بيان
إشارة إلى قصة موسى - الكليم - (عليه السلام)، و هو أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن ذكر باسمه في مائة و نيف و ثلاثين موضعا منه في بضع و ثلاثين سورة و قد اعتنى بتفصيل قصته أكثر من غيره غير أنه تعالى أجمل القول فيها في هذه السورة فاكتفى بالإشارة الإجمالية إليها.
قوله تعالى: «و لقد أرسلنا موسى بآياتنا و سلطان مبين» الباء في قوله بآياتنا للمصاحبة أي و لقد أرسلنا موسى مصحوبا لآياتنا و ذلك أن الذين بعثهم الله من الأنبياء و الرسل و أيدهم بالآيات المعجزة طائفتان منهم من أوتي الآية المعجزة على حسب ما اقترحه قومه كصالح (عليه السلام) المؤيد بآية الناقة، و طائفة أيدوا بآية من الآيات في بدء بعثتهم كموسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قال تعالى خطابا لموسى (عليه السلام): «اذهب أنت و أخوك بآياتي:» طه: - 42، و قال في عيسى (عليه السلام): «و رسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم» إلخ:، آل عمران: - 49، و قال في محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) «هو الذي أرسل رسوله بالهدى:» الصف: - 9، و الهدى القرآن بدليل قوله: «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين:» البقرة: - 2، و قال تعالى: «و اتبعوا النور الذي أنزل معه:» الأعراف: - 157.
فموسى (عليه السلام) مرسل مع آيات و سلطان مبين، و ظاهر أن المراد بهذه الآيات الأمور الخارقة التي كانت تجري على يده، و يدل على ذلك سياق قصصه (عليه السلام) في القرآن الكريم.
و أما السلطان و هو البرهان و الحجة القاطعة التي يتسلط على العقول و الأفهام فيعم الآية المعجزة و الحجة العقلية، و على تقدير كونه بهذا المعنى يكون عطفه على الآيات من قبيل عطف العام على الخاص.
و ليس من البعيد أن يكون المراد بإرساله بسلطان مبين أن الله سبحانه سلطه على الأوضاع الجارية بينه و بين آل فرعون ذاك الجبار الطاغي الذي ما ابتلي بمثله أحد من الرسل غير موسى (عليه السلام) لكن الله تعالى أظهر موسى عليه حتى أغرقه و جنوده و نجى بني إسرائيل بيده، و يشعر بهذا المعنى قوله: «قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع و أرى:» طه: - 46، و قوله لموسى (عليه السلام): «لا تخف إنك أنت الأعلى:» طه: - 68.
و في هذه الآية و نظائرها دلالة واضحة على أن رسالة موسى (عليه السلام) ما كانت تختص بقومه من بني إسرائيل بل كانت تعمهم و غيرهم.
قوله تعالى: «إلى فرعون و ملإيه فاتبعوا أمر فرعون و ما أمر فرعون برشيد» نسبة رسالته إلى فرعون و ملئه - و الملأ هم أشراف القوم و عظماؤهم الذين يملئون القلوب هيبة - دون جميع قومه لعلها للإشارة إلى أن عامتهم لم يكونوا إلا أتباعا لا رأي لهم إلا ما رآه لهم عظماؤهم.
و قوله: «فاتبعوا أمر فرعون» إلخ، الظاهر أن المراد بالأمر ما هو الأعم من القول و الفعل كما حكى الله عن فرعون في قوله: «قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد:» المؤمن: - 29، فينطبق على السنة و الطريقة التي كان يتخذها و يأمر بها.
و كان الآية محاذاة لقول فرعون هذا فكذبه الله تعالى بقوله: «و ما أمر فرعون برشيد».
و الرشيد فعيل من الرشد خلاف الغي أي و ما أمر فرعون بذي رشد حتى يهدي إلى الحق بل كان ذا غي و جهالة، و قيل: الرشيد بمعنى المرشد.
