بيان
تذكر الآيات قصة شعيب (عليه السلام) و قومه و هم أهل مدين، و كانوا يعبدون الأصنام، و كان قد شاع التطفيف في الكيل و الوزن عندهم و اشتد الفساد فيهم فأرسل الله سبحانه شعيبا (عليه السلام) إليهم فدعاهم إلى التوحيد و توفية الميزان و المكيال بالقسط و ترك الفساد في الأرض، و بشرهم و أنذرهم و بالغ في عظتهم و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: كان شعيب خطيب الأنبياء.
فلم يجبه القوم إلا بالرد و العصيان، هددوه بالرجم و الطرد من بينهم و بالغوا في إيذائه و إيذاء شرذمة من الناس آمنوا به و صدهم عن سبيل الله و داموا على ذلك حتى سأل الله أن يقضي بينه و بينهم فأهلكهم الله تعالى.
قوله تعالى: «و إلى مدين أخاهم شعيبا» إلى آخر الآية عطف على ما تقدمه من قصص الأنبياء و أممهم، و مدين اسم مدينة كان يسكنها قوم شعيب ففي نسبة إرسال شعيب إلى مدين و كان مرسلا إلى أهله نوع من المجاز في الإسناد كقولنا: جرى الميزاب، و في عد شعيب (عليه السلام) أخا لهم دلالة على أنه كان ينتسب إليهم.
و قوله: «قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره» تقدم تفسيره في نظائره.
و قوله: «و لا تنقصوا المكيال و الميزان» المكيال و الميزان اسما آلة بمعنى ما يكال به و ما يوزن به، و لا يوصفان بالنقص و إنما يوصف بالنقص كالزيادة و المساواة المكيل و الموزون فنسبة النقص إلى المكيال و الميزان من المجاز العقلي.
و في تخصيص نقص المكيال و الميزان من بين معاصيهم بالذكر دلالة على شيوعه بينهم و إقبالهم عليه و إفراطهم فيه بحيث ظهر فساده و بان سيىء أثره فأوجب ذلك شدة اهتمام به من داعي الحق فدعاهم إلى تركه بتخصيصه بالذكر من بين المعاصي.
و قوله: «إني أراكم بخير» أي أشاهدكم في خير، و هو ما أنعم الله تعالى عليكم من المال و سعة الرزق و الرخص و الخصب فلا حاجة لكم إلى نقص المكيال و الميزان، و اختلاس اليسير من أشياء الناس طمعا في ذلك من غير سبيله المشروع و ظلما و عتوا، و على هذا فقوله: «إني أراكم بخير» تعليل لقوله: «و لا تنقصوا المكيال و الميزان».
و يمكن تعميم الخير بأن يراد به أنكم مشمولون لعناية الله معنيون بنعمه آتاكم عقلا و رشدا و رزقكم رزقا فلا مسوغ لأن تعبدوا الآلهة من دونه و تشركوا به غيره، و أن تفسدوا في الأرض بنقص المكيال و الميزان، و على هذا يكون تعليلا لما تقدمه من الجملتين أعني قوله: «اعبدوا الله» إلخ، و قوله: «و لا تنقصوا» إلخ، كما أن قوله: «و إني أخاف عليكم عذاب يوم محيط» كذلك.
فمحصل قوله: «إني أراكم» إلى آخر الآية أن هناك رادعين يجب أن يردعاكم عن معصية الله: أحدهما: أنكم في خير و لا حاجة لكم إلى بخس أموال الناس من غير سبيل حلها.
و ثانيهما: أن وراء مخالفة أمر الله يوما محيطا يخاف عذابه.
و ليس من البعيد أن يراد بقوله: «إني أراكم بخير» إني أراكم برؤية خير أي أنظر إليكم نظر الناصح المشفق الذي لا يصاحب نظره إلا الخير و لا يريد بكم غير السعادة، و على هذا يكون قوله: «و إني أخاف عليكم عذاب يوم محيط» كعطف التفسير بالنسبة إليه.
و قوله: «و إني أخاف عليكم عذاب يوم محيط» يشير به إلى يوم القيامة أو يوم نزول عذاب الاستئصال و معنى كون اليوم - و هو يوم القضاء بالعذاب - محيطا أنه لا مخرج منه و لا مفر و لا ملاذ من دون الله فلا يدفع فيه ناصر و لا معين، و لا ينفع فيه توبة و لا شفاعة، و يئول معنى الإحاطة إلى كون العذاب قطعيا لا مناص منه و معنى الآية أن للكفر و الفسوق عذابا غير مردود أخاف أن يصيبكم ذلك.
قوله تعالى: «و يا قوم أوفوا المكيال و الميزان و لا تبخسوا الناس أشياءهم» إلخ، الإيفاء إعطاء الحق بتمامه و البخس النقص كرر القول في المكيال و الميزان بالأخذ بالتفصيل بعد الإجمال مبالغة في الاهتمام بأمر لا غنى لمجتمعهم عنه، و ذلك أنه دعاهم أولا إلى الصلاح بالنهي عن نقص المكيال و الميزان، و عاد ثانيا فأمر بإيفاء المكيال و الميزان و نهى عن بخس الناس أشياءهم إشارة إلى أن مجرد التحرز عن نقص المكيال و الميزان لا يكفي في إعطاء هذا الأمر حقه - و إنما نهى عنه أولا لتكون معرفة إجمالية هي كالمقدمة لمعرفة التكليف تفصيلا - بل يجب أن يوفي الكائل و الوازن مكياله و ميزانه و يعطياهما حقهما و لا يبخسا و لا ينقصا الأشياء المنسوبة إلى الناس بالمعاملة حتى يعلما أنهما أديا إلى الناس أشياءهم و ردا إليهم مالهم على ما هو عليه.
و قوله: «و لا تعثوا في الأرض مفسدين» قال الراغب: العيث و العثي يتقاربان نحو جذب و جبذ إلا أن العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حسا و العثي فيما يدرك حكما يقال: عثي يعثى عثيا، و على هذا «و لا تعثوا في الأرض مفسدين» و عثا يعثو عثوا.
