بيان
تذكر الآيات الكريمة قصة صالح النبي (عليه السلام) و قومه و هم ثمود، و هو (عليهما السلام) ثالث الأنبياء القائمين بدعوة التوحيد الناهضين على الوثنية.
دعا ثمود إلى التوحيد و تحمل الأذى و المحنة في جنب الله حتى قضي بينه و بين قومه بهلاكهم و نجاته و نجاة من معه من المؤمنين.
قوله تعالى: «و إلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره» تقدم الكلام في نظيرة الآية في قصة هود.
قوله تعالى: «هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها» إلى آخر الآية.
قال الراغب الإنشاء إيجاد الشيء و تربيته و أكثر ما يقال ذلك في الحيوان قال: «هو الذي أنشأكم و جعل لكم السمع و الأبصار».
انتهى، و قال: العمارة ضد الخراب يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة قال: «و عمارة المسجد الحرام» يقال: عمرته فعمر فهو معمور قال: «و عمروها أكثر مما عمروها» «و البيت المعمور» و أعمرته الأرض و استعمرته إذا فوضت إليه العمارة قال: «و استعمركم فيها» انتهى، فالعمارة تحويل الأرض إلى حال تصلح بها أن ينتفع من فوائدها المترقبة منها كعمارة الدار للسكنى و المسجد للعبادة و الزرع للحرث و الحديقة لاجتناء فاكهتها و التنزه فيها و الاستعمار هو طلب العمارة بأن يطلب من الإنسان أن يجعل الأرض عامرة تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها.
و على ما مر يكون معنى قوله: «هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها» - و الكلام يفيد الحصر - أنه تعالى هو الذي أوجد على المواد الأرضية هذه الحقيقة المسماة بالإنسان ثم كملها بالتربية شيئا فشيئا و أفطره على أن يتصرف في الأرض بتحويلها إلى حال ينتفع بها في حياته، و يرفع بها ما يتنبه له من الحاجة و النقيصة أي إنكم لا تفتقرون في وجودكم و بقائكم إلا إليه تعالى و تقدس.
فقول صالح: «هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها» في مقام التعليل و حجة يستدل بها على ما ألقاه إليهم من الدعوة بقوله: «يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره» و لذلك جيء بالفصل كأنه قيل له: لم نعبده وحده؟ فقال: لأنه هو الذي أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها.
و ذلك لأنهم إنما كانوا يعبدون الأوثان و يتخذونها شركاء لله تعالى لأنهم كانوا يقولون - على مزعمتهم - إن الله سبحانه أعظم من أن يحيط به فهم و أرفع و أبعد من أن تناله عبادة أو ترتفع إليه مسألة، و لا بد للإنسان من ذلك فمن الواجب أن نعبد بعض مخلوقاته الشريفة التي فوض إليه أمر هذا العالم الأرضي و تدبير النظام الجاري فيه و نتقرب بالتضرع إليه حتى يرضى عنا فينزل علينا الخيرات، و لا يسخط علينا و نأمن بذلك الشرور، و هذا الإله الرب بالحقيقة شفيعنا عند الله لأنه إله الآلهة و رب الأرباب، و إليه يرجع الأمر كله.
فدين الوثنية مبني على انقطاع النسبة بين الله سبحانه و بين الإنسان و استقرارها بينه و بين تلك الوسائط الشريفة التي يتوجهون إليها مع استقلال هذه الوسائط في التأثير، و شفاعتها عند الله.
و لما كان الله تعالى هو الذي أنشأ الإنسان من الأرض و استعمره فيها فهو تعالى ذو نسبة إلى الإنسان قريب منه، و لا استقلال لشيء من هذه الأسباب التي نظمها و أجراها في هذا العالم حتى يرجى منها خير بالإرضاء أو يترقب شر بالإسخاط.