و في الجملة أعني قوله: «و ما أمر فرعون برشيد» وضع الظاهر موضع المضمر و الأصل «أمره» و لعل الفائدة فيه ما يفيده اسم فرعون من الدليل على عدم رشد الأمر و لا يستفاد ذلك من الضمير البتة.
قوله تعالى: «يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار و بئس الورد المورود» أي يقدم فرعون قومه فإنهم اتبعوا أمره فكان إماما لهم من أئمة الضلال، قال تعالى: «و جعلناهم أئمة يدعون إلى النار:» القصص: - 41.
و قوله: «فأوردهم النار» تفريع على سابقه أي يقدمهم فيوردهم النار، و التعبير بلفظ الماضي لتحقق الوقوع، و ربما قيل: تفريع على قوله: «فاتبعوا أمر فرعون» أي اتبعوه فأوردهم الاتباع النار، و قد استدل لتأييد هذا المعنى بقوله: «و حاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا و عشيا و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب:» المؤمن: - 46 حيث تدل الآيات على تعذيبهم من حين الموت قبل يوم القيامة هذا، و لا يخفى أن الآيات ظاهرة في خلاف ما استدل بها عليه لتعبيرها في العذاب قبل يوم القيامة بالعرض غدوا و عشيا، و في يوم القيامة بالدخول في أشد العذاب الذي سجل فيها أنه النار.
و قوله: «و بئس الورد المورود» الورد هو الماء الذي يرده العطاش من الحيوان و الإنسان للشرب، قال الراغب في المفردات،: الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرد ورودا فأنا وارد و الماء مورود.
و قد أوردت الإبل الماء قال: «و لما ورد ماء مدين» و الورد الماء المرشح للورود.
انتهى.
و على هذا ففي الكلام استعارة لطيفة بتشبيه الغاية التي يقصدها الإنسان في الحياة لمساعيه المبذولة بالماء الذي يقصده العطشان فعذب السعادة التي يقصدها الإنسان بأعماله ورد يرده، و سعادة الإنسان الأخيرة هي رضوان الله و الجنة لكنهم لما غووا باتباع أمر فرعون و أخطئوا سبيل السعادة الحقيقية تبدلت غايتهم إلى النار فكانت النار هو الورد الذي يردونه، و بئس الورد المورود لأن الورد، هو الذي يخمد لهيب الصدر و يروي الحشا العطشان و هو عذب الماء و نعم المنهل السائغ و أما إذا تبدل إلى عذاب النار فبئس الورد المورود.
قوله تعالى: «و أتبعوا في هذه لعنة و يوم القيامة بئس الرفد المرفود» أي هم اتبعوا أمر فرعون فأتبعتهم لعنة من الله في هذه الدنيا و إبعاد من رحمته و طرد من ساحة قربه، و مصداق اللعن الذي أتبعوه هو الغرق، أو أنه الحكم منه تعالى بإبعادهم من الرحمة المكتوب في صحائف أعمالهم الذي من آثاره الغرق و عذاب الآخرة.
و قوله: «و يوم القيامة بئس الرفد المرفود» الرفد هو العطية و الأصل في معناه العون، و سميت العطية رفدا و مرفودا لأنه عون للآخذ على حوائجه و المعنى و بئس الرفد رفدهم يوم القيامة و هو النار التي يسجرون فيها، و الآية نظيرة قوله في موضع آخر: و أتبعناهم في هذه الدنيا لعنة و يوم القيامة هم من المقبوحين:» القصص: - 42.
و ربما أخذ: «يوم القيامة» ظرفا فالآية متعلقا بقوله: «أتبعوا» أو بقوله: «لعنة» نظير قوله: «في هذه»، و المعنى: و أتبعهم الله في الدنيا و الآخرة لعنة أو فأتبعهم الله لعنة الدنيا و الآخرة ثم استؤنف فقيل: بئس الرفد المرفود اللعن الذي أتبعوه أو الإتباع باللعن. تم و الحمد الله.
|