بيان
قوله تعالى: و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك، إلخ، قد اختلف المفسرون في تفسير الآية اختلافا عجيبا لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القرآن المجيد، فاختلفوا في مرجع ضمير قوله: اتبعوا، أ هم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان، أو الذين في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الجميع؟ و اختلفوا في قوله: تتلوا، هل هو بمعنى تتبع الشياطين و تعمل به أو بمعنى تقرأ، أو بمعنى تكذب؟ و اختلفوا في قوله: الشياطين، فقيل هم شياطين الجن و قيل شياطين الإنس و قيل هما معا، و اختلفوا في قوله: على ملك سليمان، فقيل معناه في ملك سليمان، و قيل معناه في عهد ملك سليمان و قيل معناه على ملك سليمان بحفظ ظاهر الاستعلاء في معنى على، و قيل معناه على عهد ملك سليمان، و اختلفوا في قوله: و لكن الشياطين كفروا، فقيل إنهم كفروا بما استخرجوه من السحر إلى الناس و قيل إنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر، و قيل إنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر، و اختلفوا في قوله: يعلمون الناس السحر، فقيل إنهم ألقوا السحر إليهم فتعلموه، و قيل إنهم دلوا الناس على استخراج السحر و كان مدفونا تحت كرسي سليمان فاستخرجوه و تعلموه، و اختلفوا في قوله: و ما أنزل على الملكين فقيل ما موصولة و العطف على قوله: ما تتلوا، و قيل ما موصولة و العطف على قوله: السحر أي يعلمونهم ما أنزل على الملكين، و قيل ما نافية و الواو استينافية أي و لم ينزل على الملكين سحر كما يدعيه اليهود، و اختلفوا في معنى الإنزال فقيل إنزال من السماء و قيل بل من نجود الأرض و أعاليها، و اختلفوا في قوله: الملكين، فقيل كانا من ملائكة السماء، و قيل بل كانا إنسانين ملكين بكسر اللام إن قرأناه، بكسر اللام كما قرىء كذلك في الشواذ، أو ملكين بفتح اللام أي صالحين، أو متظاهرين بالصلاح، إن قرأناه على ما قرأ به المشهور و اختلفوا في قوله: ببابل، فقيل هي بابل العراق و قيل بابل دماوند، و قيل، من نصيبين إلى رأس العين، و اختلفوا في قوله: و ما يعلمان، فقيل علم بمعناه الظاهر، و قيل علم بمعنى أعلم، و اختلفوا في قوله: فلا تكفر، فقيل، لا تكفر بالعمل بالسحر، و قيل لا تكفر بتعلمه، و قيل بهما معا، و اختلفوا في قوله: فيتعلمون منهما، فقيل أي من هاروت و ماروت، و قيل أي من السحر و الكفر، و قيل بدلا مما علماه الملكان بالنهي إلى فعله، و اختلفوا في قوله: ما يفرقون به بين المرء و زوجه، فقيل أي يوجدون به حبا و بغضا بينهما، و قيل إنهم يغرون أحد الزوجين و يحملونه على الكفر و الشرك فيفرق بينهما اختلاف الملة و النحلة و قيل إنهم يسعون بينهما بالنميمة و الوشاية فيئول إلى الفرقة، فهذه نبذة من الاختلاف في تفسير كلمات ما يشتمل على القصة من الآية و جمله، و هناك اختلافات أخر في الخارج من القصة في ذيل الآية و في نفس القصة، و هل هي قصة واقعة أو بيان على سبيل التمثيل؟ أو غير ذلك؟ و إذا ضربت بعض الأرقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر، ارتقى الاحتمالات إلى كمية عجيبة و هي ما يقرب من ألف ألف و مائتين و ستين ألف احتمال!.
و هذا لعمر الله من عجائب نظم القرآن تتردد الآية بين مذاهب و احتمالات تدهش العقول و تحير الألباب، و الكلام بعد متك على أريكة حسنة متجمل في أجمل جماله متحل بحلي بلاغته و فصاحته و سيمر بك نظيرة هذه الآية و هي قوله تعالى: «أ فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة»: هود - 17.