فالله سبحانه هو الذي يجب أن يعبد فيرجى بذلك رضاه، و يتقى بذلك سخطه لمكان أنه هو الخالق للإنسان و لكل شيء المدبر أمره و أمر كل شيء فقوله: «هو أنشأكم من الأرض و استعمركم فيها» مسوق لتعليل سابقه و الاحتجاج عليه من طريق إثبات النسبة بينه تعالى و بين الإنسان و نفي الاستقلال من الأسباب.
و لذلك عقبه بقوله: «فاستغفروه ثم توبوا إليه» على وجه التفريع أي فإذا كان الله تعالى هو الذي يجب عليكم أن تعبدوه و تتركوا غيره لكونه هو خالقكم المدبر لأمر حياتكم فاسألوه أن يغفر لكم معصيتكم بعبادة غيره، و ارجعوا إليه بالإيمان به و عبادته.
إنه قريب مجيب.
و قد علل قوله: «فاستغفروه» إلخ، بقوله: «إن ربي قريب مجيب» لأنه استنتج من حجته المذكورة أنه تعالى يقوم بإيجاد الإنسان و تربيته و تدبير أمر حياته، و أنه لا استقلال لشيء من الأسباب العمالة في الكون بل الله تعالى هو الذي يسوق هذا إلى هنا، و يصرف ذاك عن هناك فهو تعالى الحائل بين الإنسان و بين حوائجه و جميع الأسباب العمالة فيها، القريب منه لا كما يزعمون أنه لا يدركه فهم و لا يناله عبادة و قربان، و إذا كان قريبا فهو مجيب، و إذا كان قريبا مجيبا و هو الله لا إله غيره فمن الواجب أن يستغفروه ثم يتوبوا إليه.
قوله تعالى: «قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أ تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا» إلخ، الرجاء إنما يتعلق بالإنسان لا من جهة ذاته بل من جهة أفعاله و آثاره، و لا يرجى منها إلا الخير و النفع فكونه مرجوا هو أن يوجد ذا رشد و كمال في شخصه و بيته فيستهل منه الخير و يترقب منه النفع، و قوله: «قد كنت فينا» دليل على كونه مرجوا لعامتهم و جمهورهم.
فقولهم: «يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا» معناه أن ثمود كانت ترجو منك أن تكون من أفرادها الصالحة تنفع بخدماتك مجتمعهم و تحمل الأمة على صراط الترقي و التعالي لما كانت تشاهد فيك من أمارات الرشد و الكمال لكنهم يئسوا منك و من رزانة رأيك اليوم بما أبدعت من القول و أقمت من الدعوة.
و قولهم: «أ تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا» استفهام إنكاري بداعي المذمة و الملامة، و الاستفهام في مقام التعليل لما قبله محصله أن سبب يأسهم منك اليوم أنك تنهاهم من إقامة سنة من سنن مليتهم و تمحو أظهر مظاهر قوميتهم فإن اتخاذ الأوثان من سنن هذا المجتمع المقدسة، و استمرار إقامة السنن المقدسة من المجتمع دليل على أنهم ذوو أصل عريق ثابت، و وحدة قومية لها استقامة في الرأي و الإرادة.
و الدليل على ما ذكرنا قوله: «أ تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا» الدال على معنى العبادة المستمرة باتصال عبادة الأبناء بعبادة الآباء و لم يقل: أ تنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا؟ و الفرق بين التعبيرين من جهة المعنى واضح.
و من هنا يظهر أن تفسير بعض المفسرين كصاحب المنار و غيره قوله: «أن نعبد ما يعبد آباؤنا» بقولهم: «أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا» من الخطإ.
و قوله: «و إننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب» حجة ثانية لهم في رد دعوة صالح (عليه السلام)، و حجتهم الأولى ما يتضمنه صدر الآية و محصلها أن ما تدعو إليه من رفض عبادة الأصنام بدعة منكرة تذهب بسنة ثمود المقدسة و تهدم بنيان مليتهم، و تميت ذكرهم فعلينا أن نرده، و الثانية أنك لم تأت بحجة بينة على ما تدعو إليه تورث اليقين و تميط الشك عنا فنحن في شك مريب مما تدعونا إليه و ليس لنا أن نقبل ما تندب إليه على شك منا فيه.
