت في هذه المعاني من طرق الشيعة و أهل السنة و لتكون عونا لفهم قصص الآيات من طريق الروايات.
و في الرواية استفادة التعجيل في صنع السفينة من قوله تعالى: «و اصنع الفلك بأعيننا و وحينا» الآية، و في الرواية نسبة زياد إلى أبي سفيان و لعل الوارد في لفظ الإمام «زياد» فأضيف إليه «ابن أبي سفيان» في لفظ بعض الرواة.
و فيه، بإسناده عن أبي رزين الأسدي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن نوحا (عليه السلام) لما فرغ من السفينة و كان ميعاده فيما بينه و بين ربه في إهلاك قومه أن يفور التنور ففار التنور في بيت امرأة فقالت إن التنور قد فار فقام إليه فختمه فقام الماء و أدخل من أراد أن يدخل و أخرج من أراد أن يخرج ثم جاء إلى خاتمه فنزعه، يقول الله عز و جل: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر - و فجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر - و حملناه على ذات ألواح و دسر. قال: و كان نجره في وسط مسجدكم. و لقد نقص عن ذرعه سبعمائة ذراع.
أقول: و كون فوران التنور علامة له (عليه السلام) يعلم به اقتراب الطوفان من الوقوع واقع في عدة من روايات الخاصة و العامة و سياق الآية: «فلما جاء أمرنا و فار التنور قلنا احمل» الآية، لا يخلو من ظهور في كونه ميعادا.
و فيه، بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان شريعة نوح أن يعبد الله بالتوحيد و الإخلاص و خلع الأنداد و هي الفطرة التي فطر الناس عليها و أخذ الله ميثاقه على نوح و النبيين أن يعبدوا الله تبارك و تعالى و لا يشركوا به شيئا و أمر بالصلاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الحلال و الحرام، و لم يفرض عليه أحكام حدود و لا فرائض مواريث فهذه شريعته. فلبث فيهم نوح ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم سرا و علانية فلما أبوا و عتوا قال: «رب إني مغلوب فانتصر» فأوحى الله عز و جل إليه: «لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن - فلا تبتئس بما كانوا يفعلون» فذلك قول نوح: «و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا» فأوحى الله إليه: «أن اصنع الفلك:. أقول: و رواه العياشي عن الجعفي مرسلا و ظاهر الرواية أن له (عليه السلام) دعاءين على قومه أحدهما و هو أولهما قوله: «رب إني مغلوب فانتصر» الواقع في سورة القمر، و ثانيهما بعد ما أيأسه الله من إيمان قومه و هو قوله: «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا» الواقع في سورة نوح.
و في معاني الأخبار، بإسناده عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله عز و جل «و ما آمن معه إلا قليل» قال: كانوا ثمانية: أقول: و رواه العياشي أيضا عن حمران عنه (عليه السلام)، و للناس في عددهم أقوال أخر: ستة أو سبعة أو عشرة أو اثنان و سبعون أو ثمانون و لا دليل على شيء منها.
و في العيون، بإسناده عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قال الرضا (عليه السلام): لما هبط نوح إلى الأرض كان نوح و ولده و من تبعه ثمانين نفسا فبنى حيث نزل قرية فسماها قرية الثمانين.
أقول: و لا تنافي بين الروايتين لجواز كون ما عدا الثمانية من أهل نوح (عليه السلام) و قد عمر ما يقرب من ألف سنة يومئذ.
و فيه، بإسناده عن الحسن بن علي الوشاء عن الرضا (عليه السلام) قال: سمعته يقول: قال أبي: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله عز و جل قال لنوح: «إنه ليس من أهلك» لأنه كان مخالفا له، و جعل من اتبعه من أهله. قال: و سألني كيف يقرءون هذه الآية في ابن نوح؟ فقلت: يقرؤها الناس على وجهين: إنه عمل غير صالح، و إنه عمل غير صالح. فقال: كذبوا هو ابنه و لكن الله نفاه عنه حين خالفه في دينه.
أقول: و لعله (عليه السلام) يشير بقوله: «و جعل من اتبعه من أهله» إلى قوله تعالى «فنجيناه و أهله من الكرب العظيم:» الأنبياء - 76.
فإن الظاهر أن المراد بأهله جميع من نجا معه.
و كان المراد من قراءة الآية تفسيرها و الراوي يشير بإيراد القراءتين إلى تفسير من فسر الآية بأن المراد أن امرأة نوح حملت الابن من غيره فألحقه بفراشه و لذلك قرأ بعضهم: «و نادى نوح ابنها» أو «و نادى نوح ابنه» بفتح الهاء مخفف ابنها و نسبوا القراءتين إلى علي و بعض الأئمة من ولده (عليهم السلام).
قال في الكشاف،: و قرأ علي رضي الله عنه «ابنها» و الضمير لامرأته، و قرأ محمد بن علي و عروة بن الزبير «ابنه» بفتح الهاء يريدان «ابنها» فاكتفيا بالفتحة عن الألف و به ينصر مذهب الحسن قال قتادة: سألته فقال: و الله ما كان ابنه فقلت: إن الله حكى عنه «إن ابني من أهلي» و أنت تقول: لم يكن ابنه، و أهل الكتاب لا يختلفون أنه كان ابنه! فقال: و من يأخذ دينه من أهل الكتاب؟ و استدل بقوله من أهلي و لم يقل: مني.
انتهى.
و استدلاله بما استدل به سخيف فإن الله وعده بنجاة أهله و لم يعده بنجاة من كان منه حتى يضطر إلى قول: إن ابني مني عند سؤال نجاته، و قد تقدم بيان أن لفظ الآيات لا يلائم هذا الوجه.
و ما ذكر من عدم الخلاف بين أهل الكتاب منظور فيه فإن التوراة ساكتة عن قصة ابن نوح هذا الغريق.
و في الدر المنثور، أخرج ابن الأنباري في المصاحف و أبو الشيخ عن علي رضي الله عنه: أنه قرأ: «و نادى نوح ابنها».
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي: في قوله: «و نادى نوح ابنه» قال هي بلغة طيىء لم يكن ابنه و كان ابن امرأته:. أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه (عليه السلام).
و في تفسير العياشي، عن موسى عن العلاء بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: «و نادى نوح ابنه» قال ليس بابنه إنما هو ابن امرأته و هي لغة طيىء يقولون لابن امرأته: ابنه.
الحديث.
و فيه، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول نوح: «يا بني اركب معنا» قال: ليس بابنه. قال: قلت: إن نوحا قال: يا بني؟ قال: فإن نوحا قال ذلك و هو لا يعلم.
أقول: و المعتمد ما تقدم من رواية الوشاء عن الرضا (عليه السلام).
و فيه، عن إبراهيم بن أبي العلاء عن أحدهما (عليهما السلام) قال: لما قال الله: «يا أرض ابلعي ماءك - و يا سماء أقلعي» قالت الأرض: إنما أمرت أن أبلع مائي أنا فقط، و لم أومر أن أبلع ماء السماء فبلعت الأرض ماءها و بقي ماء السماء فصير بحرا حول الدنيا.
و فيه، عن أبي بصير عن أبي الحسن موسى (عليه السلام): في حديث ذكر فيه الجودي قال: و هو جبل بالموصل.
و فيه، عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام): «استوت على الجودي» هو فرات الكوفة.
أقول: و يؤيد الرواية السابقة روايات أخر.
و فيه، عن عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما ركب نوح (عليه السلام) في السفينة قيل: بعدا للقوم الظالمين.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «قيل يا أرض ابلعي ماءك» الآية قال: و يروى أن كفار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البر و لحوم الضأن و سلاف الخمر أربعين يوما لتصفو أذهانهم فلما أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية فقال بعضهم لبعض هذا كلام لا يشبهه شيء من الكلام، و لا يشبه كلام المخلوقين و تركوا ما أخذوا فيه و افترقوا.
أبحاث حول قصة نوح في فصول و هي أبحاث قرآنية و روائية و تاريخية و فلسفية
1 - الإشارة إلى قصته:
ذكر اسمه (عليه السلام) في القرآن في بضع و أربعين موضعا يشار فيها إلى شيء من قصته إجمالا أو تفصيلا، و لم تستوف قصته (عليه السلام) في شيء منها استيفاء على نهج الاقتصاص التاريخي بذكر نسبه و بيته و مولده و مسكنه و نشوئه و شغله و عمره و وفاته و مدفنه و سائر ما يتعلق بحياته الشخصية لما أن القرآن لم ينزل كتاب تاريخ يقتص تواريخ الناس من بر أو فاجر.
و إنما هو كتاب هداية يصف للناس ما فيه سعادتهم، و يبين لهم الحق الصريح ليأخذوا به فيفوزوا في حياتهم الدنيا و الآخرة، و ربما أشار إلى طرف من قصص الأنبياء و الأمم لتظهر به سنة الله في عباده، و يعتبر به من شملته العناية و وفق للكرامة، و تتم به الحجة على الباقين.
و قد فصلت قصة نوح (عليه السلام) في ست من السور القرآنية و هي سورة الأعراف و سورة هود، و سورة المؤمنون، و سورة الشعراء، و سورة القمر، و سورة نوح و أكثرها تفصيلا سورة هود التي ذكرت قصته (عليه السلام) فيها في خمس و عشرين آية 25 - 49.
2 - قصته (عليه السلام)
في القرآن:
بعثه و إرساله:
كان الناس بعد آدم (عليه السلام) يعيشون أمة واحدة على بساطة و سذاجة، و هم على الفطرة الإنسانية حتى فشا فيهم روح الاستكبار و آل إلى استعلاء البعض على البعض تدريجيا و اتخاذ بعضهم بعضا أربابا و هذه هي النواة الأصلية التي لو نشأت و اخضرت و أينعت لم تثمر إلا دين الوثنية و الاختلاف الشديد بين الطبقات الاجتماعية باستخدام القوي للضعيف، و استرقاق العزيز و استدراره للذليل، و حدوث المنازعات و المشاجرات بين الناس.
فشاع في زمن نوح (عليه السلام) الفساد في الأرض، و أعرض الناس عن دين التوحيد و عن سنة العدل الاجتماعي و أقبلوا على عبادة الأصنام، و قد سمى الله سبحانه منها ودا و سواعا و يغوث و يعوق و نسرا سورة نوح.
و تباعدت الطبقات فصار الأقوياء بالأموال و الأولاد يضيعون حقوق الضعفاء و الجبابرة يستضعفون من دونهم و يحكمون عليهم بما تهواه أنفسهم الأعراف هود - نوح.
فبعث الله نوحا (عليه السلام) و أرسله إليهم بالكتاب و الشريعة يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه و خلع الأنداد و المساواة فيما بينهم البقرة آية 213 بالتبشير و الإنذار.
دينه و شريعته (عليه السلام)
: كان (عليه السلام) يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه و رفض الشركاء كما يظهر من جميع قصصه القرآنية و الإسلام لله كما يظهر من سورتي نوح و يونس و سورة آل عمران آية 19 و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كما يظهر من سورة هود آية 27 و الصلاة كما يظهر من آية 103 من سورة النساء و آية 8 من سورة الشورى و المساواة و العدالة و أن لا يقربوا الفواحش و المنكرات و صدق الحديث و الوفاء بالعهد سورة الأنعام آية 151 - 152 و هو (عليه السلام) أول من حكي عنه في القرآن التسمية باسم الله في الأمور الهامة سورة هود آية 41.
اجتهاده (عليه السلام)
في دعوته: و كان (عليه السلام) يدعو قومه إلى الإيمان بالله و آياته، و يبذل في ذلك غاية وسعه فيندبهم إلى الحق ليلا و نهارا و إعلانا و إسرارا فلا يجيبونه إلا بالعناد و الاستكبار و كلما زاد في دعائهم زادوا في عتوهم و كفرهم، و لم يؤمن به غير أهله و عدة قليلة من غيرهم حتى أيس من إيمانهم و شكا ذلك إلى ربه و طلب منه النصر سورة نوح و القمر و المؤمنون.
لبثه في قومه:
لبث (عليه السلام) في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه فلم يجيبوه إلا بالهزء و السخرية و رميه بالجنون و أنه يقصد به أن يتفضل عليهم حتى استنصر ربه سورة العنكبوت فأوحى إليه ربه أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن و عزاه فيهم سورة هود فدعا عليهم بالتبار و الهلاك، و أن يطهر الله الأرض منهم عن آخرهم سورة نوح فأوحى الله إليه أن اصنع الفلك بأعيننا و وحينا سورة هود.
صنعه (عليه السلام)
الفلك: أمره الله تعالى أن يصنع الفلك بتأييده سبحانه و تسديده فأخذ في صنعها و كان القوم يمرون عليه طائفة بعد طائفة فيسخرون منه و هو يصنعها على بسيط الأرض من غير ماء، و يقول (عليه السلام): إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه و يحل عليه عذاب مقيم سورة هود و قد نصب الله لنزول العذاب علما و هو أن يفور الماء من التنور سورتا هود و المؤمنون.
نزول العذاب و مجيء الطوفان:
حتى إذا تمت صنعة الفلك و جاء أمر الله و فار التنور أوحى الله تعالى إليه أن يحمل في السفينة من كل من الحيوان زوجين اثنين و أن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول الإلهي بالغرق و هو امرأته الخائنة و ابنه الذي تخلف عن ركوب السفينة، و أن يحمل الذين آمنوا سورتا هود و المؤمنون فلما حملهم و ركبوا جميعا فتح الله أبواب السماء بماء منهمر و فجر الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر سورة القمر و علا الماء و ارتفعت السفينة عليه و هي تسير في موج كالجبال سورة هود فأخذ الناس الطوفان و هم ظالمون و قد أمره الله تعالى إذا استوى هو و من معه على الفلك أن يحمد الله على ما نجاه من القوم الظالمين و أن يسأله البركة في نزوله فيقول: الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، و يقول: رب أنزلني منزلا مباركا و أنت خير المنزلين.
قضاء الأمر و نزوله و من معه إلى الأرض:
فلما عم الطوفان و أغرق الناس كما يظهر من سورة الصافات آية 77 أمر الله الأرض أن تبلع ماءها و السماء أن تقلع و غيض الماء و استوت السفينة على جبل الجودي و قيل بعدا للقوم الظالمين، و أوحي إلى نوح (عليه السلام) أن اهبط إلى الأرض بسلام منا و بركات عليك و على أمم ممن معك فلا يأخذهم بعد هذا طوفان عام، و منهم أمم سيمتعهم الله بأمتعة الحياة ثم يمسهم عذاب أليم فخرج هو و من معه و نزلوا الأرض يعبدون الله بالتوحيد و الإسلام، و توارثت ذريته (عليهم السلام) الأرض و جعل الله ذريته هم الباقين سورتا هود و الصافات.
قصة ابن نوح الغريق:
كان نوح (عليه السلام) عند ما ركب السفينة لم يركبها واحد من أبنائه، و كان لا يصدق أباه في أن من تخلف عنها فهو غريق لا محالة فرآه أبوه و هو في معزل فناداه: يا بني اركب معنا و لا تكن مع الكافرين فرد على أبيه قائلا: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال نوح (عليه السلام): لا عاصم اليوم من الله إلا من رحم - يريد أهل السفينة - فلم يلتفت الابن إلى قوله و حال بينهما الموج فكان من المغرقين.