و الذي ينبغي أن يقال: أن الآية بسياقها تتعرض لشأن آخر من شئون اليهود و هو تداول السحر بينهم، و أنهم كانوا يستندون في أصله إلى قصة معروفة أو قصتين معروفتين عندهم فيها ذكر من أمر سليمان النبي و الملكين ببابل هاروت و ماروت، فالكلام معطوف على ما عندهم من القصة التي يزعمونها إلا أن اليهود كما يذكره عنهم القرآن أهل تحريف و تغيير في المعارف و الحقائق فلا يؤمنون و لا يؤمن من أمرهم أن يأتوا بالقصص التاريخية محرفة مغيرة على ما هو دأبهم في المعارف يميلون كل حين إلى ما يناسبه من منافعهم في القول و الفعل و فيما يلوح من مطاوي جمل الآية كفاية، و كيف كان فيلوح من الآية أن اليهود كانوا يتناولون بينهم السحر ينسبونه إلى سليمان زعما منهم أن سليمان (عليه السلام) إنما ملك الملك و سخر الجن و الإنس و الوحش و الطير، و أتى بغرائب الأمور و خوارقها بالسحر الذي هو بعض ما في أيديهم، و ينسبون بعضه الآخر إلى الملكين ببابل هاروت و ماروت فرد عليهم القرآن بأن سليمان (عليه السلام) لم يكن يعمل بالسحر، كيف و السحر كفر بالله و تصرف في الكون على خلاف ما وضع الله العادة عليه و أظهره على خيال الموجودات الحية و حواسها؟ و لم يكفر سليمان (عليه السلام) و هو نبي معصوم، و هو قوله تعالى: «و ما كفر سليمان و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر» و قوله تعالى: «و لقد علموا لمن اشتريه ما له في الآخرة من خلاق» فسليمان (عليه السلام) أعلى كعبا و أقدس ساحة من أن ينسب إليه السحر و الكفر و قد استعظم الله قدره في مواضع من كلامه في عدة من السور المكية النازلة قبل هذه السورة كسورة الأنعام و الأنبياء و النمل و سورة ص و فيها أنه كان عبدا صالحا و نبيا مرسلا آتاه الله العلم و الحكمة و وهب له من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده فلم يكن بساحر بل هو من القصص الخرافية و الأساطير التي وضعتها الشياطين و تلوها و قرءوها على أوليائهم من الإنس و كفروا بإضلالهم الناس بتعليم السحر.
و رد عليهم القرآن في الملكين ببال هاروت و ماروت بأنه و إن أنزل عليهما ذلك و لا ضير في ذلك لأنه فتنة و امتحان إلهي كما ألهم قلوب بني آدم وجوه الشر و الفساد فتنة و امتحانا و هو من القدر، فهما و إن أنزل عليهما السحر إلا أنهما ما كانا يعلمان من أحد إلا و يقولان له إنما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال ما تتعلمه من السحر في غير مورده كإبطال السحر و الكشف عن بغي أهله و هم مع ذلك يتعلمون منهما ما يفسدون به أصلح ما وضعه الله في الطبيعة و العادة، فيفرقون به بين المرء و زوجه ابتغاء للشر و الفساد و يتعلمون ما يضرهم و لا ينفعهم، فقوله تعالى: و اتبعوا أي اتبعت اليهود الذين بعد عهد سليمان بتوارث الخلف عن السلف ما تتلوا، أي تضع و تكذب الشياطين من الجن على ملك سليمان و الدليل على أن تتلوا بمعنى تكذب تعديه بعلى و على أن الشياطين هم الجن كون هؤلاء تحت تسخير سليمان و معذبين بعذابه، و بذلك كان (عليه السلام) يحبسهم عن الإفساد، قال تعالى: «و من الشياطين من يغوصون له و يعملون عملا دون ذلك و كنا لهم حافظين»: الأنبياء - 82، و قال تعالى: «فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين»: سبأ - 14.