انتهى.
و على هذا فقوله: «مفسدين» حال من ضمير «لا تعثوا» لإفادة التأكيد نظير ما يفيده قولنا: لا تفسدوا إفسادا.
و الجملة أعني قوله: «و لا تعثوا في الأرض مفسدين» نهي مستأنف عن الفساد في الأرض من قتل أو جرح أو أي ظلم مالي أو جاهي أو عرضي لكن لا يبعد أن يستفاد من السياق كون الجملة عطفا تفسيريا للنهي السابق فيكون نهيا تأكيديا عن التطفيف و نقص المكيال و الميزان لأنه من الفساد في الأرض.
بيان ذلك: أن الاجتماع المدني الدائر بين أفراد النوع الإنساني مبني على المبادلة حقيقة فما من مواصلة و مرابطة بين فردين من أفراد النوع إلا و فيه إعطاء و أخذ فلا يزال المجتمعون يتعاونون في شئون حياتهم يفيد فيه الواحد غيره ليستفيد منه ما يماثله أو يزيد عليه و يدفع إليه نفعا ليجذب منه إلى نفسه نفعا و هو المعاملة و المبادلة.
و من أظهر مصاديق هذه المبادلة المعاملات المالية و خاصة في الأمتعة التي لها حجم أو وزن مما يكتال أو يوزن فإن ذلك من أقدم ما تنبه الإنسان لوجوب إجراء سنة المبادلة فيه.
فالمعاملات المالية و خاصة البيع و الشرى من أركان حياة الإنسان الاجتماعية يقدر الواحد منهم ما يحتاج إليه في حياته الضرورية بالكيل أو الوزن، و ما يجب عليه أن يبذله في حذائه من الثمن ثم يسير في حياته بانيا لها على هذا التقدير و التدبير.
فإذا خانه معامله و نقص المكيال و الميزان من حيث لا يشعر هو فقد أفسد تدبيره و أبطل تقديره، و اختل بذلك نظام معيشته من الجهتين معا من جهة ما يقتنيه من لوازم الحياة بالاشتراء و من جهة ما يبذله من الثمن الزائد الذي يتعب نفسه في تحصيله بالاكتساب فيسلب إصابة النظر و حسن التدبير في حياته و يتخبط في مسيرها خبط العشواء و هو الفساد.
و إذا شاع ذلك في مجتمع فقد شاع الفساد فيما بينهم و لم يلبثوا دون أن يسلبوا الوثوق و الاطمئنان و اعتماد بعضهم على بعض و يرتحل بذلك الأمن العام من بينهم و هو النكبة الشاملة التي تحيط بالصالح و الطالح و المطفف و الذي يوفي المكيال و الميزان على حد سواء، و عاد بذلك اجتماعهم اجتماعا على المكر و إفساد الحياة لا اجتماعا على التعاون لسعادتها، قال تعالى: «و أوفوا الكيل إذا كلتم و زنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير و أحسن تأويلا:» إسراء: - 35.
قوله تعالى: «بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين و ما أنا عليكم بحفيظ» البقية بمعنى الباقي و المراد به الربح الحاصل للبائع و هو الذي يبقى له بعد تمام المعاملة فيضعه في سبيل حوائجه، و ذلك أن المبادلة و إن لم يوضع بالقصد الأول على أساس الاسترباح، و إنما كان الواحد منهم يقتني شيئا من متاع الحياة، فإذا كان يزيد على ما يحتاج إليه بدل الزائد المستغنى عنه من متاع آخر يحتاج إليه و لا يملكه ثم أخذت نفس التجارة و تبديل الأمتعة من الأثمان حرفة يكتسب بها المال و يقتني بها الثروة فأخذ الواحد منهم متاعا من نوع واحد أو أنواع شتى و عرضه على أرباب الحاجة للمبادلة، و أضاف إلى رأس ماله فيه شيئا من الربح بإزاء عمله في الجمع و العرض و رضي بذلك الناس المشترون لما فيه من تسهيل أمر المبادلة عليهم فللتاجر في تجارته ربح مشروع يرتضيه المجتمع بحسب فطرتهم يقوم معيشته و يحول إليه ثروة يقتنيها و يقيم بها صلب حياته.
فالمراد أن الربح الذي هو بقية إلهية هداكم الله إليه من طريق فطرتكم هو خير لكم من المال الذي تقتنونه من طريق التطفيف و نقص المكيال و الميزان إن كنتم مؤمنين فإن المؤمن إنما ينتفع من المال بالمشروع الذي ساقه الله إليه من طريق حله، و أما غير ذلك مما لا يرتضيه الله و لا يرتضيه الناس بحسب فطرتهم فلا خير له فيه و لا حاجة له إليه.
و قيل: إن الاشتراط بالإيمان في قوله: «إن كنتم مؤمنين» للدلالة على اشتراط الإيمان للعلم بذلك لا لأصله و المعنى إن كنتم مؤمنين علمتم صحة قولي: إن بقية الله خير لكم.
و قيل معنى الآية ثواب طاعة الله - بكون البقية بمعنى ثواب الطاعة الباقي - خير لكم إن كنتم مؤمنين.
و قيل غير ذلك.
و قوله: «و ما أنا عليكم بحفيظ» أي و ما يرجع إلى قدرتي شيء مما عندكم من نفس أو عمل أو طاعة أو رزق و نعمة فإنما أنا رسول ليس عليه إلا البلاغ، لكم أن تختاروا ما فيه رشدكم و خيركم أو تسقطوا في مهبط الهلكة من غير أن أقدر على جلب خير إليكم أو دفع شر منكم فهو كقوله تعالى: «فمن أبصر فلنفسه و من عمي فعليها و ما أنا عليكم بحفيظ:» الأنعام: - 104.