و لم يكن نوح (عليه السلام) يعلم منه إبطان الكفر كما كان يعلم ذلك من امرأته و لو كان علم ذلك لم يحزنه أمره و هو القائل في دعائه: «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك و لا يلدوا إلا فاجرا كفارا:» الدعاء نوح: - 27 و هو القائل: «فافتح بيني و بينهم فتحا و نجني و من معي من المؤمنين:» الشعراء: - 118 و قد سمع قوله تعالى فيما أوحى إليه: «و لا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون:» هود: - 37.
فوجد نوح (عليه السلام) و حزن فنادى ربه من وجده قائلا: رب إن ابني من أهلي و إن وعدك الحق وعدتني بإنجاء أهلي و أنت أحكم الحاكمين لا تجور في حكمك و لا تجهل في قضائك، فما الذي جرى على ابني؟ فأخذته العناية الإلهية و حالت بينه و بين أن يصرح بالسؤال في نجاة ابنه - و هو سؤال لما ليس له به علم - و أوحى الله إليه: يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فإياك أن تواجهني فيه بسؤال النجاة فيكون سؤالا فيما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين.
فانكشف الأمر لنوح (عليه السلام) و التجأ إلى ربه تعالى قائلا رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم أسألك أن تشملني بعنايتك و تستر علي بمغفرتك، و تعطف علي برحمتك، و لو لا ذلك لكنت من الخاسرين.
3 - خصائص نوح (عليه السلام)
: هو (عليه السلام) أول أولي العزم سادة الأنبياء أرسله الله إلى عامة البشر بكتاب و شريعة فكتابه أول الكتب السماوية المشتملة على شرائع الله، و شريعته أول الشرائع الإلهية.
و هو (عليه السلام) الأب الثاني للنسل الحاضر من الإنسان إليه ينتهي أنسابهم و الجميع ذريته لقوله تعالى: «و جعلنا ذريته هم الباقين:» الصافات: - 77 و هو (عليه السلام) أبو الأنبياء المذكورين في القرآن ما عدا آدم و إدريس (عليهما السلام) قال تعالى: «و تركنا عليه في الآخرين:» الصافات: - 78.
و هو (عليه السلام) أول من فتح باب التشريع و أتى بكتاب و شريعة و كلم الناس بمنطق العقل و طريق الاحتجاج مضافا إلى طريق الوحي فهو الأصل الذي ينتهي إليه دين التوحيد في العالم فله المنة على جميع الموحدين إلى يوم القيامة، و لذلك خصه الله تعالى بسلام عام لم يشاركه فيه أحد غيره فقال عز من قائل: «سلام على نوح في العالمين:» الصافات: - 79.
و قد اصطفاه الله على العالمين آل عمران آية 33 و عده من المحسنين الأنعام 84 الصافات 80 و سماه عبدا شكورا إسراء آية 3 و عده من عباده المؤمنين الصافات 81 و سماه عبدا صالحا التحريم 10.
و آخر ما نقل من دعائه قوله: «رب اغفر لي و لوالدي و لمن دخل بيتي مؤمنا و للمؤمنين و المؤمنات و لا تزد الظالمين إلا تبارا:» نوح: - 28.
4 - قصته (عليه السلام)
في التوراة الحاضرة: و حدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض و ولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات.
فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا فقال الرب لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد.
لزيغانه هو بشر و تكون أيامه مائة و عشرين سنة.
كان في الأرض طغاة في تلك الأيام.
و بعد ذلك أيضا إذ دخل بنو الله على بنات الناس و ولدن لهم أولادا هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم.
و رأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض.
و أن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم.
فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض.
و تأسف في قلبه.
فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته.
الإنسان مع بهائم و دبابات و طيور السماء.
لأني حزنت أني عملتهم.
و أما نوح فوجد نعمة في عين الرب.
هذه مواليد نوح.
كان نوح رجلا بارا كاملا في أجياله - و سار نوح مع الله.
و ولد نوح ثلاثة بنين ساما و حاما و يافث.
و فسدت الأرض أمام الله و امتلأت الأرض ظلما.
و رأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت.
إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض.
فقال الله لنوح نهاية كل بشر قد أتت أمامي.
لأن الأرض امتلأت ظلما منهم.
فها أنا مهلكهم مع الأرض.
اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر، تجعل الفلك مساكن.
و تطليه من داخل و من خارج بالقار.
و هكذا تصنعه.
ثلاث مائة ذراع يكون طول الفلك و خمسين ذراعا عرضه و ثلاثين ذراعا ارتفاعه.
و تصنع كوا للفلك و تكمله إلى حد ذراع من فوق.
و تضع باب الفلك في جانبه.
مساكن سفلية و متوسطة و علوية تجعله.
فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء.
كل ما في الأرض يموت.
و لكن أقيم عهدي معك.
فتدخل الفلك أنت و بنوك و امرأتك و نساء بنيك معك.
و من كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك.
تكون ذكرا و أنثى.
من الطيور كأجناسها.
و من البهائم كأجناسها و من كل دبابات الأرض كأجناسها.
اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها.
و أنت فخذ لنفسك من كل طعام يؤكل و اجمعه عندك.
فيكون لك و لها طعاما.
ففعل نوح حسب كل ما أمره به الله.
هكذا فعل.
و قال الرب لنوح: ادخل أنت و جميع بنيك إلى الفلك.
لأني إياك رأيت بارا لدي في هذا الجيل.
من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا و أنثى.
و من البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكر و أنثى.
و من طيور السماء أيضا سبعة سبعة ذكرا و أنثى.
لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض.
لأني بعد سبعة أيام أيضا أمطر على الأرض أربعين يوما و أربعين ليلة.
و أمحو عن وجه الأرض كل قائم عملته.
ففعل نوح حسب كل ما أمره به الرب.
و لما كان نوح ابن ستمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض.
فدخل نوح و بنوه و امرأته و نساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان.
و من البهائم الطاهرة و البهائم التي ليست بطاهرة و من الطيور و كل ما يدب على الأرض.
دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكر و أنثى.
كما أمر الله نوحا.
و حدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض.
في سنة ستمائة من حياة نوح في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم و انفتحت طاقات السماء.
و كان المطر على الأرض أربعين يوما و أربعين ليلة.
في ذلك اليوم عينه دخل نوح و سام و حام و يافث بنو نوح و امرأة نوح و ثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك.
هم و كل الوحوش كأجناسها و كل الدبابات التي تدب على الأرض كأجناسها و كل الطيور كأجناسها كل عصفور ذي جناح.
و دخل إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة.
و الداخلات دخلت ذكرا و أنثى من كل ذي جسد كما أمره الله.
و أغلق الرب عليه.
و كان الطوفان أربعين يوما على الأرض.
و تكاثرت المياه و رفعت الفلك فارتفع عن الأرض.
و تعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض فكان الفلك يسير على وجه المياه.
و تعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء.
خمسة عشرة ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه فتغطت الجبال.
فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض من الطيور و البهائم و الوحوش و كل الزحافات التي كانت تزحف على الأرض و جميع الناس.
كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات.
فمحا الله كل قائم كان على وجه الأرض.
الناس و البهائم و الدبابات و طيور السماء فانمحت من الأرض.
و تبقى نوح و الذين معه في الفلك فقط.
و تعاظمت المياه على الأرض مائة و خمسين يوما.
ثم 1 ذكر الله نوحا و كل الوحوش و كل البهائم التي معه في الفلك و أجاز الله ريحا على الأرض فهدأت المياه.
و انسدت ينابيع الغمر و طاقات السماء فامتنع المطر من السماء.
و رجعت المياه عن الأرض رجوعا متواليا و بعد مائة و خمسين يوما نقصت المياه.
و استقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط.
و كانت المياه تنقص نقصا متواليا إلى الشهر العاشر و في العاشر في أول الشهر ظهرت رءوس الجبال.
و حدث من بعد أربعين يوما أن نوحا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها.
و أرسل الغراب فخرج مترددا حتى نشفت المياه عن الأرض.
ثم أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض.
فلم تجد الحمامة مقرا لرجلها فرجعت إليه إلى الفلك لأن مياها كانت على وجه كل الأرض فمد يده و أخذها و أدخلها عنده إلى الفلك.
فلبث أيضا سبعة أيام أخر و عاد فأرسل الحمامة من الفلك.
فأتت إليه الحمامة عند المساء و إذا ورقة زيتون خضراء في فمها فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض.
فلبث أيضا سبعة أيام أخر فأرسل الحمامة فلم يعد يرجع إليه أيضا.
و كان في السنة الواحدة و الستمائة في الشهر الأول في أول الشهر أن المياه نشفت عن الأرض فكشف نوح الغطاء عن الفلك و نظر فإذا وجه الأرض قد نشف.
و في الشهر الثاني في اليوم السابع و العشرين من الشهر جفت الأرض.
و كلم الله نوحا قائلا: اخرج من الفلك أنت و امرأتك و بنوك و نساء بنيك معك.
و كل الحيوانات التي معك من كل ذي جسد الطيور و البهائم و كل الدبابات التي تدب على الأرض أخرجها معك و لتتوالد في الأرض و تثمر و تكثر على الأرض.
فخرج نوح و بنوه و امرأته و نساء بنيه معه، و كل الحيوانات و كل الدبابات و كل الطيور كل ما يدب على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك.
و بنى نوح مذبحا للرب.
و أخذ من كل البهائم الطاهرة و من كل الطيور الطاهرة و أصعد محرقات على المذبح.
فتنسم الرب رائحة الرضا و قال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته و لا أعود أيضا أميت كل حي كما فعلت.
مدة كل أيام الأرض زرع و حصاد و برد و حر و صيف و شتاء و نهار و ليل لا يزال.
و بارك الله 1 نوحا و بنيه و قال لهم أثمروا و أكثروا و املئوا الأرض و لتكن خشيتكم و رهبتكم على كل حيوانات الأرض و كل طيور السماء مع كل ما يدب على الأرض و كل أسماك البحر قد دفعت إلى أيديكم.
كل دابة حية تكون لكم طعاما كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع.
غير أن لحما بجنابة دمه لا تأكلوه.
و أطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط من يد كل حيوان أطلبه و من يد الإنسان أطلب نفس الإنسان من يد الإنسان أخيه.
سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه لأن الله على صورته عمل الإنسان.
فأثمروا أنتم و أكثروا و توالدوا في الأرض و تكاثروا فيها.
و كلم الله نوحا و بنيه معه قائلا.
و ها أنا مقيم ميثاقي معكم و مع نسلكم من بعدكم.
و مع كل ذوات الأنفس الحية التي معكم الطيور و البهائم و كل وحوش الأرض التي معكم من جميع الخارجين من الفلك حتى كل حيوان الأرض.
أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضا بمياه الطوفان و لا يكون أيضا طوفان ليخرب الأرض.
و قال الله هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني و بينكم و بين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر.
وضعت قوسي في السحاب فتكون علامة ميثاق بيني و بين الأرض.
فيكون متى أنشر سحابا على الأرض و تظهر القوس في السحاب.
إني أذكر ميثاقي الذي بيني و بينكم و بين كل نفس حية في كل جسد فلا يكون أيضا المياه طوفانا لتهلك كل ذي جسد.
فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لأذكر ميثاقا أبديا بين الله و بين كل نفس حية في كل جسد على الأرض.
و قال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الذي أنا أقمته بيني و بين كل ذي جسد على الأرض.
و كان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما و حاما و يافث و حام هو أبو كنعان هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح و من هؤلاء تشعبت كل الأرض.
و ابتدأ نوح يكون فلاحا و غرس كرما.
و شرب من الخمر فسكر و تعرى داخل خبائه.
فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه و أخبر أخويه خارجا.
فأخذ سام و يافث الرداء و وضعاه على أكتافهما و مشيا إلى الوراء و سترا عورة أبيهما و وجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما.
فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير.
فقال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته.
و قال: مبارك الرب إله سام و ليكن كنعان عبدا لهم ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام و ليكن كنعان عبدا لهم.
و عاش نوح بعد الطوفان ثلاثمائة و خمسين سنة.
فكانت كل أيام نوح تسع مائة و خمسين سنة و مات.
انتهى ما قصدنا إيراده.
و هو - كما ترى - يخالف ما جاء في القرآن الكريم من وجوه: منها: أنه لم يذكر فيه حديث استثناء امرأة نوح بل صرح بدخولها الفلك و نجاتها مع بعلها، و قد اعتذر عنه بعض: أن من الجائز أن يكون لنوح زوجان أغرقت إحداهما و نجت الأخرى.
و منها: أنه لم يذكر فيه ابن نوح الغريق و قد قصه القرآن.
و منها: أنه لم يذكر فيه المؤمنون غير نوح و أهله بل اقتصر عليه و على بنيه و امرأته و نساء بنيه.
و منها: أنه ذكر فيه جملة عمر نوح تسع مائة و خمسين سنة، و ظاهر الكتاب العزيز أنها المدة التي لبث فيها بين قومه يدعوهم إلى الله قبل الطوفان.
قال تعالى: «و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان و هم ظالمون:» العنكبوت: - 14.
و منها: ما ذكر فيه من حديث قوس قزح و قصة إرسال الغراب و الحمامة للاستخبار و خصوصيات السفينة من عرضها و طولها و ارتفاعها و طبقاتها الثلاث و مدة الطوفان و ارتفاع الماء و غير ذلك فهي خصوصيات لم تذكر في القرآن الكريم و بعضها بعيد مستبعد كالميثاق بالقوس، و قد كثر الاقتصاص بمثل هذه المعاني في قصة نوح (عليه السلام) في لسان الصحابة و التابعين، و أكثرها بالإسرائيليات أشبه.
5 - ما جاء في أمر الطوفان في أخبار الأمم و أساطيرهم:
قال صاحب المنار في تفسيره،: قد ورد في تواريخ الأمم القديمة ذكر للطوفان منها الموافق لخبر سفر التكوين إلا قليلا و منها المخالف له إلا قليلا.
و أقرب الروايات إليه رواية الكلدانيين، و هم الذين وقع الطوفان في بلادهم فقد نقل عنهم «برهوشع» و «يوسيفوس» أن «زيزستروس» رأى في الحلم بعد موت والده «أوتيرت» أن المياه ستطغى و تغرق جميع البشر، و أمره ببناء سفينة يعتصم فيها هو و أهل بيته و خاصة أصدقائه ففعل.
و هو يوافق سفر التكوين في أنه كان في الأرض جيل من الجبارين طغوا فيها و أكثروا الفساد فعاقبهم الله بالطوفان.
و قد عثر بعض الإنجليز على ألواح من الأجر نقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسمارية في عصر آشور بانيبال من نحو ستمائة و ستين سنة قبل ميلاد المسيح، و أنها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل المسيح أو قبله فهي أقدم من سفر التكوين.
و روى اليونان خبرا عن الطوفان أورده أفلاطون و هو أن كهنة المصريين قالوا لسولون - الحكيم اليوناني - إن السماء أرسلت طوفانا غير وجه الأرض فهلك البشر مرارا بطرق مختلفة فلم يبق للجيل الجديد شيء من آثار من قبله و معارفهم.