قوله تعالى: و ما كفر سليمان، أي و الحال أن سليمان لم يسحر حتى يكفر و لكن الشياطين كفروا، و الحال أنهم يضلون الناس و يعلمونهم السحر.
قوله تعالى: و ما أنزل، أي و اتبعت اليهود ما أنزل بالإخطار و الإلهام على الملكين ببابل هاروت و ماروت، و الحال أنهما ما يعلمان السحر من أحد حتى يحذراه العمل به و يقولا إنما نحن فتنة لكم و امتحان تمتحنون بنا بما نعلمكم فلا تكفر باستعماله.
قوله تعالى: فيتعلمون منهما، أي من الملكين و هما هاروت و ماروت، ما يفرقون به أي سحرا يفرقون بعمله و تأثيره بين المرء و زوجه.
قوله تعالى: و ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، دفع لما يسبق إلى الوهم أنهم بذلك يفسدون أمر الصنع و التكوين و يسبقون تقدير الله و يبطلون أمره فدفعه بأن السحر نفسه من القدر لا يؤثر إلا بإذن الله فما هم بمعجزين، و إنما قدم هذه الجملة على قوله: و يتعلمون ما يضرهم و لا ينفعهم، لأن هذه الجملة أعني: و يتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء و زوجه، وحدها مشتملة على ذكر التأثير، فأردفت بأن هذا التأثير بإذن الله.
قوله تعالى: و لقد علموا لمن اشتريه ما له في الآخرة من خلاق، علموا ذلك بعقولهم لأن العقل لا يرتاب في أن السحر أشأم منابع الفساد في الاجتماع الإنساني و علموا ذلك أيضا من قول موسى فإنه القائل: «و لا يفلح الساحر حيث أتى»: طه - 69.
قوله تعالى: و لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، أي إنهم مع كونهم عالمين بكونه شرا لهم مفسدا لآخرتهم غير عالمين بذلك حيث لم يعملوا بما علموا فإن العلم إذا لم يهد حامله إلى مستقيم الصراط كان ضلالا و جهلا لا علما، قال تعالى: «أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم»: الجاثية - 23.
فهؤلاء مع علمهم بالأمر ينبغي أن يتمنى المتمني لهم العلم و الهداية.
قوله تعالى: و لو أنهم آمنوا و اتقوا، إلخ أي اتبعوا الإيمان و التقوى، بدل اتباع أساطير الشياطين، و الكفر بالسحر، و فيه دليل على أن الكفر بالسحر كفر في مرتبة العمل كترك الزكاة، لا كفر في مرتبة الاعتقاد، و لو كان السحر كفرا في الاعتقاد لقال تعالى: و لو أنهم آمنوا لمثوبة، إلخ، و اقتصر على الإيمان و لم يذكر التقوى فاليهود آمنوا و لكن لما لم يتقوا و لم يرعوا محارم الله، لم يعبأ بإيمانهم فكانوا كافرين.
قوله تعالى: لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون، أي من المثوبات و المنافع التي يرومونها بالسحر و يقتنونها بالكفر هذا.
بحث روائي
في تفسير العياشي، و القمي،: في قوله تعالى: و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان عن الباقر (عليه السلام) في حديث: فلما هلك سليمان وضع إبليس السحر و كتبه في كتاب ثم طواه و كتب على ظهره، هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا و كذا فليعمل كذا و كذا ثم دفنه تحت سريره ثم استتاره لهم فقرأه فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا، و قال المؤمنون: بل هو عبد الله و نبيه، فقال الله جل ذكره: و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان.
أقول: إسناد الوضع و الكتابة و القراءة إلى إبليس لا ينافي استنادها إلى سائر الشياطين من الجن و الإنس لانتهاء الشر كله إليه و انتشاره منه لعنه الله، إلى أوليائه بالوحي و الوسوسة و ذلك شائع في لسان الأخبار.