قوله تعالى: «قالوا يا شعيب أ صلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا» إلى آخر الآية، رد منهم لحجة شعيب عليه، و هو من ألطف التركيب، و مغزى مرادهم أنا في حرية فيما نختاره لأنفسنا من دين أو نتصرف به في أموالنا من وجوه التصرف و لست تملكنا حتى تأمرنا بكل ما أحببت أو تنهانا عن كل ما كرهت فإن ساءك شيء مما تشاهد منا بما تصلي و تتقرب إلى ربك و أردت أن تأمر و تنهى فلا تتعد نفسك لأنك لا تملك إلا إياها.
و قد أدوا مرادهم هذا في صورة بديعة مشوبة بالتهكم و اللوم معا و مسبوكة في قالب الاستفهام الإنكاري و هو أن الذي تريده منا من ترك عبادة الأصنام، و ترك ما شئنا من التصرف في أموالنا هو الذي بعثتك إليه صلاتك و شوهته في عينك فأمرتك به لما أنها ملكتك لكنك أردت منا ما أرادته منك صلاتك و لست تملكنا أنت و لا صلاتك لأننا أحرار في شعورنا و إرادتنا لنا أن نختار أي دين شئنا و نتصرف في أموالنا أي تصرف أردنا من غير حجر و لا منع و لم ننتحل إلا ديننا الذي هو دين آبائنا و لم نتصرف إلا في أموالنا و لا حجر على ذي مال في ماله.
فما معنى أن تأمرك إياك صلاتك بشيء و نكون نحن الممتثلون لما أمرتك به؟ و بعبارة أخرى ما معنى أن تأمرك صلاتك بفعلنا القائم بنا دونك؟ فهل هذا إلا سفها من الرأي؟ و إنك لأنت الحليم الرشيد و الحليم لا يعجل في زجر من يراه مسيئا و انتقام من يراه مجرما حتى ينجلي له وجه الصواب، و الرشيد لا يقدم على أمر فيه غي و ضلال فكيف أقدمت على مثل هذا الأمر السفهي الذي لا صورة له إلا الجهالة و الغي؟ و قد ظهر بهذا البيان أولا: أنهم إنما نسبوا الأمر إلى الصلاة لما فيها من البعث و الدعوة إلى معارضة القوم في عبادتهم الأصنام و نقصهم المكيال و الميزان، و هذا هو السر في تعبيرهم عن ذلك بقولهم: «أ صلاتك تأمرك أن نترك» إلخ، دون أن يقولوا: أ صلاتك تنهاك أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ مع أن التعبير عن المنع بالنهي عن الفعل أقرب إلى الطبع من التعبير بالأمر بالترك و لذلك عبر عنه شعيب بالنهي في جوابه عن قولهم إذ قال: «و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه» و لم يقل إلى ما آمركم بتركه.
و المراد - على أي حال - منعه إياهم عن عبادة الأصنام و التطفيف فافهم ذلك فإنه من لطائف هذه الآية التي ملئت لطافة و حسنا.
و ثانيا: أنهم إنما قالوا: «أن نترك ما يعبد آباؤنا» دون أن يقولوا: أن نترك آلهتنا أو أن نترك الأوثان ليشيروا بذلك إلى الحجة في ذلك و هي أن هذه الأصنام دام على عبادتها آباؤنا فهي سنة قومية لنا، و لا ضير في الجري على سنة قومية ورثها الخلف من السلف، و نشأ عليها الجيل بعد الجيل فإنا نعبد آلهتنا و ندوم على ديننا و هو دين آبائنا و نحفظ رسما مليا عن الضيعة.
و ثالثا: أنهم إنما قالوا: «أن نفعل في أموالنا» فذكروا الأموال مضافة إلى أنفسهم ليكون في ذلك إيماء إلى الحجة فإن الشيء إذا صار مالا لأحد لم يشك ذو ريب في أن له أن يتصرف فيه و ليس لغيره ممن يعترف بماليته له أن يعارضه في ذلك، و للمرء أن يسير في مسير الحياة و يتدبر في أمر المعيشة بما يستطيعه من الحذق و الاحتيال، و يهديه إليه الذكاء و الكياسة.
و رابعا: أن قولهم: «أ صلاتك تأمرك - إلى قوله - إنك لأنت الحليم الرشيد» مبني على التهكم و الاستهزاء إلا أن التهكم في تعليقهم أمر الصلاة شعيبا على تركهم ما يعبد آباؤهم، و كذا في نسبة الأمر إلى الصلاة لا غير، و أما نسبة الحلم و الرشد إليه فليس فيها تهكم و استهزاء، و لذلك أكد قوله: «إنك لأنت الحليم الرشيد» بإن و اللام و إتيان الخبر جملة اسمية ليكون أقوى في إثبات الحلم و الرشد له فيصير أبلغ في ملامته و الإنكار عليه، و أن الذي لا شك في حلمه و رشده قبيح عليه أن يقدم على مثل هذا الأمر السفهي، و ينتهض على سلب حرية الناس و استقلالهم في الشعور و الإرادة.
و ظهر بذلك أن ما ذكره كثير منهم أنهم وصفوه بالحلم و الرشد على سبيل الاستهزاء يعنون به أنه موصوف بضدهما و هو الجهالة و الغي.
ليس بصواب.
قوله تعالى: «قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة من ربي و رزقني منه رزقا حسنا» إلى آخر الآية، المراد بكونه على بينة من ربه كونه على آية بينة و هي آية النبوة و المعجزة الدالة على صدق النبي في دعوى النبوة، و المراد بكونه رزق من الله رزقا حسنا أن الله آتاه من لدنه وحي النبوة المشتمل على أصول المعارف و الشرائع، و قد مر توضيح نظير هاتين الكلمتين فيما تقدم.
و المعنى: أخبروني إن كنت رسولا من الله إليكم و خصني بوحي المعارف و الشرائع و أيدني بآية بينة يدل على صدق دعواي فهل أنا سفيه في رأيي؟ و هل ما أدعوكم إليه دعوة سفهية؟ و هل في ذلك تحكم مني عليكم أو سلب مني لحريتكم؟ فإنما هو الله المالك لكل شيء و لستم بأحرار بالنسبة إليه بل أنتم عباده يأمركم بما شاء، و له الحكم و إليه ترجعون.