و أورد «مانيتون» خبر طوفان حدث بعد هرمس الأول الذي كان بعد ميناس الأول، و هذا أقدم من تاريخ التوراة أيضا، و روي عن قدماء اليونان خبر طوفان عم الأرض كلها إلا «دوكاليون» و امرأته «بيرا» فقد نجوا منه.
و روي عن قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الأرض بما انتشر فيها من الفساد و الشرور بفعل أهريمان إله الشر، و قالوا: إن هذا الطوفان فار أولا من تنور العجوز زول كوفه إذ كانت تخبز خبزها فيه، و لكن المجوس أنكروا عموم الطوفان و قالوا: إنه كان خاصا بإقليم العراق و انتهى إلى حدود كردستان.
و كذا قدماء الهنود يثبتون وقوع الطوفان سبع مرات في شكل خرافي آخرها أن ملكهم نجا هو و امرأته في سفينة عظيمة أمره بصنعها إلهه فشنو و سدها بالدسر حتى استوت على جبل جيمافات - هملايا - و لكن البراهمة كالمجوس ينكرون وقوع طوفان عام أغرق الهند كلها، و روي تعدد الطوفان عن اليابان و الصين و عن البرازيل و المكسيك و غيرهما، و كل هذه الروايات تتفق في أن سبب ذلك عقاب الله للبشر بظلمهم و شرورهم.
انتهى.
و قد 1 وقع في «أوستا» و هو كتاب المجوس المقدس أن «أهورامزدا» أوحى إلى «إيما» و تعتقد المجوس أنه جمشيد الملك أنه سيقع طوفان يغرق الأرض، و أمره أن يبني حائطا مرتفعا غايته يحفظ من في داخله من الغرق، و أن يجمع في داخله جماعة من الرجال و النساء صالحة للنسل، و يدخل فيه من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين، و يبني في داخل السور بيوتا و قبابا في طبقات مختلفة يسكنها الناس المجتمعون هناك و يأوي إليها الدواب و الطيور، و أن يغرس في داخله ما ينفع في حياة الناس من الأشجار المثمرة، و يحرث ما يرتزق به الناس من الحبوب الكريمة فيحتفظ بذلك ما به حياة الدنيا و عمارتها.
و في تاريخ الأدب الهندي 2 في قصة الطوفان: أنه بينما كان «مانو» هو ابن الإله عند الوثنيين يغسل يديه إذ جاءت في يده سمكة، و مما اندهش به أن السمكة كلمته و طلبت إنقاذها من الهلاك و وعدته جزاء عليه أنها ستنقذ «مانو» في المستقبل من خطر عظيم، و الخطر العظيم المحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفانا سيجرف جميع المخلوقات و على ذلك حفظ «مانو» السمكة في المرتبان.
فلما كبرت أخبرت «مانو» عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان ثم أشارت على مانو أن يصنع سفينة كبيرة و يدخل فيها عند طوفان الماء قائلة: أنا أنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة و السمكة كبرت أكثر من سعة المرتبان لذلك ألقاها في البحر.
ثم جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، و حين دخل «مانو» السفينة عامت السمكة إليه فربط السفينة بقرن على رأسها فجرتها إلى الجبال الشمالية، و هنا ربط مانو السفينة بشجرة، و عند ما تراجع الماء و جف بقي مانو وحده.
انتهى.
6 - هل كانت نبوته ع عامة للبشر؟
مسألة اختلفت فيها آراء العلماء.
فالمعروف عند الشيعة عموم رسالته، و قد ورد من طرق أهل البيت (عليهم السلام) ما يدل عليه، و على أن أولي العزم من الأنبياء و هم نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا مبعوثين إلى الناس كافة.
و أما أهل السنة فمنهم من قال بعموم رسالته مستندا إلى ظاهر الآيات الناطقة بشمول الطوفان لأهل الأرض كلهم كقوله: «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا:» نوح: - 26 و قوله: «لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم:» هود: - 43، و قوله: «و جعلنا ذريته هم الباقين:» الصافات - 77، و ما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة أن نوحا أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض و لازمه كونه مبعوثا إليهم كافة.
و منهم من أنكر ذلك مستندا إلى ما ورد في الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «و كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة و بعثت إلى الناس كافة» و أجابوا عن الآيات أنها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي التي كانوا يسكنونها و هي وطنهم كقول فرعون لموسى و هارون: «و تكون لكما الكبرياء في الأرض:» يونس: - 78.
فمعنى الآية الأولى: لا تذر على هذه الأرض من كافري قومي ديارا، و كذا المراد بالثانية: لا عاصم اليوم لقومي من أمر الله، و المراد بالثالثة: و جعلنا ذريته هم الباقين من قومه.
و الحق أن البحث لم يستوف حقه في كلامهم، و الذي ينبغي أن يقال: إن النبوة إنما ظهرت في المجتمع الإنساني عن حاجة واقعية إليها و رابطة حقيقية بين الناس و بين ربهم و هي تعتمد على حقيقة تكوينية لا اعتبارية جزافية فإن من القوانين الحقيقية الحاكمة في نظام الكون ناموس تكميل الأنواع و هدايتها إلى غاياتها الوجودية، و قد قال تعالى: «الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى:» الأعلى: - 3، و قال: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى:» طه: - 50.
فكل نوع من أنواع الكون متوجه منذ أول تكونه إلى كمال وجوده و غاية خلقه الذي فيه خيره و سعادته، و النوع الإنساني أحد هذه الأنواع غير مستثنى من بينها فله كمال و سعادة يسير إليها و يتوجه نحوها أفراده فرادى و مجتمعين و من الضروري عندنا أن هذا الكمال لا يتم للإنسان وحده لوفور حوائجه الحيوية و كثرة الأعمال التي يجب أن يقوم بها لأجل رفعها فالعقل العملي الذي يبعثه إلى الاستفادة من كل ما يمكنه الاستفادة منه و استخدام الجماد و أصناف النبات و الحيوان في سبيل منافعه يبعثه إلى الانتفاع بأعمال غيره من بني نوعه.
غير أن الأفراد أمثال و في كل واحد منهم من العقل العملي و الشعور الخاص الإنساني ما في الآخر و يبعثه من الانتفاع إلى مثل ما يبعث إليه الآخر ما عنده من العقل العملي، و اضطرهم ذلك إلى الاجتماع التعاوني بأن يعمل الكل للكل و ينتفع من عمل الغير بمثل ما ينتفع الغير من عمله فيتسخر كل لغيره بمقدار ما يسخره كما قال تعال: «نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا:» الزخرف: - 32.
و هذا الذي ذكرناه من بناء الإنسان على الاجتماع التعاوني اضطراري له ألزمه عليه حاجة الحياة و قوة الرقباء فهو في الحقيقة مدني تعاوني بالطبع الثاني و إلا فطبعه الأولي أن ينتفع بكل ما يتيسر له الانتفاع حتى أعمال أبناء نوعه، و لذلك مهما قوي الإنسان و استغنى و استضعف غيره عدا عليه و أخذ يسترق الناس و يستثمرهم من غير عوض قال تعالى: «إن الإنسان لظلوم كفار:» إبراهيم: - 34 و قال: «إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى:» العلق: - 8.
و من الضروري أن الاجتماع التعاوني بين الأفراد لا يتم إلا بقوانين يحكم فيها و حفاظ تقوم بها، و هذا مما استمرت سيرة النوع عليه فما من مجتمع من المجتمعات الإنسانية كاملا كان أو ناقصا، راقيا كان أو منحطا إلا و يجري فيه رسوم و سنن جريانا كليا أو أكثريا، و التاريخ و التجربة و المشاهدة أعدل شاهد في تصديقه و هذه الرسوم و السنن و إن شئت فسمها القوانين هي مواد و قضايا فكرية تطبق عليها أعمال الناس تطبيقا كليا أو أكثريا في المجتمع فينتج سعادتهم حقيقة أو ظنا فهي أمور متخللة بين كمال الإنسان و نقصه، و أشياء متوسطة بين الإنسان و هو في أول نشأته و بينه و هو مستكمل في حياته عائش في مجتمعه تهدي الإنسان إلى غاية وجوده فافهم ذلك.
و قد علم أن من الواجب في عناية الله أن يهدي الإنسان إلى سعادة حياته و كمال وجوده على حد ما يهدي سائر الأنواع إليه فكما هداه بواجب عنايته من طريق الخلقة و الفطرة إلى ما فيه خيره و سعادته و هو الذي يبعثها إليه نظام الكون و الجهازات التي جهز بها إلى أن يشعر بما فيه نفعه و يميز خيره من شره و سعادته من شقائه كما قال تعالى: «و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها:» الشمس: - 10.
يهديه بواجب عنايته إلى أصول و قوانين اعتقادية و عملية يتم له بتطبيق شئون حياته عليها كماله و سعادته فإن العناية الإلهية بتكميل الأنواع بما يناسب نوع وجودها توجب هذا النوع من الهداية كما توجب الهداية التكوينية المحضة.
و لا يكفي في ذلك ما جهز به الإنسان من العقل - و هو هاهنا العملي منه - فإن العقل كما سمعت يبعث نحو الاستخدام و يدعو إلى الاختلاف، و من المحال أن يفعل شيء من القوى الفعالة فعلين متقابلين و يفيد أثرين متناقضين، على أن المتخلفين من هذه القوانين و المجرمين بأنواع الجرائم المفسدة للمجتمع كلهم عقلاء ممتعون بمتاع العقل مجهزون به.
فظهر أن هناك طريقا آخر لتعليم الإنسان شريعة الحق و منهج الكمال و السعادة غير طريق التفكر و التعقل و هو طريق الوحي، و هو نوع تكليم إلهي يعلم الإنسان ما يفوز بالعمل به و الاعتقاد له في حياته الدنيوية و الأخروية.
فإن قلت: الأمر سواء فإن شرع النبوة لم يأت بأزيد مما لو كان العقل لأتى به فإن العالم الإنساني لم يخضع لشرائع الأنبياء كما لم يصغ إلى نداء العقل، و لم يقدر الوحي أن يدير المجتمع الإنساني و يركبه صراط الحق فما هي الحاجة إليه؟ قلت: لهذا البحث جهتان: جهة أن العناية الإلهية من واجبها أن تهدي المجتمع الإنساني إلى تعاليم تسعده و تكمله لو عمل بها و هي الهداية بالوحي و لا يكفي فيها العقل، و جهة أن الواقع في الخارج و المتحقق بالفعل ما هو؟ و إنما نبحث في المقام من الجهة الأولى دون الثانية، و لا يضر بها أن هذه الطريقة لم تجر بين الناس إلى هذه الغاية إلا قليلا.
و ذلك كما أن العناية الإلهية تهدي أنواع النبات و الحيوان إلى كمال خلقها و غاية وجودها و مع ذلك يسقط أكثر أفراد كل نوع دون الوصول إلى غايته النوعية و يفسد و يموت قبل البلوغ إلى عمره الطبيعي.
و بالجملة فطريق النبوة مما لا مناص منه في تربية النوع بالنظر إلى العناية الإلهية و إلا لم تتم الحجة بمجرد العقل لأن له شغلا غير الشغل و هو دعوة الإنسان إلى ما فيه صلاح نفسه، و لو دعاه إلى شيء من صلاح النوع فإنما يدعوه إليه بما فيه صلاح نفسه فافهم ذلك و أحسن التدبر في قوله تعالى: «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده و أوحينا إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط و عيسى و أيوب و يونس و هارون و سليمان و آتينا داود زبورا و رسلا قد قصصناهم عليك من قبل و رسلا لم نقصصهم عليك و كلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل و كان الله عزيزا حكيما:» النساء: - 165.
فمن الواجب في العناية أن ينزل الله على المجتمع الإنساني دينا يدينون به و شريعة يأخذون بها في حياتهم الاجتماعية دون أن يخص بها قوما و يترك الآخرين سدى لا عناية بهم، و لازمه الضروري أن يكون أول شريعة نزلت عليهم شريعة عامة.
و قد أخبر الله سبحانه عن هذه الشريعة بقوله عز من قائل: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه:» البقرة: - 213، فبين أن الناس كانوا أول ما نشئوا و تكاثروا على فطرة ساذجة لا يظهر فيهم أثر الاختلافات و المنازعات الحيوية ثم ظهر فيهم الاختلافات فبعث الله الأنبياء بشريعة و كتاب يحكم بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه، و يحسم مادة الخصومة و النزاع.
ثم قال تعالى فيما امتن به على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى:» الشورى: - 13.
و مقام الامتنان يقضي بأن الشرائع الإلهية المنزلة على البشر هي هذه التي ذكرت لا غير، و أول ما ذكر من الشريعة هي شريعة نوح، و لو لم يكن عامة للبشر كلهم و خاصة في زمنه (عليه السلام) لكان هناك إما نبي آخر ذو شريعة أخرى لغير قوم نوح و لم يذكر في الآية و لا في موضع آخر من كلامه تعالى، و إما إهمال سائر الناس غير قومه (عليه السلام) في زمنه و بعده إلى حين.
فقد بان أن نبوة نوح (عليه السلام) كانت عامة، و أن له كتابا و هو المشتمل على شريعته الرافعة للاختلاف، و أن كتابه أول الكتب السماوية المشتملة على الشريعة، و أن قوله تعالى في الآية السابقة «و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه» هو كتابه أو كتابه و كتاب غيره من أولي العزم: إبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
و ظهر أيضا أن ما يدل من الروايات على عدم عموم دعوته (عليه السلام) مخالف للكتاب و في حديث الرضا (عليه السلام): أن أولي العزم من الأنبياء خمسة لكل منهم شريعة و كتاب و نبوتهم عامة لجميع من سواهم نبيا أو غير نبي، و قد تقدم الحديث في ذيل قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة:» البقرة - 213، في الجزء الثاني من الكتاب.
7 - هل الطوفان كانت عامة لجميع الأرض؟
تبين الجواب عن هذا السؤال في الفصل السابق فإن عموم دعوته (عليه السلام) يقضي بعموم العذاب، و هو نعم القرينة على أن المراد بسائر الآيات الدالة بظاهرها على العموم ذلك كقوله تعالى حكاية عن نوح (عليه السلام): «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا:» نوح - 26، و قوله حكاية عنه: «لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم:» هود: - 43، و قوله: «و جعلنا ذريته هم الباقين:» الصافات: - 77.
و من الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من كلامه تعالى أنه أمر نوحا أن يحمل من كل زوجين اثنين فمن الواضح أنه لو كان الطوفان خاصا بصقع من أصقاع الأرض و ناحية من نواحيها كالعراق - كما قيل - لم يكن أي حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين.
و هو ظاهر.
و اختار بعضهم كون الطوفان خاصا بأرض قوم نوح (عليه السلام) قال صاحب المنار في تفسيره،: أما قوله في نوح (عليه السلام) بعد ذكر تنجيته و أهله: «و جعلنا ذريته هم الباقين» فالحصر فيهم يجوز أن يكون إضافيا أي الباقين دون غيرهم من قومه، و أما قوله: «و قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا» فليس نصا في أن المراد بالأرض هذه الكرة كلها فإن المعروف من كلام الأنبياء و الأقوام و في أخبارهم أن تذكر الأرض و يراد بها أرضهم و وطنهم كقوله تعالى حكاية عن خطاب فرعون لموسى و هارون: «و تكون لكما الكبرياء في الأرض» يعني أرض مصر، و قوله: «و إن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها» فالمراد بها مكة، و قوله: «و قضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين» و المراد بها الأرض التي كانت وطنهم، و الشواهد عليه كثيرة.