و ظاهر الحديث أن كلمة تتلوه من التلاوة بمعنى القراءة و هذا لا ينافي ما استظهرناه في البيان السابق: أن تتلو بمعنى يكذب لأن إفادة معنى الكذب من جهة التضمين أو ما يشبهه، و تقدير قوله: تتلوا الشياطين على ملك سليمان يقرءونه كاذبين على ملك سليمان و الأصل في معنى تلا يتلو رجوعه إلى معنى ولى يلي ولاية و هو أن يملك الشيء من حيث الترتيب و وقوع جزء منه عقيب جزء آخر، و سيأتي الكلام فيه في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: «إنما وليكم الله و رسوله»: المائدة - 58.
و في العيون،: في حديث الرضا (عليه السلام) مع المأمون، و أما هاروت و ماروت فكانا ملكين علما الناس السحر ليتحرزوا به عن سحر السحرة و يبطلوا كيدهم و ما علما أحدا من ذلك شيئا إلا قالا له إنما نحن فتنة فلا تكفر فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز عنه و جعلوا يفرقون بما يعملونه بين المرء و زوجه، قال الله تعالى: و ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله. و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس، قال: كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من شأنه أعطى الجرادة و هي امرأته خاتمه فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذلك اليوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأخذه و لبسه فلما لبسه دانت له شياطين الجن و الإنس فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي فقالت كذبت لست سليمان فعرف أنه بلاء ابتلي به فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر و كفر ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ثم أخرجوها فقرءوها على الناس فقالوا إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب فبرىء الناس من سليمان و أكفروه حتى بعث الله محمدا و أنزل عليه: و ما كفر سليمان و لكن الشياطين كفروا.
أقول: و القصة مروية في روايات أخرى و هي قصة طويلة من جملة القصص الواردة في عثرات الأنبياء مذكورة في جملتها.
و في الدر المنثور، أيضا و أخرج سعيد بن جرير و الخطيب في تاريخه عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر فلما كان في آخر الليل، قال يا نافع: انظر هل طلعت الحمراء؟ قلت لا، مرتين أو ثلاثا ثم قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبا بها و لا أهلا. قلت: سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع. قال ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: إن الملائكة قالت: يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا و الذنوب؟ قال: إني أبليتهم و عافيتهم. قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك، قال: فاختاروا ملكين منكم، فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت و ماروت فنزلا، فألقى الله عليهما الشبق. قلت: و ما الشبق؟ قال: الشهوة فجاءت امرأة يقال لها الزهرة فوقعت في قلوبهما فجعل كل واحد منهما يخفي عن صاحبه ما في نفسه ثم قال أحدهما للآخر هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي؟ قال: نعم، فطالباها لأنفسهما فقالت لا أمكنكما حتى تعلماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء و تهبطان فأبيا ثم سألاها أيضا فأبت. ففعلا فلما استطيرت طمسها الله كوكبا و قطع أجنحتهما ثم سألا التوبة من ربهما فخيرهما فقال إن شئتما رددتكما إلى ما كنتما عليه، فإذا كان يوم القيامة عذبتكما، و إن شئتما عذبتكما في الدنيا فإذا كان يوم القيامة رددتكما إلى ما كنتما عليه، فقال أحدهما لصاحبه إن عذاب الدنيا ينقطع و يزول فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة فأوحى الله إليهما أن ائتيا بابل فانطلقا إلى بابل فخسف بهما فهما منكوسان بين السماء و الأرض معذبان إلى يوم القيامة.
أقول: و قد روي قريب منه في بعض كتب الشيعة مرفوعا عن الباقر (عليه السلام) و روى السيوطي فيما يقرب من هذا المعنى في أمر هاروت و ماروت و الزهرة نيفا و عشرين حديثا، صرحوا بصحة طريق بعضها.
و في منتهى إسنادها عدة من الصحابة كابن عباس و ابن مسعود و علي و أبي الدرداء و عمر و عائشة و ابن عمر.