و قوله: «و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه» تعدية المخالفة بإلى لتضمينه معنى ما يتعدى بها كالميل و نحوه؟ و التقدير: أخالفكم مائلا إلى ما أنهاكم عنه أو أميل إلى ما أنهاكم عنه مخالفا لكم.
و الجملة جواب عن ما اتهموه به أنه يريد أن يسلب عنهم الحرية في أعمالهم و يستعبدهم و يتحكم عليهم، و محصله أنه لو كان مريدا ذلك لخالفهم فيما ينهاهم عنه، و هو لا يريد مخالفتهم فلا يريد ما اتهموه به و إنما يريد الإصلاح ما استطاع.
توضيحه: أن الصنع الإلهي و إن أنشأ الإنسان مختارا في فعله حرا في عمله له أن يميل في مظان العمل إلى كل من جانبي الفعل و الترك فله بحسب هذه النشأة حرية تامة بالقياس إلى بني نوعه الذين هم أمثاله و أشباهه في الخلقة لهم ما له و عليهم ما عليه فليس لأحد أن يتحكم على آخر عن هوى من نفسه.
إلا أنه أفطره على الاجتماع فلا تتم له الحياة إلا في مجتمع من أفراد النوع يتعاون فيه الجميع على رفع حوائج الجميع ثم يختص كل منهم بما له من نصيب بمقدار ما له من الزنة الاجتماعية، و من البديهي أن الاجتماع لا يقوم على ساق إلا بسنن و قوانين تجري فيها، و حكومة يتولاها بعضهم تحفظ النظم و تجري القوانين كل ذلك على حسب ما يدعو إليه مصالح المجتمع.
فلا مناص من أن يفدي المجتمعون بعض حريتهم قبال القانون و السنة الجارية بالحرمان من الانطلاق و الاسترسال ليسعدوا لذلك بنيل بعض مشتهياتهم و إحياء البعض الباقي من حريتهم.
فالإنسان الاجتماعي لا حرية له قبال المسائل الحيوية التي تدعو إليه مصالح المجتمع و منافعه، و الذي يتحكمه الحكومة في ذلك من الأمر و النهي ليس من الاستعباد و الاستكبار في شيء إذ إنها إنما يتحكم فيما لا حرية للإنسان الاجتماعي فيه، و كذا الواحد من الناس المجتمعين إذا رأى من أعمال إخوانه المجتمعين ما يضر بحال المجتمع أو لا ينفع لإبطاله ركنا من أركان المصالح الأساسية فيها فبعثه ذلك إلى وعظهم بما يرشدهم إلى اتباع سبيل الرشد فأمرهم بما يجب عليهم العمل به و نهاهم عن اقتراف ما يجب عليهم الانتهاء عنه لم يكن هذا الواحد متحكما عن هوى النفس مستعبدا للأحرار المجتمعين من بني نوعه فإنه لا حرية لهم قبال المصالح العالية و الأحكام اللازمة المراعاة في مجتمعهم، و ليس ما يلقيه إليهم من الأمر و النهي في هذا الباب أمرا أو نهيا له في الحقيقة بل كان أمرا و نهيا ناشئين عن دعوة المصالح المذكورة قائمين بالمجتمع من حيث هو مجتمع بشخصيته الوسيعة، و إنما الواحد الذي يلقي إليهم الأمر و النهي بمنزلة لسان ناطق لا يزيد على ذلك.
و أمارة ذلك أن يأتمر هو نفسه بما يأمر به و ينتهي هو نفسه عما ينهى عنه من غير أن يخالف قوله فعله و نظره عمله، إذ الإنسان مطبوع على التحفظ على منافعه و رعاية مصالحه فلو كان فيما يدعو إليه غيره من العمل خير و هو مشترك بينهما لم يخالفه بشخصه، و لم يترك لنفسه ما يستحسنه لغيره، و لذلك قال (عليه السلام) فيما ألقاه إليهم من الجواب: «و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه» و قال أيضا كما حكاه الله تتميما للفائدة و دفعا لأي تهمة تتوجه إليه: «و ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين:» الشعراء: - 180.
فهو (عليه السلام) يشير بقوله: «و ما أريد أن أخالفكم» إلخ، إلى أن الذي ينهاهم عنه من الأمور التي فيها صلاح مجتمعهم الذي هو أحد أفراده، و يجب على الجميع مراعاتها و ملازمتها، و ليس اقتراحا استعباديا عن هوى من نفسه، و لذلك عقبه بقوله: «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت».
و ملخص المقام أنهم لما سمعوا من شعيب (عليه السلام) الدعوة إلى ترك عبادة الأصنام و التطفيف ردوه بأن ذلك اقتراح منه مخالف لما هم عليه من الحرية الإنسانية التي تسوغ لهم أن يعبدوا من شاءوا و يفعلوا في أموالهم ما شاءوا.
فرد عليهم شعيب (عليه السلام) بأن الذي يدعوهم إليه ليس من قبل نفسه حتى ينافي مسألتهم ذلك حريتهم و يبطل به استقلالهم في الشعور و الإرادة بل هو رسول من ربهم إليهم و له على ذلك آية بينة، و الذي أتاهم به من عند الله الذي يملكهم و يملك كل شيء و هم عباده لا حرية لهم قباله، و لا خيرة لهم فيما يريده منهم.
على أن الذي ألقاه إليهم من الأمور التي فيها صلاح مجتمعهم و سعادة أنفسهم في الدنيا و الآخرة، و أمارة ذلك أنه لا يريد أن يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه بل هو مثلهم في العمل به، و إنما يريد الإصلاح ما استطاع، و لا يريد منهم على ذلك أجرا إن أجره إلا على رب العالمين.