و لكن ظواهر الآيات تدل بمعونة القرائن و التقاليد الموروثة عن أهل الكتاب على أنه لم يكن في الأرض كلها في زمن نوح إلا قومه و أنهم هلكوا كلهم بالطوفان و لم يبق بعده فيها غير ذريته، و هذا يقتضي أن يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سهلها و جبلها لا في الأرض كلها إلا إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب العهد بالتكوين و بوجود البشر عليها فإن علماء التكوين و طبقات الأرض - الجيولوجية - يقولون إن الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة نارية ملتهبة ثم صارت كرة مائية ثم ظهرت فيها اليابسة بالتدريج.
ثم أشار إلى ما استدل به بعض أهل النظر على عموم الطوفان لجميع الأرض من أنا نجد بعض الأصداف و الأسماك المتحجرة في أعالي الجبال و هذه الأشياء مما لا تتكون إلا في البحر فظهورها في رءوس الجبال دليل على أن الماء قد صعد إليها مرة من المرات، و لن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض هذا.
و رد عليه بأن وجود الأصداف و الحيوانات البحرية في قلل الجبال لا يدل على أنه من أثر ذلك الطوفان بل الأقرب أنه من أثر تكون الجبال و غيرها من اليابسة في الماء كما قلنا آنفا فإن صعود الماء إلى الجبال أياما معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها.
ثم قال ما ملخصه: أن هذه المسائل التاريخية ليست من مقاصد القرآن و لذلك لم يبينها بنص قطعي فنحن نقول بما تقدم أنه ظاهر النصوص و لا نتخذه عقيدة دينية قطعية فإن أثبت علم الجيولوجية خلافه لا يضرنا لأنه لا ينقض نصا قطعيا عندنا.
انتهى.
أقول: أما ما ذكره من تأويل الآيات فهو من تقييد الكلام من غير دليل، و أما قوله في رد قولهم بوجود الأصداف و الأسماك في قلل الجبال: إن صعود الماء إليها في أيام معدودة لا يكفي في حدوثها! ففيه أن من الجائز أن تحملها أمواج الطوفان العظيمة إليها ثم تبقى عليها بعد النشف فإن ذلك من طوفان يغمر الجبال الشامخة في أيام معدودة غير عزيز.
و بعد ذلك كله قد فاته ما ينص عليه الآيات أنه (عليه السلام) أمر أن يحمل من كل جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين فإن ذلك كالنص في أن الطوفان عم البقاع اليابسة من الأرض جميعا أو معظمها الذي هو بمنزلة الجميع.
فالحق أن ظاهر القرآن الكريم - ظهورا لا ينكر - أن الطوفان كان عاما للأرض، و أن من كان عليها من البشر أغرقوا جميعا و لم يقم لهذا الحين حجة قطعية تصرفها عن هذا الظهور.
و قد كنت سألت صديقي الفاضل الدكتور سحابي المحترم أستاذ الجيولوجيا بكلية طهران أن يفيدني بما يرشد إليه الأبحاث الجيولوجية في أمر هذا الطوفان العام إن كان فيها ما يؤيد ذلك على وجه كلي فأجابني بإيفاد مقال محصله ما يأتي مفصلا في فصول:
1 - الأراضي الرسوبية:
تطلق الأراضي الرسوبية في الجيولوجيا على الطبقات الأرضية التي كونتها رسوبات المياه الجارية على سطح الأرض كالبطائح و المسيلات التي غطتها الرمال و دقاق الحصى.
نعرف الأراضي الرسوبية بما تراكم فيها من الرمال و دقاق الحصى الكروية المدورة فإنها كانت في الأصل قطعات من الحجارة حادة الأطراف و الزوايا حولتها إلى هذه الحالة الاصطكاكات الواقعة بينها في المياه الجارية و السيول العظيمة ثم إن الماء حملها و بسطها على الأرض في غايات قريبة أو بعيدة بالرسوب.
و ليست تنحصر الأراضي الرسوبية في البطائح فغالب الأراضي الترابية من هذا القبيل تخالطها أو تكونها رمال بالغة في الدقة، و قد حملها لدقتها و خفتها إليها جريان المياه و السيول.
نجد الأراضي الرسوبية و قد غطتها طبقات مختلفة من الرمل و التراب بعضها فوق بعض من غير ترتيب و نظم، و ذلك - أولا - أمارة أن تلك الطبقات لم تتكون في زمان واحد بعينه و - ثانيا - أن مسير المياه و السيول أو شدة جريانها قد تغير بحسب اختلاف الأزمنة.
و يتضح بذلك أن الأراضي الرسوبية كانت مجاري و مسائل في الأزمنة السابقة لمياه و سيول هامة و إن كانت اليوم في معزل من ذلك.
و هذه الأراضي التي تحكي عن جريان مياه كثيرة جدا و سيلان سيول هائلة عظيمة توجد في أغلب مناطق الأرض منها أغلب نقاط إيران كأراضي طهران و قزوين و سمنان و سبزوار و يزد و تبريز و كرمان و شيراز و غيرها، و منها مركز بين النهرين و جنوبه، و ما وراء النهر، و صحراء الشام، و الهند، و جنوب فرنسا، و شرقي الصين، و مصر، و أكثر قطعات أمريكا، و تبلغ صخامة الطبقة الرسوبية في بعض الأماكن إلى مئات الأمتار كما أنها في أرض طهران تجاوز أربعمائة مترا.
و ينتج مما مر أولا: أن سطح الأرض في عهد ليس بذاك البعيد على ما سيأتي توضيحه كان مجرى سيول هائلة عظيمة ربما غطت معظم بقاعها.
و ثانيا: أن الطغيان و الطوفان - بالنظر إلى صخامة القشر الرسوبي في بعض الأماكن - لم يحدث مرة واحدة و لا في سنة أو سنين معدودة بل دام أو تكرر في مئات من السنين كلما حدث مرة كون طبقة رسوبية ثم إذا انقطع غطتها طبقة ترابية ثم إذا عاد كون أخرى و هكذا و كذلك اختلاف الطبقات الرسوبية في دقة رمالها و عدمها يدل على اختلاف السيلان بالشدة و الضعف.
2 - الطبقات الرسوبية أحدث القشور و الطبقات الجيولوجية:
ترسب الطبقات الرسوبية عادة رسوبا أفقيا و لكن ربما وقعت أجزاؤها المتراكمة تحت ضغطات جانبية قوية شديدة على ما بها من الدفع من فوق و من تحت فتخرج بذلك تدريجا عن الأفقية إلى التدوير و الالتواء، و هذا غير ظاهر الأثر في الأزمنة القصيرة المحدودة لكن إذا تمادى الزمان بطوله كمرور الملايين من السنين ظهر الأثر و تكونت بذلك الجبال بسلاسلها الملتوية بعض تلالها في بعض و ترتفع بقللها من سطوح البحار.
و يستنتج من ذلك أن الطبقات الرسوبية و القشور الأفقية الباقية على حالها من أحدث الطبقات المتكونة على البسيط، و الدلائل الفنية الموجودة تدل على أن عمرها لا يجاوز عشرة آلاف إلى خمس عشرة ألف سنة من زماننا هذا 1.
3 - انبساط البحار و اتساعها بانحدار المياه إليها:
كأن تكون القشور الرسوبية الجديدة عاملا في انبساط أكثر بحار الكرة و اتساعها بأطرافها فارتفعت مياهها و غطت أكثر سواحلها و عملت جزائر في السواحل أحاطت بها من معظم جوانبها.
فمن ذلك جزيرة بريطانية انقطعت في هذا الحين من فرنسا و انفصلت من أوربا بالكلية، و كانت أوربا من ناحية جنوبها و إفريقا من ناحية شمالها مرتبطتين برابط بري إلى هذا الحين فانفصلتا باتساع البحر المتوسط مديترانة و تكون بذلك شبه جزيرة إيطاليا و شبه جزيرة تونس من شمالها الشرقي و جزائر صقلية و سردينيا و غيرها و كانت جزائر أندونيسيا من ناحية جاوا و سوماترا إلى جنوبي جزيرة اليابان متصلة بآسيا من جهة الجنوب الشرقي إلى هذا الحين فانفصلت و تحولت إلى صورتها الفعلية، و كذا انقطاع أمريكا الشمالية من جهة شمالها عن شمال أوربا أحد الآثار الباقية من هذا العهد عهد الطوفان.
و للحركات و التحولات الأرضية الداخلية آثار في سير هذه المياه و استقرارها في البقاع الخافضة المنحدرة و لذلك كان ينكشف الماء عن بعض البقاع الساحلية المغمورة بماء البحار في حين كان الطوفان مستوليا على أكثر البسيط يكون بحيرات و يوسع بحارا، و من هذا الباب سواحل خوزستان الجنوبية انكشف عنها ماء الخليج 1.
4 - العوامل المؤثرة في ازدياد المياه و غزارة عملها في عهد الطوفان:
الشواهد الجيولوجية التي أشرنا إلى بعضها تؤيد أن النزولات الجوية كانت غير عادية في أوائل الدور الحاضر من أدوار الحياة الإنسانية و هو عهد الطوفان، و قد كان ذلك عن تغيرات جوية هامة خارقة للعادة قطعا.
فكان الهواء حارا في هذه الدورة نسبة لكن كان ذلك مسبوقا ببرد شديد و قد غطى معظم النصف الشمالي من الكرة الثلج و الجمد و الجليد فمن المحتمل قويا أن المتراكم من جمد الدورة السابقة عليه كان باقيا لم يذب بعد في النجود في أكثر بقاع المنطقة المعتدلة الشمالية.
فعمل الحرارة في سطح الأرض في دورتين متواليتين على ما به من متراكم الجمد و الجليد يوجب تغيرا شديدا في الجو و انقلابا عظيما مؤثرا في ارتفاع بخار الماء إليه و تراكمه فيه تراكما هائلا غير عادي و تعقبه نزولات شديدة و أمطار غزيرة غير معهودة.
نزول هذه الأمطار الغزيرة الهاطلة ثم استدامتها النزول على الارتفاعات و النجود و خاصة على سلاسل الجبال الجديدة الحدوث في جنوب آسيا و مغربها و جنوب أوربا و شمال إفريقا كجبال 2 ألبرز و هيماليا و آلب و في مغرب أمريكا عقب جريان سيول عظيمة هائلة عليها تنحت الصخور و تحفر الأرض و تقلع أحجارا و تحملها إلى الأراضي و البقاع المنحدرة و تحدث أودية جديدة و تعمق أخرى قديمة و توسعها ثم تبسط ما تحمله من الحجارة و الحصى و الرمل تجاهها قشورا رسوبية جديدة.
و مما كان يمد الطوفان السماوي في شدة عمله و يزيد حجم السيول الجارية أن حفر الأودية الجديدة كان يكشف عن ذخائر مائية في بطن الأرض هي منابع الآبار و العيون الجارية فيزيل القشور الحافظة لها المانعة من سيلانها فيفجر العيون و يجريها مع السيول المطرية، و يزيد في قوة تخريبها و يعينها في إغراق ما على الأرض من سهل و جبل و غمره.
غير أن الذخائر الأرضية متناهية محدودة تنفد بالسيلان و بنفادها و إمساك السماء عن الإمطار ينقضي الطوفان و تنحدر المياه إلى البحار و الأراضي المنخفضة و إلى بعض الخلاء و السرب الموجود في داخل الأرض الذي أفرغته السيول بالتفجير و المص.
5 - نتيجة البحث:
و على ما قدمناه من البحث الكلي يمكن أن ينطبق ما قصه الله تعالى من خصوصيات الطوفان الواقع في زمن نوح (عليه السلام) كقوله تعالى: «ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر و فجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر:» القمر: - 12، و قوله: «حتى إذا جاء أمرنا و فار التنور:» هود: - 40، و قوله: «و قيل يا أرض ابلعي ماءك و يا سماء أقلعي و غيض الماء و قضي الأمر:» هود: - 44.
انتهى.
و مما يناسب هذا المقام ما نشره بعض جرائد 1 طهران في هذه الأيام و ملخصه: أن جماعة من رجال العلم من أمريكا بهداية من بعض رجال الجند التركي عثروا في بعض قلل جبل آراراط في شرقي تركيا في مرتفع 1400 قدم على قطعات أخشاب يعطي القياس أنها قطعات متلاشية من سفينة قديمة وقعت هناك تبلغ بعض هذه القطعات من القدمة 2500 قبل الميلاد.
و القياس يعطي أنها قطعات من سفينة يعادل حجمه ثلثي حجم مركب «كوئين ماري» الإنجليزية التي طولها 1019 قدما و عرضها 118 قدما، و قد حملت الأخشاب إلى سانفرانسيسكو لتحقيق أمرها و أنها هل تقبل الانطباق على ما تعتقده أرباب النحل من سفينة نوح؟ (عليه السلام).
8 - عمره (عليه السلام)
الطويل: القرآن الكريم يدل على أنه (عليه السلام) عمر طويلا، و أنه دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه، و قد استبعده بعض الباحثين لما أن الأعمار الإنسانية لا تتجاوز في الأغلب المائة أو المائة و العشرين سنة حتى ذكر بعضهم أن القدماء كانوا يعدون كل شهر من الشهور سنة فالألف سنة إلا خمسين عاما يعدل ثمانين سنة إلا عشرة شهور.
و هو بعيد غايته.
و ذكر بعضهم أن طول عمره (عليه السلام) كان كرامة له خارقة للعادة، قال الثعلبي في قصص الأنبياء في خصائصه (عليه السلام): و كان أطول الأنبياء عمرا و قيل له أكبر الأنبياء و شيخ المرسلين، و جعل معجزته في نفسه لأنه عمر ألف سنة و لم ينقص له سن و لم تنقص له قوة.
انتهى.
و الحق أنه لم يقم حتى الآن دليل على امتناع أن يعمر الإنسان مثل هذه الأعمار بل الأقرب في الاعتبار أن يعمر البشر الأولي بأزيد من الأعمار الطبيعية اليوم بكثير لما كان لهم من بساطة العيش و قلة الهموم و قلة الأمراض المسلطة علينا اليوم و غير ذلك من الأسباب الهادمة للحياة، و نحن كلما وجدنا معمرا عمر مائة و عشرين إلى مائة و ستين وجدناه بسيط العيش قليل الهم ساذج الفهم فليس من البعيد أن يرتقي بعض الأعمار في السابقين إلى مئات من السنين.
على أن الاعتراض على كتاب الله في مثل عمر نوح (عليه السلام) و هو يذكر من معجزات الأنبياء الخارقة للعادة شيئا كثيرا لعجيب.
و قد تقدم كلام في المعجزة في الجزء الأول من الكتاب.
9 - أين هو جبل الجودي:
ذكروا أنه بديار بكر من موصل في جبال تتصل بجبال أرمينية، و قد سماه في التوراة آراراط.
قال في القاموس: و الجودي جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح (عليه السلام)، و يسمى في التوراة «آراراط» انتهى، و قال في مراصد الاطلاع،: الجودي مشددة جبل مطل على جزيرة ابن عمر في شرقي دجلة من أعمال الموصل استوت عليه سفينة نوح لما نضب الماء.