و هذه قصة خرافية تنسب إلى الملائكة المكرمين الذين نص القرآن على نزاهة ساحتهم و طهارة وجودهم عن الشرك و المعصية أغلظ الشرك و أقبح المعصية، و هو: عبادة الصنم و القتل و الزنا و شرب الخمر و تنسب إلى كوكبة الزهرة أنها امرأة زانية مسخت - و أنها أضحوكة - و هي كوكبة سماوية طاهرة في طليعتها و صنعها أقسم الله تعالى عليها في قوله: «الجوار الكنس»: التكوير - 16 على أن علم الفلك أظهر اليوم هويتها و كشف عن عنصرها و كميتها و كيفيتها و سائر شئونها.
فهذه القصة كالتي قبلها المذكورة في الرواية السابقة تطابق ما عند اليهود على ما قيل: من قصة هاروت و ماروت، تلك القصة الخرافية التي تشبه خرافات يونان في الكواكب و النجوم.
و من هاهنا يظهر للباحث المتأمل: أن هذه الأحاديث كغيرها الواردة في مطاعن الأنبياء و عثراتهم لا تخلو من دس دسته اليهود فيها و تكشف عن تسربهم الدقيق و نفوذهم العميق بين أصحاب الحديث في الصدر الأول فقد لعبوا في رواياتهم بكل ما شاءوا من الدس و الخلط و أعانهم على ذلك قوم آخرون.
لكن الله عز اسمه جعل كتابه في محفظة إلهية من هوسات المتهوسين من أعدائه كلما استرق السمع شيطان من شياطينهم أتبعه بشهاب مبين، فقال عز من قائل: «إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون»: الحجر - 9، و قال «و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و من خلفه تنزيل من حكيم حميد»: فصلت - 42 و قال: «و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا»: إسراء - 82 فأطلق القول و لم يقيد، فما من خلط أو دس إلا و يدفعه القرآن و يظهر خسار صاحبه بالكشف عن حاله و إقراء صفحة تاريخه، و قال رسول الله فيما رواه الفريقان: ما وافق كتاب الله فخذوه و ما خالفه فاتركوه.
فأعطى ميزانا كليا يوزن به المعارف المنقولة منه و من أوليائه، و بالجملة فبالقرآن يدفع الباطل عن ساحة الحق ثم لا يلبث أن يظهر بطلانه و يمات عن القلوب الحية كما أميت عن الأعيان.
قال تعالى: «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه»: الأنبياء - 18، و قال تعالى: «و يريد الله أن يحق الحق بكلماته»: الأنفال - 7، و قال تعالى: «ليحق الحق و يبطل الباطل و لو كره المجرمون»: الأنفال - 8، و لا معنى لإحقاق الحق و لا لإبطال الباطل إلا إظهار صفتهما.
و بعض الناس و خاصة من أهل عصرنا من المتوغلين في الأبحاث المادية و المرعوبين من المدنية الغربية الحديثة استفادوا من هذه الحقيقة المذكورة سوء و أخذوا بطرح جميع ما تضمنته سنة رسول الله و اشتملت عليه جوامع الروايات فسلكوا في ذلك مسلك التفريط، قبال ما سلكه بعض الأخباريين و أصحاب الحديث و الحرورية و غيرهم مسلك الإفراط و الأخذ بكل رواية منقولة كيف كانت.