و قوله: «و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب» في مقام الاستثناء من الاستطاعة فإنه (عليه السلام) لما ذكر لهم أنه يريد إصلاح مجتمعهم بالعلم النافع و العمل الصالح على مقدار ما له من الاستطاعة و في ضوئها أثبت لنفسه استطاعة و قدرة و ليست للعبد باستقلاله و حيال نفسه استطاعة دون الله سبحانه أتم ما في كلامه من النقص و القصور بقوله: «و ما توفيقي إلا بالله» أي إن الذي يترشح من إرادتي باستطاعة مني من تدبير أمور مجتمعكم و توفيق الأسباب بعضها ببعض الناتجة لسعادته إنما هو بالله سبحانه لا غنى عنه و لا مخرج من إحاطته و لا استقلال في أمر دونه فهو الذي أعطاني ما هو عندي من الاستطاعة، و هو الذي يوفق الأسباب من طريق استطاعتي فاستطاعتي منه و توفيقي به.
بين (عليه السلام) هذه الحقيقة، و اعترف بأن توفيقه بالله، و ذلك من فروع كونه تعالى هو الفاطر لكل نفس و الحافظ عليها و القائم على كل نفس بما كسبت كما قال: «الحمد لله فاطر السماوات و الأرض:» الفاطر: - 1، و قال: «و ربك على كل شيء حفيظ:» السبأ: - 21، و قال: «أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت:» الرعد: - 33، و قال: «إن الله يمسك السماوات و الأرض أن تزولا:» الفاطر: - 41 و محصله أنه تعالى هو الذي أبدع الأشياء و أعمالها و الروابط التي بينها و أظهرها بالوجود، و هو الذي قبض على كل شيء فأمسكه و أمسك آثاره و الروابط التي بينها أن تزول و تغيب وراء ستر البطلان.
و لازم ذلك أنه تعالى وكيل كل شيء في تدبير أموره فهي منسوبة إليه تعالى في تحققها و تحقق الروابط التي بينها لما أنه محيط بها قاهر عليها و لها مع ذلك نسبة إلى ذلك الشيء بإذنه تعالى.
و من الواجب للعبد العالم بمقام ربه العارف بهذه الحقيقة أن يمثلها بإنشاء التوكل على ربه و الإنابة و الرجوع إليه، و لذلك لما ذكر شعيب (عليه السلام) أن توفيقه بالله عقبه بإنشاء التوكل و الإنابة فقال: «عليه توكلت و إليه أنيب».
كلام في معنى حرية الإنسان في عمله
الإنسان بحسب الخلقة موجود ذو شعور و إرادة له أن يختار لنفسه ما يشاء من الفعل و بعبارة أخرى له في كل فعل يقف عليه أن يختار جانب الفعل و له أن يختار جانب الترك فكل فعل من الأفعال الممكنة الإتيان إذا عرض عليه كان هو بحسب الطبع واقفا بالنسبة إليه على نقطة يلتقي فيها طريقان: الفعل و الترك فهو مضطر في التلبس و الاتصاف بأصل الاختيار لكنه مختار في الأفعال المنتسبة إليه الصادرة عنه باختياره أي إنه مطلق العنان بالنسبة إلى الفعل و الترك بحسب الفطرة غير مقيد بشيء من الجانبين و لا مغلول، و هو المراد بحرية الإنسان تكوينا.
و لازم هذه الحرية التكوينية حرية أخرى تشريعية يتقلد بها في حياته الاجتماعية و هو أن له أن يختار لنفسه ما شاء من طرق الحياة و يعمل بما شاء من العمل، و ليس لأحد من بني نوعه أن يستعلي عليه فيستعبده و يتملك إرادته و عمله فيحمل بهوى نفسه عليه ما يكرهه فإن أفراد النوع أمثال لكل منهم ما لغيره من الطبيعة الحرة، قال تعالى: «و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله:» آل عمران: - 64 و قال: «و ما كان لبشر - إلى أن قال - ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله:» آل عمران: - 79.
هذا ما للإنسان بالقياس إلى أمثاله من بني نوعه، و إما بالقياس إلى العلل و الأسباب الكونية التي أوجدت الطبيعة الإنسانية فلا حرية له قبالها فإنها تملكه و تحيط به من جميع الجهات و تقلبه ظهرا لبطن، و هي التي بإنشائها و نفوذ أمرها فعلت بالإنسان ما فعلت فأظهرته على ما هو عليه من البنيان و الخواص من غير أن يكون له الخيرة من أمره فيقبل ما يحبه و يرد ما يكرهه بل كان كما أريد لا كما أراد حتى إن أعمال الإنسان الاختيارية و هي ميدان الحرية الإنسانية إنما تطيع الإنسان فيما أذنت فيه هذه العلل و الأسباب فليس كل ما أحبه الإنسان و أراده بواقع و لا هو في كل ما اختاره لنفسه بموفق له، و هو ظاهر.
و هذه العلل و الأسباب هي التي جهزت الإنسان بجهازات تذكره حوائجه و نواقص وجوده، و تبعثه إلى أعمال فيها سعادته و ارتفاع نواقصه و حوائجه كالغاذية مثلا التي تذكره الجوع و العطش و تهديه إلى الخبز و الماء لتحصيل الشبع و الري و هكذا سائر الجهازات التي في وجوده.
ثم إن هذه العلل و الأسباب أوجبت إيجابا تشريعيا على الإنسان الفرد أمورا ذات مصالح واقعية لا يسعه إنكارها و لا الاستنكاف بالاستغناء عنها كالأكل و الشرب و الإيواء و الاتقاء من الحر و البرد و الدفاع تجاه كل ما يضاد منافع وجوده.
ثم أفطرته بالحياة الاجتماعية فأذعن بوجوب تأسيس المجتمع المنزلي و المدني و السير في مسير التعاون و التعامل، و يضطره ذلك إلى الحرمان عن موهبة الحرية من جهتين: إحداهما أن الاجتماع لا يتم من الفرد إلا بإعطائه الأفراد المتعاونين له حقوقا متقابلة محترمة عنده ليعطوه بإزائها حقوقا يحترمونها و ذلك بأن يعمل للناس كما يعملون له، و ينفعهم بمقدار ما ينتفع بهم، و يحرم عن الانطلاق و الاسترسال في العمل على حسب ما يحرمهم فليس له أن يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد بل هو حر فيما لا يزاحم حرية الآخرين، و هذا حرمان عن بعض الحرية للحصول على بعضها.