10 - ربما قيل: هب أنه أغرق قوم نوح بذنبهم فما هو ذنب سائر الحيوان الذي على الأرض حيث هلكت بطاغية المياه؟ و هذا من أسقط الاعتراض فما كل هلاك و لو كان عاما عقوبة و انتقاما، و الحوادث العامة التي تهلك الألوف ثم الألوف مثل الزلازل و الطوفانات و الوباء و الطاعون كثير الوقوع في الدهر، و لله فيما يقضي حكم.
كلام في عبادة الأصنام في فصول
1 - الإنسان و اطمئنانه إلى الحس:
الإنسان يجري في حياته الاجتماعية على اعتبار قانون العلية و المعلولية الكلي و سائر القوانين الكلية التي أخذها من هذا النظام العام المشهود، و هو على خلاف ما نشاهده من أعمال سائر الحيوان و أفعاله يجري في التفكر و الاستدلال أعني القياس و الاستنتاج إلى غايات بعيدة.
و هو مع ذلك لا يستقر في فحصه و بحثه على قرار دون أن يحكم في علة هذا العالم المشهود الذي هو أحد أجزائه بشيء من الإثبات و النفي لما يرى أن سعادة حياته التي لا بغية عنده أحب منها تختلف على تقديري إثبات هذه العلة الفاعلة المسماة بالإله عز اسمه و نفيه اختلافا جوهريا فمن البين أن لا مضاهاة بين حياة الإنسان المتأله الذي يثبت للعالم إلها حيا عليما قديرا لا مناص عن الخضوع لعظمته و كبريائه و الجري على ما يحبه و يرضاه، و بين حياة الإنسان الذي يرى العالم سدى لا مبدأ له و لا غاية، و ليس فيه للإنسان إلا الحياة المحدودة التي تفنى بالموت و تبطل بالفوت، و لا موقف للإنسانية فيه إلا ما للحيوان العجم من موقف الشهوة و الغضب و بغية البطن و الفرج.
فهذه نزعة فكرية أولى للإنسان إلى الحكم بأنه: هل للوجود من إله؟ و تتلوه نزعة ثانية و هي القضاء الفطري بالإثبات، و الحكم بأن للعالم إلها خلق كل شيء بقدرته و أجرى النظام العام بربوبيته فهدى كل شيء إلى غايته و كمال وجوده بمشيته و سيعود كل إلى ربه كما بدىء.
هذا.
ثم إن مزاولة الإنسان للحس و المحسوس مدى حياته و انكبابه على المادة و إخلاده إلى الأرض عوده أن يمثل كل ما يعقله و يتصوره تمثيلا حسيا و إن كان مما لا طريق للحس و الخيال إليه البتة كالكليات و الحقائق المنزهة عن المادة على أن الإنسان إنما ينتقل إلى المعقولات من طريق الإحساس و التخيل فهو أنيس الحس و أليف الخيال.
و قد قضت هذه العادة اللازمة على الإنسان أن يصور لربه صورة خيالية على حسب ما يألفه من الأمور المادية المحسوسة حتى أن أكثر الموحدين ممن يرى تنزه ساحة رب العالمين تعالى و تقدس عن الجسمية و عوارضها يثبت في ذهنه له تعالى صورة مبهمة خيالية معتزلة للعالم تبادر ذهنه إذا توجه إليه في مسألة أو حدث عنه بحديث غير أن التعليم الديني أصلح ذلك بما قرر من الجمع بين النفي و الإثبات و المقارنة بين التشبيه و التنزيه يقول الموحد المسلم: أنه تعالى شيء ليس كمثله شيء له قدرة لا كقدرة خلقه، و علم لا كالعلوم و على هذا القياس.
و قل إن يتفق لإنسان أن يتوجه إلى ساحة العزة و الكبرياء و نفسه خالية عن هذه المحاكاة، و ما أشذ أن يسمح الوجود برجل قد أخلص نفسه لله سبحانه غير متعلق القلب بمن دونه، و لا ممسوس بالتسويلات الشيطانية، قال تعالى: «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين:» الصافات: - 160، و قال حكاية عن إبليس: «قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين:» ص: - 83.
و بالجملة الإنسان شديد الولع بتخيل الأمور غير المحسوسة في صورة الأمور المحسوسة فإذا سمع أن وراء الطبيعة الجسمية ما هو أقوى و أقدر و أعظم و أرفع من الطبيعة و أنه فعال فيها محيط بها أقدم منها مدبر لها حاكم فيها لا يوجد شيء إلا بأمره و لا يتحول عن حال إلى حال إلا بإرادته و مشيته لم يتلق من جميع ذلك إلا ما يضاهي أوصاف الجسمانيات و ما يتحصل من قياس بعضها إلى بعض.
و كثيرا ما حكاه في نفسه بصورة إنسان فوق السماوات جالس على عرش الملك يدبر أمر العالم بالتفكر و يتممه بالإرادة و المشية و الأمر و النهي، و قد صرحت التوراة الموجودة بأن الله سبحانه كذلك، و أنه تعالى خلق الإنسان على صورته، و ظاهر الأناجيل أيضا ذلك.
فقد تحصل أن الأقرب إلى طبع الإنسان و خاصة الإنسان الأولي الساذج أن يصنع لربه المنزه عن الشبه و المثل صورة يضاهي بها الذوات الجسمانية و تناسب الأوصاف و النعوت التي يصفها بها كما يمثل الثالوث بإنسان ذو وجوه ثلاثة كأن كلا من النعوت العامة وجه للرب يواجه به خلقه.
2 - الإقبال إلى الله بالعبادة:
إذا قضى الإنسان أن للعالم إلها خلقه بعلمه و قدرته لم يكن له بد من أن يخضع له خضوع عبادة اتباعا للناموس العالم الكوني و هو خضوع الضعيف للقوي و مطاوعة العاجز للقادر، و تسليم الصغير الحقير للعظيم الكبير فإنه ناموس عام جار في الكون حاكم في جميع أجزاء الوجود، و به يؤثر الأسباب في مسبباتها و تتأثر المسببات عن أسبابها.
و إذا ظهر الناموس المذكور لذوات الشعور و الإرادة من الحيوان كان مبدأ للخضوع و المطاوعة من الضعيف للقوي كما نشاهده من حال الحيوانات العجم إذا شعر الضعيف منها بقوة القوي آئسا من الظهور عليه و القدرة على مقاومته.
و ظهوره في العالم الإنساني أوسع و أبين من سائر الحيوان لما في هذا النوع من عمق الإدراك و خصيصة الفكر فهو متفنن في إجرائه في غالب مقاصده و أعماله جلبا للنفع أو دفعا للضرر كخضوع الرعية للسلطان و الفقير للغني و المرءوس للرئيس و المأمور للآمر و الخادم للمخدوم و المتعلم للعالم و المحب للمحبوب و المحتاج للمستغني و العبد للسيد و المربوب للرب.
و جميع هذه الخضوعات من نوع واحد و هو تذلل و هوان نفساني قبال عزة و قهر مشهود، و العمل البدني الذي يظهر هذا التذلل و الهوان هي العبادة أيا ما كانت؟ و ممن و لمن تحققت؟ و لا فرق في ذلك بين الخضوع للرب تعالى و بينه إذا تحقق من العبد بالنسبة إلى مولاه أو من الرعية بالنسبة إلى السلطان أو من المحتاج بالنسبة إلى المستغني أو غير ذلك فالجميع عبادة.
و على أي حال لا سبيل إلى ردع الإنسان عن هذا الخضوع لاستناده إلى قضاء فطري ليس للإنسان أن يتجافى عنه إلا أن يتبين له أن الذي كان يظنه قويا و يستضعف نفسه دونه ليس على ما كان يظنه بل هما سواء مثلا.
و من هنا ما نرى أن الإسلام لم ينه عن اتخاذ آلهة دون الله و عبادتهم إلا بعد ما بين للناس أنهم مخلوقون مربوبون أمثالهم، و أن العزة و القوة لله جميعا قال تعالى: «إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم:» الأعراف: - 194 و قال: «و الذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم و لا أنفسهم ينصرون و إن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا و تراهم ينظرون إليك و هم لا يبصرون:» الأعراف: - 198 و قال تعالى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون:» آل عمران: - 64 ختم الآية بحديث التسليم لله تعالى بعد ما دعاهم إلى ترك عبادة غير الله تعالى من الآلهة و رفض الخضوع لسائر المخلوقين المماثلين لهم و قال تعالى: «إن القوة لله جميعا:» البقرة: - 165، و قال: «فإن العزة لله جميعا:» النساء: - 139 و قال: «ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع:» الم السجدة: - 4 إلى غير ذلك من الآيات.
فليس عند غيره تعالى ما يدعو إلى الخضوع له فلا يسوغ الخضوع لأحد ممن دونه إلا أن يئول إلى الخضوع لله و يرجع تعزيره أو تعظيمه و ولايته إلى ناحيته قال تعالى: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي - إلى أن قال - فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون:» الأعراف: - 157، و قال: «إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا - إلى قوله - و هم راكعون:» المائدة: - 55، و قال: «و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر:» التوبة: - 71، و قال: «و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب:» الحج: - 32، فلا خضوع في الإسلام لأحد دون الله إلا ما يرجع إليه تعالى و يقصد به.
3 - كيف نشأت الوثنية؟
و بما ذا بدأت؟ اتضح في الفصل المتقدم أن الإنسان في مزلة من تجسيم الأمور المعنوية و سبك غير المحسوس في قالب المحسوس بالتمثيل و التصوير و هو مع ذلك مفطور للخضوع أمام أي قوة فائقة قاهرة و الاعتناء بشأنها.
و لذا كانت روح الشرك و الوثنية سارية في المجتمع الإنساني سراية تكاد لا تقبل التحرز و الاجتناب حتى في المجتمعات الراقية الحاضرة و حتى في المجتمعات المبنية على أساس رفض الدين فترى فيها من النصب و تماثيل الرجال و تعظيمها و احترامها و البلوغ في الخضوع لها ما يمثل لك وثنية العهود الأولى و الإنسان الأولي.
على أن اليوم من الوثنية على ظهر الأرض ما يبلغ مئات الملايين قاطنين في شرقها و غربها.
و من هنا يتأيد بحسب الاعتبار أن تكون الوثنية مبتدئة بين الناس باتخاذ تماثيل الرجال العظماء و نصب أصنامهم و خاصة بعد الموت ليكون في ذلك ذكرى لهم، و قد ورد في روايات أئمة أهل البيت ما يؤيد ذلك ففي تفسير القمي، مضمرا و في علل الشرائع، مسندا عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: «و قالوا لا تذرن آلهتكم» الآية، قال: كانوا يعبدون الله عز و جل فماتوا فضج قومهم و شق ذلك عليهم فجاءهم إبليس لعنه الله و قال لهم: أتخذ لكم أصناما على صورهم فتنظرون إليهم و تأنسون بهم و تعبدون الله، فأعد لهم أصناما على مثالهم فكانوا يعبدون الله عز و جل و ينظرون إلى تلك الأصنام، فلما جاءهم الشتاء و الأمطار أدخلوا الأصنام البيوت. فلم يزالوا يعبدون الله عز و جل حتى هلك ذلك القرن و نشأ أولادهم فقالوا: إن آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء فعبدوهم من دون الله عز و جل فذلك قول الله تبارك و تعالى: «و لا تذرن ودا و لا سواعا» الآية.
و كان رب البيت في الروم و اليونان القديمين - على ما يذكره التاريخ - يعبد في بيته فإذا مات اتخذ له صنم يعبده أهل بيته، و كان كثير من الملوك و العظماء معبودين في قومهم، و قد ذكر القرآن الكريم منهم نمرود الملك المعاصر لإبراهيم (عليه السلام) الذي حاجه في ربه، و فرعون موسى.
و هو ذا يوجد في بيوت الأصنام الموجودة اليوم و كذا بين الآثار العتيقة المحفوظة عنهم أصنام كثير من عظماء رجال الدين كصنم بوذا و أصنام كثير من البراهمة و غيرهم.
و اتخاذهم أصنام الموتى و عبادتهم لها من الشواهد على أنهم كانوا يرون أنهم لا يبطلون بالموت و أن أرواحهم باقية بعده، لها من العناية و الأثر ما كان في حال حياتهم بل هي بعد الموت أقوى وجودا و أنفذ إرادة و أشد تأثيرا لما أنها خلصت من شوب المادة و نجت من التأثرات الجسمانية و الانفعالات الجرمانية، و كان فرعون موسى يعبد أصناما له و هو إله و معبود في قومه، قال تعالى: «و قال الملأ من قوم فرعون أ تذر موسى و قومه ليفسدوا في الأرض و يذرك و آلهتك:» الأعراف: - 127.
4 - اتخاذ الأصنام لأرباب الأنواع و غيرهم:
كان اتخاذ تماثيل الرجال هو الذي نبه الناس على اتخاذ صنم الإله إلا أنه لم يعهد منهم أن يتخذوا تمثالا لله سبحانه المتعالي أن يحيط به حد أو يناله وهم، و كأن هذا هو الذي صرفهم عن اتخاذ صنمه بل تفرقوا في ذلك فأخذ كل ما يهمه من جهات التدبير المشهود في العالم فتوسلوا إلى عبادة الله بعبادة من وكله إلى الله على تدبير تلك الجهة المعنى بها بزعمهم.
فالقاطنون في سواحل البحار عبدوا رب البحر لينعم عليهم بفوائدها و يسلموا من الطوفان و الطغيان، و سكان الأودية رب الوادي، و أهل الحرب رب الحرب، و هكذا.
و لم يلبثوا دون أن اتخذ كل منهم ما يهواه من إله فيما يتوهمه من الصورة و الشكل، و مما يختاره من فلز أو خشب أو حجارة أو غير ذلك حتى روي أن بني حنيفة من اليمامة اتخذوا لهم صنما من أقط ثم أصابهم جدب و شملهم الجوع فهجموا عليه فأكلوه.
و كان الرجل إذا وجد شجرة حسنة أو حجرا حسنا و هواه عبده، و كانوا يذبحون غنما أو ينحرون إبلا فيلطخونه بدمه فإذا أصاب مواشيهم داء جاءوا بها إليه فمسحوها به، و كانوا يتخذون كثيرا من الأشجار أربابا فيتبركون بها من غير أن يمسوها بقطع أو كسر و يتقربون إليها بالقرابين و يأتون إليها بالنذورات و الهدايا.
و ساقهم هذا الهرج إلى أن ذهبوا في أمر الأصنام مذاهب شتى لا يكاد يضبطها ضابط، و لا يحيط بها إحصاء غير أن الغالب في معتقداتهم أنهم يتخذونها شفعاء يستشفعون بها إلى الله سبحانه ليجلب إليهم الخير و يدفع عنهم الشر، و ربما أخذها بعض عامتهم معبودة لنفسها مستقلة بالألوهية من غير أن تكون شفعاء و ربما كانوا يتخذونها شفعاء و يقدمونها أو يفضلونها على الله سبحانه كما يحكيه القرآن في قوله تعالى: «فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله و ما كان لله فهو يصل إلى شركائهم:» الآية، الأنعام: - 136.