و الإرابة الاتهام و إساءة الظن يقال: رابني منه كذا إذا أوجب فيه الشك و أرابني كذا إرابة إذا حملك على اتهامه و سوء الظن به.
قوله تعالى: «قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي و آتاني منه رحمة» إلى آخر الآية.
المراد بالبينة الآية المعجزة و بالرحمة النبوة، و قد تقدم الكلام في نظير الآية من قصة نوح (عليه السلام) في السورة.
و قوله: «فمن ينصرني من الله إن عصيته» جواب الشرط، و حاصل المعنى: أخبروني إن كنت مؤيدا بآية معجزة تنبىء عن صحة دعوتي و أعطاني الله الرسالة فأمرني بتبليغ رسالته فمن ينجني من الله و يدفع عني إن أطعتكم فيما تسألون و وافقتكم فيما تريدونه مني و هو ترك الدعوة.
ففي الكلام جواب عن كلتا حجتيهم و اعتذار عما لاموه عليه من الدعوة المبتدعة.
و قوله: «فما تزيدونني غير تخسير» تفريع على قوله السابق الذي ذكره في مقام دحض الحجتين و الاعتذار عن مخالفتهم و القيام بدعوتهم إلى خلاف سنتهم القومية فالمعنى فما تزيدونني في حرصكم على ترك الدعوة و الرجوع إليكم و اللحوق بكم غير أن تخسروني فما مخالفة الحق إلا خسارة.
و قيل: المراد أنكم ما تزيدونني في قولكم: أ تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ غير نسبتي إياكم إلى الخسارة.
و قيل: المعنى ما تزيدونني إلا بصيرة في خسارتكم و الوجه الأول أوجه.
قوله تعالى: «و يا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله و لا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب» إضافة الناقة إلى الله إضافة تشريف كبيت الله و كتابة الله.
و كانت الناقة آية معجزة له (عليه السلام) تؤيد نبوته، و قد أخرجها عن مسألتهم من صخر الجبل بإذن الله، و قال لهم: أنها تأكل في أرض الله محررة، و حذرهم أن يمسوها بسوء أي يصيبوها بضرب أو جرح أو قتل.
و أخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك أخذهم عذاب قريب معجل، و هذا معنى الآية.
قوله تعالى: «فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب» عقر الناقة نحرها، و الدار هي المكان الذي يبنيه الإنسان فيسكن فيه و يأوي إليه هو و أهله، و المراد بها في الآية المدينة سميت دارا لأنها تجمع أهلها كما تجمع الدار أهلها، و قيل المراد بالدار الدنيا، و هو بعيد.
و المراد بتمتعهم في مدينتهم العيش و التنعم بالحياة لأن الحياة الدنيا متاع يتمتع به، أو الالتذاذ بأنواع النعم التي هيئوها فيها من مناظر ذات بهجة و الأثاث و المأكول و المشروب و الاسترسال في أهواء أنفسهم.
و قوله: «ذلك وعد غير مكذوب» الإشارة إلى قوله: «تمتعوا» إلخ، و «وعد غير مكذوب» بيان له.
قوله تعالى: «فلما جاء أمرنا نجينا صالحا» إلى آخر الآية.
أما قوله: «فلما جاء أمرنا نجينا صالحا و الذين آمنوا معه برحمة منا» فقد تقدم الكلام في مثله في قصة هود.
و أما قوله: «و من خزي يومئذ» فمعطوف على محذوف و التقدير نجيناهم من العذاب و من خزي يومئذ، و الخزي العيب الذي تظهر فضيحته و يستحيي من إظهاره أو أن التقدير: نجيناهم من القوم و من خزي يومئذ على حد قوله: «و نجني من القوم الظالمين».