و ثانيتهما: أن المجتمع لا يقوم له صلب دون أن يجري فيه سنن و قوانين يتسلمها الأفراد المجتمعون أو أكثرهم تضمن تلك السنن و القوانين منافعهم العامة بحسب ما للاجتماع من الحياة الراقية أو المنحطة الردية، و يستحفظ بها مصالحهم العالية الاجتماعية.
و من المعلوم أن احترام السنن و القوانين يسلب الحرية عن المجتمعين في مواردها فالذي يستن سنة أو يقنن قانونا سواء كان هو عامة المجتمعين أو المندوبين منهم أو السلطان أو كان هو الله و رسوله - على حسب اختلاف السنن و القوانين - يحرم الناس بعض حريتهم ليحفظ به البعض الآخر منها، قال الله تعالى: «و ربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة:» القصص: - 68، و قال تعالى: «و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم و من يعص الله و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا:» الأحزاب: - 36.
فتلخص أن الإنسان إنما هو حر بالقياس إلى أبناء نوعه فيما يقترحونه لهوى من أنفسهم، و أما بالنسبة إلى ما تقتضيه مصالحه الملزمة و خاصة المصالح الاجتماعية العامة على ما تهديه إليها و إلى مقتضياتها العلل و الأسباب فلا حرية له البتة، و لا أن الدعوة إلى سنة أو أي عمل يوافق المصالح الإنسانية من ناحية القانون أو من بيده إجراؤه أو الناصح المتبرع الذي يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر متمسكا بحجة بينة، من التحكم الباطل و سلب الحرية المشروعة في شيء.
ثم إن العلل و الأسباب المذكورة و ما تهدي إليه من المصالح مصاديق لإرادة الله سبحانه أو إذنه - على ما يهدي إليه و يبينه تعليم التوحيد في الإسلام - فهو سبحانه المالك على الإطلاق، و ليس لغيره إلا المملوكية من كل جهة، و لا للإنسان إلا العبودية محضا فمالكيته المطلقة تسلب أي حرية متوهمة للإنسان بالنسبة إلى ربه كما أنها هي تعطيه الحرية بالقياس إلى سائر بني نوعه كما قال تعالى: «ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله:» آل عمران: - 64.
فهو سبحانه الحاكم على الإطلاق و المطاع من غير قيد و شرط كما قال: «إن الحكم إلا لله» و قد أعطى حق الأمر و النهي و الطاعة لرسله و لأولي الأمر و للمؤمنين من الأمة الإسلامية فلا حرية لأحد قبال كلمة الحق التي يأتون به و يدعون إليه، قال تعالى: «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم:» النساء: - 59، و قال تعالى: «و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر:» التوبة: - 71.
قوله تعالى: «و يا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح» الجرم بالفتح فالسكون - على ما ذكره الراغب - قطع الثمرة عن الشجر و قد استعير لكل اكتساب مكروه، و الشقاق المخالفة و المعاداة.
و المعنى: احذروا أن يكتسب لكم مخالفتي و معاداتي بسبب ما أدعوكم إليه أصابه مصيبة مثل مصيبة قوم نوح و هي الغرق أو قوم هود و هي الريح العقيم أو قوم صالح و هي الصيحة و الرجفة.
و قوله: «و ما قوم لوط منكم ببعيد» أي لا فصل كثيرا بين زمانهم و زمانكم و قد كانت الفاصلة الزمانية بين القومين أقل من ثلاثة قرون، و قد كان لوط معاصرا لإبراهيم (عليه السلام) و شعيب معاصرا لموسى (عليه السلام).
و قيل: المراد به نفي البعد المكاني، و الإشارة إلى أن بلادهم الخربة قريبة منكم لقرب مدين من سدوم و هو بالأرض المقدسة، فالمعنى: و ما مكان قوم لوط منكم ببعيد تشاهدون مدائنهم المخسوفة و آثارهم الباقية الظاهرة.
و السياق لا يساعد عليه و التقدير خلاف الأصل لا يصار إليه إلا بدليل.
قوله تعالى: «و استغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود» قد تقدم الكلام في معنى قوله: «و استغفروا ربكم ثم توبوا إليه» أي استغفروا الله من ذنوبكم و ارجعوا إليه بالإيمان به و برسوله إن الله ذو رحمة و مودة يرحم المستغفرين التائبين و يحبهم.
و قد قال أولا: «استغفروا ربكم فأضاف الرب إليهم ثم قال في مقام تعليله: «إن ربي رحيم ودود» و لعل الوجه فيه أنه ذكر في مرحلة الأمر بالاستغفار و التوبة من الله سبحانه صفة ربوبيته لأنها الصفة التي ترتبط بها العبادة و منها الاستغفار و التوبة، و أضاف ربوبيته إليهم بقوله: «ربكم» لتأكيد الارتباط و للإشعار بأنه هو ربهم لا ما يتخذونها من الأرباب من دون الله.
و كان من حق الكلام أن يقول في تعليله: إن ربكم رحيم ودود لكنه لما كان مع كونه تعليلا ثناء على الله سبحانه، و قد أثبت سابقا أنه رب القوم إضافة ثانيا إلى نفسه ليفيد الكلام بمجموعه معنى أن ربكم و ربي رحيم ودود.
على أن في هذه الإضافة معنى المعرفة و الخبرة فتفيد تأييدا لصحة القول فإنه في معنى أنه تعالى رحيم ودود و كيف لا؟ و هو ربي أعرفه بهذين الوصفين.