و كما أن القبول المطلق تكذيب للموازين المنصوبة في الدين لتميز الحق من الباطل و نسبة الباطل و اللغو من القول إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك الطرح الكلي تكذيب لها و إلغاء و إبطال للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و هو القائل جل ثناؤه: «ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا»: الحشر - 7 و قوله تعالى: «و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله»: النساء - 64، إذ لو لم يكن لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجية أو لما ينقل من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلينا معاشر الغائبين في عصره أو الموجودين بعد ارتحاله من الدنيا حجية لما استقر من الدين حجر على حجر، و الركون على النقل و الحديث مما يعتوره البشر و يقبله في حياته الاجتماعية قبولا يضطر إليه بالبداهة و يهديه إلى ذلك الفطرة الإنسانية لا غنى له عن ذلك، و أما وقوع الدس و الخلط في المعارف المنقولة الدينية فليس ببدع يختص بالدين كيف و رحى الاجتماع بجميع جهاتها و أركانها تدور على الأخبار الدائرة اليومية العامة و الخاصة، و وجوده الكذب و الدس و الخلط فيها أزيد و أيدي السياسات الكلية و الجزئية بها ألعب؟ و نحن على فطرتنا الإنسانية لا نجري على مجرد قرع السمع في الأخبار المنقولة إلينا في نادي الاجتماع بل نعرض كل واحد واحد منها على ما عندنا من الميزان الذي يمكن أن يوزن به فإن وافقه و صدقه قبلناه و إن خالفه و كذبه طرحناه و إن لم يتبين شيء من أمره و لم يتميز حقه من باطله و صدقه من كذبه توقفنا فيه من غير قبول و لا رد على الاحتياط الذي جبلنا عليه في الشرور و المضار.
هذا كله بشرط الخبرة في نوع الخبر الذي نقل إلينا، و أما ما لا خبرة للإنسان فيه من الأخبار بما يشتمل عليه من المضمون فسبيل العقلاء من أهل الاجتماع فيه الرجوع إلى أهل خبرته و الأخذ بما يرون فيه و يحكمون به هذا.
فهذا ما عليه بناؤنا الفطري في الاجتماع الإنساني، و الميزان الديني المضروب لتمييز الحق من الباطل و كذا الصدق من الكذب، لا يغاير ذلك بل هو هو بعينه، و هو العرض على كتاب الله فإن تبين منه شيء أخذ به و إن لم يتبين لشبهة فالوقوف عند الشبهة، و على ذلك أخبار متواترة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأئمة من أهل بيته.
هذا كله في غير المسائل الفقهية و أما هي فالمرجع في البحث عنها فن أصول الفقه.
بحث فلسفي
من المعلوم وقوع أفعال خارقة للعادة الجارية للمشاهدة و النقل، فقلما يوجد منا من لم يشاهد شيئا من خوارق الأفعال أو لم ينقل إليه شيء من ذلك - قليل أو كثير إلا أن البحث الدقيق في كثير منها يبين رجوعها إلى الأسباب الطبيعية العادية، فكثير من هذه الأفعال الخارقة يتقوى بها أصحابها بالاعتياد و التمرين كأكل السموم و حمل الأثقال و المشي على حبل ممدود في الهواء إلى غير ذلك، و كثير منها تتكي على أسباب طبيعية مخفية على الناس مجهولة لهم كمن يدخل النار و لا يحترق بها من جهة طلاية الطلق ببدنه أو يكتب كتابا لا خط عليه و لا يقرؤه إلا صاحبه، و إنما كتب بمايع لا يظهر إلا إذا عرض الكتاب على النار إلى غير ذلك.
و كثير منها يحصل بحركات سريعة تخفى على الحس لسرعتها فلا يرى الحس إلا أنه وقع من غير سبب طبيعي كالخوارق التي يأتي بها أصحاب الشعبذة، فهذه كلها مستندة إلى أسباب عادية مخفية علي حسنا أو غير مقدورة لنا لكن بعض هذه الخوارق لا يحلل إلى الأسباب الطبيعية الجارية على العادة كالإخبار عن بعض المغيبات و خاصة ما يقع منها في المستقبل و كأعمال الحب و البغض و العقد و الحل و التنويم و التمريض و عقد النوم و الإحضار و التحريكات بالإرادة مما يقع من أرباب الرياضات و هي أمور غير قابلة للإنكار، شاهدنا بعضا منها و نقل إلينا بعض آخر نقلا لا يطعن فيه، و هو ذا يوجد اليوم من أصحابها بالهند و إيران و الغرب جماعة يشاهد منهم أنواع من هذه الخوارق و التأمل التام في طرق الرياضات المعطية لهذه الخوارق و التجارب العملي في أعمالهم و إرادتهم يوجب القول بأنها مستندة إلى قوة الإرادة و الإيمان بالتاثير على تشتت أنواعها، فالإرادة تابعة للعلم و الإذعان السابق عليه، فربما توجد على إطلاقها و ربما توجد عند وجود شرائط خاصة ككتابة شيء خاص بمداد خاص في مكان خاص في بعض أعمال الحب و البغض، أو نصب المرآة حيال وجه طفل خاص عند إحضار الروح أو قراءة عوذة خاصة إلى غير ذلك، فجميع ذلك شرائط لحصول الإرادة الفاعلة، فالعلم إذا تم علما قاطعا أعطى للحواس مشاهدة ما قطع به، و يمكنك أن تختبر صحة ذلك بأن تلقن نفسك أن شيئا كذا أو شخصا كذا حاضر عندك تشاهده بحاستك ثم تتخيله بحيث لا تشك فيه و لا تلتفت إلى عدمه و لا إلى شيء غيره فإنك تجده أمامك على ما تريد، و ربما توجد في الآثار معالجة بعض الأطباء الأمراض المهلكة بتلقين الصحة على المريض.