و كان بعضهم يعبد الملائكة و آخرون يعبدون الجن، و قوم يعبدون الكواكب الثابتة كشعرى، و طائفة تتخذ بعض السيارات إلها - و قد أشير إلى جميع ذلك في الكتاب الإلهي - كل ذلك طمعا في خيرها أو خوفا من شرها.
و قل أن يتخذ إله من دون الله و لا يتخذ له صنم يتوجه إليه في العبادات به بل كانوا إذا اتخذوا شيئا من الأشياء إلها شفيعا عملوا له صنما من خشب أو حجر أو فلز، و مثلوا به ما يتوهمونه عليه من صورة الحياة فيسوونه في صورة إنسان أو حيوان و إن كان صاحب الصنم على غير الهيئة التي حكوه بها كالكواكب الثابتة و السيارة و إله العلم و الحب و الرزق و الحرب و نحوها.
و كان الوجه في اتخاذ أصنام الشركاء قولهم: إن الإله لتعاليه عن الصورة المحسوسة كأرباب الأنواع و سائر الآلهة غير المادية أو لعدم ثباته على حالة الظهور كالكوكب الذي يتحول من طلوع إلى غروب يصعب التوجه إليه كلما أريد بالتوجه فمن الواجب أن يتخذ له صنم يمثله في صفاته و نعوته فيصمد إليه بوسيلته كلما أريد.
5 - الوثنية الصابئة.
الوثنية و إن رجعت - بالتقريب - إلى أصل واحد هو اتخاذ الشفعاء إلى الله و عبادة أصنامها و تماثيلها، و لعلها استولت على الأرض و شملت العالم البشري مرارا كما يحكيه القرآن الكريم عن الأمم المعاصرة لنوح و إبراهيم و موسى (عليهما السلام) إلا أن اختلاف المنتحلين بها بلغ من التشتت و اتباع الأهواء و الخرافات مبلغا كان حصر المذاهب الناشئة فيها كالمحال و أكثرها لا تبتني على أصول متقررة و قواعد منتظمة متلائمة.
و مما يمكن أن يعد منها مذهبا قريبا من الانتظام و التحصل مذهب الصابئة و الوثنية البرهمية و البوذية: أما الوثنية الصابئة فهي تبتني على ربط الكون و الفساد و حوادث العالم الأرضي إلى الأجرام العلوية كالشمس و القمر و عطارد و الزهرة و مريخ و المشتري و زحل و أنها بما لها من الروحانيات المتعلقة بها هي المدبرة للنظام المشهود يدبر كل منها ما يتعلق به من الحوادث على ما يصفه فن أحكام النجوم، و يتكرر بتكرر دوراتها الأدوار و الأكوار من غير أن تقف أو تنتهي إلى أمد.
فهي وسائط بين الله سبحانه و بين هذا العالم المشهود تقرب عبادتها الإنسان منه تعالى ثم من الواجب أن يتخذ لها أصنام و تماثيل فيتقرب إليها بعبادة تلك الأصنام و التماثيل.
و ذكر المورخون أن الذي أسس بنيانها و هذب أصولها و فروعها هو «يوذاسف» المنجم ظهر بأرض الهند في زمن طهمورث ملك إيران، و دعا إلى مذهب الصابئة فاتبعه خلق كثير، و شاع مذهبه في أقطار الأرض كالروم و اليونان و بابل و غيرها، و بنيت لها هياكل و معابد مشتملة على أصنام الكواكب، و لهم أحكام و شرائع و ذبائح و قرابين يتولاها كهنتهم.
و ربما ينسب إليهم ذبح الناس.
و هؤلاء يوحدون الله في ألوهيته لا في عبادته، و ينزهونه عن النقائص و القبائح، و يصفونه بالنفي لا بالإثبات كقولهم لا يعجز و لا يجهل و لا يموت و لا يظلم و لا يجور، و يسمون ذلك بالأسماء الحسنى مجازا و ليسوا بقائلين باسم حقيقة و قد قدمنا شيئا من تاريخهم في تفسير قوله تعالى: «إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين:» الآية، البقرة: - 62 في الجزء الأول من هذا الكتاب.
6 - الوثنية البرهمية:
و البرهمية - على ما تقدم - من مذاهب الوثنية المتأصلة، و لعلها أقدمها بين الناس فإن المدنية الهندية من أقدم المدنيات الإنسانية لا يضبط بدء تاريخي لها على التحقيق، و لا يضبط بدء تاريخي لوثنية الهند غير أن بعض المورخين كالمسعودي و غيره ذكروا أن برهمن اسم أول ملوك الهند الذي عمر بلادها و أسس قواعد المدنية فيها و بسط العدل بين أهلها.
و لعل البرهمية نشأت بعده باسمه فكثيرا ما كانت الأمم الماضية يعبدون ملوكهم و الأعاظم من أقوامهم لاعتقادهم أنهم ذوو سلطة غيبية و أن اللاهوت ظهر فيهم نوع ظهور، و يؤيده بعض التأييد أن الظاهر من «ويدا» و هو كتابهم المقدس أنه مجموع من رسائل و مقالات شتى ألف كل شطر منها بعض رجال الدين في أزمنة مختلفة ورثوها من بعدهم فجمعت و ألفت كتابا يشير إلى دين ذي نظام و قد صرح به علماء سانسكريت و لازم ذلك أن يكون البرهمية كغيرها من مذاهب الوثنية مبتدئة من أفكار عامية غير قيمة، متطورة في مراحل التكامل حتى بلغت حظها من الكمال.
ذكر البستاني في دائرة المعارف ما ملخصه: برهم بفتحتين فسكون أو بفتح الباء و الهاء و سكون الراء هو المعبود الأول و الأكبر عند الهنود و هو عندهم أصل كل الموجودات واحد غير متغير و غير مدرك أزلي مطلق سابق كل مخلوق خلق العالم كله بمجرد ما أراد دفعة واحدة بقوله: أوم أي كن.
و حكاية برهم تشبه من كل وجه حكاية «اىبوذة» فليس الفرق إلا في الاسم و الصفات و كثيرا ما يجعلون نفس برهم اسما للأقانيم الثلاثة المؤلف منها ثالوث الهنود، و هي: «برهما و وشنو و سيوا» و يقال لعبدة برهم: البرهميون أو البراهمة.
و أما برهما فهو نفس برهم معبود الهنود بعد أن شرع في أعماله بدليل زيادة الألف في آخره و هو من اصطلاحاتهم و هو الأقنوم الأول من الثالوث الهندي أي إن برهم ينبثق في نفسه في ثلاثة أقانيم كل مرة في أقنوم فالأقنوم الأول الذي يظهر به أول مرة هو برهما، و الثاني وشنو، و الثالث سيوا.
فلما انبثق برهما لبث مدة طويلة جالسا على سدرة تسمى بالهندية «كمالا» و بالسنسكريتية بدما، و كان ينظر من كل جهة، و كان له أربعة رءوس بثماني أعين فلم ير إلا فضاء واسعا مظلما مملوء ماء فارتاع لذلك و لم يقدر أن يدرك سر أصله فلبث ساكتا أبكم غارقا في التأملات.
فمضت على ذلك أجيال و إذا بصوت قد طرق أذنيه بغتة و نبهه من سباته و أشار عليه أن يفزع إلى «باغادان» و هو لقب برهم فظهر برهم بصورة رجل له ألف رأس فسجد له برهما و جعل يسبحه فانشرح صدر باغادان و أبدع النور و كشف الظلمات، و أظهر لعبده حالة كينونته و الكائنات بصور جراثيم متخدرة و أعطاه القوة لإخراجها من هذا الخمول.
فبقي برهما يتأمل في ذلك مائة سنة إلهية و هي عبارة عن ستة و ثلاثين ألف سنة شمسية ثم ابتدأ بالعمل فأبدع أولا سبع السماوات المسماة عندهم «سورغة» و أنارها بالأجرام المسماة «ديقانة» ثم أبدع «مريثلوكا» أي مقر الموت ثم الأرض و قمرها، ثم المساكن السبعة السفلى المسماة بتالة، و أنارها بثمانية جواهر موضوعة على رءوس ثماني حيات.
فالسماوات السبع و المساكن السفلى السبعة هي العوالم الأربعة عشر في الميثولوجيا الهندية.
ثم خلق الأزواج السبعة لكي تعينه في أعماله فامتنع من مساعدته عشرة منها و هي «موني» و الريشة التسعة التي منها «ناريدا أو نوردام» و اقتصرت على التأملات الدنيوية فتزوج حينئذ أخته «ساراسواتي» و أولدها مائة ولد، و كان البكر اسمه «دكشا» فولد لدكشا خمسون بنتا فتزوجت ثلاث عشرة منهن «كاسيابا» الذي يسمونه أحيانا برهمان الأول، و هو الذي ولد لبرهما ولدا يسمى مارتشي».
و ولدت إحدى البنات المذكورات و اسمها «أديتي» الأرواح المنيرة المسماة «ديقانة» و هي التي تفعل الخير و تسكن السماوات، و أما أختها «ديتي» فولدت جمهورا غفيرا من الأرواح الشريرة المسماة «داتينة» أو «أسورة» و هي سكان الظلام و فاعلة كل شر في العالم.
و كانت الأرض إلى ذلك الوقت خالية من السكان فقال بعضهم: إن برهما أخرج من نفسه «مانوسويامبوقا» الذي يقول الآخرون: إنه سابق له و إنه نفس برهم المعبود الواحد ثم إن برهما زوجه «ساتاروبا» و قال لهما أن يكثرا و ينميا.
و قال آخرون: إن برهما ولد أربعة أولاد و هم برهمان و كشتريا و قايسيا و سودارا فالأول خرج من فمه، و الثاني من ذراعه اليمنى، و الثالث من فخذه اليمنى و الرابع من رجله اليمنى فكانوا أربع أرومات لأربع فرق أصلية.
و تزوج الثلاثة الأخيرون بثلاث نساء منه أيضا خرجت واحدة من ذراعه اليمنى و الثانية من فخذه اليسرى، و الثالثة من رجله اليسرى، و سمين باسم بعولتهن بزيادة علامة التأنيث و هي «نى»، و تزوج برهمان أيضا زوجة من أبيه، و لكن كانت من نسل الأسورة الشريرة، فهذا ما في الفيداس عن كيفية خلق العالم.
ثم إن برهما بعد أن كان الإله الخالق القدير سقط عن رتبة وشنو الأقنوم الثاني و سيوا الأقنوم الثالث و ذلك أنه انتفخ بالكبرياء و العجب، و ظن نفسه نظير العلي فسقط في ناراك أي الجحيم، و لم ينل العفو إلا بشرط أن يتجسد مرة في كل من الأجيال الأربعة، فتجسد أول مرة بصورة غراب شاعر اسمه «كاكابوسندا» و في الثانية بصورة «بارباقلميكي» فكان أولا لصا ثم رجلا عبوسا رزينا نادما ثم ترجمانا مشهورا للفيداس و مؤلفا للراميانا، و في المرة الثالثة بصورة «قياسا» و هو شاعر و مؤلف «المهابارانا» و البغاقة و عدة بورانات، و في المرة الرابعة و هو العصر الحالي المسمى «كالييوغ» بصورة «كاليداسا» الشاعر التشخيصي العظيم و مؤلف «ساكنتالا» و منقح مؤلفات «قلميكي».
ثم إن برهما ظهر في ثلاث أحوال ففي، الحال الأولى كان الواحد الصمد و الكل الأعظم العلي، و في الحال الثانية ظهر منبثقا من الأول أي شارعا في العمل و في الحال الثالثة ظهر متجسدا بصورة إنسان و حكيم.
و ليس لبرهما عبادة عامة في الهند، و له هناك هيكل واحد فقط غير أن البراهمة يجعلونه موضوع عبادتهم، و يدعونه مساء و صباحا، و هم يرمون الماء ثلاث مرات براحة أيديهم على الأرض و نحو الشمس، و يجددون له عبادتهم وقت الظهر بتقديمهم له زهرة، و في تقديس النار يقدمون له سمنا مصفى كما يقدمون لإله النار، و هذا التقديس أهم و أقدس من كل ما سواه.
و اسمه هوم أو هوما و رغيب.
و يمثل برهما بصورة رجل ذي لحية طويلة بإحدى يديه سلسلة الكائنات و بالأخرى الإناء الذي فيه ماء الحياة السماوي راكبا الهمسا و هو الطير الإلهي الذي يشبه اللقلق و النسر.
و أما برهمان فهو ابن برهما البكر أخرجه من فيه كما تقدم، و جعل نصيبه أربعة الكتب المقدسة المسماة «فيداس» كناية عن الكلمات الأربع التي نطق بها بأفواهه الأربعة.
فلما أراد برهمان أن يتزوج نظير إخوته قال له برهما: إنك ولدت للدرس و الصلاة فيجب أن تبتعد عن العلاقات الجسدية فلم يقتنع برهمان بقول أبيه فغضب برهما و زوجه بواحدة من جنيات الشر المسماة أسورة، و من هذا ولد البراهمة و هم الكهنة المقدسون الذين خصوا بتفسير الفيداس، و كانوا يتولون أمر كل التقدمات التي يقدمها الهنود للآلهة.
و ولد كشتريا صنف الحربيين من البراهمة، و قايسيا صنف أهل الزراعة منهم، و سودرا صنف العبيد، فالبراهمة أربعة أصناف، انتهى ملخصا من دائرة المعارف للبستاني.
و ذكر غيره أن البرهمية منقسمة إلى طبقات أربع هم البراهمة علماء المذهب و الحربيون و الزراع و التجار، و لا يعبأ بغيرهم كالنساء و العبيد، و قد نقلنا في ذيل قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم:» الآية، المائدة: - 105 في الجزء السادس من الكتاب في بحث علمي عن كتاب ما للهند من مقولة لأبي ريحان البيروني شيئا من وظائف البراهمة و عباداتهم، و كذا عن الملل و النحل للشهرستاني شطرا من شرائع الصابئين.
و المذاهب الوثنية الهندية و كان الصابئين مثلهم أيضا مطبقون على القول بالتناسخ و هو أن العوالم غير متناهية من ناحيتي الأزل و الأبد و لكل منها حظا من البقاء مؤجلا فإذا انقضى أمد بقائه بطلت صورته و تولد منه عالم آخر يعيش فيموت فيحدث ثالث و هكذا، و النفوس الإنسانية المتعلقة بالأبدان لا تموت بموت أبدانها بل موت أبدانها مبدأ حياة جديدة لها فإنها تتعلق بأبدان أخر تعيش فيها عيشة سعيدة إن كسبت في بدنها السابق فضائل نفسانية و عملت عملا صالحا، و عيشة شقية إن تلبست بالرذائل و اقترفت السيئات إلا الكاملون في معرفة البرهم الله سبحانه فإنهم أحياء بحياة الأبد آمنون من التولد الثاني خارجون عن سلطان التناسخ.
7 - الوثنية البوذية:
و قد أصلحت الوثنية البرهمية 1 بالبوذية منسوبة إلى بوذا «سقياموني» المتوفى سنة خمس مائة و ثلاث و أربعين قبل المسيح على ما نقل عن التاريخ السيلاني و قيل غير ذلك حتى إن الاختلاف في ذلك ينسحب إلى ألفي سنة، و لذلك ربما ظن أنه شخص خرافي لا حقيقة له لكن الحفريات الأخيرة التي وقعت في غايا الحديثة و آثارا أخرى في بطنه دلت على صحة وجوده، و قد انكشفت بها آثار أخرى من تاريخ حياته و تعاليمه التي ألقاها إلى تلامذته و أتباعه.