و قوله: «إن ربك هو القوي العزيز» في موضع التعليل لمضمون صدر الآية و فيه التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة، و قد تقدم نظيره في آخر قصة هود في قوله: «ألا إن عادا كفروا ربهم» و الوجه فيه ذكر صفة الربوبية ليدل به على خروجهم من زي العبودية و كفرهم بالربوبية و كفرانهم نعم ربهم.
قوله تعالى: «و أخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين» يقال: جثم جثوما إذا وقع على وجهه، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «كأن لم يغنوا فيها» غني بالمكان أي أقام فيه و الضمير راجع إلى الديار.
قوله تعالى: «ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود» الجملتان تلخيص ما تقدم تفصيله من القصة فالجملة الأولى تلخيص ما انتهى إليه أمر ثمود و دعوة صالح (عليه السلام)، و الثانية تلخيص ما جازاهم الله به، و قد تقدم نظيرة الآية في آخر قصة هود.
بحث روائي
في الكافي، مسندا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: «كذبت ثمود بالنذر - فقالوا أ بشرا منا واحدا نتبعه - إنا إذا لفي ضلال و سعر» قال: هذا فيما كذبوا صالحا، و ما أهلك الله عز و جل قوما قط حتى يبعث قبل ذلك الرسل فيحتجوا عليهم. فبعث الله إليهم صالحا فلم يجيبوه و عتوا عليه، و قالوا لن نؤمن لك حتى تخرج إلينا من هذه الصخرة ناقة عشراء و كانت الصخرة يعظمونها و يعبدونها و يذبحون عندها في رأس كل سنة و يجتمعون عندها، فقالوا: إن كنت كما تزعم نبيا رسولا فادع لنا إلهك حتى يخرج لنا من هذه الصخرة الصماء ناقة عشراء فأخرجها الله كما طلبوا منه. ثم أوحى الله تبارك و تعالى إليه أن يا صالح قل لهم: إن الله قد جعل لهذه الناقة لها شرب يوم و لكم شرب يوم فكانت الناقة إذا كان يومها شربت الماء ذلك اليوم فيحبسونها فلا يبقى صغير و كبير إلا شرب من لبنها يومهم ذلك فإذا كان الليل و أصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم و لم تشرب الناقة ذلك اليوم فمكثوا بذلك ما شاء الله. ثم إنهم عتوا على الله و مشى بعضهم إلى بعض قال: اعقروا هذه الناقة و استريحوا منها لا نرضى أن يكون لنا شرب يوم و لها شرب يوم. ثم قالوا: من الذي يلي قتلها و نجعل له جعلا ما أحب؟ فجاءهم رجل أحمر أشقر أزرق ولد زنا لا يعرف له أب يقال له: قدار شقي من الأشقياء مشئوم عليهم فجعلوا له جعلا. فلما توجهت الناقة إلى الماء الذي كانت ترده تركها حتى شربت و أقبلت راجعة فقعد لها في طريقها فضربها بالسيف ضربة فلم يعمل شيئا فضربها ضربة أخرى فقتلها و خرت على الأرض على جنبها، و هرب فصيلها حتى صعد إلى الجبل فرغا ثلاث مرات إلى السماء، و أقبل قوم صالح فلم يبق منهم أحد إلا شركه في ضربته، و اقتسموا لحمها فيما بينهم فلم يبق منهم صغير و لا كبير إلا أكل منها. فلما رأى ذلك صالح أقبل إليهم و قال: يا قوم ما دعاكم إلى ما صنعتم؟ أ عصيتم أمر ربكم؟ فأوحى الله تبارك و تعالى إلى صالح (عليه السلام): إن قومك قد طغوا و بغوا و قتلوا ناقة بعثها الله إليهم حجة عليهم و لم يكن لهم فيها ضرر و كان لهم أعظم المنفعة فقل لهم: إني مرسل إليهم عذابي إلى ثلاثة أيام فإن هم تابوا و رجعوا قبلت توبتهم و صددت عنهم، و إن هم لم يتوبوا و لم يرجعوا بعثت إليهم عذابي في اليوم الثالث. فأتاهم صالح و قال: يا قوم إني رسول ربكم إليكم و هو يقول لكم: إن تبتم و رجعتم و استغفرتم غفرت لكم و تبت عليكم، فلما قال لهم ذلك " قالوا ظ " كانوا أعتى ما قالوا و أخبث و قالوا: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال: يا قوم إنكم تصبحون غدا و وجوهكم مصفرة، و اليوم الثاني وجوهكم محمرة و اليوم الثالث وجوهكم مسودة فلما أن كان أول يوم أصبحوا وجوههم مصفرة فمشى بعضهم إلى بعض و قالوا: قد جاءكم ما قال صالح فقال العتاة منهم: لا نسمع قول صالح و لا نقبل قوله و إن كان عظيما. فلما كان اليوم الثاني أصبحت وجوههم محمرة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم قد جاءكم ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم لو أهلكنا جميعا ما سمعنا قول صالح و لا تركنا آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها و لم يتوبوا و لم يرجعوا فلما كان اليوم الثالث أصبحوا و وجوههم مسودة فمشى بعضهم إلى بعض فقالوا: يا قوم أتاكم ما قال لكم صالح فقال العتاة منهم: قد أتانا ما قال لنا صالح. فلما كان نصف الليل أتاهم جبرئيل فصرخ لهم صرخة خرقت تلك الصرخة أسماعهم و فلقت قلوبهم و صدعت أكبادهم و قد كانوا في تلك الثلاثة الأيام قد تحنطوا و تكفنوا و علموا أن العذاب نازل بهم فماتوا جميعا في طرفة عين: صغيرهم و كبيرهم فلم يبق لهم ناعقة و لا راعية و لا شيء إلا أهلكه الله فأصبحوا في ديارهم و مضاجعهم موتى فأرسل الله إليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقهم أجمعين، و كانت هذه قصتهم.
أقول: و اشتمال الحديث على أمور خارقة للعادة كشرب الناس جميعا من لبن الناقة و كذا تغير ألوان وجوههم يوما فيوما لا ضير فيه بعد ما كان أصل وجودها عن إعجاز، و قد نص القرآن الكريم بذلك، و بأنها كانت لها شرب يوم و لأهل المدينة كلهم شرب يوم معلوم.
و أما كون الصيحة من جبرئيل فلا ينافي كونها صاعقة سماوية نازلة عليهم إماتتهم بصوتها و أحرقتهم بنارها إذ لا مانع من نسبة حادث من الحوادث الكونية خارق للعادة أو جار عليها إلى ملك روحاني إذا كان هو في مجرى صدوره كما أن سائر الحوادث الكونية من الموت و الحياة و الرزق و غيرها منسوبة إلى الملائكة العمالة.
و قوله (عليه السلام): إنهم قد كانوا في الثلاثة الأيام قد تحنطوا و تكفنوا كأنه كناية عن تهيئهم للموت.
و قد وقع في بعض الروايات في وصف الناقة أنه كانت بين جنبيها مسافة ميل و هو مما يوهن الرواية لا لاستحالة وقوعه فإن ذلك ممكن الدفع من جهة أن كينونتها كانت عن إعجاز بل لأن اعتبار النسبة بين أعضائها حينئذ يوجب بلوغ ارتفاع سنامها مما يقرب من ثلاثة أميال و لا يتصور مع ذلك أن يتمكن واحد من الناس من قتله بسيفه و لم يقع ذلك عن إعجاز من عاقر الناقة قطعا، و مع ذلك لا يخلو قوله تعالى: «لها شرب يوم و لكم شرب يوم معلوم» من دلالة أو إشعار على كون جثتها عظيمة جدا.
كلام في قصة صالح في فصول
1 - ثمود قوم صالح (عليه السلام)
: ثمود قوم من العرب العاربة كانوا يسكنون وادي القرى بين المدينة و الشام، و هم من بشر ما قبل التاريخ لا يضبط التاريخ إلا شيئا يسيرا من أخبارهم، و لقد عفت الدهور آثارهم فلا اعتماد على ما يذكر من جزئيات قصصهم.