و الودود من أسماء الله تعالى، و هو فعول من الود بمعنى الحب إلا أن المستفاد من موارد استعماله أنه نوع خاص من المحبة و هو الحب الذي له آثار و تبعات ظاهرة كالألفة و المراودة و الإحسان، قال تعالى: «و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة و رحمة:» الروم: - 21.
و الله سبحانه يحب عباده و يظهر آثار حبه بإفاضة نعمه عليهم «و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها:» إبراهيم: - 34 فهو تعالى ودود لهم.
قوله تعالى: «قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول و إنا لنراك فينا ضعيفا» إلى آخر الآية، الفقه أبلغ من الفهم و أقوى، و رهط الرجل عشيرته و قومه، و قيل: إنه من الثلاثة إلى السبعة أو العشرة و على هذا ففي قولهم: رهطك، إشارة إلى قلتهم و هوان أمرهم، و الرجم هو الرمي بالحجارة.
لما حاجهم شعيب (عليه السلام) و أعياهم بحجته لم يجدوا سبيلا دون أن يقطعوا عليه كلامه من غير طريق الحجة فذكروا له: أولا: أن كثيرا مما يقوله غير مفهوم لهم فيذهب كلامه لغى لا أثر له، و هذا كناية عن أنه يتكلم بما لا فائدة فيه.
ثم عقبوه بقولهم: «و إنا لنراك فينا ضعيفا» أي لا نفهم ما تقول و لست قويا فينا حتى تضطرنا قوتك على الاجتهاد في فهم كلامك و الاهتمام بأخذه، و السمع و القبول له فإنا لا نراك فينا إلا ضعيفا لا يعبأ بأمره و لا يلتفت إلى قوله.
ثم هددوه بقولهم: «و لو لا رهطك لرجمناك» أي و لو لا هذا النفر القليل الذين هم عشيرتك لرجمناك لكنا نراعي جانبهم فيك، و في تقليل العشيرة إيماء إلى أنهم لو أرادوا قتله يوما قتلوه من غير أن يبالوا بعشيرته، و إنما كفهم عن قتله نوع احترام و تكريم منهم لعشيرته.
ثم عقبوه بقولهم: «و ما أنت علينا بعزيز» تأكيدا لقولهم: «لو لا رهطك لرجمناك» أي لست بقوي منيع جانبا علينا حتى يمنعنا ذلك من قتلك بشر القتل، و إنما يمنعنا رعاية جانب رهطك.
فمحصل قولهم إهانة شعيب و أنهم لا يعبئون به و لا بما قال، و إنما يراعون في ترك التعرض له جانب رهطه.
قوله تعالى: «قال يا قوم أ رهطي أعز عليكم من الله و اتخذتموه وراءكم ظهريا» الظهري نسبة إلى الظهر بفتح الظاء المعجمة و إنما غير بالنسب و هو الشيء الذي وراء الظهر فيترك نسيا منسيا يقال: اتخذه وراءه ظهريا أي نسيه و لم يذكره و لم يعتن به.
و هذا نقض من شعيب لقولهم: «و لو لا رهطك لرجمناك» أي كيف تعززون رهطي و تحترمون جانبهم، و لا تعززون الله سبحانه و لا تحترمون جانبه و إني أنا الذي أدعوكم إليه من جانبه؟ فهل رهطي أعز عليكم من الله؟ و قد جعلتموه نسيا منسيا و ليس لكم ذلك و ما كان لكم أن تفعلوه إن ربي بما تعملون محيط بما له من الإحاطة بكل شيء وجودا و علما و قدرة.
و في الآية طعن في رأيهم بالسفه كما طعنوا في الآية السابقة في رأيه بالهوان.
قوله تعالى: «و يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل» إلى آخر الآية.
قال في المجمع:، المكانة الحال التي يتمكن بها صاحبها من عمل.
انتهى و هو في الأصل.
كما قيل - من مكن مكانة كضخم ضخامة إذا قوي على العمل كل القوة و يقال - تمكن من كذا أي أحاط به قوة.
و هذا تهديد من شعيب لهم أشد التهديد فإنه يشعر بأنه على وثوق مما يقول لا يأخذه قلق و لا اضطراب من كفرهم به و تمردهم عن دعوته فليعملوا على ما لهم من القوة و التمكن فلهم عملهم و له عمله فسوف يفاجئهم عذاب مخز يعلمون عند ذلك من هو الذي يأخذه العذاب.
هم أو هو؟ و يعلمون من هو كاذب؟ فليرتقبوا و هو معهم رقيب لا يفارقهم.
قوله تعالى: «و لما جاء أمرنا نجينا شعيبا - إلى قوله - جاثمين» تقدم ما يتضح به معنى الآية.
قوله تعالى: «كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود» غني في المكان إذا أقام فيه.
و قوله: «ألا بعدا لمدين» إلخ.
فيه لعنهم كما لعنت ثمود، و قد تقدم بعض الكلام فيه في القصص السابقة.
بحث روائي
في تفسير القمي، قال: قال: بعث الله شعيبا إلى مدين و هي قرية على طريق الشام فلم يؤمنوا به.
و في تفسير العياشي، عن أحمد بن محمد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: «إني أراكم بخير» قال: كان سعرهم رخيصا.
و فيه، عن محمد بن الفضيل عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن انتظار الفرج فقال: أ و ليس تعلم أن انتظار الفرج من الفرج؟ ثم قال: إن الله تبارك و تعالى يقول: «و ارتقبوا إني معكم رقيب».
أقول: قوله: ليس تعلم بمعنى لا تعلم و هي لغة مولدة.
و في المعاني، بإسناده عن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: فقوله عز و جل: «و ما توفيقي إلا بالله» و قوله عز و جل: «إن ينصركم الله فلا غالب لكم - و إن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده»؟ فقال: إذا فعل العبد ما أمر الله عز و جل به من الطاعة كان فعله وفقا لأمر الله عز و جل و سمي العبد موفقا، و إذا أراد العبد أن يدخل في شيء من معاصي الله فحال الله تبارك و تعالى بينه و بين تلك المعصية فتركها كان تركه لها بتوفيق الله تعالى، و متى خلى بينه و بين المعصية فلم يحل بينه و بينها حتى يتركها فقد خذله و لم ينصره و لم يوفقه.