و كان بوذا من بيت الملك ابن ملك يدعى «سوذودانا» فعزفت نفسه الدنيا و شهواتها و اعتزل الناس في شبابه و لبث في بعض الغابات الموحشة سنين من عمره مكبا على التزهد و الارتياض حتى تنورت نفسه بالمعرفة فخرج إلى الناس و هو ابن ست و ثلاثين سنة على ما قيل فدعاهم إلى التخلص عن الشقاء و الآلام و الفوز بالراحة الكبرى و الحياة السماوية الأبدية السرمدية، و وعظهم و حثهم على التمسك بذيل شريعته بالتخلق بالأخلاق الكريمة و رفض الشهوات و اجتناب الرذائل.
و كان بوذا - على ما نقل - يقول عن نفسه من دون كبرياء برهمية: «أنا 1 متسول، و لا توجد إلا شريعة واحدة للجميع و هي العقاب الشديد للمجرمين و الثواب العظيم للصالحين، و شريعتي شريعة نعمة للجميع، و فيها كالسماء مكان للرجال و النساء و الصبيان و البنات و الأغنياء و الفقراء على أنه يعسر على الغني أن يسلك طريقها».
و كان تعليمه على ما عند البوذيين: أن الطبيعة ذات فراغ و أنها وهمية خداعة و أن العدم يوجد في كل مكان و كل زمان، و هو مملوء من الغش، و نفس هذا العدم يزيل كل الحواجز بين أصناف الناس و جنسياتهم و أحوالهم الدنيوية، و يجعل أحقر الديدان إخوة للبوذيين.
و هم يعتقدون أن آخر عبارة نطق بها سقياموني هي «كل مركب فان» و الغاية القصوى عندهم هي نجاة النفس من كل ألم و غرور، و أن دور التناسخ الذي لا نهاية له ينتهي أو ينقطع بمنع النفس أن تولد ثانية، و يتوصل إلى ذلك بتطهيرها حتى من رغبة الوجود.
فهذه القواعد الأساسية للبوذية موجودة صريحا في أقدم تعليمها المدرج في «الأرياني ستيانس» و هي أربع حقائق سامية تنسب إلى سقياموني ذكرها في عظته الأولى التي قام بها في غابة تعرف بغابة الغزال بالقرب من بنارس.
و تلك الحقائق الأربع تتعلق بالألم و أصله و ملاشاته و بالطريقة المؤدية إلى الملاشاة فالألم هو الولادة و السن و المرض و الموت و مصادفة المكروه و مفارقة المحبوب و العجز عما يرام، و أسباب الألم الشهوات النفسانية و الجسدية و الأهواء، و ملاشاة جميع هذه الأسباب هي الحقيقة الثالثة، و لطريقة الملاشاة أيضا ثمانية أقسام و هي: نظر صحيح و حس صحيح، و نطق صحيح، و فعل صحيح، و مركز صحيح، و جد صحيح و ذكر صحيح، و تأمل صحيح، فهذه صورة الإيمان عندهم و قد وجدت محفورة على أبنية كثيرة و مدونة في عدة كتب.
و أما خلاصة الأدب البوذي فهي اجتناب كل شيء ردي، و عمل كل شيء صالح و تهذيب العقل.
فهذا هو الذي سلموه من تعليم بوذا و ما عداه من العبادات و الذبائح و الكهنوت و الفلسفة و الأسرار أمور أضيفت إليه بكرور الأيام و مرور الدهور، و هي تشتمل على أقاويل و آراء عجيبة في خلق العالم و نظمه و غير ذلك.
و مما يقال إن بوذا لم يتكلم عن الإله قط، غير أن ذلك لم يكن لإعراض منه عن مبدإ الوجود و لا لإنكار بل لأن الرجل كان يبذل كل جهده في تجهيز الناس بالزهد عن زهرة الحياة الدنيا و تنفيرهم عن هذه الدار الغارة.
8 - وثنية العرب.
و هم أول من عارضهم الإسلام بالدعوة إلى التوحيد من عبدة الأوثان، كان معظم العرب في عهد الجاهلية بدويين و أهل الحضارة منهم كاليمن في طبع البداوة يحكم فيهم من السنن و الآداب رسوم مختلطة مختلفة مأخوذة من جيرانهم الأقوياء كالفرس و الروم و مصر و الحبشة و الهند، و منها السنن الدينية.
و كان أسلافهم الأقدمون و هم العرب العاربة و منهم عاد إرم و ثمود على دين الوثنية كما يحكيه الله سبحانه في كتابه عن قوم هود و صالح و عن أصحاب مدين و عن أهل سبإ في قصة سليمان و الهدهد، حتى أن جاء إبراهيم (عليه السلام) بابنه إسماعيل و أمه هاجر إلى أرض مكة و هي واد غير ذي زرع و بها قبيلة جرهم، و أسكنهما هناك فنشأ إسماعيل (عليه السلام) و بنيت بلدة مكة، و بنى إبراهيم (عليه السلام) الكعبة البيت الحرام و دعا الناس إلى دينه الحنيف و هو الإسلام فاستجيب له في الحجاز و ما والاها و شرع لهم الحج كما يدل على جملة ذلك قول الله تعالى له فيما يحكيه القرآن: «و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالا و على كل ضامر يأتين من كل فج عميق:»، الحج: - 27.
ثم تهود بعض الأعراب لمعاشرة كانت بينهم و بين اليهود النازلين بالحجاز، و تسربت النصرانية إلى بعض أقطار الجزيرة، و المجوسية إلى بعضها الآخر.
ثم وقعت وقائع بين آل إسماعيل و جرهم بمكة حتى آل إلى غلبة آل إسماعيل و إجلاء جرهم منها و استولى عمرو بن لحي على مكة و ما والاها.
ثم إنه مرض مرضا شديدا فقيل له: إن البلقاء من أرض الشام حمة لو استحممت بها برأت فقصدها و استحم بها فبرأ، و رأى هناك قوما يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا: هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية و الأشخاص البشرية نستنصر بها فننصر و نستسقي بها فنسقي فأعجبه ذلك فطلب منهم صنما من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فرجع إلى مكة و وضعه على الكعبة، و كان معه إساف و نائلة و هما صنمان على شكل زوجين - كما في الملل و النحل - أو شابين - كما في غيره - فدعا الناس إلى عبادة الأصنام و روج ذلك بين قومه فعادوا يعبدونها بعد إسلامهم و قد كانوا يسمون حنفاء لاتباعهم ملة إبراهيم (عليه السلام) فبقي عليهم الاسم و هجرهم المعنى و صار الحنفاء اسما للوثنيين 1 منهم.
و كان مما يقربهم إلى الوثنية أن الكعبة المشرفة كان يعظمها اليهود و النصارى و المجوس و الوثنية جميعا فكان لا يظعن من مكة ظاعن إلا حمل معه شيئا من حجارة الحرم تبركا و صبابة، و حيثما حلوا وضعوه و طافوا به تيمنا و حبا للكعبة و الحرم.
و عن هذه الأسباب شاعت الوثنية بين العرب عاربهم و مستعربهم و لم يبق من أهل التوحيد بينهم إلا آحاد لا يذكرون، و كان من الأصنام المعروفة بينهم هبل و إساف و نائلة، و هي التي أتى بها عمرو بن لحي و دعا إليها الناس، و اللات و العزى و مناة و ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر، و قد ذكرت هذه الثمان في القرآن و نسبت الخمس الأواخر منها إلى قوم نوح.
و روي في الكافي، بإسناده إلى عبد الرحمن بن الأشل بياع الأنماط عن الصادق (عليه السلام): أن يغوث كان موضوعا قبالة باب الكعبة، و كان يعوق عن يمين الكعبة و نسر عن يسارها.
و في الرواية أيضا: أن هبل كان على سطح الكعبة و إساف و نائلة على الصفا و المروة.
و في تفسير القمي، قال: كانت ود لكلب، و كانت سواع لهذيل و يغوث لمراد، و كانت يعوق لهمدان، و كانت نسر لحصين.
و كانت في الوثنية التي عندهم آثار من وثنية الصابئة كالغسل من الجنابة و غيره.
و فيها آثار من البرهمية كالقول بالأنواء و القول بالدهر كما تقدم عن وثنية بوذة قال تعالى: «و قالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلا الدهر:» الجاثية: - 24 و إن ذكر بعضهم أنه قول الماديين المنكرين لوجود الصانع.
و فيها شيء من الدين الحنيف و هو إسلام إبراهيم (عليه السلام) كالختنة و الحج إلا أنهم خلطوه بسنن وثنية كالتمسح بالأصنام التي حول الكعبة و الطواف عريانا، و التلبية بقولهم: لبيك لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه و ما ملك.
و عندهم أمور أخر اختلقوه من عند أنفسهم كالقول بالبحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام و القول بالصدى و الهام و الأنصاب و الأزلام و أمور أخر مذكورة في التواريخ و قد تقدم تفسير البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام في سورة المائدة في ذيل آية 103 و كذا ذكر الأزلام و الأنصاب في ذيل آية 3 و آية 90.
9 - دفاع الإسلام عن التوحيد و منازلته الوثنية.
لم تزل الدعوة الإلهية تخاصم الوثنية و تقاومه و تندب إلى التوحيد كما ذكره الله في كتابه فيما يقصه من دعوة الأنبياء و الرسل كنوح و هود و صالح و إبراهيم و شعيب و موسى (عليه السلام)، و أشير إلى ذلك في قصص عيسى و لوط و يونس (عليهما السلام).
و قد أجمل القول في ذلك في قوله تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون:» الأنبياء: - 25.
و قد بدأ النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوته العامة بدعاء الوثنيين من قومه إلى التوحيد بالحكمة و الموعظة و الجدال بالتي هي أحسن فلم يجيبوه إلا بالاستهزاء و الأذى و فتنة من آمن به منهم و تعذيبه أشد العذاب حتى اضطر جمع من المسلمين إلى ترك مكة و الهجرة إلى الحبشة، ثم مكروا لقتله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهاجر إلى المدينة ثم هاجر إليها بعده عدة من المؤمنين.
و لم يلبثوا حتى تعلقوا به بالقتال، و قاتلوه ببدر و أحد و الخندق و في غزوات أخرى كثيرة حتى أظهره الله تعالى عليهم بفتح مكة فظهر (صلى الله عليه وآله وسلم) البيت و الحرم من أوثانهم، و كسر الأصنام المنصوبة حول الكعبة المشرفة، و كان هبل منصوبا على سطح الكعبة فأصعد عليا (عليه السلام) إليه فرماه إلى الأرض و كان - على ما يقال - أعظم أصنامهم فدفن - على ما ذكروه - في عتبة باب المسجد.
و الإسلام شديد العناية بحسم مادة الوثنية و تخلية القلوب عن الخواطر الداعية إليها و صرف النفوس حتى عن الحومان حولها و الإشراف عليها، و ذلك مشهود مما ندب إليه من المعارف الأصلية و الأخلاق الكريمة و الأحكام الشرعية فتراه يعد الاعتقاد الحق أنه لا إله إلا الله له الأسماء الحسنى يملك كل شيء، له الوجود الأصيل الذي يستقل بذاته و هو الغني عن العالمين، و كل ما هو غيره منه يبتدىء و إليه يعود، و إليه يفتقر في جميع شئون ذاته حدوثا و بقاء فمن أسند إلى شيء شيئا من الاستقلال بالقياس إليه تعالى - لا بالقياس إلى غيره - في شيء من ذاته أو صفاته أو أعماله فهو مشرك بحسبه.
و تراه يأمر بالتوكل على الله، و الثقة بالله، و الدخول تحت ولاية الله، و الحب في الله، و البغض في الله، و إخلاص العمل لله، و ينهى عن الاعتماد بغير الله، و الركون إلى غيره، و الاطمئنان إلى الأسباب الظاهرة و رجاء من دونه، و العجب و الكبر إلى غير ذلك مما يوجب إعطاء الاستقلال لغيره و الشرك به.
و تراه ينهى عن السجدة لغيره تعالى، و ينهى عن اتخاذ التماثيل ذوات الأظلال و عن تصوير ذوي الأرواح، و ينهى عن طاعة غير الله و الإصغاء إليه فيما يأمر و ينهى إلا ما رجع إلى طاعة الله كطاعة الأنبياء و أئمة الدين، و ينهى عن البدعة و اتباعها و عن اتباع خطوات الشيطان.
و الأخبار المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) متظافرة في أن الشرك ينقسم إلى جلي و خفي، و أن الشرك ذو مراتب كثيرة لا يسلم من جميعها إلا المخلصون، و أنه أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، و قد روي في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: «يوم لا ينفع مال و لا بنون - إلا من أتى الله بقلب سليم:» الشعراء: - 89، القلب السليم الذي يلقى ربه ليس فيه أحد سواه، قال: و كل قلب فيه شرك أو شك فهو ساقط و إنما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة.
و ورد أيضا: أن عبادته تعالى طمعا في الجنة عبادة الأجراء، و عبادته خوفا من النار عبادة العبيد، و حق العبادة أن يعبد تعالى حبا له و تلك عبادة الكرام، و هذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون و قد تقدمت عدة من هذه الروايات في بعض الأبحاث السابقة من الكتاب.
10 - بناء سيرة النبي على التوحيد و نفي الشركاء:
أجمل تعالى سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) التي أمره باتخاذها و السير بها في المجتمع البشري في قوله: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون:» آل عمران: - 64، و قال تعالى يشير إلى ما داخل دينهم من عقائد الوثنية: «قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق و لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل و أضلوا كثيرا و ضلوا عن سواء السبيل:» المائدة - 77.
و قال أيضا يذم أهل الكتاب: «اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح بن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون:» التوبة: - 31.
و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) قد سوى بين الناس في إجراء الأحكام و الحدود و قارب بين طبقات المجتمع كالحاكم و المحكوم، و الرئيس و المرءوس، و الخادم و المخدوم، و الغني و الفقير، و الرجل و المرأة، و الشريف و الوضيع فلا كرامة و لا فخر و لا تحكم لأحد على أحد إلا كرامة التقوى و الحساب إلى الله و الحكم إليه.
و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم بالسوية، و ينهى عن تظاهر القوي بقوته بما يتأثر و ينكسر به قلب الضعيف المهين كتظاهر الأغنياء بزينتهم على الفقير المسكين، و الحكام و الرؤساء بشوكتهم على الرعية.
و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يعيش كأحد من الناس لا يمتاز منهم في مأكل أو مشرب أو ملبس أو مجلس أو مشية أو غير ذلك، و قد تقدم جوامع سيرته في آخر الجزء السادس من هذا الكتاب.
كلام آخر ملحق بالكلام السابق
نزن فيه تعليم القرآن الكريم بقياسه إلى تعاليم ويدا، و أوستا، و التوراة، و الإنجيل على نحو الإجمال و الكلية في فصول و هذا بحث تحليلي شريف.