و الذي يقصه كتاب الله من أخبارهم أنهم كانوا أمة من العرب على ما يدل عليه اسم نبيهم و قد كان منهم هود: 61 نشئوا بعد قوم عاد و لهم حضارة و مدنية يعمرون الأرض و يتخذون من سهولها قصورا و ينحتون من الجبال بيوتا آمنين الأعراف: 74 و من شغلهم الفلاحة بإجراء العيون و إنشاء الجنات و النخيل و الحرث الشعراء: 148.
كانت ثمود تعيش على سنة الشعوب و القبائل يحكم فيهم سادتهم و شيوخهم و قد كانت في المدينة التي بعث فيها صالح تسعة رهط يفسدون في الأرض و لا يصلحون النمل: 48 فطغوا في الأرض و عبدوا الأصنام و أفرطوا عتوا و ظلما.
2 - بعثة صالح (عليه السلام)
: لما نسيت ثمود ربها و أسرفوا في أمرهم أرسل الله إليهم صالحا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كان من بيت الشرف و الفخار معروفا بالعقل و الكفاية هود 62 - النمل 49 فدعاهم إلى توحيد الله سبحانه و أن يتركوا عبادة الأصنام و أن يسيروا في مجتمعهم بالعدل و الإحسان، و لا يعلوا في الأرض و لا يسرفوا و لا يطغوا و أنذرهم بالعذاب» هود - الشعراء - الشمس و غيرها.
فقام (عليه السلام) بالدعوة إلى دين الله بالحكمة و الموعظة الحسنة و صبر على الأذى في جنب الله فلم يؤمن به إلا جماعة قليلة من ضعفائهم الأعراف: 75 و أما الطغاة المستكبرون و عامة من تبعهم فأصروا على كفرهم و استذلوا الذين آمنوا به و رموه بالسفاهة و السحر الأعراف 66 - الشعراء 153 - النمل 47.
و طلبوا منه البينة على مقاله، و سألوه آية معجزة تدل على صدقه في دعوى الرسالة، و اقترحوا له أن يخرج لهم من صخر الجبل ناقة فأتاهم بناقة على ما وصفوها به، و قال لهم: إن الله يأمركم أن تشربوا من عين مائكم يوما و تكفوا عنها يوما فتشربها الناقة فلها شرب يوم و لكم شرب يوم معلوم، و أن تذروها تأكل في أرض الله كيف شاءت و لا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب الأعراف 72 - هود 64 - الشعراء 156.
و كان الأمر على ذلك حينا ثم إنهم طغوا و مكروا و بعثوا أشقاهم لقتل الناقة فعقرها، و قالوا لصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.
قال صالح (عليه السلام): تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب: هود - 65.
ثم مكرت شعوب المدينة و أرهاطها بصالح و تقاسموا بينهم لنبيتنه و أهله ثم نقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله و إنا لصادقون، و مكروا مكرا و مكر الله مكرا و هم لا يشعرون النمل 50 فأخذتهم الصاعقة و هم ينظرون: الذاريات - 44 و الرجفة و الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم و قال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي و نصحت لكم و لكن لا تحبون الناصحين الأعراف 79 - هود 67 و أنجى الله الذين آمنوا و كانوا يتقون حم السجدة 18 و نادى بعدهم المنادي الإلهي: ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود.
3 - شخصية صالح (عليه السلام)
: لم يرد لهذا النبي الصالح في التوراة الحاضرة ذكر.
كان (عليه السلام) من قوم ثمود ثالث الأنبياء المذكورين في القرآن بالقيام بأمر الله و النهضة للتوحيد على الوثنية يذكره الله تعالى بعد نوح و هود، و يحمده و يثني عليه بما أثنى به على أنبيائه و رسله، و قد اختاره و فضله كسائرهم على العالمين (عليهم السلام).
|