أقول: محصل بيانه (عليه السلام) أن توفيقه تعالى و خذلانه من صفاته الفعلية فالتوفيق هو نظمه الأسباب بحيث تؤدي العبد إلى العمل الصالح أو عدم إيجاده بعض الأسباب التي يستعان بها على المعصية.
و الخذلان خلاف ذلك.
و على ذلك فمتعلق التوفيق الأسباب لأنه إيجاد التوافق بينها و هي المتصفة بها، و أما توصيف العبد به فمن قبيل الوصف بحال المتعلق.
و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي قال: قلت: يا رسول الله أوصني. قال: قل: ربي الله ثم استقم. قلت: ربي الله و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب. قال: ليهنئك العلم أبا الحسن لقد شربت العلم شربا و نهلته نهلا.
أقول: و قد تقدمت الإشارة إلى نبذة من معنى الجملة.
و فيه، أخرج الواحدي و ابن عساكر عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بكى شعيب (عليه السلام) من حب الله حتى عمي فرد الله عليه بصره، و أوحى الله إليه: يا شعيب ما هذا البكاء؟ أ شوقا إلى الجنة أم خوفا من النار؟ فقال: لا و لكن اعتقدت حبك بقلبي، فإذا نظرت إليك فما أبالي ما الذي تصنع بي؟ فأوحى الله إليه: يا شعيب إن يكن ذلك حقا فهنيئا لك لقائي، يا شعيب لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي.
أقول: المراد بالنظر إليه تعالى هو النظر القلبي دون النظر الحسي المستلزم للجسمية، تعالى عن ذلك، و قد تقدم توضيحه في تفسير قوله تعالى: «و لما جاء موسى لميقاتنا:» الأعراف: - 143 في الجزء الثامن من الكتاب.
و فيه، أخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه خطب فتلا هذه الآية في شعيب: «و إنا لنراك فينا ضعيفا» قال: كان مكفوفا فنسبوه إلى الضعف. «و لو لا رهطك لرجمناك» قال علي: فوالله الذي لا إله غيره ما هابوا جلال ربهم ما هابوا إلا العشيرة.
كلام في قصة شعيب و قومه في القرآن في فصول
1 -
هو (عليه السلام) ثالث الرسل من العرب الذين ذكرت أسماؤهم في القرآن و هم هود و صالح و شعيب و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر الله تعالى طرفا من قصصه في سور الأعراف و هود و الشعراء و القصص و العنكبوت.
كان (عليه السلام) من أهل مدين - مدينة في طريق الشام من الجزيرة - و كان معاصرا لموسى (عليه السلام)، و قد زوجه إحدى ابنتيه على أن يأجره ثماني حجج و إن أتم عشرا فمن عنده القصص: 27 فخدمه موسى عشر سنين ثم ودعه و سار بأهله إلى مصر.
و كان قومه من أهل مدين يعبدون الأصنام و كانوا قوما منعمين بالأمن و الرفاهية و الخصب و رخص الأسعار فشاع الفساد بينهم و التطفيف بنقص المكيال و الميزان هود: 84 و غيرها فأرسل الله إليهم شعيبا و أمره أن ينهاهم عن عبادة الأصنام و عن الفساد في الأرض و نقص المكيال و الميزان فدعاهم إلى ما أمر به و وعظهم بالإنذار و التبشير و ذكرهم ما أصاب قوم نوح و قوم هود و قوم صالح و قوم لوط.
و بالغ (عليه السلام) في الاحتجاج عليهم و عظتهم فلم يزدهم إلا طغيانا و كفرا و فسوقا الأعراف و هود و غيرهما من السور و لم يؤمنوا به إلا عدة قليلة منهم فأخذوا في إيذائهم و السخرية بهم و تهديدهم عن اتباع شعيب (عليه السلام)، و كانوا يقعدون بكل صراط يوعدون و يصدون عن سبيل الله من آمن به و يبغونها عوجا الأعراف: 86.
و أخذوا يرمونه (عليه السلام) بأنه مسحور و أنه كاذب الشعراء: 185، 186 و أخافوه بالرجم، و هددوه و الذين آمنوا به بالإخراج من قريتهم أو ليعودن في ملتهم الأعراف: 88 و لم يزالوا به حتى أيأسوه من إيمانهم فتركهم و أنفسهم هود: 93 و دعا الله بالفتح قال: ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين.
فأرسل الله إليهم عذاب يوم الظلة الشعراء: 189 و قد كانوا يستهزءون به أن أسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين و أخذتهم الصيحة هود: 94 و الرجفة الأعراف: 91 - العنكبوت: 37 فأصبحوا في ديارهم جاثمين و نجى شعيبا و من معه من المؤمنين هود: 94 فتولى عنهم و قال: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي و نصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين: الأعراف: - 93.
2 - شخصيته المعنوية،
كان (عليه السلام) من زمرة الرسل المكرمين و قد أشركه الله تعالى فيما أثناهم به من الثناء الجميل في كتابه، و قد حكى عنه فيما كلم به قومه و خاصة في سور الأعراف و هود و الشعراء شيئا كثيرا من حقائق المعارف و العلوم الإلهية و الأدب البارع مع ربه و مع الناس.
و قد سمى نفسه الرسول الأمين الشعراء: 178 و مصلحا هود: 88 و أنه من الصالحين الشعراء: 27 فحكى الله ذلك عنه حكاية إمضاء، و قد خدمه الكليم موسى بن عمران (عليهما السلام) زهاء عشر سنين سلام الله عليه.
3 - ذكره في التوراة،
لم تقص التوراة قصته مع قومه و إنما أشارت إليه في ضمن ما ذكرت قصة قتل موسى القبطي و فراره من مصر إلى مديان القصة فسمته «رعوئيل كاهن مديان».
|