و إذا كان الأمر على هذا فلو قويت الإرادة أمكنها أن تؤثر في غير الإنسان المريد نظير ما توجده في نفس الإنسان المريد إما من غير شرط و قيد أو مع شيء من الشرائط.
و يتبين بما مر أمور: أحدها: أن الملاك في هذا التأثير تحقق العلم الجازم من صاحب خرق العادة و أما مطابقة هذا العلم للخارج فغير لازم كما كان يعتقده أصحاب تسخير الكواكب من الأرواح المتعلقة بالأجرام الفلكية، و يمكن أن يكون من هذا القبيل الملائكة و الشياطين الذين يستخرج أصحاب الدعوات و العزائم أسماءهم و يدعون بها على طرق خاصة عندهم، و كذلك ما يعتقده أصحاب إحضار الأرواح من حضور الروح فلا دليل لهم على أزيد من حضورها في خيالهم أو حواسهم دون الخارج و إلا لرآه كل من حضر عندهم و للكل حس طبيعي، و به تنحل شبهة أخرى في إحضار روح من هو حي في حال اليقظة مشغول بأمره من غير أن يشعر به و الواحد من الإنسان ليس له إلا روح واحدة، و به تنحل أيضا شبهة أخرى و هي أن الروح جوهر مجرد لا نسبة له إلى زمان و مكان دون زمان و مكان، و به تنحل أيضا شبهة ثالثة، و هي: أن الروح الواحدة ربما تحضر عند أحد بغير الصورة التي تحضر بها عند آخر.
و به تنحل أيضا شبهة رابعة، و هي: أن الأرواح ربما تكذب عند الإحضار في أخبارها و ربما يكذب بعضها بعضا.
فالجواب عن الجميع: أن الروح إنما تحضر في مشاعر الشخص المحضر لا في الخارج منها على حد ما نحس بالأشياء المادية الطبيعية.
ثانيها: أن صاحب هذه الإرادة المؤثرة ربما يعتمد في إرادته على قوة نفسه و ثبات إنيته كغالب أصحاب الرياضات في إرادتهم فتكون لا محالة محدودة القوة مقيدة الأثر عند المريد و في الخارج، و ربما يعتمد فيه على ربه كالأنبياء و الأولياء من أصحاب العبودية لله و أرباب اليقين بالله فهم لا يريدون شيئا إلا لربهم و بربهم، و هذه إرادة طاهرة لا استقلال للنفس التي تطلع هذه الإرادة منها بوجه و لم تتلون بشيء من ألوان الميول النفسانية و لا اتكاء لها إلا على الحق فهي إرادة ربانية غير محدودة و لا مقيدة.
و القسم الثاني: إن أثرت في مقام التحدي كغالب ما ينقل من الأنبياء سميت آية معجزة و إن تحققت في غير مقام التحدي سميت كرامة أو استجابة دعوة إن كانت مع دعاء، و القسم الأول إن كان بالاستخبار و الاستنصار من جن أو روح أو نحوه سمي كهانة و إن كان بدعوة أو عزيمة أو رقية أو نحو ذلك سمي سحرا.