1 - التناسخ عند الوثنيين:
من الأصول الأولية التي تبتني عليها البرهمية و مثلها البوذية و الصابئية هو التناسخ و هو أن العالم محكوم بالكون و الفساد دائما فهذا العالم المشهود لنا و كذا ما فيه من الأجزاء مكون عن عالم مثله سابق عليه و هكذا إلى غير النهاية، و سيفسد هذا العالم كما لا يزال يفسد أجزاؤه و يتكون منه عالم آخر و هكذا إلى غير النهاية، و الإنسان يعيش في كل من هذه العوالم على ما اكتسبه في عالم يسبقه فمن عمل صالحا و اكتسب ملكة حسنة فستتعلق نفسه بعد مفارقة البدن بالموت ببدن سعيد و يعيش على السعادة، و هو ثوابه، و من أخلد إلى الأرض و اتبع هواه فسوف يعيش بعد الموت في بدن شقي و يقاسي فيه أنواع العذاب إلا من عرف البرهم و اتحد به فإنه ينجو من الولادة الثانية و يعود ذاتا أزلية أبدية هي عين البهاء و السرور و الحياة و القدرة و العلم لا سبيل للفناء و البطلان إليها.
و لذلك كان من الواجب الديني على الإنسان أن يؤمن بالبرهم و هو الله أصل كل شيء و يتقرب إليه بالقرابين و العبادات، و يتحلى بالأخلاق الكريمة و الأعمال الصالحة فإن عزفت نفسه الدنيا و تخلق بكرائم الأخلاق و تحلى بصوالح الأعمال و عرف البرهم بمعرفة نفسه صار برهمنا و اتحد بالبرهم و صار هو هو، و هو السعادة الكبرى و الحياة البحتة، و إلا فليؤمن بالبرهم و ليعمل صالحا حتى يسعد في حياته التالية و هي آخرته.
لكن البرهم لما كان ذاتا مطلقة محيطا بكل شيء غير محاط لشيء كان أعلى و أجل من أن يعرفه الإنسان إلا بنوع من نفي النقائص أو يناله بعبادة أو قربان فمن الواجب علينا أن نتقرب بالعبادة إلى أوليائه و أقوياء خلقه حتى يكونوا شفعاء لنا عنده، و هؤلاء هم الآلهة الذين يعبدون من دون الله بعبادة أصنامهم، و هم على كثرتهم إما من الملائكة أو من الجن أو من أرواح المكملين من البراهمة، و إنما يعبد الجن خوفا من شرهم، و غيرهم طمعا في رحمتهم و خوفا من سخطهم و منهم الأزواج و البنون و البنات لله تعالى.
فهذه جمل ما تتضمنه البرهمية و يعلمه علماء المذهب من البراهمة.
لكن الذي يتحصل من أوبانيشاد» 1 و هو القسم الرابع من كتاب «ويدا» المقدس ربما لم يوافق ما تقدم من كليات عقائدهم و إن أوله علماء المذهب من البراهمة.
فإن الباحث الناقد يجد أن رسائل «أوبانيشاد» المعلمة للمعارف الإلهية و إن كانت تصف العالم الألوهي و الشئون المتعلقة به من الأسماء و الصفات و الأفعال من إبداء و إعادة و خلق و رزق و إحياء و أماته و غير ذلك بما يوصف به الأمور الجسمانية المادية كالانقسام و التبعض و السكون و الحركة و الانتقال و الحلول و الاتحاد و العظم و الصغر و سائر الأحوال الجسمانية المادية إلا أنها تصرح في مواضع منها أن برهم 2 ذات مطلقة متعالية من أن يحيط به حد له الأسماء الحسنى و الصفات العليا من حياة و علم و قدرة، منزه عن نعوت النقص و أعراض المادة و الجسم ليس كمثله شيء.
و تصرح 3 بأنه تعالى إحدى الذات لم يولد من شيء و لم يلد شيئا و ليس له كفو و مثل البتة.
و تصرح 1 بأن الحق أن لا يعبد غيره تعالى و لا يتقرب إلى غيره بقربان بل الحري بالعبادة هو وحده لا شريك له.
و تصرح 2 كثيرا بالقيامة و أنه الأجل الذي ينتهي إليه الخلقة، و تصف ثواب الأعمال و عقابها بعد الموت بما لا يأبى الانطباق على البرزخ من دون أن يتعين حمله على التناسخ.
و لا خبر في هذه الأبحاث الإلهية الموردة فيها عن الأوثان و الأصنام و توجيه العبادات و تقديم القرابين إليها.
و هذه التي نقلناها من «أوبانيشاد» - و ما تركناه أكثر - حقائق سامية و معارف حقة تطمئن إليها الفطرة الإنسانية السليمة، و هي - كما ترى - تنفي جميع أصول الوثنية الموردة في أول البحث.
و الذي يهدي إليه عميق النظر أنها كانت حقائق عالية كشفها آحاد من أهل ولاية الله ثم أخبروا بما وجدوا بعض تلامذتهم الآخذين منهم غير أنهم تكلموا غالبا بالرمز و استعملوا في تعاليمهم الأمثال.
ثم جعل ما أخذ من هؤلاء أساسا تبتني عليه سنة الحياة التي هي الدين المجتمع عليه عامة الناس، و هي معارف دقيقة لا يحتملها إلا الآحاد من أهل المعرفة لارتفاع سطحها عن الحس و الخيال اللذين هما حظ العامة من الإدراك و كمال صعوبة إدراكها على العقول الراجلة غير المتدربة في المعارف الحقة.
و اختصاص نيلها بالأقلين من الناس و حرمان الأكثرين من ذلك و هي دين إنساني أول المحذور فإن الفطرة أنشأت العالم الإنساني مغروزة على الاجتماع المدني، و انفصال بعضهم عن بعض في سنة الحياة و هي الدين إلغاء لسنة الفطرة و طريقة الخلقة.
على أن في ذلك تركا لطريق العقل و هو أحد الطرق الثلاث الوحي و الكشف و العقل، و أعمها و أهمها بالنظر إلى حياة الإنسان الدنيوية فالوحي لا يناله إلا أهل العصمة من الأنبياء المكرمين، و الكشف لا يكرم به إلا الآحاد من أهل الإخلاص و اليقين، و الناس حتى أهل الوحي و الكشف في حاجة مبرمة إلى تعاطي الحجة العقلية في جميع شئون الحياة الدنيوية و لا غنى لها عن ذلك، و في إهمال هذا الطريق تسليط التقليد الإجباري على جميع شئون المجتمع الحيوية من اعتقادات و أخلاق و أعمال، و في ذلك سقوط الإنسانية.
على أن في ذلك إنفاذا لسنة الاستعباد في المجتمع الإنساني و يشهد بذلك التجارب التاريخي المديد في الأمم البشرية التي عاشت في دين الوثنية أو جرت فيهم سنن الاستعباد باتخاذ أرباب من دون الله.
2 - سريان هذه المحاذير إلى سائر الأديان:
الأديان العامة الآخر على ما فيها من القول بتوحيد الألوهية لم تسلم من شرك العبادة فساقهم ذلك إلى الابتلاء بعين ما ابتليت به الوثنية البرهمية من المحاذير التي أهمها الثلاثة المتقدمة.
أما البوذية و الصابئة فذلك فيهم ظاهر و التاريخ يشهد بذلك، و قد تقدم شيء مما يتعلق بعقائدهم و أعمالهم.
و أما المجوس فهم يوحدون «أهورامزدا» بالألوهية لكنهم يخضعون بالتقديس ليزدان و أهريمن و الملائكة الموكلين بشئون الربوبية و للشمس و النار و غير ذلك، و التاريخ يقص ما كانت تجري فيهم من سنة الاستعباد و اختلاف الطبقات و التدبر و الاعتبار يقضي أنه إنما تسرب ذلك كله إليهم من ناحية تحريف الدين الأصيل، و قد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم: «أنه كان لهم نبي فقتلوه و كتاب فأحرقوه».
و أما اليهود فالقرآن يقص كثيرا من أعمالهم و تحريفهم كتاب الله و اتخاذهم العلماء أربابا من دون الله، و ما ابتلاهم الله به من انتكاس الفطرة و رداءة السليقة.
و أما النصارى فقد فصلنا القول فيما انحرفوا فيه من النظر و العمل في الجزء الثالث من الكتاب فراجع و إن شئت فطبق مفتتح إنجيل يوحنا و رسائل بولس على سائر الأناجيل و تممه بمراجعة تاريخ الكنيسة فالكلام في ذلك طويل.
فالبحث العميق في ذلك كله ينتج أن المصائب العامة في المجتمعات الدينية في العالم الإنساني من مواريث الوثنية الأولى التي أخذت المعارف الإلهية و الحقائق العالية الحقة مكشوفة القناع مهتوكة الستر فجعلتها أساس السنن الدينية، و حملتها على الأفهام العامة التي لا تأنس إلا بالحس و المحسوس فأنتج ذلك ما أنتج.
3 - إصلاح الإسلام لهذه المفاسد:
أما الإسلام فإنه أصلح هذه المفاسد إذ قلب هذه المعارف العالية في قالب البيان الساذج الذي يصلح لهضم الأفهام الساذجة و العقول العادية فصارت تلامسها من وراء حجاب و تتناولها ملفوفة محفوفة، و هذا هو الذي يصلح به حال العامة و أما الخاصة فإنهم ينالونها مسفرة مكشوفة في جمالها الرائع و حسنها البديع آمنين مطمئنين و هم في زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا، قال الله تعالى: «و الكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم:» الزخرف: - 4، و قال: «إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون:» الواقعة: - 79، و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم».
و عالج غائلة الشرك و الوثنية في مرحلة التوحيد بنفي الاستقلال في الذات و الصفات عن كل شيء إلا الله سبحانه فهو تعالى القيوم على كل شيء، و ركز الأفهام في معرفة الألوهية بين التشبيه و التنزيه فوصفه تعالى بأن له حياة لكن لا كحياتنا، و علما لا كعلمنا، و قدرة لا كقدرتنا و سمعا لا كسمعنا، و بصرا لا كبصرنا، و بالجملة ليس كمثله شيء و أنه أكبر من أن يوصف، و أمر الناس مع ذلك أن لا يقولوا في ذلك قولا إلا عن علم، و لا يركنوا إلى اعتقاد إلا عن حجة عقلية يهضمها عقولهم و أفهامهم.
فوفق بذلك أولا لعرض الدين على العامة و الخاصة شرعا سواء، و ثانيا أن يعمل العقل السليم من غير أن يترك هذه الموهبة الإلهية سدى لا ينتفع بها، و ثالثا أن قرب بين الطبقات المختلفة في المجتمع الإنساني غاية ما يمكن فيها من التقريب من غير أن ينعم على هذا و يحرم ذاك أو يقدم واحدا و يؤخر آخر قال تعالى: «إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون:» الأنبياء: - 92 و قال: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم:» الحجرات: - 13.
و هذا إجمال من القول يمكنك أن تعثر على تفصيل القول في أطرافه في أبحاث متفرقة تقدمت في هذا الكتاب و الله المستعان.
4 - ربما يظن أن ما ورد في الأدعية من الاستشفاع بالنبي و آله المعصومين (عليهم السلام) و مسألته تعالى بحقهم و زيارة قبورهم و تقبيلها و التبرك بتربتهم و تعظيم آثارهم من الشرك المنهي عنه و هو الشرك الوثني محتجا بأن هذا النوع من التوجه العبادي فيه إعطاء تأثير ربوبي لغيره تعالى و هو شرك و أصحاب الأوثان إنما أشركوا لقولهم في أوثانهم: إن هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
و قولهم: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، و لا فرق في عبادة غير الله سبحانه بين أن يكون ذلك الغير نبيا أو وليا أو جبارا من الجبابرة أو غيرهم فالجميع من الشرك المنهي عنه.
و قد فاتهم أولا أن ثبوت التأثير سواء كان ماديا أو غير مادي في غيره تعالى ضروري لا سبيل إلى إنكاره، و قد أسند تعالى في كلامه التأثير بجميع أنواعه إلى غيره و نفي التأثير عن غيره تعالى مطلقا يستلزم إبطال قانون العلية و المعلولية العام الذي هو الركن في جميع أدلة التوحيد، و فيه هدم بنيان التوحيد.
نعم المنفي من التأثير عن غيره تعالى هو الاستقلال في التأثير و لا كلام لأحد فيه، و أما نفي مطلق التأثير ففيه إنكار بديهة العقل و الخروج عن الفطرة الإنسانية.
و من يستشفع بأهل الشفاعة الذين ذكرهم الله في مثل قوله: «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون:» الزخرف: - 86 و قوله: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى:» الأنبياء: - 28.
أو يسأل الله بجاههم و يقسمه بحقهم الذي جعله لهم عليه بمثل قوله مطلقا: «و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم الغالبون:» الصافات: - 173 و قوله: «إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا:» المؤمن: - 51.
أو يعظمهم و يظهر حبهم بزيارة قبورهم و تقبيلها و التبرك بتربتهم بما أنهم آيات الله و شعائره تمسكا بمثل قوله تعالى: «و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب:» الحج: - 32، و آية القربى و غير ذلك من كتاب و سنة.
فهو في جميع ذلك يبتغي بهم إلى الله الوسيلة و قد قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ابتغوا إليه الوسيلة:» المائدة: - 35 فشرع به ابتغاء الوسيلة، و جعلهم بما شرع من حبهم و تعزيرهم و تعظيمهم وسائل إليه، و لا معنى لإيجاب حب شيء و تعظيمه و تحريم آثار ذلك فلا مانع من التقرب إلى الله بحبهم و تعظيم أمرهم و ما لذلك من الآثار إذا كان على وجه التوسل و الاستشفاع من غير أن يعطوا استقلال التأثير و العبادة البتة.
و ثانيا: أنه فاتهم الفرق بين أن يعبد غير الله رجاء أن يشفع عند الله أو يقرب إلى الله، و بين أن يعبد الله وحده مع الاستشفاع و التقرب بهم إليه ففي الصورة الأولى إعطاء الاستقلال و إخلاص العبادة لغيره تعالى و هو الشرك في العبودية و العبادة، و في الصورة الثانية يتمحض الاستقلال لله تعالى و يختص العبادة به وحده لا شريك له.
و إنما ذم تعالى المشركين لقولهم: «إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى» حيث أعطوهم الاستقلال و قصدوهم بالعبادة دون الله سبحانه، و لو قالوا: إنما نعبد الله وحده و نرجو مع ذلك أن يشفع لنا ملائكته أو رسله و أولياؤه بإذنه أو نتوسل إلى الله بتعظيم شعائره و حب أوليائه، لما كفروا بذلك بل عادت شركاؤهم كمثل الكعبة في الإسلام هي وجهة و ليست بمعبودة، و إنما يعبد بالتوجه إليها الله.
و ليت شعري ما ذا يقول هؤلاء في الحجر الأسود و ما شرع في الإسلام من استلامه و تقبيله؟ و كذا في الكعبة؟ فهل ذلك كله من الشرك المستثنى من حكم الحرمة؟ فالحكم حكم ضروري عقلي لا يقبل تخصصا و لا استثناء، أو أن ذلك من عبادة الله محضا و للحجر حكم الطريق و الجهة، و حينئذ فما الفرق بينه و بين غيره إذا لم يكن تعظيمه على وجه إعطاء الاستقلال و تمحيض العبادة، و مطلقات تعظيم شعائر الله و تعزير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و حبه و مودته و حب أهل بيته و مودتهم و غير ذلك في محلها.
|