ثالثها: أن الأمر حيث كان دائرا مدار الإرادة في قوتها و هي على مراتب من القوة و الضعف أمكن أن يبطل بعضها أثر البعض كتقابل السحر و المعجزة أو أن لا يؤثر بعض النفوس في بعض إذا كانت مختلفة في مراتب القوة و هو مشهود في أعمال التنويم و الإحضار، هذا و سيأتي شطر من الكلام في ذلك.
بحث علمي
العلوم الباحثة عن غرائب التأثير كثيرة و القول الكلي في تقسيمها و ضبطها عسيرة جدا، و أعرف ما هو متداول بين أهلها ما نذكره: منها: السيمياء، و هو العلم الباحث عن تمزيج القوى الإرادية مع القوى الخاصة المادية للحصول على غرائب التصرف في الأمور الطبيعية، و منه التصرف في الخيال المسمى بسحر العيون و هذا الفن من أصدق مصاديق السحر، و منها: الليمياء و هو العلم الباحث عن كيفية التأثيرات الإرادية باتصالها بالأرواح القوية العالية كالأرواح الموكلة بالكواكب و الحوادث و غير ذلك بتسخيرها أو باتصالها و استمدادها من الجن بتسخيرهم، و هو فن التسخيرات، و منها: الهيمياء.
و هو العلم الباحث عن تركيب قوى العالم العلوي مع العناصر السفلية للحصول على عجائب التأثير و هو الطلسمات، فإن للكواكب العلوية و الأوضاع السماوية ارتباطات مع الحوادث المادية كما أن العناصر و المركبات و كيفياتها الطبيعية كذلك، فلو ركبت الأشكال السماوية المناسبة لحادثة من الحوادث كموت فلان، و حياة فلان، و بقاء فلان مثلا مع الصورة المادية المناسبة أنتج ذلك الحصول على المراد و هذا معنى الطلسم، و منها: الريمياء، و هو العلم الباحث عن استخدام القوى المادية للحصول على آثارها بحيث يظهر للحس أنها آثار خارقة بنحو من الأنحاء و هو الشعبذة، و هذه الفنون الأربعة مع فن خامس يتلوها و هو الكيميا الباحث عن كيفية تبديل صور العناصر بعضها إلى بعض كانت تسمى عندهم بالعلوم الخمسة الخفية، قال شيخنا البهائي: أحسن الكتب المصنفة التي في هذه الفنون كتاب رأيته ببلدة هرات اسمه كلهسر و قد ركب اسمه من أوائل أسماء هذه العلوم، الكيميا، و الليميا، و الهيميا، و السيميا، و الريميا انتهى ملخص كلامه.
و من الكتب المعتبرة فيها خلاصة كتب بليناس و رسائل الخسروشاهي و الذخيرة الإسكندرية و السر المكتوم للرازي و التسخيرات للسكاكي و أعمال الكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي.
و من العلوم الملحقة بما مر علم الأعداد و الأوفاق و هو الباحث عن ارتباطات الأعداد و الحروف للمطالب و وضع العدد أو الحروف المناسبة للمطلوب في جداول مثلثة أو مربعة أو غير ذلك على ترتيب مخصوص، و منها: الخافية و هو تكسير حروف المطلوب أو ما يناسب المطلوب من الأسماء و استخراج أسماء الملائكة أو الشياطين الموكلة بالمطلوب و الدعوة بالعزائم المؤلفة منها للنيل على المطلوب و من الكتب المعتبرة فيها عندهم كتب الشيخ أبي العباس التوني و السيد حسين الأخلاطي و غيرهما.
و من الفنون الملحقة بها الدائرة اليوم التنويم المغناطيسي و إحضار الأرواح و هما كما مر من تأثير الإرادة و التصرف في الخيال و قد ألف فيها كتب و رسائل كثيرة، و اشتهار أمرها يغني عن الإشارة إليها هاهنا، و الغرض مما ذكرنا على طوله إيضاح انطباق ما ينطبق منها على السحر أو الكهانة.
|